الأحد 25 ديسيمبر 2011
ياسين الحاج صالح
من يُقتَلون في سورية اليوم ومنذ تسعة شهور هم من العامة، الأكثر فقراً والأدنى حماية. هذا ما يوحِّدهم وراء أية فوارق ممكنة. ومن يُعطون الأوامر بالقتل ويخططون للقضاء على تمرد الفقراء هم أغنياء وأصحاب امتيازات، ومسلحون تسليحاً هائلاً. هذا ما يجمعهم، وما يحرِّكهم في مشروع القتل الجماعي للمحكومين الثائرين.
كثير من أدوات القتل التي يستخدمها الأغنياء هم فقراء، بمن فيهم أكثر «الشبيحة»، يقتلون فقراء مثلهم، ويحصل أن يُقتَل بعضهم في مواجهة أشباههم. لكن الأكيد أن ليس بين المقتولين أغنياء مُنعمون. هؤلاء محصنون بأسلحتهم المتفوقة، وبأموالهم الوفيرة، وبسور من الفقراء يفتدونهم «بالروح والدم»، وبامتلاكهم للدولة. لا شيء في المقابل يحمي عموم السكان في سورية: لا قضاء، ولا سلاح، ولا مال؛ ولا أخلاق حاكمين لا أخلاق لهم. ليس لهم غير تضامنهم، وقد أظهروا أشكالاً رائعة منه؛ وليس لهم غير الله، واللجوء السياسي إليه يسجل اتساعاً لا جدال فيه.
لكن ليس العنف المنفلت من كل عقال هو وحده ما مارسته طغمة الأغنياء الحاكمين ضد عموم المحكومين؛ بل بخاصة الكراهية. رأى كل مهتم أمثلة مريعة عنها: الدوس على قرويين عزّل، اللعب برأس رجل مسن بأحذية العساكر، الأشكال الفظيعة من التعذيب والإذلال كتلك التي تكلم عليها تقرير لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة قبل أكثر من شهر، ومن هذه اغتصاب أطفال (في حالة واحدة على الأقل جرى ذلك أمام عيني الأب، وفي حالة أخرى تعاقب ثلاثة من سفاحي الاستخبارات على اغتصاب طفل عمره 11 عاماً)، إطفاء السجائر في مؤخرات بعض المعتقلين، والخوزقة بأجسام خشنة؛ ومنها أيضاً إجبار الأعداء المفترضين على إعلان أن لا إله إلا بشـار وأخوه. وهذا الأخير أكثر من تعبير أقصى عن الكراهية، هو بالفعل قطع رأس معنوي لمن أُكرِهوا عليه.
والدلالة نفسها للشتم المفرط في الإقذاع الذي تمرس فيه أسافل عناصر الأمن في سورية (ولا يبدو أن بينهم غير الأسافل) ضد جميع من يقعون بأيديهم، وهو شتم لا يبدأ من الأم والأخت ولا ينتهي عند الدين.
والدلالة نفسها أيضاً لتفرغ وسائل الإعلام السورية، العامة و «المستقلة»، طوال أكثر من تسعة شهور للتحريض على الثورة وإشاعة كل أنوع الأكاذيب، وتعبئة الموالين للنظام ضد الثائرين وشحنهم بالكراهية والبغض لهم، وإطلاق عبارات من نوع رعاع وحثالة وجهلة ومتخلفين ومتعصبين وسلفيين وإرهابيين عليهم، مع انخفاض شديد في عتبة التلميحات الطائفية في وسائل الإعلام العامة، التي يموّلها عموم السوريين.
الغرض من حملات الكراهية والتحريض هذه هو خفض الحواجز الأخلاقية والمعنوية التي تحمي حياة عموم الثائرين وبيئاتهم الاجتماعية، وتالياً تسهيل قتلهم. فحياة الرعاع والمتعصبين والجهلة ليست مهمة، أو أقل قيمة من حياة الأكابر، «المنفتحين» و «المثقفين»، الذين يحكمون البلد ويملكونه، ويُعرّفونه. وما يوسع الشقة بين الطرفين أن الأخيرين هم التجسد الصافي للوطنية، فوق اتصافهم بالحكمة النادرة والعبقرية الفذة والكمال الذي لا تشوبه شائبة. ولذلك، فإن الشيء العادل والصحيح هو حمايتهم، وقتل الرعاع والجهلة الذين يثورون عليهم.
لعل المفهوم المناسب لتوحيد ظواهر القتل الواسع النطاق للأفقر والأدنى حماية، وحملات الكراهية التي تشنها طغمة من الأغنياء المسلحين على قطاعات واسعة من السكان، هو الفاشية، بالدلالة التي حازها المفهوم في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي في أميركا اللاتينية. الفاشية هنا نمط لممارسة السلطة، موجه نحو حماية كبار المالكين وأصحاب الامتيازات، مع وحشية لا حدود لها في التعامل مع الضعفاء، ومع توسع بلا ضفاف في قتل الناشطين السياسيين واعتقالهم وتعذيبهم.
لقد سبق أن عرفت بلدان مثل البرازيل والأرجنتين والأورغواي والتشيلي والسلفادور مثل هذه الحكومات القاتلة. لكن للفاشية السورية خصوصيات تميزها عن الفاشيات الأميركية اللاتينية قبل حين.
أولاً، كانت هذه مدعومة من الولايات المتحدة ومندرجة في منطق الحرب الباردة، وخصت بالوطأة الأقسى لوحشيتها اليساريين ومن اعتبرتهم عملاء للشيوعية. الفاشية السورية ليست مندرجة في منطق الحرب الباردة، وحملاتها للتخوين والتحريض تنسب بالأحرى معارضي النظام إلى مؤامرة دولية كبرى، تقودها أميركا. تستفيد في هذا الشأن من توجس عريق في الثقافة والسيكولوجية العربية حيال الغرب، لكن النظام السوري اجتهد كثيراً على تغذيته وتحويله إلى بارانويا حادة، تسهيلاً لعزل محكوميه عن العالم، وتسليماً بأوضاع لم يكد يبقى ما يشبهها في العالم.
ثانياً، يمتزج المضمون الطبقي للفاشية السورية ببعد طائفي. وبينما تخاطب تعابير مثل متعصبين وجهلة ومتخلفين وسلفيين حساسيات طائفية، فإن مضمونها الطبقي أقوى في الواقع. يتعلق الأمر بازدراء شبه عنصري للقطاعات الاجتماعية الأكثر حرماناً والأضعف حماية، والتي تعيش حصراً من عملها، وتسكن في الضواحي والأحياء المتدهورة. وتلعب الإيديولوجيا الحداثية هنا دوراً مهماً في تغذية الالتباس بين الطائفي والطبقي، وإضفاء شرعية «حضارية» على التمييز الطبقي. والنقطة المهمة في الإيديولوجيا الحداثية أنها موجهة بصورة حصرية ضد «الأصولية» و «الظلامية» الإسلاميتين، بينما يقع الطغيان والفساد والطائفية على النقطة العمياء في عينها. وهذا ما يجعلها مناسبة جداً لأغراض الفاشية السورية والإيديولوجيين السائرين في ركابها. ويزيد من ملاءمتها أن قضايا القيم، الحرية والعدالة والمساواة والكرامة والإنسانية، غريبة عليها بدورها.
وفي المقام الثالث، ربما تختلف الفاشية السورية اليوم عن الفاشيات الأميركية اللاتينية في أن الأغنياء وأصحاب الامتيازات السوريين يدينون بثرواتهم ومكانتهم بصورة شبه حصرية لـ «النظام»، فليسوا بأصحاب ملكيات تقليديين، ولا هم مصنّعون مرتبطون بشركات متعددة الجنسية، ولذلك لا وزن ذاتياً لهم من غير النظام. ولذلك ارتباطهم بالنظام مصيري. وبينما قد يكون كبار أصحاب الملكيات الزراعية وصناعيون مرتبطون بالسوق الدولية هم القاعدة النوعية للفاشيات الأميركية اللاتينية، فإن القاعدة الخاصة بالفاشية السورية هي «النظام» ذاته، أي النواة السياسية الأمنية التي تدير آلة القتل اليوم. و«القاعدة المادية» للنظام هي امتلاك «السلطة العمومية».
بعبارة أخرى، أساس الفاشية لدينا هو «السلطة» (الثروة تتبعها)، فيما أساس الفاشية في أميركا اللاتينية هو «الثروة» (السلطة هي التابعة). وربما لذلك، فإن الثورة لدينا موجهة أولاً ضد نمط ممارسة السلطة، على نحو ربما يتكثف في شعار «الشعب يريد إسقاط النظام». في أميركا اللاتينية المحتوى الاجتماعي أقوى، وهو ما تأكد كظاهرة لافتة مع صعود اليسار الاجتماعي في بضع السنوات الأخيرة.
لكن الفاشية هي الــــفاشـية هنا وهناك: حرب الطغمة الثرية المسلحة ضد العامة الثائرة.