الخميس، 21 يونيو 2012
الربيع العربي ثورة بـ"عمق ديني" يتجاوز "التيار الديني"
وسام سعادة
لا يكون "الربيع" ربيعاً إلا عندما يكون هذا الربيع "في خطر". الثورة التي تجد كل طريق مفتوحاً أمامها لا تعود ثورة. والثورة، حتى لو زُيّنَ للقائمين بها، أو المنخرطين فيها، أو المتصدّين لها، أنّ الأوضاع التي يجتازونها قد سبقت لهم رؤيتها، لكنها لا تتكشّف كثورة الا في قدرتها على مخادعة الجميع.
كما أن الثورة ليست "فرزاً" بين أنصارها وأعدائها فقط، بل هي أيضاً ثورة بمعنى خلط الحابل بالنابل. من لا قدرة لديه للتفاعل مع هذين البعدين المتناقضين، الثورة كفرز والثورة كخلط، والتنقل بينهما بسرعة الزمن الثوري نفسه، خيرٌ له انتظار حركة الزمن الثوري نفسه بين الفرز والخلط. الانتظار هو أيضاً من تقنيات الزمن الثوري، أو من أساليب التحايل عليه.
الربيع العربي هو ثورة بمعنى من المعاني. فرز وخلط، وسخرية لا آخر لها من كل معتصم بحبل "قانون الثورات"، الذي يستأمنه الممانعون مثلاً على أنفسهم، ويقاتلون به الثورات الجارية التي من لحم ودم. كذلك، فالربيع العربي ثورة لأنه يسخر أيضاً من أوهام المثاليين، الليبراليين النمطيين، الذين ينتظرون "ثورة في حدود القانون". أما الأهم من كل ذلك، أن الربيع العربي شكّل النافذة التي عادت من خلالها الثورة، اصطلاحاً ومفهوماً وأفقاً، الى مساحة التداول في مطلع هذا القرن، مثلما كانت الثورة "من تحت" الروسية والايرانية لعام مدخلاً ل"عودة المفهوم" في بدايات القرن الماضي..
والنظرة الى هذا الربيع تظلّ قاصرة أو طائشة بالضرورة، ما لم يجر الانطلاق من سياقه العام: أزمة آليات السيطرة الغربية، السياسية والاقتصادية والثقافية والامنية، القائمة منذ نهايات الحرب الباردة، وأزمة المتفلتين من هذه السيطرة، سواء في شكلها العام أو في وجه من وجوهها، ما يضطرّهم وفي اللحظة نفسها التي يظهرون تعطّلها، الى الاحتكام اليها، على ما يظهر في جميع وقائع الربيع العربي، من مناجاة ميدان التحرير في القاهرة لباراك اوباما، الى مناشدة ثوار ليبيا لحلف شمال الاطلسي في اللحظة الحرجة، الى مفارقات الوضع السوري الكثيرة في هذا الاطار، بين من يرفض التدخل الدولي قبل ان يطرحه احد، وبين من يستعجله بساعة ليست ساعة "العالم".
واذا كان الانتفاض الشعبي لإطاحة نظام مومياقراطي قد بدأ في تونس، وسبقته عملية اهتزاز النظام العربي الاجمالي من خلال استقلال جنوب السودان عنه، الا ان الربيع العربي بحد ذاته بدأ في مصر، والثورة المصرية لا تزال محوره، وفيها اكثر من سواها يظهر الزمن الثوري بتعقيداته وصعوباته، خصوصاً الآن، حين يظهر ان هذا الربيع في خطر.
في المجتمعات العربية الاخرى، وفي السنوات الماضية، كان الاحتقان من ظلم الحكام يجد التعبير عن نفسه بالهمس وفي نطاق ضيق. فقط في مصر كان هذا التعبير يترجم نفسه على نطاق اجتماعي واسع رغم سطوة الفرعونية الامنية. في المجال الخاص فقط، كان يمكن لكل تونسي او ليبي او سوري أن يفتح لك صدره. أما في مصر، فالنقمة الشعبية على حسني مبارك والحزب الوطني والمؤسسة القمعية كانت قد انتشرت بشكل هائل في المجال العام، وهذا فارق اساسي بين مصر والمجتمعات الاخرى. المجتمعات الاخرى كانت محكومة بطغاة، بعضهم غير فئوي وغير ايديولوجي ومتواضع في عنفيته (بن علي)، وبعضهم الآخر فئوي وايديولوجي وسفّاح بالوراثة (بشار الاسد). أما حسني مبارك الديكتاتور، فلم يكن طاغية، تحديداً لأنه كان على رأس دولة الاستبداد، الاستبداد الشرقي الذي يجعل شرعيته بديهية تماماً، بحكم كونه عريقاً في مصر، "منذ أيام الفراعنة".
بإزاء هذا النموذج، استدعى سيد قطب في ظلمات سجنه في الخمسينيات والستينيات، ثنائية "موسى ضد فرعون"، في مواجهة نظام ثورة يوليو، التي سبق له ان اندفع لتأييدها بشدة، وشكل حلقة وصل بين ضباطها الاحرار وجماعة "الإخوان"، قبل الاصطدام النهائي وحادثة المنشية.
اليوم، هذه الثنائية تتخذ لنفسها في مصر اشكالاً عدّة، وتشكّل العمق الديني للثورة المصرية، الامر الذي لا يختزل في هيمنة "التيار الديني" بالمعنى السياسي للكلمة. انه السؤال عن مصدر الشرعية. الفرعونية الامنية تقول ان صك توليتها امر وادي النيل هو منذ بدء التاريخ، وان خلع حاكم من الحكام ليس الا تجديدا لحيوية النموذج الفرعوني نفسه. في المقابل، في كل لحظة من لحظات احتدام الثورة المصرية، السؤال المفتاحي المباغت والمثابر يبقى: موسى أم فرعون؟