كان سلوك الإمام علي(ع) مع معارضيه والخارجين عليه هو الأساس الفقهي لفقه التنوع والإختلاف والمعارضة بين المسلمين.
يلاحظ أنه وقد امتنع عن مبايعته فريق من المسلمين ونكث بيعته فريق آخر، فلم يجبر الإمام الذين امتنعوا عن مبايعته على البيعة، ومن البارزين منهم سعد بن أبي وقاص وعبد الله ابن عمر والمغيرة بن شعبة وآخرون، بل اتسع لهم صدره وسياسته ونظامه. وحينما جاءوا إليه يطلبون مخصصاتهم المالية لم يمنعهم منها بل عاملهم في هذا الشأن معاملته لمن بايعه واعترف بشرعية خلافته. ولو أن الذين نكثوا بيعته بقي نكثهم في نطاق المعارضة السياسية ولم يتطوّر نكثهم إلى نزاع مسلح- وهو ما حدث في حرب الجمل- لما تعرّض لهم ولأتسّع لهم فكره ونظامه. ولكن حين آل أمرهم إلى الإفساد والحرب الأهلية اضطر إلى مواجهتهم وبعد ذلك حدثت ظاهرة الخوارج.
ونورد فيما يلي بعض النصوص التي تشخص موقف الإمام علي(ع) من ظاهرة المعارضة والتعددية مع الخوارج وفي حالات أخرى.
روى كثير ابن نمير قال: (بينما أنا في الجمعة وعلي ابن أبي طالب على المنبر جاء رجل وقال: لا حكم إلا لله، ثم قام آخر وقال: لا حكم إلا لله، ثم قاموا من نواحي المسجد يحكموّن الله، فأشار عليهم بيدهم إجسلوا، وقال:(نعم لا حكم إلا لله؛ كلمة حق يبتغى بها باطل، حكم الله أنتظر فيكم ؛ إلا أن لكم عندي ثلاث: ما كنتم معنا لن نمنعكم مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، ولا نمنعكم فيئاً ما كانت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تقاتلونا). ثم أخذ في خطبته.
فمع أنهم خرجوا على ولايته وعارضوا حكومته وخلعوا طاعته، فإنه اعترف لهم مع ذلك بما لهم من الحقوق السياسية، لم يعاملهم بقمع ولا بسجن ولا بقتل ولا بأي شيء من ذلك.
لقد أعطى لهؤلاء حق النقد وحق الإعتراض حتى بالباطل ولم يمنعهم هذا الحق إطلاقاً.
تذكر مصادر التاريخ مواقف لجماعات وأفراد عارضوا الإمام علياً (ع) في بعض القرارات والمواقف فلم يتعرض لهم بسوء، بل تركهم وشأنهم.
ومنها أن الحريث ابن راشد كان عدواً للإمام، فجاءه وقال له (والله لا أطعت أمرك ولا صليت خلفك) فلم يغضب لذلك ولم يبطش به ولم يسجنه، وإنما دعاه إلى الحوار والمناظرة ،ولكن هذا الرجل رفض ذلك وانصرف.
ونلاحظ رؤيته لوضعية الخوارج حينما نهى عن قتالهم بعده وقال قولته: (لا تقاتلوا الخوارج بعدي فإنه ليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأصابه)؛ وبذلك أعطاهم حق المعارضة للنظام القائم بعده، وهو أمر طبيعي، فإذا كان يرى أن من حقهم معارضته وهو إمام الحق فمن باب أولى أن يكون له حق المعارضة لدولة الباطل التي كان يمثلها ويحكمها معاوية.
هناك نص في نهج البلاغة عند الإمام علي بن أبي طالب (ع) في تعليم أصحابه يقول لهم (إني أكره لكم أن تكونوا سبّابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم كان أصوب في القول وأبلغ في العظة).... إذن المطلوب هو الوصف الموضوعي للرأي الآخر والموقف الآخر، وليس الهوى العاطفي والإنفعالي، والموضوعية هي في التشخيص المحايد للرأي الآخر ونقده. وهذا ينطلق من قوله تعالى في سورة الحجرات الآيتان :11- 12
"يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكنّ خيراً منهنّ ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابذوا بالألقاب بئس الإسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون. يا أيها الذين آمنوا إجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله توّاب رحيم".