آل الحكيم : آل الفقاهة والشهادة
قالت الادارة الاميركية في نعيها للسناتور ادوارد كينيدي (توفي في نفس يوم وفاة السيد عبد العزيز) انه ابن "العائلة المنكوبة" اشارة الى مقتل شقيقيه الرئيس جون (1963) والسناتور روبرت (1968) اغتيالاً ، وقبلهما شقيقهما الطيار جو الذي قتل ابان الحرب العالمية الثانية....
والحال أن العلامة السيد عبد العزيز الحكيم (توفي بالسرطان يوم الاربعاء 26 آب 2009) هو ابن عائلة أكثر من منكوبة..ولا نقول نحن الشيعة منكوبة انما نقول مظلومة إسوة بظلامة آل البيت الذين نكبوا بالقتل والاعتقال والمطاردة والسجن والتعذيب.. ولم يذكر التاريخ عائلة نكبت بمثل ما نكب به أهل البيت غير عائلة الحكيم العربية العراقية..وأقول العربية العراقية لأن البعض يردد عن جهل انها عائلة فارسية بسبب اسمها "الطباطبائي" وهذا البعض يجهل ان الطباطبائي هو لقب نسبة الى آل طباطبا (الاسم الذي عرف به آل الحكيم حتى القرن السادس عشر، وآل بحر العلوم ينتسبون ايضاً الى طباطبا).. وهؤلاء السادة يعود نسبهم الى إبراهيم طباطبا ابن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب.. فابراهيم هذا هو أول من اشتهر بـ « طباطبا »، وقد عزا البعض سبب اشتهاره بهذا اللقب إلى أنّه كان يلفظ « القاف » طاءً، للثغة في لسانه، ولذلك كان يلفظ "قَبا" "طَبا"، وعرف إثر تكرار هذه الكلمة بـ "إبراهيم طباطبا" ، وأولاده وأحفاده بـ "ابن طباطبا" .وقال البعض الآخر: إن طباطبا تعني باللغة النبطية "سيد السادات"، وعندما أُطلق سراح إبراهيم من سجن أبي جعفر المنصور الدوانيقي ( ت 775م )، وسكن العراق مرغماً، دعاه الأنباط المحلّيون في ما بين النهرين بهذا الاسم، والرأي الأخير أصح. وكان إبراهيم من أصحاب الإمام الصادق عليه السّلام ومن رواة الحديث. أما ابن طباطبا الشهير في تاريخ الثورات فهو أبو الحسن محمد بن أحمد بن إبراهيم طباطبا ابن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، عالم، وشاعر، وأديب... ويذكر التاريخ أنه في سنة 199 هـ ثار محمّد بن احمد بن إبراهيم طباطبا بالكوفة، يدعو إلى الرضا من آل محمّد والعمل بالكتاب والسنّة .وكان سبب خروج ابن طباطبا أنّ نصر بن شبيب ـ وكان متشيّعاً حَسَن المذهب ـ قد قَدِم حاجّاً، فأتى ابنَ طباطبا وذاكره مَقتلَ أهل بيته وغَصْبَ الناس ايّاهم حقوقهم، وقال: حتّى متى تُوطَأُون الخسفَ وتُهتَضَمُ شيعتكم ويُنزى على حقّكم ؟! وأكثَر نصرٌ من القول في هذا المعنى إلى طباطبا مغضباً، فلقي في طريقه أبا السَّرايا: السَّريّ بن منصور ـ وكان الأخير قد خالفَ السلطة ونابذه، وكان علويّ الرأي ذا مذهب في التشيّع ـ فدعاه ابن طباطبا إلى نفسه، فأجابه أبو السرايا وتواعدا في الكوفة.ثمّ إنّ أبا السرايا مضى إلى الكوفة فدخلها وبايعه الناس من نواحي الكوفة، فوجّه إليه الحسنُ بن سهل زهيرَ بن المُسيّب في عشرة آلاف فارس وراجل، فخرج إليه ابن طباطبا وأبو السرايا، فالتقوا في قرية شاهي فهزموه واستباحوا عسكره.فلمّا كان الغد، مات محمد بن إبراهيم بن طباطبا فجأة.
فأسرة آل الحكيم هي اذن من الأسر العلوية ، التي يعود نسبها إلى الامام الحسن بن علي بن أبي طالب عن طريق ولده الحسن المثنى ، و هي من العوائل العلمية العراقية الأصيلة) آل طباطبا (، حيث استوطن أجدادها العراق منذ أوائل القرن الثاني الهجري، ثم انتشروا بفعل الظروف السياسية و الاجتماعية ، التي مرت على العراق ، في مختلف أنحاء العالم الاسلامي في اليمن و ايران و شمال افريقيا و غيرها من البلدان. ولذلك فاننا نجد في اليمن زيوداً من آل الحكيم..وهي في العراق من الأسر المشهورة ، التي ذاع صيتها خصوصاً في النصف الثاني من القرن الرابع عشر الهجري ، و قد برز منها قبل ذلك علماء مشهورون بالطب و الاخلاق و الفقه والأصول، و عرف منهم في أوائل القرن الرابع عشر الهجري، العالم الأخلاقي المعروف آية الله المقدس السيد مهدي الحكيم ، والد الامام السيد محسن الحكيم ، و الذي هاجر في أواخر حياته إلى بنت جبيل من قرى جبل عامل في لبنان بطلب من أهلها، و كان زميلاً في الدرس مع آية الله المجاهد ، السيد محمد سعيد الحبوبي (بطل التصدي للاحتلال البريطاني والدفاع عن الدولة العثمانية في العام 1914-1915 وذلك قبل قيام مراجع الشيعة بقيادة ثورة العشرين التاريخية(... و قد تخرج السيد مهدي في الاخلاق على يد المقدس الشيخ حسين قلي همداني، صاحب المدرسة الأخلاقية المعروفة.. و توفي في لبنان يوم الجمعة 8 صفر سنة 1312هـ، و له في تلك البقاع مدفن يزار.. وتحدرت منه عائلة الحكيم البنت الجبيلية والتي ما تزال في تلك الديار..وتزوج السيد محسن من شقيقة السياسي اللامع والنائب والوزير المرحوم علي بزي..
وقد ذكـرت كـتب الانساب بان أحد أجـداد الـسـيـد محسن الحكيم (الطباطبائي) وهو السيد علي الحكيم كان طبيبا مشهورا في زمان الشاه عباس الصفوي، وله كتاب في الطب اسماه (التجارب الطبية ) ومنذ ذلك الزمان اكتسبت العائلة لقب الحكيم بمعنى الطبيب ، و أصبح هذا لقبا مشهوراً لهذه العائلة .
السيد عبد العزيز هو اذن ابن المرجع الاعلى للشيعة في زمنه المجتهد الامام السيد محسن الحكيم، وقد استشهد أخوته السيد محمد مهدي (اغتاله صدام في الخرطوم في 17 كانون الثاني 1988) والسيد محمد باقر (اغتاله الارهابيون في النجف في 29 آب 2003 ) وهما كانا من ابرز القيادات الشيعية المعارضة لنظام الرئيس صدام حسين.. وفي سجون الطاغية صدام استشهد تحت التعذيب او إعداماً العشرات من آل الحكيم وأنسبائهم (خصوصاً آل بحر العلوم) نذكر منهم الشهداء الستة الذين أعدموا في 20 أيار 1983... وهم ثلاثة من أولاد السيد محسن : آية الله السيد عبد الصاحب و السيد علاء الدين و السيد محمد حسين ، وثلاثة من أحفاد السيد محسن هم اثنان من أولاد المرجع السيد يوسف ابن السيد محسن : السيد كمال الدين والسيد عبد الوهاب، وسادسهم المثقف خريج اقتصاد جامعة القاهرة السيد أحمد ابن السيد محمد رضا محسن الحكيم... ثم لحق بهم عشرة في 5 آذار 1985 (رجب 1405) هم:
آية الله السيد عبد المجيد محمود الحكيم ،السيد عبد الهادي محسن الحكيم ،السيد حسن عبد الهادي محسن الحكيم ،السيد حسين عبد الهادي محسن الحكيم ،السيد محمد رضا محمد حسين سعيد الحكيم
السيد عبد الصاحب محمد حسين سعيد الحكيم
السيد محمد محمد حسين سعيد الحكيم
السيد ضياء الدين كمال الدين يوسف محسن الحكيم
السيد بهاء الدين كمال الدين يوسف محسن الحكيم
السيد محمد علي جواد الحكيم
السيد محمد حسن علي أحمد الحكيم
السيد غياث الحكيم
كما ان السيد يوسف محسن الحكيم قد اعتقل في نفس الفترة وتوفي بعد ذلك في السجن نتيجة للتعذيب
ثم لحق بهم عدد كبير من الشهداء المجهولي مكان وزمان الاستشهاد وهذه بعض الاسماء :
السيد محمد جعفر محمد صادق الحكيم (أعدم إبناه أحمد ومحمد)
السيد مجمد حسين سعيد الحكيم رئيس العائلة ( اعدم ابناؤه الثلاثة و ابعد الى تركيا)
السيد علي سعيد الحكيم
السيد طالب رسول الحكيم
السيد علي عبد الرزاق الحكيم
السيد يحيى د حسن الحكيم
السيد جابر جواد ابراهيم الحكيم
السيد هاشم محسن سلمان الحكيم
زوجة السيد عبد المجيد عبد الكريم الحكيم
السيد مهدي باقر الحكيم
السيد مهدي صالح جواد الحكيم
السيدة فاطمة حسن ماجد الحكيم
الآنسة زينب مهدي باقر الحكيم
السيد محمد رضا صالح جواد الحكيم
السيد عبد الأمير حسن ماجد الحكيم
السيد هادي جواد الحكيم
السيد حسن حسين الحكيم
السيد حميد مهدي السيد باقر الحكيم
السيد سعيد حسن الحكيم
السيد علي محمود السيد عباس الحكيم
السيد حسن محسن الحكيم
السيد علي صالح لحكيم
السيد علي يوسف الحكيم
السيد عصام عبد الحسين الحكيم
السيد محمود نوري الحكيم
السيد مجيد مهدي باقر الحكيم
السيد علي عبود الحكيم
السيد احمد مرتضى محمد علي الحكيم
السيد عباس مرتضى محمد علي الحكيم
السيد مرتضى محمد علي الحكيم
السيد علي حسن الحكيم
السيد عبد العزيز الحكيم
: ولد عام 1950 في النجف الاشرف وهو أصغر ابناء السيد محسن وآخر من استشهد منهم.. تتلمذ على والده ثم على اخوته الشهداء السيد يوسف والسيد عبد الصاحب والسيد مهدي والسيد محمد باقر ، ثم التحق بدراسة بحث الخارج في الفقه والاصول على الامام الخوئي ثم على السيد الشهيد محمد باقر الصدر الذي ربطته به علاقة قوية .. عند شروع السيد باقر الصدر في تنظيم الحوزة العلمية لبناء مشروع المرجعية الموضوعية اختاره ليكون عضواً في اللجنة الخاصة التي شكلها وضمت الشهيد السيد باقر الحكيم والسيد كاظم الحائري والسيد محمود الهاشمي ، وعرفت اللجنة باسم لجنة المشورة.. وإثر انتفاضة رجب 1979 واعتقال السيد الصدر تفرغ عبد العزيز لتنظيم العلاقة بين المجاهدين العراقيين في الداخل والخارج واستمرار ترتيب الصلة بين الصدر وتلاميذه في النجف.. وقد تحمل في سبيل ذلك الأخطار الكبيرة وتهددت حياته في ظل الارهاب والاعتقالات والقتل.. وقد استطاع تنظيم اتصال يومي بالشهيد الصدر عبر الرموز والاشارات ما أتاح انقاذ مئات المجاهدين وتهريبهم..كان الشهيد الصدر يوليه اهتماماً خاصاً لما تميز به من فكر ثاقب وذهنية وقادة وكفاءة عالية في ادارة وتدبير العمل وشجاعة واقدام متميزين.. وهو كتب له وكالة عامة مطلقة قليلة النظير أجاز له فيها استلام كل الحقوق الشرعية وصرفها بالطريقة التي يراها مناسبة ثقة منه فيه وفي تدينه وتعففه.
بعد إصدار السيد الصدر لفتواه الشهيرة بالتصدي لنظام صدام وازالة كابوسه عن صدر العراق، تبنى السيد عبد العزيز الكفاح المسلح واسس مطلع الثمانينيات حركة المجاهدين العراقيين الى جانب مشاركته في تاسيس جماعة العلماء المجاهدين ثم في الهيئة الرئاسية للمجلس الاعلى للثورة الاسلامية الذي أسسه وترأسه شقيقه الشهيد محمد باقر.. استلم رئاسة المجلس بعد استشهاد السيد محمد باقر.. وكان هو من تولى ادارة الملف السياسي لحركة المجلس الاعلى منذ بداية بوادر العمل العسكري الدولي بقيادة اميركا ضد صدام، فترأس وفد المجلس الاعلى الى واشنطن وفي اللجنة التحضيرية لمؤتمر لندن ثم مؤتمر صلاح الدين ، وكان من أوائل المبادرين الى جانب الدكتور عادل عبد المهدي لدخول العراق بعد سقوط صدام وتاسيس العمل السياسي العراقي الوطني وادارة العملية السياسية في ظروف الاحتلال.. فكان عضواً في مجلس الحكم الانتقالي ثم عضواص في الهيئة القيادية لمجلس الحكم العراقي وانتخب بالاجماع من قبل اعضاء الشورى المركزية للمجلس الأعلى رئيساً للمجلس بعد استشهاد آية الله محمد باقر الحكيم..
أصيب بالسرطان وكان يمكن أن يعالج في اميركا إلا أنه قرر البقاء قرب الفرات والنجف والعراق فاختار المستشفى في طهران حيث وافته المنية يوم الاربعاء 26 آب وشيع يوم الجمعة على ابواب الذكرى السنوية السادسة لشهادة شقيقه محمد باقر..
رحم الله السيد عبد العزيز وشهداء آل الحكيم، آل الفقاهة والشهادة، ورحم الله كل شهداء العراق الحبيب..
واننا نتقدم بالعزاء الى شعب العراق والى آل الحكيم والى المراجع العظام في النجف الشرف ، كما نعزي الامة الاسلامية جمعاء وشيعة أهل البيت في كل مكان، ونعزي الحركة الاسلامية العربية والمجلس الاعلى الاسلامي العراقي والحركة الوطنية العراقية وكل المدافعين عن الحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية في العالمين العربي والاسلامي..
سعود المولى
الخميس، 27 أغسطس 2009
الأحد، 23 أغسطس 2009
سعود المولى: من هم أصدقاء سوريا الحقيقيون؟ 11 تشرين الثاني 2000
من هم أصدقاء سوريا الحقيقيون؟النهار 11 تشرين الثاني 2000
منذ أكثر من ربع قرن صار الكلام اللبناني يدور "عن" سوريا وليس "مع" سوريا.. تحولت سوريا الشقيقة الجارة إلى "طوطم ـ تابو"، وعملت الطبقة السياسية المستجدة والمتحكمة، على إخراجها من نسيج حياتنا اليومية، أي من نسج علاقات القربى والرحم والجوار، ومن إطار التاريخ والجغرافيا والمصالح والمنافع، ومن الإستراتيجية والرؤية، لتحليها "موضوعاً" سياسياً أمنياً بإمتياز، حيث لا ناقة للمجتمع الأهلي ولا جمل (لا في لبنان ولا في سوريا).
منذ ربع قرن غابت سوريا الحقيقية، سوريا الناس، وعبق التراث، وحاضر الشرق، وقلب العروبة النابض، وتظاهرات الشوارع، وقوافل التجارة، وأفراح الأعراس، وأنموذج العيش المشترك، والتفاعل بين الأديان والمذاهب والتيارات... وحل محلها في أذهان اللبنانيين وعقولهم: سوريا المخابرات والتدخلات السياسية، وغير السياسية، في تفاصيل الحياة الخاصة والعامة وأصبح الكلام "عن" سوريا وحولها "همساً" في صالونات الطبقة السياسية أو "نكتاً" شعبية ساهمت وتساهم في تأجيج نار العنصرية التي لا ينجو منها شعب من الشعوب فكيف إذا أبتلي هذا الشعب بالوبال الإقتصادي وبالإنهيار السياسي وبالإنحطاط الأخلاقي للطبقة السياسية الحاكمة؟
وصال السياسيون وجالوا في إنتاج لغة سياسية ـ أمنية، وخطاب سياسي ـ أمني "عن سوريـا"... ولم يعد مسموحاً سمـاع أي خطاب شعبي ـ أهلـي أو سياسي ـ وطني أو تـاريخي ـ إجتماعي أو إستراتيجي ـ رؤيوي... برز إلى السطح إذن خطاب ما فوق مجتمعي، وما فوق تاريخي، تجيده وتحتكره نخبة "قومجية" وأخرى "وطنجية".
خطاب السيادة والإستقلال، وهو حمل نكهة عنصرية خارج التاريخ والجغرافيا والرؤية الواقعية، وسمي وطنياً نسبة إلى الوطن ـ لبنان. وكان على الأغلب ذا طابع مسيحي ـ وماروني تحديداً. وخطاب "وحدة المسار والمصير"، وهو حمل نكهة تبعية وإستزلام وإستقواء، خارج التاريخ والجغرافيا والمصالح المشتركة والرؤية الواقعية، وسمي قومياً وإسلامياً، وكان على الأغلب ذا طابع مسلم دون أن يعدم ملتحقين جدداً بمنافع "القومية" وميزاتها من بقية الطوائف ومن الطائفة المارونية تحديداً
ولم تنجح السنوات العشر الماضية منذ إتفاق الطائف والتعديلات الدستورية، في إخراجنا من هذا التقابل الإستقطابي العدائي الموهوم والمستوهم. بل إن سياسة الدولة والطبقة السياسية الجديدة المتحكمة بالبلاد والعباد ساهمت وتساهم عن قصد ووعي في إبقاء شعلة هذين الخطابين وفي تأجيج نار الديماغوجية في أتون المزايدات والتكفير والتخوين... بحيث استطال الوهم وإستحال رعباً حقيقياً لم يعدم بعض الواصلين وسيلة لجعله إرهاباً أرعن، شهدنا عينة منه في الخطب العصماء التي ألقيت داخل البرلمان.
واليوم، وعشية تكثف الضغوط الصهيونية مع طبول الحرب، في مواجهة الإنتفاضة المجيدة لشعب فلسطين، إزدادت وتيرة ديماغوجية التخوين والتكفير والإرهاب، مرددة الشعار الشهير "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"... والحال أنه لا بد من وقفة عاقلة تسحب فتيل التوتير، حرصاً على سوريا وجماعتها في لبنان، وليس فقط حرصاً على لبنان... لا بد من إعادة تصويب الحوار مع سوريا بإعادة التركيز على ثوابتنا المرجعية الموحدة التي توافقنا عليها في الطائف، برعاية سورية، وبمباركة عربية ودولية.
لقد حددت وثيقة الطائف صيغة العلاقات الواجب قيامها بين لبنان وسوريا بإعتبارها "علاقات مميزة تستمد قوتها من جذور القربى والتاريخ والمصالح الأخوية المشتركة" (ونسيت الوثيقة ذكر الجغرافيا أو الجوار) كما حددت الوثيقة هدف هذه العلاقات في "تحقيق مصلحة البلدين الشقيقين في إطار سيادة وإستقلال كل منهما" وحددت كذلك الوسيلة الفضلى لتجسيد هذه العلاقات عبر "إتفاق بينهما في شتى المجالات" ترتكز إلى مبدأي "التنسيق والتعاون".
إن وثيقة الطائف هي الإطار المرجعي ـ الفكري الذي يوحد اللبنانيين في رؤية مشتركة لشؤون حاضرهم ومستقبلهم. وهي قراءة للعلاقات اللبنانية ـ السورية تنطلق من ثابت مركزي مرجعي موحد (عروبة لبنان وروابطه الوثيقة مع سوريا) لا من موقف سياسي مرحلي أو من إعتبار فئوي متقلب. وهذا الأمر يسمح بإرساء العلاقة والحوار مع سوريا على قاعدة متينة، ثابتة ومستمرة، لا تخضع لتقلبات الأهواء أو للأمزجة الشخصية أو للمصالح الحزبية والفئوية والطائفية الضيقة، فلا تتغير تالياً بتغير الأشخاص أو الظروف أو بتبدل موازين القوى الإقليمية والدولية.
فالعلاقة والحوار مع سوريا هنا بحسب الطائف: إستراتيجيا ورؤية ومصالح مشتركة وإنتماء وهوية وتاريخ وجغرافيا، وليسا خطاباً أو شعاراً أو تقية أو همروجة... ولقد علمتنا مواضي التجارب والأحداث بأن المدح الزائد لسوريا هو الوجه الآخر للشتم الزائد لها، إذ هما يعكسان موقفاً، أو موقعاً، أو مشروعاً سلطوياً.
الشاتم كان يريد التمسك بمكتسبات (أو إمتيازات) سياسية قديمة، أو هو يسعى للبناء على إحتمالات إنقلاب وتغير موازين القوى في المعادلة الإقليمية مما ينعكس إنقلاباً في التوازن اللبناني لغير مصلحة سوريا. وقد راهن هذا الموقف على العامل الصهيوني في مرحلة 1975 ـ 1985، وعلى الحل العسكري في مراحل عديدة أبرزها حرب التحرير العونية، وعلى شتى أشكال الإحتجاج والإتصالات الدولية في مختلف المراحل.
أما المادح فكان يريد الوصول السهل إلى السلطة أو البقاء المريح اليوم في السلطة. وهو راهن قديماً على الدور المصري، ثم على الوجود المسلح الفلسطيني، قبل أن يرسو على الدور والوجود السوري للإستقواء في لعبة الصراع والغلبة في لبنان...
وفي الحالتين كنا أمام موقف أو مشروع سلطوي دفع ثمنه المجتمع الأهلي اللبناني والعلاقات الطبيعية بين لبنان وسوريا. وقد أدى ذلك إلى توليد نص أو خطاب: سياسي ـ أمني، مفارق للمجتمع، متغلب عليه وقاهر له، يفكك مرجعياته الرمزية ويضرب ذاكرته ويهمش قواه ويصادر حقوقه. والمطلوب اليوم قيام حوار حقيقي أخوي وصريح بيننا وبين سوريا على قاعدة توليد نص أو خطاب سياسي ـ ثقافي ـ إجتماعي ـ إقتصادي متصالح مع المجتمع الأهلي، ومع ذاكرته ومرجعياته الرمزية أولاً ، ومفتوح على آفاق التطور الديمقراطي في لبنان وسوريا ثانياً، وعلى تشكيل نظام إقليمي عربي جديد (قاعدته مصر وسوريا والسعودية ورأس رمحه فلسطين ولبنان) بديل من الشرق أوسطية (التي ماتت ولم ينتبه أحد إلى ضرورة دفنها) ثالثاً.
وهذا الحوار المطلوب والتاريخي هو حوار في التفاصيل قبل أي شيء آخر. ومن هنا لا معنى لكل التهويل والتأويل حول ما صرح به النواب في البرلمان (نسيب لحود ووليد جنبلاط وعمر كرامي وبطرس حرب ونائلة معوّض) اللهم إلا إذا كانت النيات خبيثة ومبيتة لإشعال نار فتنة نائمة لا يَعرف مداها...
لقد حسم إتفاق الطائف المسألة السياسية المركزية: لا توجد أدوار سياسية ـ أمنية ـ عسكرية متناقضة بين لبنان وسوريا (سلماً أم حرباً في المنطقة). وانتهت إلى الأبد تلك المرحلة التي كان يمكن فيها إستخدام لبنان مقراً للتآمر على سوريا أو معبراً للهجوم والإنقضاض عليها. وتكرس مبدأ الإعتماد المتبادل والتعاون والتنسيق في المجال الخارجي (الموقف حيال المفوضات والتسوية في المنطقة كمثال) كما تكرست حقائق وجوب حماية الخاصرة السورية وعدم السماح بأي إختراق أمني ـ عسكري لسوريا من لبنان.
ومن ناحية أخرى، فإن الدور السوري الأمني ـ والعسكري في لبنان حظي، ويحظى، بغطاء عربي (قمة الطائف ـ والقمم العربية المتوالية ـ والموقف الرسمي لمصر والسعودية خصوصاً) ودولي (فرنسي أساساً ولكن أميركي أيضاً)، فلا يجوز بعد ذلك التهويل أو تأويل مواقف (كنداء بكركي) على قاعدة المؤامرات الخارجية (الأميركية خصوصاً) أو الإستهدافات الإقليمية.
لا يمكن إختراق سوريا من لبنان، ولا تضعف سوريا إلا إقليمياً أي في حال ضعف موقعها ودورها في المعادلة العربية وخصوصاً لجهة علاقتها بمصر والسعودية. أي (وبصريح الكلام) إن عوامل الضغط على سوريا ليست موجودة اليوم في لبنان إنما هي في سوريا ذاتها (الوضع الداخلي) وفي الموقف العربي المتضامن معها حتى الآن والذي يؤمن لها الغطاء والسقف كما أمّن للمقاومة اللبنانية غطاءها وسقفها السياسي وحماها وساعد في إنتصارها.
أما المستوى العقدي ـ الأيديولوجي، وهو مما يرفع البعض شعاراته أو يهجس البعض بمخاوفه حياله، فهو "ساقط عسكرياً" ومنذ سنوات وسنوات، ولو أن البعض لم يرَ الحقيقة بعد أو أنه يحاول إحياء العظام وهي رميم. فلم تعد دعاوى الوحدة السورية أو العربية في دولة قومية مركزية قائمة على التوحيد القسري من فوق وعلى الغلبة والقوة وعلى الحزب الواحد والقائد الأوحد، بدعاوى رائجة أو مقبولة أو مستساغة حتى لدى أصحابها...
وبغض النظر عن إستمرار الفلكلور الفارغ والشكلي لبعض الأحزاب "القومجية"، فإن الواقع يقول أنه لا مبرر لأي خوف من مد ناصري أو بعثي أو هاشمي، أو من تماهِ وتطابق بين العروبة والإسلام، ولم تعد الذمية، أو الأسلمة، أو التعريب، أو التذويب، على جدول أعمال أحد (خصوصاً بعدما عاد العقيد القذافي عن عروبته وإسلاميته)... لا بل إن الأحزاب العقائدية الحاكمة في العالم العربي برهنت عن كيانية أشد إنعزالية من بعض الأطراف اللبنانية...
إن هذا يفترض أن يوفر من الطمأنينة ومن الثقة للخائفين على سيادة لبنان وحريته كما للخائفين على عروبته وعلى موقع سوريا ودورها فيه. ويفترض أن يعني صوغاً مختلفاً لقضية العلاقات اللبنانية ـ السورية في إطار رؤية واضحة لموقع لبنان ودوره في المنطقة، ولآفاق المرحلة وتحديات المستقبل.
وبهذا فإن التنسيق والتشاور والتعاون وحتى التطابق مع سوريا في مجال إدراة الصراع في المنطقة (سلماً أم حرباً) في إطار التضامن العربي والرؤية المشتركة، وتحت سقف الطائف (شروط الوفاق والعيش المشترك ومستلزماتها) ليست فقط تحصيل حاصل، بل هي من دعائم السيادة والإستقلال وليس ضدهما أو نقيضهما...
إن السيادة والإستقلال في لبنان يتحققان عبر السلم الأهلي والوحدة الوطنية ومن خلال طي صفحة الحرب الأهلية وتحقيق مصالحة حقيقية وإعادة بناء المجتمع والدولة على أسس العدالة والكرامة والمساواة للجميع وبين الجميع.
ولا توجد سيادة وإستقلال في معزل عن الإنتماء الحقيقي وعن الإنخراط العاقل والواعي والرائد في مصالح المحيط العربي من حولنا وفي أساس ذلك العلاقات الطبيعية والصحيحة مع سوريا. أما الكلام عن السيادة والإستقلال بعقلية أوروبا القرن التاسع عشر وبلهجة إستعلائية عنصرية فهو غريب وخطير ولا محل له في عالم اليوم.
فالعالم يقوم على شبكة مصالح وعلاقات وعلى وحدات تعاون وتفاهم وعلى مواثيق وعهود والتزامات. وكل ذلك على قاعدة قيام مجتمع أهلي متضامن وقوي ودولة سيدة حرة مستقلة، قوية بمجتمعها لا مستقوية عليه، متكاملة ومتوازية مع مجتمعها، لا مفروضة عليه أو مستلبة الإرادة والقرار.
إن هذا وحده هو الضمانة لسوريا وللعرب.. ولا مصلحة لسوريا وللعرب بغير ذلك.
ومن هنا فإن الحوار الحقيقي المطلوب مع سوريا هو حول النهوض معاً في مواجهة التحديات الإقتصادية: (التنمية ـ الزراعة ـ التجارة ـ الترانزيت ـ المياه) والإجتماعية الثقافية (التعليم ـ الإعلام ـ الحريات العامة) ومن أجل تطوير ديمقراطي سليم لتوازنات المجتمع الأهلي وللعلاقات بين المجتمع والدولة (في لبنان وسوريا) وللتكامل والتعاون بين البلدين وصولاً إلى صوغ نظام إقليمي عربي جديد وسوق عربية مشتركة وإتحاد عربي لدول ديمقراطية حرة مستقلة متطورة.
ولا مصلحة للبنان غير ذلك، بل إن هذا هو دوره المركزي وهو دور رائد للمسيحيين في لبنان والعالم العربي.
وفي المقابل، فإن استقواء فريق من اللبنانيين على فريق آخر، بدور سوريا ووجودها ونفوذها، لمما يسيء إلى سوريا قبل لبنان ويجعلها عرضة للتذمر الشعبي دون أن يقوي دورها أو يعزز مشروعها إذ هو يصّب في خدمة مشروع سلطوي يبقي الغلبة والإستحواذ عبر الإستقواء بسوريا. وهذا مناقض لميثاق الطائف، أي لميثاق العيش المشترك، ولأساس قيام الدولة وإستمرارها، كما هو مناقض للرؤية المشتركة وللإستراتيجية القومية في إدارة الصراع في العالم العربي ضد التخلف والتجزئة وضد الاستبداد والجهل ومن أجل الديمقراطية والعدالة والحرية والكرامة.
لقد كان إعلان المبادئ هذا، القاعدة والمنطلق لكل تقويم جدي ولكل نقد أخوي لمنطق العلاقات اللبنانية ـ السورية والعربية ـ العربية تالياً. ذلك أن هناك فرقاً كبيراً بين الذين يريدون لسوريا وللعرب العزة والكرامة والحرية والديمقراطية، والذين يريدون سوريا أداة قمع وقهر ومصادرة للحريات وإستباحة للكرامات خدمة لمصالح شخصية ولمشاريع فئوية.
والفرق كبيراً أيضاً بين الذين حملوا هموم الأمة ومطالب الإصلاح والتغيير وحافظوا على وحدة الناس ومصالحهم وحريتهم وكرامتهم في سوريا ولبنان، كشرط لبناء القوة وللصمود في معركة التحرير، والذين حملوا شعارات "وحدة المسار والمصير" وأمعنوا في سياسات الفصل والتدمير، حتى وصلوا إلى أساليب التخوين والتكفير...
الفرق بين الذين قدموا التضحيات على إمتداد السنين لحفظ كيان لبنان ولحقن الدماء ووقف الفتنة ولإستعادة مشروع الدولة، والذين سرقوا دماء الشهداء وعملوا على محو الذاكرة وتغيير التاريخ بعدما عاثوا فساداً في الأرض خلال سنوات الحرب ـ الفتنة.
الفرق كبير بين الذين يعلمون على تجسيد شعار "الشعب الواحد في دولتين" والذين أوصلوا الناس إلى حالة "الدولة الواحدة في شعبين" فكانوا السبب في الجفاء بين الشعبين الشقيقين وفي تطوير عنصرية لبنانية بغيضة بحق كل العرب الأشقاء...
ولهذا كله فإن الواجب والمسؤولية إقتضيا ويقتضيان جرأة المصارحة وقسوة المكاشفة... ولا يجوز تخوين أو التشكيك في من أراد خدمة الحوار والمصالحة والسلم الأهلي والعلاقات الصحيحة الطبيعة والمعافاة مع سويا وتصحيح الخلل وتقويم المسار.. بل الواجب محاسبة المسؤولين عن تلك السياسات "الوطنية" "العظيمة المجيدة" التي أوصلت العلاقات اللبنانية ـ السورية، وأوصلت البلاد، إلى هذا المنحدر الخطير...
ليس المسؤول عن ذلك كله نداء بكركي أو تصريحات وليد جنبلاط وعمر كرامي ونسيب لحود وبطرس حرب ونائلة معّوض أو صمت حسين الحسيني أو حكمة محمد مهدي شمس الدين وإعتداله.. بل المسؤول هو تلك السياسات الخرقاء الحمقاء والنزاعات السلطوية الرعناء، والأجواء القمعية الإرهابية، وذلك الإستهتار بكل الثوابت والمسلمات وبكل القيم والمبادئ التي قام عليها لبنان.
منذ أكثر من ربع قرن صار الكلام اللبناني يدور "عن" سوريا وليس "مع" سوريا.. تحولت سوريا الشقيقة الجارة إلى "طوطم ـ تابو"، وعملت الطبقة السياسية المستجدة والمتحكمة، على إخراجها من نسيج حياتنا اليومية، أي من نسج علاقات القربى والرحم والجوار، ومن إطار التاريخ والجغرافيا والمصالح والمنافع، ومن الإستراتيجية والرؤية، لتحليها "موضوعاً" سياسياً أمنياً بإمتياز، حيث لا ناقة للمجتمع الأهلي ولا جمل (لا في لبنان ولا في سوريا).
منذ ربع قرن غابت سوريا الحقيقية، سوريا الناس، وعبق التراث، وحاضر الشرق، وقلب العروبة النابض، وتظاهرات الشوارع، وقوافل التجارة، وأفراح الأعراس، وأنموذج العيش المشترك، والتفاعل بين الأديان والمذاهب والتيارات... وحل محلها في أذهان اللبنانيين وعقولهم: سوريا المخابرات والتدخلات السياسية، وغير السياسية، في تفاصيل الحياة الخاصة والعامة وأصبح الكلام "عن" سوريا وحولها "همساً" في صالونات الطبقة السياسية أو "نكتاً" شعبية ساهمت وتساهم في تأجيج نار العنصرية التي لا ينجو منها شعب من الشعوب فكيف إذا أبتلي هذا الشعب بالوبال الإقتصادي وبالإنهيار السياسي وبالإنحطاط الأخلاقي للطبقة السياسية الحاكمة؟
وصال السياسيون وجالوا في إنتاج لغة سياسية ـ أمنية، وخطاب سياسي ـ أمني "عن سوريـا"... ولم يعد مسموحاً سمـاع أي خطاب شعبي ـ أهلـي أو سياسي ـ وطني أو تـاريخي ـ إجتماعي أو إستراتيجي ـ رؤيوي... برز إلى السطح إذن خطاب ما فوق مجتمعي، وما فوق تاريخي، تجيده وتحتكره نخبة "قومجية" وأخرى "وطنجية".
خطاب السيادة والإستقلال، وهو حمل نكهة عنصرية خارج التاريخ والجغرافيا والرؤية الواقعية، وسمي وطنياً نسبة إلى الوطن ـ لبنان. وكان على الأغلب ذا طابع مسيحي ـ وماروني تحديداً. وخطاب "وحدة المسار والمصير"، وهو حمل نكهة تبعية وإستزلام وإستقواء، خارج التاريخ والجغرافيا والمصالح المشتركة والرؤية الواقعية، وسمي قومياً وإسلامياً، وكان على الأغلب ذا طابع مسلم دون أن يعدم ملتحقين جدداً بمنافع "القومية" وميزاتها من بقية الطوائف ومن الطائفة المارونية تحديداً
ولم تنجح السنوات العشر الماضية منذ إتفاق الطائف والتعديلات الدستورية، في إخراجنا من هذا التقابل الإستقطابي العدائي الموهوم والمستوهم. بل إن سياسة الدولة والطبقة السياسية الجديدة المتحكمة بالبلاد والعباد ساهمت وتساهم عن قصد ووعي في إبقاء شعلة هذين الخطابين وفي تأجيج نار الديماغوجية في أتون المزايدات والتكفير والتخوين... بحيث استطال الوهم وإستحال رعباً حقيقياً لم يعدم بعض الواصلين وسيلة لجعله إرهاباً أرعن، شهدنا عينة منه في الخطب العصماء التي ألقيت داخل البرلمان.
واليوم، وعشية تكثف الضغوط الصهيونية مع طبول الحرب، في مواجهة الإنتفاضة المجيدة لشعب فلسطين، إزدادت وتيرة ديماغوجية التخوين والتكفير والإرهاب، مرددة الشعار الشهير "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"... والحال أنه لا بد من وقفة عاقلة تسحب فتيل التوتير، حرصاً على سوريا وجماعتها في لبنان، وليس فقط حرصاً على لبنان... لا بد من إعادة تصويب الحوار مع سوريا بإعادة التركيز على ثوابتنا المرجعية الموحدة التي توافقنا عليها في الطائف، برعاية سورية، وبمباركة عربية ودولية.
لقد حددت وثيقة الطائف صيغة العلاقات الواجب قيامها بين لبنان وسوريا بإعتبارها "علاقات مميزة تستمد قوتها من جذور القربى والتاريخ والمصالح الأخوية المشتركة" (ونسيت الوثيقة ذكر الجغرافيا أو الجوار) كما حددت الوثيقة هدف هذه العلاقات في "تحقيق مصلحة البلدين الشقيقين في إطار سيادة وإستقلال كل منهما" وحددت كذلك الوسيلة الفضلى لتجسيد هذه العلاقات عبر "إتفاق بينهما في شتى المجالات" ترتكز إلى مبدأي "التنسيق والتعاون".
إن وثيقة الطائف هي الإطار المرجعي ـ الفكري الذي يوحد اللبنانيين في رؤية مشتركة لشؤون حاضرهم ومستقبلهم. وهي قراءة للعلاقات اللبنانية ـ السورية تنطلق من ثابت مركزي مرجعي موحد (عروبة لبنان وروابطه الوثيقة مع سوريا) لا من موقف سياسي مرحلي أو من إعتبار فئوي متقلب. وهذا الأمر يسمح بإرساء العلاقة والحوار مع سوريا على قاعدة متينة، ثابتة ومستمرة، لا تخضع لتقلبات الأهواء أو للأمزجة الشخصية أو للمصالح الحزبية والفئوية والطائفية الضيقة، فلا تتغير تالياً بتغير الأشخاص أو الظروف أو بتبدل موازين القوى الإقليمية والدولية.
فالعلاقة والحوار مع سوريا هنا بحسب الطائف: إستراتيجيا ورؤية ومصالح مشتركة وإنتماء وهوية وتاريخ وجغرافيا، وليسا خطاباً أو شعاراً أو تقية أو همروجة... ولقد علمتنا مواضي التجارب والأحداث بأن المدح الزائد لسوريا هو الوجه الآخر للشتم الزائد لها، إذ هما يعكسان موقفاً، أو موقعاً، أو مشروعاً سلطوياً.
الشاتم كان يريد التمسك بمكتسبات (أو إمتيازات) سياسية قديمة، أو هو يسعى للبناء على إحتمالات إنقلاب وتغير موازين القوى في المعادلة الإقليمية مما ينعكس إنقلاباً في التوازن اللبناني لغير مصلحة سوريا. وقد راهن هذا الموقف على العامل الصهيوني في مرحلة 1975 ـ 1985، وعلى الحل العسكري في مراحل عديدة أبرزها حرب التحرير العونية، وعلى شتى أشكال الإحتجاج والإتصالات الدولية في مختلف المراحل.
أما المادح فكان يريد الوصول السهل إلى السلطة أو البقاء المريح اليوم في السلطة. وهو راهن قديماً على الدور المصري، ثم على الوجود المسلح الفلسطيني، قبل أن يرسو على الدور والوجود السوري للإستقواء في لعبة الصراع والغلبة في لبنان...
وفي الحالتين كنا أمام موقف أو مشروع سلطوي دفع ثمنه المجتمع الأهلي اللبناني والعلاقات الطبيعية بين لبنان وسوريا. وقد أدى ذلك إلى توليد نص أو خطاب: سياسي ـ أمني، مفارق للمجتمع، متغلب عليه وقاهر له، يفكك مرجعياته الرمزية ويضرب ذاكرته ويهمش قواه ويصادر حقوقه. والمطلوب اليوم قيام حوار حقيقي أخوي وصريح بيننا وبين سوريا على قاعدة توليد نص أو خطاب سياسي ـ ثقافي ـ إجتماعي ـ إقتصادي متصالح مع المجتمع الأهلي، ومع ذاكرته ومرجعياته الرمزية أولاً ، ومفتوح على آفاق التطور الديمقراطي في لبنان وسوريا ثانياً، وعلى تشكيل نظام إقليمي عربي جديد (قاعدته مصر وسوريا والسعودية ورأس رمحه فلسطين ولبنان) بديل من الشرق أوسطية (التي ماتت ولم ينتبه أحد إلى ضرورة دفنها) ثالثاً.
وهذا الحوار المطلوب والتاريخي هو حوار في التفاصيل قبل أي شيء آخر. ومن هنا لا معنى لكل التهويل والتأويل حول ما صرح به النواب في البرلمان (نسيب لحود ووليد جنبلاط وعمر كرامي وبطرس حرب ونائلة معوّض) اللهم إلا إذا كانت النيات خبيثة ومبيتة لإشعال نار فتنة نائمة لا يَعرف مداها...
لقد حسم إتفاق الطائف المسألة السياسية المركزية: لا توجد أدوار سياسية ـ أمنية ـ عسكرية متناقضة بين لبنان وسوريا (سلماً أم حرباً في المنطقة). وانتهت إلى الأبد تلك المرحلة التي كان يمكن فيها إستخدام لبنان مقراً للتآمر على سوريا أو معبراً للهجوم والإنقضاض عليها. وتكرس مبدأ الإعتماد المتبادل والتعاون والتنسيق في المجال الخارجي (الموقف حيال المفوضات والتسوية في المنطقة كمثال) كما تكرست حقائق وجوب حماية الخاصرة السورية وعدم السماح بأي إختراق أمني ـ عسكري لسوريا من لبنان.
ومن ناحية أخرى، فإن الدور السوري الأمني ـ والعسكري في لبنان حظي، ويحظى، بغطاء عربي (قمة الطائف ـ والقمم العربية المتوالية ـ والموقف الرسمي لمصر والسعودية خصوصاً) ودولي (فرنسي أساساً ولكن أميركي أيضاً)، فلا يجوز بعد ذلك التهويل أو تأويل مواقف (كنداء بكركي) على قاعدة المؤامرات الخارجية (الأميركية خصوصاً) أو الإستهدافات الإقليمية.
لا يمكن إختراق سوريا من لبنان، ولا تضعف سوريا إلا إقليمياً أي في حال ضعف موقعها ودورها في المعادلة العربية وخصوصاً لجهة علاقتها بمصر والسعودية. أي (وبصريح الكلام) إن عوامل الضغط على سوريا ليست موجودة اليوم في لبنان إنما هي في سوريا ذاتها (الوضع الداخلي) وفي الموقف العربي المتضامن معها حتى الآن والذي يؤمن لها الغطاء والسقف كما أمّن للمقاومة اللبنانية غطاءها وسقفها السياسي وحماها وساعد في إنتصارها.
أما المستوى العقدي ـ الأيديولوجي، وهو مما يرفع البعض شعاراته أو يهجس البعض بمخاوفه حياله، فهو "ساقط عسكرياً" ومنذ سنوات وسنوات، ولو أن البعض لم يرَ الحقيقة بعد أو أنه يحاول إحياء العظام وهي رميم. فلم تعد دعاوى الوحدة السورية أو العربية في دولة قومية مركزية قائمة على التوحيد القسري من فوق وعلى الغلبة والقوة وعلى الحزب الواحد والقائد الأوحد، بدعاوى رائجة أو مقبولة أو مستساغة حتى لدى أصحابها...
وبغض النظر عن إستمرار الفلكلور الفارغ والشكلي لبعض الأحزاب "القومجية"، فإن الواقع يقول أنه لا مبرر لأي خوف من مد ناصري أو بعثي أو هاشمي، أو من تماهِ وتطابق بين العروبة والإسلام، ولم تعد الذمية، أو الأسلمة، أو التعريب، أو التذويب، على جدول أعمال أحد (خصوصاً بعدما عاد العقيد القذافي عن عروبته وإسلاميته)... لا بل إن الأحزاب العقائدية الحاكمة في العالم العربي برهنت عن كيانية أشد إنعزالية من بعض الأطراف اللبنانية...
إن هذا يفترض أن يوفر من الطمأنينة ومن الثقة للخائفين على سيادة لبنان وحريته كما للخائفين على عروبته وعلى موقع سوريا ودورها فيه. ويفترض أن يعني صوغاً مختلفاً لقضية العلاقات اللبنانية ـ السورية في إطار رؤية واضحة لموقع لبنان ودوره في المنطقة، ولآفاق المرحلة وتحديات المستقبل.
وبهذا فإن التنسيق والتشاور والتعاون وحتى التطابق مع سوريا في مجال إدراة الصراع في المنطقة (سلماً أم حرباً) في إطار التضامن العربي والرؤية المشتركة، وتحت سقف الطائف (شروط الوفاق والعيش المشترك ومستلزماتها) ليست فقط تحصيل حاصل، بل هي من دعائم السيادة والإستقلال وليس ضدهما أو نقيضهما...
إن السيادة والإستقلال في لبنان يتحققان عبر السلم الأهلي والوحدة الوطنية ومن خلال طي صفحة الحرب الأهلية وتحقيق مصالحة حقيقية وإعادة بناء المجتمع والدولة على أسس العدالة والكرامة والمساواة للجميع وبين الجميع.
ولا توجد سيادة وإستقلال في معزل عن الإنتماء الحقيقي وعن الإنخراط العاقل والواعي والرائد في مصالح المحيط العربي من حولنا وفي أساس ذلك العلاقات الطبيعية والصحيحة مع سوريا. أما الكلام عن السيادة والإستقلال بعقلية أوروبا القرن التاسع عشر وبلهجة إستعلائية عنصرية فهو غريب وخطير ولا محل له في عالم اليوم.
فالعالم يقوم على شبكة مصالح وعلاقات وعلى وحدات تعاون وتفاهم وعلى مواثيق وعهود والتزامات. وكل ذلك على قاعدة قيام مجتمع أهلي متضامن وقوي ودولة سيدة حرة مستقلة، قوية بمجتمعها لا مستقوية عليه، متكاملة ومتوازية مع مجتمعها، لا مفروضة عليه أو مستلبة الإرادة والقرار.
إن هذا وحده هو الضمانة لسوريا وللعرب.. ولا مصلحة لسوريا وللعرب بغير ذلك.
ومن هنا فإن الحوار الحقيقي المطلوب مع سوريا هو حول النهوض معاً في مواجهة التحديات الإقتصادية: (التنمية ـ الزراعة ـ التجارة ـ الترانزيت ـ المياه) والإجتماعية الثقافية (التعليم ـ الإعلام ـ الحريات العامة) ومن أجل تطوير ديمقراطي سليم لتوازنات المجتمع الأهلي وللعلاقات بين المجتمع والدولة (في لبنان وسوريا) وللتكامل والتعاون بين البلدين وصولاً إلى صوغ نظام إقليمي عربي جديد وسوق عربية مشتركة وإتحاد عربي لدول ديمقراطية حرة مستقلة متطورة.
ولا مصلحة للبنان غير ذلك، بل إن هذا هو دوره المركزي وهو دور رائد للمسيحيين في لبنان والعالم العربي.
وفي المقابل، فإن استقواء فريق من اللبنانيين على فريق آخر، بدور سوريا ووجودها ونفوذها، لمما يسيء إلى سوريا قبل لبنان ويجعلها عرضة للتذمر الشعبي دون أن يقوي دورها أو يعزز مشروعها إذ هو يصّب في خدمة مشروع سلطوي يبقي الغلبة والإستحواذ عبر الإستقواء بسوريا. وهذا مناقض لميثاق الطائف، أي لميثاق العيش المشترك، ولأساس قيام الدولة وإستمرارها، كما هو مناقض للرؤية المشتركة وللإستراتيجية القومية في إدارة الصراع في العالم العربي ضد التخلف والتجزئة وضد الاستبداد والجهل ومن أجل الديمقراطية والعدالة والحرية والكرامة.
لقد كان إعلان المبادئ هذا، القاعدة والمنطلق لكل تقويم جدي ولكل نقد أخوي لمنطق العلاقات اللبنانية ـ السورية والعربية ـ العربية تالياً. ذلك أن هناك فرقاً كبيراً بين الذين يريدون لسوريا وللعرب العزة والكرامة والحرية والديمقراطية، والذين يريدون سوريا أداة قمع وقهر ومصادرة للحريات وإستباحة للكرامات خدمة لمصالح شخصية ولمشاريع فئوية.
والفرق كبيراً أيضاً بين الذين حملوا هموم الأمة ومطالب الإصلاح والتغيير وحافظوا على وحدة الناس ومصالحهم وحريتهم وكرامتهم في سوريا ولبنان، كشرط لبناء القوة وللصمود في معركة التحرير، والذين حملوا شعارات "وحدة المسار والمصير" وأمعنوا في سياسات الفصل والتدمير، حتى وصلوا إلى أساليب التخوين والتكفير...
الفرق بين الذين قدموا التضحيات على إمتداد السنين لحفظ كيان لبنان ولحقن الدماء ووقف الفتنة ولإستعادة مشروع الدولة، والذين سرقوا دماء الشهداء وعملوا على محو الذاكرة وتغيير التاريخ بعدما عاثوا فساداً في الأرض خلال سنوات الحرب ـ الفتنة.
الفرق كبير بين الذين يعلمون على تجسيد شعار "الشعب الواحد في دولتين" والذين أوصلوا الناس إلى حالة "الدولة الواحدة في شعبين" فكانوا السبب في الجفاء بين الشعبين الشقيقين وفي تطوير عنصرية لبنانية بغيضة بحق كل العرب الأشقاء...
ولهذا كله فإن الواجب والمسؤولية إقتضيا ويقتضيان جرأة المصارحة وقسوة المكاشفة... ولا يجوز تخوين أو التشكيك في من أراد خدمة الحوار والمصالحة والسلم الأهلي والعلاقات الصحيحة الطبيعة والمعافاة مع سويا وتصحيح الخلل وتقويم المسار.. بل الواجب محاسبة المسؤولين عن تلك السياسات "الوطنية" "العظيمة المجيدة" التي أوصلت العلاقات اللبنانية ـ السورية، وأوصلت البلاد، إلى هذا المنحدر الخطير...
ليس المسؤول عن ذلك كله نداء بكركي أو تصريحات وليد جنبلاط وعمر كرامي ونسيب لحود وبطرس حرب ونائلة معّوض أو صمت حسين الحسيني أو حكمة محمد مهدي شمس الدين وإعتداله.. بل المسؤول هو تلك السياسات الخرقاء الحمقاء والنزاعات السلطوية الرعناء، والأجواء القمعية الإرهابية، وذلك الإستهتار بكل الثوابت والمسلمات وبكل القيم والمبادئ التي قام عليها لبنان.
ما لم يقله نداء بكركي وخلفية المخاوف المسيحية
مع الأحداث العاصفة في شهر تشرين حول لبنان وفيه
ما لم يقله نداء بكركي وخلفية المخاوف المسيحية
المستقبل 27 تشرين الأول 2000
بقلم سعود المولىعلى الرغم من أن الأحداث العاصفة التي شهدها (وما يزال) شهر تشرين، قد غطت، ظاهرياً، وإعلامياًَ، على "حدث" نداء بكركي، إلا أنها فعلياً وواقعياً، كشفت عن المضمون الحقيقي لخلفية النداء، وصرحت بما لم يقله المطارنة. ذلك أن الحدثين الأساسيين إقليمياً ووطنياً (الإنتفاضة والوزارة) وما رافقهما وتلاهما من ردود فعل وتفاعلات ساهما في تظهير الصورة الحقيقية للوضع اللبناني عشية الإستحقاقات الكبرى، مأزق التسوية السلمية ومأزق الوضع العربي برمته من جهة، ومأزق المصالحة الوطنية والتوازن والوفاق الداخلي من جهة أخرى.
القصة الحقيقية للنداء هي هنا.. وهي لا ترتبط طبعاً بأي "توقيت مشبوه" كما رأى بعضهم حين حاول تحميل بكركي والمسيحيين في لبنان أوزار "الإرتباط بمخططات خارجية" أو "ضغوط أميركية" تستهدف طرح المطالبة بخروج القوات السورية من لبنان كورقة ضغط على الحكم الجديد في دمشق.. كما أنها بكل تأكيد لا تمت بصلة إلى "شبكات" صهيونية، ومؤامرات إسرائيلية وأميركية، على الرغم من وجود هذه وتلك، بالطبع اليوم وأمس وغداً، وفي كل منطقة وداخل كل طائفة وحزب وجماعة.
ولا شك بأن الموقف المعلن للرئيس مبارك (في القمة التي جمعته مع الرئيس الأسد) ثم المواقف شبه المعلنة للإدارة الأميركية (والتي نقل بعضها نصير الأسعد من واشنطن في "المستقبل") والتي قالت إن الواقع الدولي والعربي ما زال مؤيداً لبقاء القوات السورية في لبنان إلى ما بعد التسوية الشاملة، قد دحض بقوة تأويلات وتحليلات "جماعة التوقيت". فالمسألة لـم تكـن
وليست مسألة توقيت أميركي مشبوه، أو صهيوني ملغوم، ولا مسألة قطبة مخفية في الفاتيكان أو
فرنسا، بقدر ما كانت تسجيلاً لموقف ضمن حدين، حد الواقع العربي المتفجر والذي يهدد بنسف كل مسيرة التسوية السلمية وبالتالي إعادة تظهير صورة "الأصولية" الإسلامية المتطرفة في المنطقة مع ما يرافق ذلك من خوف مسيحي مشرقي على الوجود والمصير، وحد الواقع اللبناني المتفجر أيضاً على إيقاع المناورات والمداورات والمداخلات التي إرتبطت بالإنتخابات النيابيـة الأخيرة وإستمرت إلى "مشاورات" تكليف وتأليف الوزارة العتيدة.. ولقد تعاملت القيادات السياسية الإسلامية مع نداء بكركي بوعي وحكمة وبروح حوارية منفتحة وسجلت مع ذلك تحفظها على النقطتين، المتعلقتين بطرح موضوع القرار 520 من جهة، وبتحميل الوجود السوري كل ثقل الأزمة الإقتصادية والإجتماعية من جهة اخرى. وهذا الموقف عبّر عنه الرؤساء الحص وبري والحريري والحسيني وكرامي والوزراء جنبلاط وميقاتي، في حين جاء الرد العنيف على النداء من الرئيس لحود ثم من الوزير فرنجية وبعض القوى الحزبية في البرلمان (حزب البعث والقومي السوري والنائب ناصر قنديل).
وقد جاءت مواقف الكتل النيابية والشخصيات السياسية البارزة في البرلمان أثناء مشاورات التأليف لتكشف عن القطبة المخفية الحقيقية: التمثيل المسيحي في الوزارة.. و(هذا عبّر عنه بوضوح كلام الوزير جنبلاط والنائب نسيب لحود).
إذن، جاءت أحداث الإنتفاضة الفلسطينية وردود الفعل الجماهيرية العربية المتضامنة معها (في لبنان خصوصاً) وأحداث "الإنتفاضة اللبنانية البرلمانية" على أسلوب الحكم في التعامل مع الإستحقاق الوزاريٌّ لتفصح عما لم يقله نداء بكركي وهو كان أحجم عن التصريح عن حقيقة الهواجس والمخاوف المسيحية التي ما تزال تعتمل وتتفاعل في نفوس المسيحيين منذ عشر سنوات (أي منذ التعديلات الدستورية وخروج العماد عون من بعبدا وبالتزامن مع حرب الخليج وإنهيار المنظومة الإشتراكية)..
لقد كشفت وقائع الأسابيع الأخيرة التي تلت نداء بكركي عن "هول كبير" في حياتنا السياسية والوطنية لا بد من تسليط الضوء عليه ليسهل الحوار حوله ومعالجته ضمن إطار الوفاق والوحدة والحرية والديمقراطية.
لقد عاد الإنقسام بين اللبنانيين إلى الظهور والتبلور إلى حدود خطرة طالما أنه مكبوت في المشاعر والعواطف وفي الرؤى والتطلعات، هي متعارضة متضاربة من دون بوح وإفصاح ومن دون حوار وفهم وتفاهم..
يتظاهر المسلمون في بيروت الغربية وبقية المناطق دعماً للإنتفاضة ولنداء الأقصى، وبشعور خفي بأن ذلك هو رد على نداء بكركي، يقابله برود لا بل حذر وخوف في المناطق المسيحية يستعيد شعور السبيعنات بأن ما يجري في "الشارع المسلم" هيجان غوغائي وتطرف أكثري سيبتلع المسيحيين ويقهرهم..
حماس إسلامي للجهاد والحرب وفتح الحدود لمساعدة شعب فلسطين وتوجيه ضربات لإسرائيل، يعززه الشعور بالقوة وبالنصر على العدو في الجنوب بعد إندحاره التاريخي، وتزيد من إشتعاله عمليات حزب الله الأخيرة وهي لا تعدم وسيلة الإثارة الإعلامية ـ الأمنية.. يقابل ذلك إستعادة مسيحية لخطاب الجبهة اللبنانية في السبعينات حول خطر الوجود الفلسطيني المسلح وخطر التمدد خارج المخيمات وخطر تعريض لبنان مجدداً لإنتقام إسرائيل... وكاننا عشية مظاهرة 23 نيسان 1969 أو عشية إتفاق القاهرة الشهير.
مطالبة مسيحية بإطلاق الدكتور جعجع وعودة العماد عون ومعرفة مصير المفقودين في السجون السورية، تقابلها شماتة إسلامية حيناً، وصمت وتنصل وهروب من الموضوع حيناً آخر أو طرح قضية الأسرى في السجون الإسرائيلية أحياناً...
مطالبة مسيحية بإعادة إنتشار القوات السورية في لبنان تقابلها مطالبة إسلامية بوحدة وتلازم المسارين وبتحرير مزارع شبعا..
وكأن حقوق الإنسان، وحريته وكرامته وسيادة البلاد وإستقلالها وتطويرها الديمقراطي، هي شعارات ومطالب مسيحية، في حين أن حقوق الشعوب والنضال والثورة والإنتفاضة والتحرير والتضامن العربي ومزارع شبعا والأسرى والشهداء هي شعارات ومطالب إسلامية.. وكأنهما خطان متوازيان لا يلتقيان..
كأن القضايا والهموم والهواجس التي تحرك عواطف ومشاعر فريق من اللبنانيين لا صلة لها أو هي مناقضة لما يحرك عواطف ومشاعر الفريق الآخر.. وكأن وقوفي إلى جانب مطلب الحرية لجعجع وعون وبطرس خوند وكل المتعلقين في السجون اللبنانية والسورية يتعارض مع إندفاعي وحماسي لنصرة القدس وشعب فلسطين..
كأن تلازم المسارين ووحدة الموقف في الصراع مع إسرائيل والصهيونية والتضامن العربي سلماً أو حرباً، يتناقض مع مبدأ الحوار الأخوي والإحترام المتبادل والعلاقات المميزة والتعاون والتنسيق بين لبنان وسوريا على أساس يحفظ مصالح البلدين ويصون حقوق الشعبين الشقيقين ويحقق الإزدهار لهما مع الحرية والكرامة والديمقراطية وفي ظل السيادة والإستقلال...
كأن نداء بكركي يتناقض مع نداء الأقصى... وكأن الإرساد الرسولي يخالف ميثاق الطائف..
وقد ضاعف وفاقم من حدة هذا الإنقسام اللبناني المتجدد عمل الأجهزة الأمنية والإعلامية وعن عمد وسابق تصور وتصميم على تخويف المسيحيين والتهويل عليهم: تارة بالخطر الأصولي السني (التكفير والهجرة في الضنية ويونس الألماني ـ القصاصات البذيئة الموزعة ضد البطريرك في مظاهرة الأقصى ـ بيانات ومتفجرات الشمال ـ الإعتقالات والبيانات حول شبكات إبن لادن والتكفير والهجرة وغيرها وهي مما لا صلة له بأي واقع إسلامي أصولي في لبنان) وطوراً بالتوطين والخطر الفلسطيني الزاحف خارج المخيمات وحتى حدود بوابة فاطمة وشوارع مدن لبنان، واطواراً أخرى بتحريك مشروع إلغاء الطائفية السياسية، أو بتحريك خطر الأصولية الشيعية.
وقد لعبت تصريحات ومواقف السيدين فضل الله ونصر الله وتهويلهما مع غيرهما بخطر الضنية للدفاع عن الوجود السوري في لبنان، دوراً سلبياُ في الشارع المسيحي المستنفر أصلاً في هذه الظروف.
يكفي أن نستعيد وقائع حادثة الحجاب في مدرسة عين إبل أو تصريح السيد نصر الله في صحف 16/10 أو تصريحات السيد فضل الله حول نداء بكركي، لنكشف حجم الفزاعات التي إستخدمت هذه الأيام لمضاعفة شعور المسيحيين بالهاجس الأقلوي وبخطر الضياع والذوبان..
فما بالك والمظاهرات الإسلامية تملأ شوارع لبنان والعالم العربي والإسلامي وتحمل شعارات الجهاد والحل الإسلامي، والعنف الطائفي يتجدد في مصر، بعد السودان وأثيوبيا واريتريا ونيجيريا وأندونيسيا..
هل نسينا تزامن حادثة الضنية في شمال لبنان مع حادثة الكشح في صعيد مصر؟..
هل نسينا حادثة تفجير العبوة على طريق البلمند أثناء مرور باص يحمل كهنة وأساقفة أرثوذكس في إبان مجازر البوسنة؟
هل نسينا متفجرات الكنائس في طرابلس أثناء مجازر الشيشان؟؟
هل نسينا أن البابا يوحنا بولس الثاني دعا إلى سينودس من أجل لبنان في عز الحملة المسيحية لمقاطعة الإنتخابات النيابية صيف 1992؟ وأن بطاركة الشرق الكاثوليك، ورؤساء الكنائس الشرقية كافة، ما فتئوا يعقدون المؤتمرات ويصدرون البيانات والنداءات ومنذ عام 1990 تحديداً (تاريخ إنعقاد مؤتمر لبطاركة الشرق الكاثوليك في بكفيا) وحتى الشهر القادم (تشرين الثاني) حيث سينعقد في لبنان مؤتمر لرؤساء الكنائس الشرقية؟؟
هناك إذن هواجس حقيقية ومخاوف مشروعة تتعلق بمصير ومستقبل المسيحيين في هذا الشرق المضطرب المتوتر.. وهي هواجس ومخاوف عبرت عنها كما سبق القول مؤتمرات ونداءات رؤساء وبطاركة الكنائس العربية والمشرقية عموماً... وهي إنطلقت منذ عام 1990، ووصلت اليوم إلى ذروتها.. فلا يجوز بالتالي إهمالها أو تجاهلها أو التعامل معها تعامل الشعور بالقوة والغلبة أو بإستحضار شعارات ومفاهيم الذمية، والحل الإسلامي، والحرب ضد الكفار والمشركين...
وعلى المقلب الآخر، فإن الشعور بالخوف والقلق كان له أيضاً ما يبرره محلياً... فرغم ما قدمه المسيحيون، وعلى رأسهم بكركي، من إسهامات في إنجاح الطائف وإنجاح التعديلات الدستورية، والدخول في مشروع دولة الطائف وحل الميليشيات وتسليم السلاح والإنتقال إلى العمل السياسي، وإعلان التوبة وطلب الغفران (الإرشاد الرسولي)، نقول رغم ذلك كله، لم تقدم الدولة أي دليل على جديتها في بناء التوازن وتحقيق المشاركة ولا على نيتها في طي صفحة الماضي وتحقيق المصالحة الشاملة ولا على إحترامها لعهودها ومواثيقها... فنحن ما زلنا نعيش صيفاً وشتاء تحت سقف واحد.. ونكيل بمكيالين، وما زلنا نلجأ إلى المناظرة والمحاجة والشقاق (والنفاق طبعاً) ونعتبر الحوار تكتيكاً ذكياً للإقناع أو التذويب أو الإستيعاب أو النفي والنبذ والإلغاء.
ما زالت مقولة غالب ومغلوب هي الحاكمة، وما زال العدل منتهكاً والحقوق مستباحة.. فكيف يطمئن الخائفون ولا يهاجر الشباب ولا يحبط العاملون في الحقل العام؟ وإذا لم يتكلم رجال السياسة والإعلام والفكر، أفلا يكون مبرراً لرجال الدين، وللمقامات الروحية، بما تمثل وبما تمتلك من تاريخ ومن حس بالمسؤولية ومن وعي وحكمة ومن جدارة وحزم، أن تقول كلمة الناس، بحسب تعبير البطريرك هزيم..
إن "إستحمار" الناس (مقولة للشهيد الدكتور علي شريعتي) أو إستكرادها (بحسب تعبير الوزير جنبلاط) والإستهتار بمشاعرها وبكراماتها وبحقوقها ومصالحها هو الذي أوصل ويوصل البلاد إلى حافة الإنهيار وإلى حدود تضخم الهواجس والمخاوف وتحولها إلى سرساب أساسه عدم الثقة وإنعدام الأمان والإطمئنان.
وحده الحوار الوطني "الصادق" تحت سقف الطائف ومن خلال المؤسسات الشرعية، وبين الدولة والمجتمع، وبين قوى المجتمع الأهلي وعلى رأسها المرجعيات الروحية، وحده هذا الحوار المتعدد الأوزان والإيقاعات هو صمام أمان الوحدة الوطنية. فلا التخوين والتكفير ولا الهجرة والتهجير، ولا الإحباط والتثبيط، ولا الأجهزة الأمنية والفبركات الإعلامية والمصادر المطلعة، ولا إسكات الأصوات وكم الأفواه ولا التملق والمداهنة والنفاق، بقادرة على تغيير الواقع أو تهدئة المخاوف أو تسكين الهواجس أو نزع فتائل التفجير.
وحده الحوار حول الإشكاليات والمشكلات الأساسية في الحياة الوطنية قادر على إستعادة ثقة اللبنانيين بأنفسهم وبدولتهم. إن ذلك يتطلب من الدولة أولاً أن تكون منسجمة مع طبيعة مجتمعها، غير منفصلة عنه ولا مستقوية عليه، ترعى صيغة عيشه المشترك وتصون وحدة أبنائه ووفاق عائلاته.. وان تكون ديمقراطية تتسع للتحولات والتطورات الحاصلة في المجتمع وتؤمن أوسع مشاركة في القرار السياسي والإقتصادي والتنموي. كما أن ذلك يتطلب ثانياً من الجماعات الطائفية بذل جهل كبير لتجسيد إحترامها لدولة القانون والمؤسسات ولتطوير عملية إندفاعها ومشاركتها في الشأن العام ضمن أطر الوحدة والوفاق والتوازن والعدالة. إذ لا بد من تغليب هذه العناصر داخل كل طائفة وفي ما بين الطوائف حتى تستقيم الأمور.
إن الصراع داخل كل طائفة بين إتجاهات تدعو إلى التواصل مع الآخر وإلى تطوير المساحات المشتركة وإلى التضامن والمشاركة، في كل الظروف والأحوال بغض النظر عن موازين القوى، وبين تلك التي تدعو إلى الغلبة والهيمنة والإستحواذ في مرحلة نهوضها وإلى الإنكفاء والإنطواء وفك الشراكة في مرحلة تراجعها، إن هذا الصراع حسمته وتحسمه على الدوام المواقف الوطنية التاريخية لمرجعيات المجتمع الأهلي أي قياداته الروحية والفكرية والسياسية التي كانت على الدوام ضمير الوطن وذاكرة عيشه المشترك وصمام أمان وحدته الوطنية.
وختاماً "فإن السيادة والإستقلال متلازمان في لبنان تلازماً كاملاً مع الوحدة الوطنية. فلا إستقلال ولا سيادة في ظل التناحر الداخلي. كما أن الوحدة الوطنية لا يفرضها فريق على آخر وإنما تأتي عبر البحث الدائم عن تسوية مبنية على التوازن ساعية إلى الإقتراب من العدالـة". (من مانيفست: دعوة للإتفاق على معنى لبنان)..
ما لم يقله نداء بكركي وخلفية المخاوف المسيحية
المستقبل 27 تشرين الأول 2000
بقلم سعود المولىعلى الرغم من أن الأحداث العاصفة التي شهدها (وما يزال) شهر تشرين، قد غطت، ظاهرياً، وإعلامياًَ، على "حدث" نداء بكركي، إلا أنها فعلياً وواقعياً، كشفت عن المضمون الحقيقي لخلفية النداء، وصرحت بما لم يقله المطارنة. ذلك أن الحدثين الأساسيين إقليمياً ووطنياً (الإنتفاضة والوزارة) وما رافقهما وتلاهما من ردود فعل وتفاعلات ساهما في تظهير الصورة الحقيقية للوضع اللبناني عشية الإستحقاقات الكبرى، مأزق التسوية السلمية ومأزق الوضع العربي برمته من جهة، ومأزق المصالحة الوطنية والتوازن والوفاق الداخلي من جهة أخرى.
القصة الحقيقية للنداء هي هنا.. وهي لا ترتبط طبعاً بأي "توقيت مشبوه" كما رأى بعضهم حين حاول تحميل بكركي والمسيحيين في لبنان أوزار "الإرتباط بمخططات خارجية" أو "ضغوط أميركية" تستهدف طرح المطالبة بخروج القوات السورية من لبنان كورقة ضغط على الحكم الجديد في دمشق.. كما أنها بكل تأكيد لا تمت بصلة إلى "شبكات" صهيونية، ومؤامرات إسرائيلية وأميركية، على الرغم من وجود هذه وتلك، بالطبع اليوم وأمس وغداً، وفي كل منطقة وداخل كل طائفة وحزب وجماعة.
ولا شك بأن الموقف المعلن للرئيس مبارك (في القمة التي جمعته مع الرئيس الأسد) ثم المواقف شبه المعلنة للإدارة الأميركية (والتي نقل بعضها نصير الأسعد من واشنطن في "المستقبل") والتي قالت إن الواقع الدولي والعربي ما زال مؤيداً لبقاء القوات السورية في لبنان إلى ما بعد التسوية الشاملة، قد دحض بقوة تأويلات وتحليلات "جماعة التوقيت". فالمسألة لـم تكـن
وليست مسألة توقيت أميركي مشبوه، أو صهيوني ملغوم، ولا مسألة قطبة مخفية في الفاتيكان أو
فرنسا، بقدر ما كانت تسجيلاً لموقف ضمن حدين، حد الواقع العربي المتفجر والذي يهدد بنسف كل مسيرة التسوية السلمية وبالتالي إعادة تظهير صورة "الأصولية" الإسلامية المتطرفة في المنطقة مع ما يرافق ذلك من خوف مسيحي مشرقي على الوجود والمصير، وحد الواقع اللبناني المتفجر أيضاً على إيقاع المناورات والمداورات والمداخلات التي إرتبطت بالإنتخابات النيابيـة الأخيرة وإستمرت إلى "مشاورات" تكليف وتأليف الوزارة العتيدة.. ولقد تعاملت القيادات السياسية الإسلامية مع نداء بكركي بوعي وحكمة وبروح حوارية منفتحة وسجلت مع ذلك تحفظها على النقطتين، المتعلقتين بطرح موضوع القرار 520 من جهة، وبتحميل الوجود السوري كل ثقل الأزمة الإقتصادية والإجتماعية من جهة اخرى. وهذا الموقف عبّر عنه الرؤساء الحص وبري والحريري والحسيني وكرامي والوزراء جنبلاط وميقاتي، في حين جاء الرد العنيف على النداء من الرئيس لحود ثم من الوزير فرنجية وبعض القوى الحزبية في البرلمان (حزب البعث والقومي السوري والنائب ناصر قنديل).
وقد جاءت مواقف الكتل النيابية والشخصيات السياسية البارزة في البرلمان أثناء مشاورات التأليف لتكشف عن القطبة المخفية الحقيقية: التمثيل المسيحي في الوزارة.. و(هذا عبّر عنه بوضوح كلام الوزير جنبلاط والنائب نسيب لحود).
إذن، جاءت أحداث الإنتفاضة الفلسطينية وردود الفعل الجماهيرية العربية المتضامنة معها (في لبنان خصوصاً) وأحداث "الإنتفاضة اللبنانية البرلمانية" على أسلوب الحكم في التعامل مع الإستحقاق الوزاريٌّ لتفصح عما لم يقله نداء بكركي وهو كان أحجم عن التصريح عن حقيقة الهواجس والمخاوف المسيحية التي ما تزال تعتمل وتتفاعل في نفوس المسيحيين منذ عشر سنوات (أي منذ التعديلات الدستورية وخروج العماد عون من بعبدا وبالتزامن مع حرب الخليج وإنهيار المنظومة الإشتراكية)..
لقد كشفت وقائع الأسابيع الأخيرة التي تلت نداء بكركي عن "هول كبير" في حياتنا السياسية والوطنية لا بد من تسليط الضوء عليه ليسهل الحوار حوله ومعالجته ضمن إطار الوفاق والوحدة والحرية والديمقراطية.
لقد عاد الإنقسام بين اللبنانيين إلى الظهور والتبلور إلى حدود خطرة طالما أنه مكبوت في المشاعر والعواطف وفي الرؤى والتطلعات، هي متعارضة متضاربة من دون بوح وإفصاح ومن دون حوار وفهم وتفاهم..
يتظاهر المسلمون في بيروت الغربية وبقية المناطق دعماً للإنتفاضة ولنداء الأقصى، وبشعور خفي بأن ذلك هو رد على نداء بكركي، يقابله برود لا بل حذر وخوف في المناطق المسيحية يستعيد شعور السبيعنات بأن ما يجري في "الشارع المسلم" هيجان غوغائي وتطرف أكثري سيبتلع المسيحيين ويقهرهم..
حماس إسلامي للجهاد والحرب وفتح الحدود لمساعدة شعب فلسطين وتوجيه ضربات لإسرائيل، يعززه الشعور بالقوة وبالنصر على العدو في الجنوب بعد إندحاره التاريخي، وتزيد من إشتعاله عمليات حزب الله الأخيرة وهي لا تعدم وسيلة الإثارة الإعلامية ـ الأمنية.. يقابل ذلك إستعادة مسيحية لخطاب الجبهة اللبنانية في السبعينات حول خطر الوجود الفلسطيني المسلح وخطر التمدد خارج المخيمات وخطر تعريض لبنان مجدداً لإنتقام إسرائيل... وكاننا عشية مظاهرة 23 نيسان 1969 أو عشية إتفاق القاهرة الشهير.
مطالبة مسيحية بإطلاق الدكتور جعجع وعودة العماد عون ومعرفة مصير المفقودين في السجون السورية، تقابلها شماتة إسلامية حيناً، وصمت وتنصل وهروب من الموضوع حيناً آخر أو طرح قضية الأسرى في السجون الإسرائيلية أحياناً...
مطالبة مسيحية بإعادة إنتشار القوات السورية في لبنان تقابلها مطالبة إسلامية بوحدة وتلازم المسارين وبتحرير مزارع شبعا..
وكأن حقوق الإنسان، وحريته وكرامته وسيادة البلاد وإستقلالها وتطويرها الديمقراطي، هي شعارات ومطالب مسيحية، في حين أن حقوق الشعوب والنضال والثورة والإنتفاضة والتحرير والتضامن العربي ومزارع شبعا والأسرى والشهداء هي شعارات ومطالب إسلامية.. وكأنهما خطان متوازيان لا يلتقيان..
كأن القضايا والهموم والهواجس التي تحرك عواطف ومشاعر فريق من اللبنانيين لا صلة لها أو هي مناقضة لما يحرك عواطف ومشاعر الفريق الآخر.. وكأن وقوفي إلى جانب مطلب الحرية لجعجع وعون وبطرس خوند وكل المتعلقين في السجون اللبنانية والسورية يتعارض مع إندفاعي وحماسي لنصرة القدس وشعب فلسطين..
كأن تلازم المسارين ووحدة الموقف في الصراع مع إسرائيل والصهيونية والتضامن العربي سلماً أو حرباً، يتناقض مع مبدأ الحوار الأخوي والإحترام المتبادل والعلاقات المميزة والتعاون والتنسيق بين لبنان وسوريا على أساس يحفظ مصالح البلدين ويصون حقوق الشعبين الشقيقين ويحقق الإزدهار لهما مع الحرية والكرامة والديمقراطية وفي ظل السيادة والإستقلال...
كأن نداء بكركي يتناقض مع نداء الأقصى... وكأن الإرساد الرسولي يخالف ميثاق الطائف..
وقد ضاعف وفاقم من حدة هذا الإنقسام اللبناني المتجدد عمل الأجهزة الأمنية والإعلامية وعن عمد وسابق تصور وتصميم على تخويف المسيحيين والتهويل عليهم: تارة بالخطر الأصولي السني (التكفير والهجرة في الضنية ويونس الألماني ـ القصاصات البذيئة الموزعة ضد البطريرك في مظاهرة الأقصى ـ بيانات ومتفجرات الشمال ـ الإعتقالات والبيانات حول شبكات إبن لادن والتكفير والهجرة وغيرها وهي مما لا صلة له بأي واقع إسلامي أصولي في لبنان) وطوراً بالتوطين والخطر الفلسطيني الزاحف خارج المخيمات وحتى حدود بوابة فاطمة وشوارع مدن لبنان، واطواراً أخرى بتحريك مشروع إلغاء الطائفية السياسية، أو بتحريك خطر الأصولية الشيعية.
وقد لعبت تصريحات ومواقف السيدين فضل الله ونصر الله وتهويلهما مع غيرهما بخطر الضنية للدفاع عن الوجود السوري في لبنان، دوراً سلبياُ في الشارع المسيحي المستنفر أصلاً في هذه الظروف.
يكفي أن نستعيد وقائع حادثة الحجاب في مدرسة عين إبل أو تصريح السيد نصر الله في صحف 16/10 أو تصريحات السيد فضل الله حول نداء بكركي، لنكشف حجم الفزاعات التي إستخدمت هذه الأيام لمضاعفة شعور المسيحيين بالهاجس الأقلوي وبخطر الضياع والذوبان..
فما بالك والمظاهرات الإسلامية تملأ شوارع لبنان والعالم العربي والإسلامي وتحمل شعارات الجهاد والحل الإسلامي، والعنف الطائفي يتجدد في مصر، بعد السودان وأثيوبيا واريتريا ونيجيريا وأندونيسيا..
هل نسينا تزامن حادثة الضنية في شمال لبنان مع حادثة الكشح في صعيد مصر؟..
هل نسينا حادثة تفجير العبوة على طريق البلمند أثناء مرور باص يحمل كهنة وأساقفة أرثوذكس في إبان مجازر البوسنة؟
هل نسينا متفجرات الكنائس في طرابلس أثناء مجازر الشيشان؟؟
هل نسينا أن البابا يوحنا بولس الثاني دعا إلى سينودس من أجل لبنان في عز الحملة المسيحية لمقاطعة الإنتخابات النيابية صيف 1992؟ وأن بطاركة الشرق الكاثوليك، ورؤساء الكنائس الشرقية كافة، ما فتئوا يعقدون المؤتمرات ويصدرون البيانات والنداءات ومنذ عام 1990 تحديداً (تاريخ إنعقاد مؤتمر لبطاركة الشرق الكاثوليك في بكفيا) وحتى الشهر القادم (تشرين الثاني) حيث سينعقد في لبنان مؤتمر لرؤساء الكنائس الشرقية؟؟
هناك إذن هواجس حقيقية ومخاوف مشروعة تتعلق بمصير ومستقبل المسيحيين في هذا الشرق المضطرب المتوتر.. وهي هواجس ومخاوف عبرت عنها كما سبق القول مؤتمرات ونداءات رؤساء وبطاركة الكنائس العربية والمشرقية عموماً... وهي إنطلقت منذ عام 1990، ووصلت اليوم إلى ذروتها.. فلا يجوز بالتالي إهمالها أو تجاهلها أو التعامل معها تعامل الشعور بالقوة والغلبة أو بإستحضار شعارات ومفاهيم الذمية، والحل الإسلامي، والحرب ضد الكفار والمشركين...
وعلى المقلب الآخر، فإن الشعور بالخوف والقلق كان له أيضاً ما يبرره محلياً... فرغم ما قدمه المسيحيون، وعلى رأسهم بكركي، من إسهامات في إنجاح الطائف وإنجاح التعديلات الدستورية، والدخول في مشروع دولة الطائف وحل الميليشيات وتسليم السلاح والإنتقال إلى العمل السياسي، وإعلان التوبة وطلب الغفران (الإرشاد الرسولي)، نقول رغم ذلك كله، لم تقدم الدولة أي دليل على جديتها في بناء التوازن وتحقيق المشاركة ولا على نيتها في طي صفحة الماضي وتحقيق المصالحة الشاملة ولا على إحترامها لعهودها ومواثيقها... فنحن ما زلنا نعيش صيفاً وشتاء تحت سقف واحد.. ونكيل بمكيالين، وما زلنا نلجأ إلى المناظرة والمحاجة والشقاق (والنفاق طبعاً) ونعتبر الحوار تكتيكاً ذكياً للإقناع أو التذويب أو الإستيعاب أو النفي والنبذ والإلغاء.
ما زالت مقولة غالب ومغلوب هي الحاكمة، وما زال العدل منتهكاً والحقوق مستباحة.. فكيف يطمئن الخائفون ولا يهاجر الشباب ولا يحبط العاملون في الحقل العام؟ وإذا لم يتكلم رجال السياسة والإعلام والفكر، أفلا يكون مبرراً لرجال الدين، وللمقامات الروحية، بما تمثل وبما تمتلك من تاريخ ومن حس بالمسؤولية ومن وعي وحكمة ومن جدارة وحزم، أن تقول كلمة الناس، بحسب تعبير البطريرك هزيم..
إن "إستحمار" الناس (مقولة للشهيد الدكتور علي شريعتي) أو إستكرادها (بحسب تعبير الوزير جنبلاط) والإستهتار بمشاعرها وبكراماتها وبحقوقها ومصالحها هو الذي أوصل ويوصل البلاد إلى حافة الإنهيار وإلى حدود تضخم الهواجس والمخاوف وتحولها إلى سرساب أساسه عدم الثقة وإنعدام الأمان والإطمئنان.
وحده الحوار الوطني "الصادق" تحت سقف الطائف ومن خلال المؤسسات الشرعية، وبين الدولة والمجتمع، وبين قوى المجتمع الأهلي وعلى رأسها المرجعيات الروحية، وحده هذا الحوار المتعدد الأوزان والإيقاعات هو صمام أمان الوحدة الوطنية. فلا التخوين والتكفير ولا الهجرة والتهجير، ولا الإحباط والتثبيط، ولا الأجهزة الأمنية والفبركات الإعلامية والمصادر المطلعة، ولا إسكات الأصوات وكم الأفواه ولا التملق والمداهنة والنفاق، بقادرة على تغيير الواقع أو تهدئة المخاوف أو تسكين الهواجس أو نزع فتائل التفجير.
وحده الحوار حول الإشكاليات والمشكلات الأساسية في الحياة الوطنية قادر على إستعادة ثقة اللبنانيين بأنفسهم وبدولتهم. إن ذلك يتطلب من الدولة أولاً أن تكون منسجمة مع طبيعة مجتمعها، غير منفصلة عنه ولا مستقوية عليه، ترعى صيغة عيشه المشترك وتصون وحدة أبنائه ووفاق عائلاته.. وان تكون ديمقراطية تتسع للتحولات والتطورات الحاصلة في المجتمع وتؤمن أوسع مشاركة في القرار السياسي والإقتصادي والتنموي. كما أن ذلك يتطلب ثانياً من الجماعات الطائفية بذل جهل كبير لتجسيد إحترامها لدولة القانون والمؤسسات ولتطوير عملية إندفاعها ومشاركتها في الشأن العام ضمن أطر الوحدة والوفاق والتوازن والعدالة. إذ لا بد من تغليب هذه العناصر داخل كل طائفة وفي ما بين الطوائف حتى تستقيم الأمور.
إن الصراع داخل كل طائفة بين إتجاهات تدعو إلى التواصل مع الآخر وإلى تطوير المساحات المشتركة وإلى التضامن والمشاركة، في كل الظروف والأحوال بغض النظر عن موازين القوى، وبين تلك التي تدعو إلى الغلبة والهيمنة والإستحواذ في مرحلة نهوضها وإلى الإنكفاء والإنطواء وفك الشراكة في مرحلة تراجعها، إن هذا الصراع حسمته وتحسمه على الدوام المواقف الوطنية التاريخية لمرجعيات المجتمع الأهلي أي قياداته الروحية والفكرية والسياسية التي كانت على الدوام ضمير الوطن وذاكرة عيشه المشترك وصمام أمان وحدته الوطنية.
وختاماً "فإن السيادة والإستقلال متلازمان في لبنان تلازماً كاملاً مع الوحدة الوطنية. فلا إستقلال ولا سيادة في ظل التناحر الداخلي. كما أن الوحدة الوطنية لا يفرضها فريق على آخر وإنما تأتي عبر البحث الدائم عن تسوية مبنية على التوازن ساعية إلى الإقتراب من العدالـة". (من مانيفست: دعوة للإتفاق على معنى لبنان)..
إلغاء الطائفية السياسية: فزاعة لم تعد تخيف!؟
إلغاء الطائفية السياسية: فزاعة لم تعد تخيف!؟
النهار 10 تشرين الأول 2000
بقلم سعود المولى
ثلاث مرات طرح فيها موضوع إلغاء الطائفية السياسية حتى الان منذ توقيع إتفاق الطائف (1989) وإقرار التعديلات الدستورية (1990)، وفي المرات الثلاث كان يتم سحب الموضوع بعد صدور موقف واضح وحاسم من المرجعية الإسلامية الشيعية.
في المرة الأولى صدر الكلام "العلماني" المطالب بإلغاء الطائفية السياسية عن الوزير البعثي عبدالله الأمين إثر نداء السينودس الشهير.. وقبل أن يستفحل الفرز ما بين مؤيد ومعارض للمطلب كان الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين يدعو إلى سحب الموضوع من التداول..
في المرة الثانية صدر الكلام عن الرئيس نبيه بري إثر مشاركة وزراء "أمل" في الموافقة على مشروع الزواج المدني الذي طرحه الرئيس الياس الهراوي وعارضه الرئيس رفيق الحريري. يومها صدرت مواقف وتصريحات عنيفة عن المراجع الدينية الإسلامية وصلت إلى حد تكفير المسلمين الذين صوتوا مع المشروع. وقد اضطر الرئيس بري من ناحيته إلى تغطية وزرائه بطرح إلغاء الطائفية السياسية كمقدمة لا بد منها لإقرار قانون مدني للأحوال الشخصية. وهو يقصد بذلك "إحراج" المشروع "لإخراجه".
ويومها أيضاً كان للإمام الشيخ محمد شمس الدين الموقف المتضامن نفسه من جهة مع المفتي قباني والقيادات الإسلامية في رفض مشروع القانون المدني للأحوال الشخصية والمعارض من جهة أخرى لطرح مشروع إلغاء الطائفية السياسية. فسحب المشروع من التداول...
أما المرة الثالثة (ولعلها الأخيرة) فقد انطلق الكلام عن الدعوة إلى تطبيق المادة 95 من الدستور من النائب القومي السوري الدكتور مروان فارس، وذلك أثر صدور نداء المطارنة الموارنة الأخير...
وقد حاول النائب فارس جمع تواقيع على عريضة نيابية وما لبثت المحاولة أن انهارت وطواها الصمت المريب ما يدل دلالة قاطعة على أن المسألة كلها لم تتعدّ التهويل والإستعراض وليس المبدئية والجدية في الطرح... وكما في المرتين السابقتين كان للإمام شمس الدين الموقف نفسه الداعي إلى سحب الموضوع من التداول مع دخول عنصر جديد تمثل في طرح موقف متقدم هو الأول من نوعه بالنسبة إلى القيادة الإسلامية والشيعية منها تحديداً.
لماذا الفزاعة؟؟
وقبل أن نتناول الموقف الشيعي الجديد كما عبر عنه الإمام شمس الدين لا بد لنا من التساؤل عن سر ذلك التناوب "العلماني" على إستخدام موضوع إلغاء الطائفية السياسية كفزاعة كلما صدر موقف مسيحي لا يعجب أطرافاً في السلطة (نداء السينودس، وأخيراً نداء المطارنة) وعلى إستخدام موضوع الزواج المدني أو قانون الأحوال الشخصية، كفزاعة، كلما صدر موقف إسلامي لا يعجب أطرافاً في السلطة ... وفي الحالتين فإن الإستخدام "الإنتهاري" يكشف عن طينة أصحابه وعقليتهم إذ يضعهم في خانة التحرك لتخويف الناس وإثارة الإنقاسامات وإحداث إستقطاب وفرز وهيجان، والتهويل بالفتنة والحرب الأهلية، وصولاً إلى طرح شعار "إما الأمر الواقع وإما الفوضى" .
المهم أن طرح إلغاء الطائفية السياسية يتم في مناسبات إعلامية وبصورة تحريضية، وهو يتكرر كلما صدر موقف مسيحي يطالب بالتوازن والمشاركة..
والغريب في أمر الذين يتولون مهمة اخراج المادة 95 من صندوق الفزاعات، أنهم لا يكلفون أنفسهم عناء شرح سبب نسيانهم المادة (في غير مناسبة إخراجها الظرفي) أو تغاضيهم عن تفشي الطائفية المذهبية، أو حتى نجاحهم الإنتخابي على لوائح أقل ما يقال فيها أنها ذات لون مذهبي أو طائفي فاقع... فالمادة 95 موجودة في الدستور منذ تعديل 21/9/1990 (أي منذ عشر سنوات بالتمام والكمال) فلم نسمع مرة عن برنامج عمل جدي أو عن مشروع عملي، لخوض نضال حقيقي في إتجاه تنفيذ المادة 95. ومن ناحية أخرى فإن الذين يتنطحون لإعطاء اللبنانيين دروساً في العلمانية والديمقراطية لا يجدون من يسألهم عن مدى علمانية أحزابهم ومؤسساتهم وأنظمتهم وديمقراطيتها وهي أشهر من نار على علم في هذا المجال!!
ماذا في الجعبة اليوم؟؟
واليوم ومع إكتمال عقد السنوات العشر على دستور الطائف، ومع صدور صرخة الأساقفة الموارنة في ندائهم الشهير، ومع إتضاح نضج اللبنانيين وعدم وقوعهم في فخ الإستقطاب التنابذي العدائي، عاد التهويل بفزاعة إلغاء الطائفية السياسية لغاية في نفس يعقوب، وليس خدمة للتطور الديمقراطي للمجتمع اللبناني... ذلك أن تطوير النظام السياسي أو الصيغة اللبنانية الفريدة هو عمل تاريخي لا تقوم به أو تفرضه نخبة "فوقية" مهما لبست من لبوس "ديمقراطي" ومهما إدعت أنها "قومية" إذ إنها في الحقيقة تبقى "ما فوق مجتمعية" و "ما فوق وطنية" أي خارج المجتمع والوطن.
إن التغيير، أي تغيير، هو من عمل الناس أصحاب المصلحة فيه، وبناء على إقتناعاتهم وخياراتهم التي تتكون لديهم من خلال الثقة والأمان...
وليس التغيير أداة لتأكيد عقيدة ما، أو لإثبات نظرية ما، خارج التاريخ. ولقد شبعنا تجارب على حساب الناس ودماء الناس ومصالح الناس. ولقد وعينا دروس التجربة الشيوعية في الإتحاد السوفياتي أو يوغوسلافيا أو حتى اليمن الجنوبية، ناهيك عن التجارب القومية في الجماهيرية الليبية أو العراق أو سوريا... من هنا قول الإمام شمس الدين مراراً وتكراراً أن التاجر حين يتاجر فإنما هو يتاجر بماله وبضاعته أما السياسي الحزبي فإنه عندما يتاجر فإنه يتاجر بدماء الناس واموالهم وأعراضهم، وهؤلاء هم من يدفع الثمن في حين يتربع السياسيون الحزبيون على عرش السلطة.. ففي قضايا التغيير والتطوير السياسيين ينبغي التركيز في ما يخص وضعنا الحالي في لبنان (وكما يقول الإمام شمس الدين) "على تكوين اقتناعات حقيقية لقبول بعضنا على قاعدة تنفيذ إتفاق الطائف بأمانة وبنحو يحقق التمثيل الصحيح والمشاركة الفعلية والقوية في صنع القرار السياسي والإقتصادي والتنموي" (راجع تصريحه في صحف الثلاثاء 3/10/2000).
وهو (أي الإمام شمس الدين) صاغ موقفه الجديد بناء على هذا التقدير حتى توصل إلى إقتناع مفاده أن المادة 95 هي من "الأخطاء التي أتكبت في مفاوضات الطائف" لجهة توقيت إلغاء الطائفية السياسية بعد إنتخاب أول مجلس نيابي على أساس المناصفة... ويقول الإمام إنّ "هذا التوقيت كان مبنياً على التسرع، وهو توقيت خطأ". وفي التصريح نفسه يذهب الإمام شمس الدين إلى القول أن "النظام السياسي الذي أقره اتفاق الطائف يشكل عنصر إستقرار للبنان إذا استخدم بعدالة وبروح إنسانية، فهو يمثل قوة تماسك في لبنان، والأفضل ألا نزج لبنان الآن في وضع تنظيمي يخلق شكوكاً وإرباكاً".
مقومات الموقف الشيعي الجديد
لم يحمل أحد في لبنان مطلب إلغاء الطائفية السياسية كما حمله الشيعة إلى حد أنه اصبح عنواناً لحركتهم السياسية، كما كانت "المشاركة" عنواناً للحركة السياسية للطائفة السنية. صحيح أن المطلب ورد على لسان كل الأطراف والفئات، ومنذ البيان الوزاري الأول للمرحوم الرئيس رياض الصلح، وانه تحول قضية على يد المرحوم الزعيم كمال جنبلاط، إلا ان مرحلة الصعود السياسي للطائفة الشيعية بقيادة الإمام السيد موسى الصدر هي التي بلورت هذا المطلب كتعبير عن طموح "المحرومين" في المساواة والعدالة وفي التمثيل الصحيح المتناسب مع وزنهم العددي وكفاياتهم... ويكفي هنا أن نتذكر أول مؤتمر صحافي للسيد الصدر عام 1966 وفيه عرض الإجحاف اللاحق بالطائفة الشيعية في وظائف الدولة وفي موازنة الحكومات المتعاقبة حتى ان مقولة الحرمان تلازمت مع مطلب إلغاء الطائفية السياسية... هذا التماهي هو الذي جعل المجلس الإسلامي الشيعي العلى يتقدم صفوف المطالبين بإلغاء الطائفية السياسية ذلك منذ إنتخاب الإمام الصد رئيساً (1969) وحتى المذكرة الشهيرة إبان الأحداث الفتنة (1976). حتى إن ورود المادة 95 في التعديلات الدستورية بعد الطائف إعتبر وقتها إنتصاراً للشيعة.
وفي ظل اجواء كهذه كان من الطبيعي أن يصدم أعضاء المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى حين فاجأهم الإمام شمس الدين في جلسة خاصة دعا إليها في حزيران 2000، بإبلاغهم رسمياً تحفظه على مطلب إلغاء الطائفية السياسية. وكان سبق ذلك قيام وفد من قيادتي "حركة أمل" و"حزب الله" (كل على حدة) بزيارة الإمام شمس الدين للإستفسار منه عن موقفه بعد خطابه الشهير في إفتتاح مؤتمر "التوترات الدينية" الذي نظمه الفريق العربي للحوار الإسلامي المسيحي ومجلس كنائس الشرق الأوسط في 9 آذار 2000.
والموقف الجديد للإمام شمس الدين لا يقوم فقط على طلب تجميد السعي لإلغاء الطائفية السياسية أو سحب المشروع من التداول لأسباب تكتيكية تتعلق بالإستقطاب التنابذي الذي يثيره طرحه، وإنما يتعدى ذلك إلى المطالبة بالعدول نهائياً عنه.
وخلاصة تفكير الإمام شمس الدين في هذا المجال هي أن لبنان أنجز برغم كل تشكيك وإتهام "أفضل صيغة في التاريخ للعيش المشترك" وأن الواجب الديني أولاً والسياسي ثانياً يفرض المحافظة عليها وصونها وترسيخها.
أكثر من هذا، يقول الإمام شمس الدين أن "الأطروحة الحارة والساطعة والمتوهجة التي سادت في العقدين الأخيرين عن سعي المجتمع اللبناني إلى إلغاء نظامه القائم فعلاً على ما يسمى نظام الطائفية السياسية، هذه الأطروحة أنا أدعو الآن ليس فقط إلى تجميدها بل إلى العدول عنها لأنني أعتقد بأن الصيغة اللبنانية هي إنجاز من أعظم إنجازات الروح والعقل في لبنان، وقد تكون نموذجاً ينبغي أن يستفيد منه الآخرون الذين يعيشون في مجتمعات فيها نسبة أخرى كبيرة أو صغيرة من التعددية"..
هذا الكلام صدم ويصدم نهجاً في العمل السياسي كان يعتبر مطلب إلغاء الطائفية السياسية من ثوابت الموقف الوطني ومن مسلمات الوعي والإنتماء الديمقراطي والمدني... فجاء الإمام شمس الدين ليقول بأنه ليس من شعارات عمل المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى السعي إلى إلغاء الطائفية السياسية بل إلى ترشيدها أو إلى ترسيخها على أسس رشيدة... وهو بذلك يريد القول بأن الطائفية السياسية التي هي نظام لبنان أو هي الصيغة السياسية لتوافقه الديمقراطي، هي عنصر استقرار وعنصر قوة وتماسك للبنان إذا "إستخدمت بعدالة وبروح إنسانية" أي إذا كانت "رشيدة"..
وفي حديث خاص قال الإمام شمس الدين أنه يرجح أن تبقى هذه الصيغة هي نظام لبنان وهو يدعو إلى عدم تعريضها لإنتهاكات قد تجعلنا نأسف عليها. ويردد في هذا المجال قول الشاعر: "رب يوم بكيت فيه فلما صرت في غيره بكيت عليه" وكم مرت علينا من أيام بكينا منها وها نحن الآن نبكي عليها...
تطوير الصيغة اللبنانية
الفكرة الرئيسية في هذا الموقف الصادر عن أعلى مرجعية إسلامية في لبنان، تنبع من النبع نفسه الذي عبرت عنه رسالة الإرشاد الرسولي، والمتعلقة بكون لبنان أكثر من وطن، إنه نموذج ورسالة حضارية في آن واحد. وكان سبق للإمام شمس الدين أن صرح مراراً بأن "لبنان لا معنى له دون مسيحييه، ولا معنى له دون مسلميه، إن معناه يكمن في مسلميه ومسيحييه المتعايشين معاً المتحاورين في حوار الحياة والذين أنجزوا عبر تاريخ عيشهم المشترك تلك الصيغة السياسية الفريدة في العالم العربي".
صحيح أن التجربة اللبنانية قامت على تسويتين: تسوية داخلية بين الجماعات المكونة للبنان، وتسوية خارجية بين القوى الإقليمية والدولية، وصحيح أن ميزان القوى كان غير متكافئ وغير عادل أو متوازن على المستويين الداخلي والخارجي، إلا أن الصحيح أكثر هو انه كان للتوافق الداخلي على الدوام الدور الرئيسي في إستيلاد الصيغة والسير بها. وهذا لا يعني أن نتجاهل أن الخارج كان أيضاً هو الضامن الأساسي للصيغة ولتوازناتها (منذ نظام القائمقاميتين والمتصرفية وحتى إتفاق الطائف)، إلا أنه علينا أن نستوعب الميزة الأساسية التي تتمثل في أهمية التوافق الداخلي ودوره الحاسم في لحظات الأزمة والإنهيارات الكبرى... حصل ذلك في الميثاق الوطني عام 1943، كما حصل في صيغة "لا غالب ولا مغلوب" عام 1958، وحصل أخيراً في صيغة الطائف عام 1989، إن هذه التجربة الطويلة قد ولدت من قيم العيش المشترك ومكتسبات الحرية والديمقراطية والتنمية، ما جعل اللبنانيين يتمسكون بها ويحاولون استعادة مقوماتها... والحقيقة الأساس التي أفرزتها سنوات التجارب المريرة هي أن الصيغة اللبنانية لا تجد ضمانتها الثابتة إلا في الإتفاق الداخلي والوحدة الوطنية، وان هذه الضمانة الداخلية لا تقوم على الإمتيازات أو المرجحات العددية أو الإنطواء على الذات وإنما على الإنفتاح والحوار وتكوين الإقتناعات المشتركة والتأسيس عليها الأمر الذي ينزع إلى الأبد إحتمالات الإستقواء بالخارج أو توظيف الخارج لقوى محلية في لعبة الصراعات الإقليمية. وما ينبغي الإشارة إليه هنا أنه كان لـ "المؤتمر الدائم للحوار اللبناني" (ورئيسه سمير حميد فرنجية) الدور الأكبر في صوغ الإطار النظري لمقومات تطوير الصيغة اللبنانية ومبادئ النظر إلى الكيان والدولة والمجتمع في لبنان ومنطلقاته. وهذا الإنجاز النظري نلحظ تأثيره الكبير في معظم المقولات السياسية الرائجة اليوم في ساحة الحوار والسجال... وقد طور "المؤتمر الدائم للحوار اللبناني"، بالترابط والتنسيق مع التطوير الفقهي والنظري لسماحة الإمام شمس الدين، مقولة العلاقة المتوازنة بين المجتمع والدولة في التجربة اللبنانية... فلبنان ليس كياناً عرضياً أو صدفة تاريخية يترك للعوامل الخارجية أمر تقرير مصيره. كما أنه ليس كياناً أزلياً سرمدياً واجب الوجود لذاته... أنه وكما قال الإرشاد الرسولي وكما قال الإمام شمس الدين معنى ودور، يرتبطان بإدارة أبنائه وبقدرتهم على النهوض بمسؤوليتهما (المعنى والدور).
وكما سبق أن قال الإمام موسى الصدر فإن التنوع القائم في المجتمع اللبناني هو مصدر ثراء وغنى ونوافذ حضارية على مكاسب للبشرية في هذا العصر والعصور الماضية. ومن هنا فإن التعددية في المجتمع الأهلي هي تجارب إنسانية تدخل على لبنان وتتفاعل في ما بينها لتنتج هذا العيش المشترك القائم على الحوار والتضامن، ومن هنا فإن الدولة المطلوبة في لبنان هي الدولة المتصلة بالمجتمع المتكاملة معه، لا المنفصلة عنه ولا المستبدة به.
والدولة بحسب الميزان الفقهي لسماحة الإمام شمس الدين ليس لها غائية ذاتية مستقلة تستمد منها شرعيتها، إنها مؤسسة من مؤسسات المجتمع وإن كانت المؤسسة الكبرى بإمتياز. وهي بهذا المعنى لا تستطيع أن تشكل إختزالاً للمجتمع أو تعبيراً صافياً متعالياً كلياً عليه أو إلغاء له...، وعلى الدولة أن تخضع للغايات التي يحددها المجتمع. فشرعيتها هي شرعية وظيفية يمكن الحكم عليها بمعايير الفاعلية والمردودية وبمدى إنسجامها مع التوجهات الأساسية للمجتمع... إن المعادلة المطلوب إيجادها بين الدولة والمجتمع (في ما يخص لبنان المجتمع المتعدد الطوائف والإنتماءات) هي معادلة قيادة وإنقياد: قيادة الدولة للمصلحة العامة المشتركة وإنقيادها للغايات التي يحددها المجتمع: فلا الدولة وصية على المجتمع تتصرف في معزل عن توجهاته ولا المجتمع قادر أو ينبغي له أن يحل محلها...
والحال أن الوثيقة الأولى لـ "المؤتمر الدائم للحوار" قد عالجت بإسهاب هذه الناحية مستندة إلى التطوير الفقهي والنظري للإمامين الصدر وشمس الدين، وإلى الخبرة السياسية العملية المكرسة في مسلمات كان قد صاغها الزعماء رياض الصلح وبشارة الخوري وحميد فرنجية وكمال جنبلاط وغيرهم ممن قام عليهم الوفاق، وينبغي العودة الدائمة إليها...
وبعد، فلطالما شهدنا من حولنا، في الفكر والممارسة، تعريفات للأوطان تختصرها بحدي السلطة والحدود القانونية، مسقطة تالياً الحرية والديمقراطية إذ تسقط حق المجموعات المختلفة في التعبير عن نفسها... وبعض هذه التعريفات يذهب إلى حد إعتبار سلطته إختصاراً للوطن والشعب... ونعتقد أن لبنان هو الدحض الحقيقي والعملي لكل تلك الإتجاهات الإستبدادية ومن هنا ضرورة صيغته والحاجة الإنسانية إليها، وحاجتنا نحن إلى الحفاظ عليها وتطويرها...
النهار 10 تشرين الأول 2000
بقلم سعود المولى
ثلاث مرات طرح فيها موضوع إلغاء الطائفية السياسية حتى الان منذ توقيع إتفاق الطائف (1989) وإقرار التعديلات الدستورية (1990)، وفي المرات الثلاث كان يتم سحب الموضوع بعد صدور موقف واضح وحاسم من المرجعية الإسلامية الشيعية.
في المرة الأولى صدر الكلام "العلماني" المطالب بإلغاء الطائفية السياسية عن الوزير البعثي عبدالله الأمين إثر نداء السينودس الشهير.. وقبل أن يستفحل الفرز ما بين مؤيد ومعارض للمطلب كان الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين يدعو إلى سحب الموضوع من التداول..
في المرة الثانية صدر الكلام عن الرئيس نبيه بري إثر مشاركة وزراء "أمل" في الموافقة على مشروع الزواج المدني الذي طرحه الرئيس الياس الهراوي وعارضه الرئيس رفيق الحريري. يومها صدرت مواقف وتصريحات عنيفة عن المراجع الدينية الإسلامية وصلت إلى حد تكفير المسلمين الذين صوتوا مع المشروع. وقد اضطر الرئيس بري من ناحيته إلى تغطية وزرائه بطرح إلغاء الطائفية السياسية كمقدمة لا بد منها لإقرار قانون مدني للأحوال الشخصية. وهو يقصد بذلك "إحراج" المشروع "لإخراجه".
ويومها أيضاً كان للإمام الشيخ محمد شمس الدين الموقف المتضامن نفسه من جهة مع المفتي قباني والقيادات الإسلامية في رفض مشروع القانون المدني للأحوال الشخصية والمعارض من جهة أخرى لطرح مشروع إلغاء الطائفية السياسية. فسحب المشروع من التداول...
أما المرة الثالثة (ولعلها الأخيرة) فقد انطلق الكلام عن الدعوة إلى تطبيق المادة 95 من الدستور من النائب القومي السوري الدكتور مروان فارس، وذلك أثر صدور نداء المطارنة الموارنة الأخير...
وقد حاول النائب فارس جمع تواقيع على عريضة نيابية وما لبثت المحاولة أن انهارت وطواها الصمت المريب ما يدل دلالة قاطعة على أن المسألة كلها لم تتعدّ التهويل والإستعراض وليس المبدئية والجدية في الطرح... وكما في المرتين السابقتين كان للإمام شمس الدين الموقف نفسه الداعي إلى سحب الموضوع من التداول مع دخول عنصر جديد تمثل في طرح موقف متقدم هو الأول من نوعه بالنسبة إلى القيادة الإسلامية والشيعية منها تحديداً.
لماذا الفزاعة؟؟
وقبل أن نتناول الموقف الشيعي الجديد كما عبر عنه الإمام شمس الدين لا بد لنا من التساؤل عن سر ذلك التناوب "العلماني" على إستخدام موضوع إلغاء الطائفية السياسية كفزاعة كلما صدر موقف مسيحي لا يعجب أطرافاً في السلطة (نداء السينودس، وأخيراً نداء المطارنة) وعلى إستخدام موضوع الزواج المدني أو قانون الأحوال الشخصية، كفزاعة، كلما صدر موقف إسلامي لا يعجب أطرافاً في السلطة ... وفي الحالتين فإن الإستخدام "الإنتهاري" يكشف عن طينة أصحابه وعقليتهم إذ يضعهم في خانة التحرك لتخويف الناس وإثارة الإنقاسامات وإحداث إستقطاب وفرز وهيجان، والتهويل بالفتنة والحرب الأهلية، وصولاً إلى طرح شعار "إما الأمر الواقع وإما الفوضى" .
المهم أن طرح إلغاء الطائفية السياسية يتم في مناسبات إعلامية وبصورة تحريضية، وهو يتكرر كلما صدر موقف مسيحي يطالب بالتوازن والمشاركة..
والغريب في أمر الذين يتولون مهمة اخراج المادة 95 من صندوق الفزاعات، أنهم لا يكلفون أنفسهم عناء شرح سبب نسيانهم المادة (في غير مناسبة إخراجها الظرفي) أو تغاضيهم عن تفشي الطائفية المذهبية، أو حتى نجاحهم الإنتخابي على لوائح أقل ما يقال فيها أنها ذات لون مذهبي أو طائفي فاقع... فالمادة 95 موجودة في الدستور منذ تعديل 21/9/1990 (أي منذ عشر سنوات بالتمام والكمال) فلم نسمع مرة عن برنامج عمل جدي أو عن مشروع عملي، لخوض نضال حقيقي في إتجاه تنفيذ المادة 95. ومن ناحية أخرى فإن الذين يتنطحون لإعطاء اللبنانيين دروساً في العلمانية والديمقراطية لا يجدون من يسألهم عن مدى علمانية أحزابهم ومؤسساتهم وأنظمتهم وديمقراطيتها وهي أشهر من نار على علم في هذا المجال!!
ماذا في الجعبة اليوم؟؟
واليوم ومع إكتمال عقد السنوات العشر على دستور الطائف، ومع صدور صرخة الأساقفة الموارنة في ندائهم الشهير، ومع إتضاح نضج اللبنانيين وعدم وقوعهم في فخ الإستقطاب التنابذي العدائي، عاد التهويل بفزاعة إلغاء الطائفية السياسية لغاية في نفس يعقوب، وليس خدمة للتطور الديمقراطي للمجتمع اللبناني... ذلك أن تطوير النظام السياسي أو الصيغة اللبنانية الفريدة هو عمل تاريخي لا تقوم به أو تفرضه نخبة "فوقية" مهما لبست من لبوس "ديمقراطي" ومهما إدعت أنها "قومية" إذ إنها في الحقيقة تبقى "ما فوق مجتمعية" و "ما فوق وطنية" أي خارج المجتمع والوطن.
إن التغيير، أي تغيير، هو من عمل الناس أصحاب المصلحة فيه، وبناء على إقتناعاتهم وخياراتهم التي تتكون لديهم من خلال الثقة والأمان...
وليس التغيير أداة لتأكيد عقيدة ما، أو لإثبات نظرية ما، خارج التاريخ. ولقد شبعنا تجارب على حساب الناس ودماء الناس ومصالح الناس. ولقد وعينا دروس التجربة الشيوعية في الإتحاد السوفياتي أو يوغوسلافيا أو حتى اليمن الجنوبية، ناهيك عن التجارب القومية في الجماهيرية الليبية أو العراق أو سوريا... من هنا قول الإمام شمس الدين مراراً وتكراراً أن التاجر حين يتاجر فإنما هو يتاجر بماله وبضاعته أما السياسي الحزبي فإنه عندما يتاجر فإنه يتاجر بدماء الناس واموالهم وأعراضهم، وهؤلاء هم من يدفع الثمن في حين يتربع السياسيون الحزبيون على عرش السلطة.. ففي قضايا التغيير والتطوير السياسيين ينبغي التركيز في ما يخص وضعنا الحالي في لبنان (وكما يقول الإمام شمس الدين) "على تكوين اقتناعات حقيقية لقبول بعضنا على قاعدة تنفيذ إتفاق الطائف بأمانة وبنحو يحقق التمثيل الصحيح والمشاركة الفعلية والقوية في صنع القرار السياسي والإقتصادي والتنموي" (راجع تصريحه في صحف الثلاثاء 3/10/2000).
وهو (أي الإمام شمس الدين) صاغ موقفه الجديد بناء على هذا التقدير حتى توصل إلى إقتناع مفاده أن المادة 95 هي من "الأخطاء التي أتكبت في مفاوضات الطائف" لجهة توقيت إلغاء الطائفية السياسية بعد إنتخاب أول مجلس نيابي على أساس المناصفة... ويقول الإمام إنّ "هذا التوقيت كان مبنياً على التسرع، وهو توقيت خطأ". وفي التصريح نفسه يذهب الإمام شمس الدين إلى القول أن "النظام السياسي الذي أقره اتفاق الطائف يشكل عنصر إستقرار للبنان إذا استخدم بعدالة وبروح إنسانية، فهو يمثل قوة تماسك في لبنان، والأفضل ألا نزج لبنان الآن في وضع تنظيمي يخلق شكوكاً وإرباكاً".
مقومات الموقف الشيعي الجديد
لم يحمل أحد في لبنان مطلب إلغاء الطائفية السياسية كما حمله الشيعة إلى حد أنه اصبح عنواناً لحركتهم السياسية، كما كانت "المشاركة" عنواناً للحركة السياسية للطائفة السنية. صحيح أن المطلب ورد على لسان كل الأطراف والفئات، ومنذ البيان الوزاري الأول للمرحوم الرئيس رياض الصلح، وانه تحول قضية على يد المرحوم الزعيم كمال جنبلاط، إلا ان مرحلة الصعود السياسي للطائفة الشيعية بقيادة الإمام السيد موسى الصدر هي التي بلورت هذا المطلب كتعبير عن طموح "المحرومين" في المساواة والعدالة وفي التمثيل الصحيح المتناسب مع وزنهم العددي وكفاياتهم... ويكفي هنا أن نتذكر أول مؤتمر صحافي للسيد الصدر عام 1966 وفيه عرض الإجحاف اللاحق بالطائفة الشيعية في وظائف الدولة وفي موازنة الحكومات المتعاقبة حتى ان مقولة الحرمان تلازمت مع مطلب إلغاء الطائفية السياسية... هذا التماهي هو الذي جعل المجلس الإسلامي الشيعي العلى يتقدم صفوف المطالبين بإلغاء الطائفية السياسية ذلك منذ إنتخاب الإمام الصد رئيساً (1969) وحتى المذكرة الشهيرة إبان الأحداث الفتنة (1976). حتى إن ورود المادة 95 في التعديلات الدستورية بعد الطائف إعتبر وقتها إنتصاراً للشيعة.
وفي ظل اجواء كهذه كان من الطبيعي أن يصدم أعضاء المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى حين فاجأهم الإمام شمس الدين في جلسة خاصة دعا إليها في حزيران 2000، بإبلاغهم رسمياً تحفظه على مطلب إلغاء الطائفية السياسية. وكان سبق ذلك قيام وفد من قيادتي "حركة أمل" و"حزب الله" (كل على حدة) بزيارة الإمام شمس الدين للإستفسار منه عن موقفه بعد خطابه الشهير في إفتتاح مؤتمر "التوترات الدينية" الذي نظمه الفريق العربي للحوار الإسلامي المسيحي ومجلس كنائس الشرق الأوسط في 9 آذار 2000.
والموقف الجديد للإمام شمس الدين لا يقوم فقط على طلب تجميد السعي لإلغاء الطائفية السياسية أو سحب المشروع من التداول لأسباب تكتيكية تتعلق بالإستقطاب التنابذي الذي يثيره طرحه، وإنما يتعدى ذلك إلى المطالبة بالعدول نهائياً عنه.
وخلاصة تفكير الإمام شمس الدين في هذا المجال هي أن لبنان أنجز برغم كل تشكيك وإتهام "أفضل صيغة في التاريخ للعيش المشترك" وأن الواجب الديني أولاً والسياسي ثانياً يفرض المحافظة عليها وصونها وترسيخها.
أكثر من هذا، يقول الإمام شمس الدين أن "الأطروحة الحارة والساطعة والمتوهجة التي سادت في العقدين الأخيرين عن سعي المجتمع اللبناني إلى إلغاء نظامه القائم فعلاً على ما يسمى نظام الطائفية السياسية، هذه الأطروحة أنا أدعو الآن ليس فقط إلى تجميدها بل إلى العدول عنها لأنني أعتقد بأن الصيغة اللبنانية هي إنجاز من أعظم إنجازات الروح والعقل في لبنان، وقد تكون نموذجاً ينبغي أن يستفيد منه الآخرون الذين يعيشون في مجتمعات فيها نسبة أخرى كبيرة أو صغيرة من التعددية"..
هذا الكلام صدم ويصدم نهجاً في العمل السياسي كان يعتبر مطلب إلغاء الطائفية السياسية من ثوابت الموقف الوطني ومن مسلمات الوعي والإنتماء الديمقراطي والمدني... فجاء الإمام شمس الدين ليقول بأنه ليس من شعارات عمل المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى السعي إلى إلغاء الطائفية السياسية بل إلى ترشيدها أو إلى ترسيخها على أسس رشيدة... وهو بذلك يريد القول بأن الطائفية السياسية التي هي نظام لبنان أو هي الصيغة السياسية لتوافقه الديمقراطي، هي عنصر استقرار وعنصر قوة وتماسك للبنان إذا "إستخدمت بعدالة وبروح إنسانية" أي إذا كانت "رشيدة"..
وفي حديث خاص قال الإمام شمس الدين أنه يرجح أن تبقى هذه الصيغة هي نظام لبنان وهو يدعو إلى عدم تعريضها لإنتهاكات قد تجعلنا نأسف عليها. ويردد في هذا المجال قول الشاعر: "رب يوم بكيت فيه فلما صرت في غيره بكيت عليه" وكم مرت علينا من أيام بكينا منها وها نحن الآن نبكي عليها...
تطوير الصيغة اللبنانية
الفكرة الرئيسية في هذا الموقف الصادر عن أعلى مرجعية إسلامية في لبنان، تنبع من النبع نفسه الذي عبرت عنه رسالة الإرشاد الرسولي، والمتعلقة بكون لبنان أكثر من وطن، إنه نموذج ورسالة حضارية في آن واحد. وكان سبق للإمام شمس الدين أن صرح مراراً بأن "لبنان لا معنى له دون مسيحييه، ولا معنى له دون مسلميه، إن معناه يكمن في مسلميه ومسيحييه المتعايشين معاً المتحاورين في حوار الحياة والذين أنجزوا عبر تاريخ عيشهم المشترك تلك الصيغة السياسية الفريدة في العالم العربي".
صحيح أن التجربة اللبنانية قامت على تسويتين: تسوية داخلية بين الجماعات المكونة للبنان، وتسوية خارجية بين القوى الإقليمية والدولية، وصحيح أن ميزان القوى كان غير متكافئ وغير عادل أو متوازن على المستويين الداخلي والخارجي، إلا أن الصحيح أكثر هو انه كان للتوافق الداخلي على الدوام الدور الرئيسي في إستيلاد الصيغة والسير بها. وهذا لا يعني أن نتجاهل أن الخارج كان أيضاً هو الضامن الأساسي للصيغة ولتوازناتها (منذ نظام القائمقاميتين والمتصرفية وحتى إتفاق الطائف)، إلا أنه علينا أن نستوعب الميزة الأساسية التي تتمثل في أهمية التوافق الداخلي ودوره الحاسم في لحظات الأزمة والإنهيارات الكبرى... حصل ذلك في الميثاق الوطني عام 1943، كما حصل في صيغة "لا غالب ولا مغلوب" عام 1958، وحصل أخيراً في صيغة الطائف عام 1989، إن هذه التجربة الطويلة قد ولدت من قيم العيش المشترك ومكتسبات الحرية والديمقراطية والتنمية، ما جعل اللبنانيين يتمسكون بها ويحاولون استعادة مقوماتها... والحقيقة الأساس التي أفرزتها سنوات التجارب المريرة هي أن الصيغة اللبنانية لا تجد ضمانتها الثابتة إلا في الإتفاق الداخلي والوحدة الوطنية، وان هذه الضمانة الداخلية لا تقوم على الإمتيازات أو المرجحات العددية أو الإنطواء على الذات وإنما على الإنفتاح والحوار وتكوين الإقتناعات المشتركة والتأسيس عليها الأمر الذي ينزع إلى الأبد إحتمالات الإستقواء بالخارج أو توظيف الخارج لقوى محلية في لعبة الصراعات الإقليمية. وما ينبغي الإشارة إليه هنا أنه كان لـ "المؤتمر الدائم للحوار اللبناني" (ورئيسه سمير حميد فرنجية) الدور الأكبر في صوغ الإطار النظري لمقومات تطوير الصيغة اللبنانية ومبادئ النظر إلى الكيان والدولة والمجتمع في لبنان ومنطلقاته. وهذا الإنجاز النظري نلحظ تأثيره الكبير في معظم المقولات السياسية الرائجة اليوم في ساحة الحوار والسجال... وقد طور "المؤتمر الدائم للحوار اللبناني"، بالترابط والتنسيق مع التطوير الفقهي والنظري لسماحة الإمام شمس الدين، مقولة العلاقة المتوازنة بين المجتمع والدولة في التجربة اللبنانية... فلبنان ليس كياناً عرضياً أو صدفة تاريخية يترك للعوامل الخارجية أمر تقرير مصيره. كما أنه ليس كياناً أزلياً سرمدياً واجب الوجود لذاته... أنه وكما قال الإرشاد الرسولي وكما قال الإمام شمس الدين معنى ودور، يرتبطان بإدارة أبنائه وبقدرتهم على النهوض بمسؤوليتهما (المعنى والدور).
وكما سبق أن قال الإمام موسى الصدر فإن التنوع القائم في المجتمع اللبناني هو مصدر ثراء وغنى ونوافذ حضارية على مكاسب للبشرية في هذا العصر والعصور الماضية. ومن هنا فإن التعددية في المجتمع الأهلي هي تجارب إنسانية تدخل على لبنان وتتفاعل في ما بينها لتنتج هذا العيش المشترك القائم على الحوار والتضامن، ومن هنا فإن الدولة المطلوبة في لبنان هي الدولة المتصلة بالمجتمع المتكاملة معه، لا المنفصلة عنه ولا المستبدة به.
والدولة بحسب الميزان الفقهي لسماحة الإمام شمس الدين ليس لها غائية ذاتية مستقلة تستمد منها شرعيتها، إنها مؤسسة من مؤسسات المجتمع وإن كانت المؤسسة الكبرى بإمتياز. وهي بهذا المعنى لا تستطيع أن تشكل إختزالاً للمجتمع أو تعبيراً صافياً متعالياً كلياً عليه أو إلغاء له...، وعلى الدولة أن تخضع للغايات التي يحددها المجتمع. فشرعيتها هي شرعية وظيفية يمكن الحكم عليها بمعايير الفاعلية والمردودية وبمدى إنسجامها مع التوجهات الأساسية للمجتمع... إن المعادلة المطلوب إيجادها بين الدولة والمجتمع (في ما يخص لبنان المجتمع المتعدد الطوائف والإنتماءات) هي معادلة قيادة وإنقياد: قيادة الدولة للمصلحة العامة المشتركة وإنقيادها للغايات التي يحددها المجتمع: فلا الدولة وصية على المجتمع تتصرف في معزل عن توجهاته ولا المجتمع قادر أو ينبغي له أن يحل محلها...
والحال أن الوثيقة الأولى لـ "المؤتمر الدائم للحوار" قد عالجت بإسهاب هذه الناحية مستندة إلى التطوير الفقهي والنظري للإمامين الصدر وشمس الدين، وإلى الخبرة السياسية العملية المكرسة في مسلمات كان قد صاغها الزعماء رياض الصلح وبشارة الخوري وحميد فرنجية وكمال جنبلاط وغيرهم ممن قام عليهم الوفاق، وينبغي العودة الدائمة إليها...
وبعد، فلطالما شهدنا من حولنا، في الفكر والممارسة، تعريفات للأوطان تختصرها بحدي السلطة والحدود القانونية، مسقطة تالياً الحرية والديمقراطية إذ تسقط حق المجموعات المختلفة في التعبير عن نفسها... وبعض هذه التعريفات يذهب إلى حد إعتبار سلطته إختصاراً للوطن والشعب... ونعتقد أن لبنان هو الدحض الحقيقي والعملي لكل تلك الإتجاهات الإستبدادية ومن هنا ضرورة صيغته والحاجة الإنسانية إليها، وحاجتنا نحن إلى الحفاظ عليها وتطويرها...
عن أي حوار وعن أي مصالحة وطنية يتحدّثون؟
عن أي حوار وعن أي مصالحة وطنية يتحدّثون؟
المستقبل 24 و 25 أيلول 2000
بقلم سعود المولى
تتميّز الأصوليات، القديمة، والحديثة، العلمانية كما الدينية، في إدعائها تمثيل الحقيقة المطلقة التي لا يأتيها الباطل لا من خلف ولا من قدام، ولا تعتريها النسبية أو تتأثر بأي عوامل، والتي تصدر عن ذات مفارقة للزمان والمكان، جوهر أزلي أبدي، يحمل تارة إسم الأمة أو الكنيسة أو المذهب، وأطواراً كثيرة إسم الديمقراطية والحوار والتعددية.
وفي قاموس هذه الأصوليات أن الحوار وسيلة للإقناع طالما أن الحقيقة معروفة، وأن التعددية هي من مستلزمات الصورة العصرية طالما ظلت تحت سقف الغلبة، وأن الديمقراطية تحصيل حاصل بفعل العنوان الذي أحمله أنا.. فلو كنت أنتمي إلى هذا الحزب أو ذاك، أو أكتب في هذه الجريدة أو تلك، فأنا حتماً ديمقراطي، وأكثر من ذلك: فأنا حتماً وطني، والوطنية هنا تعني رأيي أنا في الوطن وقضاياه ومصيره.. وأنا أستطيع بالتالي توزيع صكوك الغفران وشهادات الوطنية على من يناسب عقلي وشكلي وأن أفرض أيضاً فهماً معيّناً وذوقاً محدداً كأطر عامة لا تقبل النقاش ينبغي أن تندرج الثقافة والسياسة تحت سقفها وكل ما يخالفها فهو رجس من عمل الشيطان، والشيطان هنا هو الآخر، المختلف، الذي لا يحمل نفس الفهم أو الذوق أو الفكر أو العقل أو الشكل.. وما أسهل فتاوى التخوين والتكفير وهي بالمناسبة ليست شأناً خاصاً برجال الدين، بل هي أكثر ما سادت وتسود في الأوساط "العلمانية والديمقراطية والوطنية".. (طبعاً مع حفظ الألقاب)..
والقول الفصل في مسألة الإختلاف والتعدد والحوار هو في النهاية للقوة والغلبة. فالحوار يخضع لمنطق القوة، أخوضه إذا كنت ضعيفاً لكسب الوقت ولزيادة القوة ولإضعاف الخصم وتضليله أي تحت عنوان "التمسكن" قبل "التمكّن".. فإذا ما تمكّنت وتغلبت فلا حوار ولا من يحزنون..
وقد أخوض الحوار إذا كنت قوياً متمكناً وذلك كنوع من الدعاية أو التبشير أو عرض البضاعة في السوق كي يتم تشكيل عقول الناس وأذواقها حسب ما أقول ووفق منطق ميزان القوى والغلبة فالناس على دين ملوكها، والناس عبيد الدنيا، والناس تنقاد لمن غلب.. (وهكذا.. وكلها أمثلة من تراثنا والديني منه تحديداً)
الحوار هنا إذن، وفي كل الأحوال، ليس مبدأ، وليس أصلاً ثابتاً، وليس قيمة، بل هو وسيلة وآلية ضمن إستراتيجية أعم هي إستراتيجية النفوذ والقوة..
والحقيقة أن الإسلام يرفض هذا المعنى، ويرفض الأصولية بالتالي، كشكل تعبير أو تنظيم، ويرفض الإستقواء والغلبة. ذلك أن الحكمة والمعرفة والحقيقة هي ضالة المؤمن، يأخذها أنّى وجدها، ولو في قلب كافر أو عقل مشكك، ولو في الصين أو الغرب.. وهي ملك للناس ينشدونها كدحاً وجهداً ساعين في مناكب الأرض يتأملون ويتعلمون، يراكمون التجارب ويستخلصـون الدروس، يتحاورون مـع النص ـ الكتاب، ومع الطبيعة ـ الكتـاب، ومع الإنسان ـ الكتاب، وفي سنّة التدافع، ﴿ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع﴾ ... أو ﴿لفسدت الأرض﴾ ... ﴿إدفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم﴾، بالحوار الحق القائم على العلم والمعرفة وعلى التضامن.. وعلى قبول الآخر كما هو، لا كما أريده أنا أو أتصوّره، لأن الحوار مكاشفة ومصارحة في حديث القلب والروح وليس تكاذباً ونفاقاً، ولا زغلاً ودجلاً، ولا تكتيكاً وتقيّة..
ولنا في رسول الله أفضل مثال وأسوة، وهو الذي لا ينطق عن الهوى، وهو ناقل الوحي، أي الحقيقة المطلقة، فإذا به يدعو مخالفيه والكافرين برسالته إلى كلمة سواء يقف فيها وإياهم على قدم المساواة.. (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) (قرآن كريم).
ولنا في سيرة الصحابة والأئمة أكثر من دليل ومثال.. ويكفي أن نردّد مقولة الإمام الشافعي رضوان الله عليه: (رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأيك خطأ يحتمل الصواب) وأن نستعيد القاعدة الذهبية لمجلة المنار وللشيخ رشيد رضا ومن بعده للشهيد الإمام حسن البنا وهي مأخوذة أيضاً من أئمة الفقه: (نعمل في ما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا البعض في ما نختلف فيه)..
ولن تكفي مقالة واحدة في هذه الصفحة لتعداد آداب الحوار والمجادلة بالتي هي أحسن ومعاني المحبة والعفو والإحسان والعدل ولو على الأقربين، والتي أرساها الإسلام في حياة البشر ليكون دين السماحة واليسر لا العصبية والعسر، دين العدل والمساواة لا القوة والغلبة، دين الوفاء بالعهود والصدق والإستقامة والأمانة لا مكان فيه لدجل أو نفاق أو تكاذب أو نكث أو ارتداد..
أسوق هذا الكلام، وربما نحتاج إلى الكثير غيره، ونحن نشهد ما نشهد اليوم من تقاصف بالبيانات والخطب والإجتماعات ومن تكذيب وتخوين وتكفير ومن توزيع لشهادات الوطنية والديمقراطية ومن حجب لصكوك الغفران أو إعطاء لمفاتيح الجنان.. وكاننا وبعد عشر سنوات على الطائف لم نتعلم شيئاً ولم نفقه أمراً..
ولقد سبق لي أن كتبت وفي هذه الصفحة بالذات مقالات كثيرة في ربيع هذا العام، وكلها تحدثت عن ضرورة العدل في سلوكنا وفي حياتنا السياسية وعن وجود خلل كبير في ممارستنا للسلطة وفي بنائنا للدولة والمجتمع بعد اتفاق الطائف وعن وجود شعور كبير بالغبن والظلم لدى قطاعات واسعة من المسيحيين، وعن وجود شعور بالغلبة والإستقواء لدى قطاعات من المسلمين، وعن ضرورة الحوار الوطني حول هذه الأمور وحول العلاقة مع سوريا ومع العرب ومع العالم.. وعن أمور كثيرة.. لا بل إن الوثيقة اليتيمة التي أصدرتها اللجنة الوطنية للحوار الإسلامي المسيحي والتي أمثل فيها المرجعية الشيعية إلى جانب إخواني ممثلي بقية المرجعيات، هذه الوثيقة الصادرة في 5 كانون الثاني 1995 تحدثت منذ ذلك الوقت عن هذه الأمور، وحملت تواقيع المرجعيات الروحية كافة، وهي دعت إلى تصحيح الخلل وإلى إقامة العدل والتوازن قبل إستحفال الأمور وتفاقم العواقب..
فكل إنسان عاقل مدرك، وكل غيور على الوطن، وكل عامل في سبيل الحوار والوحدة والتضامن، كان يدرك أن الظلم والغبن لا بد أن يولدا صرخة وصرخات، وتحركات.. ولقد سبق أن خبرنا ذلك حين صدور "النداء الخير" عن سينودوس الأساقفة الكاثوليك المنعقد في الفاتيكان من 26 تشرين الثاني إلى 14 كانون الأول 1995.. فكيف نستهجن إذن ونستغرب ما صدر أخيراً في نداء إجتماع المطارنة الموارنة؟ (وهو نداء وليس بياناً أي أنه يستعيد نفس صيغة النداء الأخير هادفاً إلى طرح الصوت وإعلان الصرخة التي يأتي بعدها البيان الشافي كما حصل مع الإرشاد الرسولي).
ما أن يصدر كلام مسيحي حتى نسارع إلى إصدار كلام مسلم مضاد له.. ما أن يتحدث أحد قادة الموارنة حتى نسارع إلى فتح ملف التكفير والهجرة..
عشر سنوات والكنيسة والشارع المسيحي يشكوان ويشتكيان ونحن نقول لهما أننا نفهم الشكوى ونوافق على أن المطلوب تصحيح الخلل وإعادة التوازن ولكن فليتم ذلك تحت سقف الدولة ومن خلال المؤسسات.. عشر سنوات مضت فإذا بنا نحن نقول علناً جهاراً أن الدولة ليست دولة، وإن المؤسسات غير موجودة.. وإن القضاء ليس قضاءً، بل هو أقدار مرسومة. ثم جاءت انتخابات الألفين وقلنا نحن المسلمين فيها ما لم يقله مالك في الخمر، وكانت ثورة شعبية عفوية أطاحت بكل الخطوط الحمر والصفر، في بيروت والبقاع والجنوب والجبل.. وتبلورت المواقف في إكتساح جماهيري درزي وسني وشيعي حول رموز وقيادات من طينة الحريري وبري وجنبلاط.. وصفقنا لذلك باعتباره الدليل الأمثل على الخيار الشعبي.. فلماذا نصم الآذان ونغلق العيون إذن عن رؤية ما تبلور في الشارع المسيحي؟ لماذا نريد أن نفرض رموزاً مهترئة على الشارع المسيحي الذي رفض هذه الرموز ونبذها وأسقطها في الإنتخابات رغم مقاطعته الكبيرة لها؟ لماذا نصفق لوليد جنبلاط حين يتحدث عن الوجود السوري ونرجم المطارنة بأقذع السباب حين يقولون بضرورة العلاقات المميزة والمتوازنة مع سوريا؟ لم يتحدث نداء المطارنة بغير اللغة التي تحدث بها كل النواب والوزراء ممن أجمعوا على القول بأن قانون الإنتخابات كان فاسداً وظالماً ومعيباً. ولم يرد في النداء أي مقطع أو جملة لم يتكررا خلال الأسابيع الماضية في كل وسائل الإعلام المسموع والمقروء والمرئي وعلى ألسنة كل السياسيين معارضين وموالين.
ولقد سبق لي أن كتبت أنا شخصياً بان الحكمة الخفية في قانون الإنتخابات كانت الإمعان في تشتيت وإضعاف المسيحيين، وفي تهميش السنة وشق الدروز.. كان الرد العفوي الطبيعي إكتساحاً جماهيرياً سنياً لم يسبق له مثيل متحالفاً مع وحدة درزية صلبة حول الزعيم جنبلاط وهي وحدة لطالما حصلت في الأوقات الصعبة حين يدق ناقوس الخطر على الطائفة، ومتقاطعاً مع وحدة شيعية "مقدسة".
ألم يكن طبيعياً والحال هذه أن ينتفض الجسم المسيحي ويعيد تركيب أعضائه فيطرح من داخله ما لصق عليه خلال السنوات العشر الماضية ويعاقب من ادعى تمثيله والنطق بإسمه؟ أليس غريباً أن نرتد على هذا الوضع المسيحي ونتهمه بالإحتماء بسقف أميركي ـ إسرائيلي نعلم يقيناً أنه غير موجود وإذا كان موجوداً ففي غير هذا المكان؟ وإذا كانت أميركا تريد الضغط على سوريا عبر تحريك ورقة الإنسحاب من لبنان، أفليس صحيحاً أن هذا الضغط يهدف إلى تقديم سوريا تنازلات على جبهة التسوية في الجولان مقابل السكوت عن وجودها في لبنان؟ ألا يعرف المسيحيون ذلك؟
أعتقد انهم يعرفون ويدركون ومن هنا قولهم وقولنا معهم أن مصلحة سوريا ولبنان هي في التكامل وفي النهوض معاً وفي العلاقات الصحيحة المعافاة المتوازنة التي تحمي أمن البلدين وتصون مصالح الشعبين وتحقق سيادة واستقرار الدولتين.
إن ما حدث في الأيام الأخيرة، من إستنفار إسلامي و "وطني علماني" ضد البطريرك صفير ونداء المطارنة، لا يبشّر بالخير، وهو إساءة كبيرة إلى الحوار وإلى السلم الأهلي والمصالحة الوطنية..
أولاً: لأن ما قاله النداء هو ما قاله ويقوله كل الناس، ومن دون إستثناء، اللهم إلا شلة المستفدين الناهبين مصاصي الدماء.
ثانياً: لأن النداء جاء في لغة معتدلة وحوارية وطرح التعاون والتوازن على المستوى الداخلي كما على مستوى العلاقة مع سوريا.
ثالثاُ: لأننا كنا قد صرعنا الآذان حديثاً عن المصالحة الشاملة وعن الحكومة الوفاقية السياسية الممثلة للجميع.. فماذا قصدنا بالمصالحة وبالوفاق وبالتمثيل الشامل؟ هل كان ذلك شعارات استهلاكية؟ أم أننا لا نعرف ماذا نقول؟
رابعاً: لأنه لم يعد مقبولاً وتحت أي ذريعة استمرار سجن جعجع ونفي عون.
خامساً: لأن التكفير والتخوين واستحضار تهم العمالة لأميركا وإسرائيل أصبحت كاريكاتوراً مضحكاً مبكياً خاصة حين تصدر عمن صدرت عنهم.
سادساً: لأن أول أسس الحوار هو أن نسمع رأي الآخر وأن نعرف ماذا يقول وكيف يفكّر، لا أن نفرض عليه رأياً وتفكيراً نمطياً ولغة خشبية جامدة لم تعد تصلح حتى في الجنائز والأعراس.
سابعاً: لأننا نحترم أنفسنا ونحترم مواثيقنا وعهودنا، ونحترم دستورنا وهو القائل "لا شرعية لأية سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك".
ثامناً: لأننا نحترم مرجعياتنا الروحية، صمام أمان الوحدة الوطنية، ونحترم كلامها الذي ينم عن روح المسؤولية الوطنية العامة، ولا نحتكم إلى نقيق الضفادع، التي دمرت الوطن خلال الفتنة ثم أصبحت اليوم توزع علينا شهادات الوطنية والديمقراطية.
تاسعاً: لأننا نريد لسوريا الخير والتقدم، ونريد للعرب العز والسؤدد، فإننا نقول صديقك من صَدَقك.. لا من صدّقك.. ولا خير في صديق لا يقول لك عيوبك، ولا خير في علاقة تقوم على الدسائس والتكاذب وعلى تبديل البندقية لحظة إنقلاب موازين القوى.. ونحن نعرف من التجربة أن المدافعين اليوم عن سوريا (نفاقاً وتزلقاً) هم الذين أنجزوا إخراج سوريا من لبنان عام 1983، والذين وقّعوا اتفاق القاهرة هم أنفسهم ألغوه ووقعوا 17 أيار ثم ألغوه ووقعوا غيره.
عاشراً: لأن الحوار ينطلق من الإعتراف بالإختلاف، وبالآخر شريكاً مختلفاً، وبحق الآخر بهذا الإختلاف وباحترام هذا الحق، وبالبحث معه عن الشراكة لا القطعية، وعن التآلف لا التنابذ، وعن إكتشاف مساحات مشتركة لتطويرها والإنطلاق منها لصياغة رؤية ونظر مشتركين إلى الأمور (كما فعل اتفاق الطائف) وذلك عكس الدعوة إلى الإستيعاب أو الإلغاء أو تذويب الآخر أو الطلب منه مغادرة مواقعه الطبيعية كشرط لقبوله.. فالحوار هو توليد لشراكة حقيقية قائمة على المعرفة وعلى الإحترام وعلى الإختلاف ولذا فإن أصعب خطواته هو حوار الذات، ونقد الذات، ومساءلتها.
حادي عشر: إن المؤسسات القائدة للمجتمع الأهلي (المرجعيات) هي، حسب ما صدر في بيان للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى بتاريخ 25 أيلول 1975: "أعمدة حضارية للوطن ولربط حاضره بماضيه ومستقبله وبالتالي فإنها مسؤولة عن صيانة المعالم الحضارية للطوائف وللبلاد وليست أطراً طائفية رجعية كما يريد أن يصورها البعض. وإذا كانت السلطات هي المسؤولة عن إدارة العلاقات العامة بين المواطنين وتنظيمها، فإن هذه المؤسسات ـ المرجعيات تصون المحتوى وتحفظ الوحدة الوطنية والترابط بين الأجيال"، وهي كانت على الدوام ضمير الوطن وذاكرة العيش المشترك وحاملة لواء الوطن الواحد والدولة الجامعة.
ثاني عشر: ينبغي أن نضع خطاً واضحاً بين القوى التي حاربت مشروع الدولة، ثم إستفادت منه وأكلته وشربت خيره، وبين القوى والمقامات التي حملت مشروع الدولة وحضنته ودفعت الثمن في سبيل ذلك، ولم تنل منه أي إعتراف بالجميل ولا نالت منه أي خير، لأنها رأت عن صواب أن الخير هو للوطن وللمجتمع.. إن للوفاق وللوحدة الوطنية وللسلم اللأهلي آباء حقيقيين معروفين ولا يستطيع آباء "الفرصة السانحة" أو الأنابيب الإصطناعية أن يغيروا حقائق علم الوراثة.
ختاماً، فإن مسيرة السلم الأهلي والمصالحة وبناء الدولة ومؤسساتها قد إنتكست وتراجعت وهي تعاني من ثغرات أساسية ونقاط خلل فاضحة، اعترف بها الجميع، وليس أقلها ذلك الإلتباس في ممارسة السلطات بين الرئاسات الثلاث، وعدم وجود القضاء كسلطة دستورية مستقلة توازن السلطتين الإشتراعية والإجرائية وتضمن وتصون الحريات العامة والخاصة، وعدم وجود قانون إنتخابات شرعي وعادل (من المثير للسخرية أن يعترف الرئيسان الحص وبري بمعارضتهما لقانونهما للإنتخابات من دون أن يقولا لنا كيف مر هذا القانون اللقيط في مجلس الوزراء والنواب).. وعدم إنجاز إصلاح إداري حقيقي بل تفاقم الفساد وسوء الإدارة، وعدم حصول أي إنماء متوازن خصوصاً في البقاع الشمالي وعكار والضنية، والعجز المستمر عن بناء علاقات أخوة وتعاون حقيقية ثابتة ومتوازنة مع سوريا، إلى الإنهيار الشامل في القيم والأخلاق الناظمة للحياة السياسية وللعلاقات داخل إطار النخب السياسية الحاكمة (وقد إنضمت إليها مؤخراً أزمة الأحزاب العقائدية كالشيوعي والقومي وحزب الله والجماعة الإسلامية).
إن ذلك كله، مضافاً إليه حالة الشعور بالغبن والظلم في الشارع المسيحي، قد أسس ويؤسس لشعور وطني عارم بالفراغ السياسي وبالإحباط واليأس، يضاعف منه ويفاقمه مفاعيل الأزمة الإقتصادية الإجتماعية مما يخلق حالة جفاء بين فئات واسعة من المواطنين وبين الدولة ومؤسساتها.. وما لم تعالج الشكوى من الخلل في التوازن السياسي في السلطة وفي إدارة الشؤون العامة، وما لم يتم التوافق الحقيقي على شؤون الحكم، والمصالحة الحقيقية، وطي صفحة الماضي بكل ما يعنيه ذلك (ولنا في مبادرات الزعيم وليد جنبلاط خير النماذج الوطنية) وما لم يتم الإعتراف بحق الآخرين في التعبير عن ذاتهم وعن مشاعرهم، وبضرورة تمثيل الجميع في حكومة وطنية سياسية تستطيع وضع استراتيجية إنقاذ حقيقية.
ما لم يتم ذلك فإن مجمل الإنجازات التي حققتها جمهورية ما بعد الطائف ستبقى على أهميتها قاصرة عن تأمين ضرورات صيانة العيش المشترك وبناء الدولة.
والحال أن المطلوب اليوم بلورة تضامن وطني حقيقي، جامع غير اختزالي، في إطار حوار صريح وواقعي، وإطلاق لغة سياسية جديدة وثقافة سياسية جديدة، من أجل المستقبل، وإلا فسلام على لبنان وعلى المستقبل.. نعم هكذا بكل وضوح!
وليتحمل الجميع مسؤولياتهم!
المستقبل 24 و 25 أيلول 2000
بقلم سعود المولى
تتميّز الأصوليات، القديمة، والحديثة، العلمانية كما الدينية، في إدعائها تمثيل الحقيقة المطلقة التي لا يأتيها الباطل لا من خلف ولا من قدام، ولا تعتريها النسبية أو تتأثر بأي عوامل، والتي تصدر عن ذات مفارقة للزمان والمكان، جوهر أزلي أبدي، يحمل تارة إسم الأمة أو الكنيسة أو المذهب، وأطواراً كثيرة إسم الديمقراطية والحوار والتعددية.
وفي قاموس هذه الأصوليات أن الحوار وسيلة للإقناع طالما أن الحقيقة معروفة، وأن التعددية هي من مستلزمات الصورة العصرية طالما ظلت تحت سقف الغلبة، وأن الديمقراطية تحصيل حاصل بفعل العنوان الذي أحمله أنا.. فلو كنت أنتمي إلى هذا الحزب أو ذاك، أو أكتب في هذه الجريدة أو تلك، فأنا حتماً ديمقراطي، وأكثر من ذلك: فأنا حتماً وطني، والوطنية هنا تعني رأيي أنا في الوطن وقضاياه ومصيره.. وأنا أستطيع بالتالي توزيع صكوك الغفران وشهادات الوطنية على من يناسب عقلي وشكلي وأن أفرض أيضاً فهماً معيّناً وذوقاً محدداً كأطر عامة لا تقبل النقاش ينبغي أن تندرج الثقافة والسياسة تحت سقفها وكل ما يخالفها فهو رجس من عمل الشيطان، والشيطان هنا هو الآخر، المختلف، الذي لا يحمل نفس الفهم أو الذوق أو الفكر أو العقل أو الشكل.. وما أسهل فتاوى التخوين والتكفير وهي بالمناسبة ليست شأناً خاصاً برجال الدين، بل هي أكثر ما سادت وتسود في الأوساط "العلمانية والديمقراطية والوطنية".. (طبعاً مع حفظ الألقاب)..
والقول الفصل في مسألة الإختلاف والتعدد والحوار هو في النهاية للقوة والغلبة. فالحوار يخضع لمنطق القوة، أخوضه إذا كنت ضعيفاً لكسب الوقت ولزيادة القوة ولإضعاف الخصم وتضليله أي تحت عنوان "التمسكن" قبل "التمكّن".. فإذا ما تمكّنت وتغلبت فلا حوار ولا من يحزنون..
وقد أخوض الحوار إذا كنت قوياً متمكناً وذلك كنوع من الدعاية أو التبشير أو عرض البضاعة في السوق كي يتم تشكيل عقول الناس وأذواقها حسب ما أقول ووفق منطق ميزان القوى والغلبة فالناس على دين ملوكها، والناس عبيد الدنيا، والناس تنقاد لمن غلب.. (وهكذا.. وكلها أمثلة من تراثنا والديني منه تحديداً)
الحوار هنا إذن، وفي كل الأحوال، ليس مبدأ، وليس أصلاً ثابتاً، وليس قيمة، بل هو وسيلة وآلية ضمن إستراتيجية أعم هي إستراتيجية النفوذ والقوة..
والحقيقة أن الإسلام يرفض هذا المعنى، ويرفض الأصولية بالتالي، كشكل تعبير أو تنظيم، ويرفض الإستقواء والغلبة. ذلك أن الحكمة والمعرفة والحقيقة هي ضالة المؤمن، يأخذها أنّى وجدها، ولو في قلب كافر أو عقل مشكك، ولو في الصين أو الغرب.. وهي ملك للناس ينشدونها كدحاً وجهداً ساعين في مناكب الأرض يتأملون ويتعلمون، يراكمون التجارب ويستخلصـون الدروس، يتحاورون مـع النص ـ الكتاب، ومع الطبيعة ـ الكتـاب، ومع الإنسان ـ الكتاب، وفي سنّة التدافع، ﴿ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع﴾ ... أو ﴿لفسدت الأرض﴾ ... ﴿إدفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم﴾، بالحوار الحق القائم على العلم والمعرفة وعلى التضامن.. وعلى قبول الآخر كما هو، لا كما أريده أنا أو أتصوّره، لأن الحوار مكاشفة ومصارحة في حديث القلب والروح وليس تكاذباً ونفاقاً، ولا زغلاً ودجلاً، ولا تكتيكاً وتقيّة..
ولنا في رسول الله أفضل مثال وأسوة، وهو الذي لا ينطق عن الهوى، وهو ناقل الوحي، أي الحقيقة المطلقة، فإذا به يدعو مخالفيه والكافرين برسالته إلى كلمة سواء يقف فيها وإياهم على قدم المساواة.. (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) (قرآن كريم).
ولنا في سيرة الصحابة والأئمة أكثر من دليل ومثال.. ويكفي أن نردّد مقولة الإمام الشافعي رضوان الله عليه: (رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأيك خطأ يحتمل الصواب) وأن نستعيد القاعدة الذهبية لمجلة المنار وللشيخ رشيد رضا ومن بعده للشهيد الإمام حسن البنا وهي مأخوذة أيضاً من أئمة الفقه: (نعمل في ما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا البعض في ما نختلف فيه)..
ولن تكفي مقالة واحدة في هذه الصفحة لتعداد آداب الحوار والمجادلة بالتي هي أحسن ومعاني المحبة والعفو والإحسان والعدل ولو على الأقربين، والتي أرساها الإسلام في حياة البشر ليكون دين السماحة واليسر لا العصبية والعسر، دين العدل والمساواة لا القوة والغلبة، دين الوفاء بالعهود والصدق والإستقامة والأمانة لا مكان فيه لدجل أو نفاق أو تكاذب أو نكث أو ارتداد..
أسوق هذا الكلام، وربما نحتاج إلى الكثير غيره، ونحن نشهد ما نشهد اليوم من تقاصف بالبيانات والخطب والإجتماعات ومن تكذيب وتخوين وتكفير ومن توزيع لشهادات الوطنية والديمقراطية ومن حجب لصكوك الغفران أو إعطاء لمفاتيح الجنان.. وكاننا وبعد عشر سنوات على الطائف لم نتعلم شيئاً ولم نفقه أمراً..
ولقد سبق لي أن كتبت وفي هذه الصفحة بالذات مقالات كثيرة في ربيع هذا العام، وكلها تحدثت عن ضرورة العدل في سلوكنا وفي حياتنا السياسية وعن وجود خلل كبير في ممارستنا للسلطة وفي بنائنا للدولة والمجتمع بعد اتفاق الطائف وعن وجود شعور كبير بالغبن والظلم لدى قطاعات واسعة من المسيحيين، وعن وجود شعور بالغلبة والإستقواء لدى قطاعات من المسلمين، وعن ضرورة الحوار الوطني حول هذه الأمور وحول العلاقة مع سوريا ومع العرب ومع العالم.. وعن أمور كثيرة.. لا بل إن الوثيقة اليتيمة التي أصدرتها اللجنة الوطنية للحوار الإسلامي المسيحي والتي أمثل فيها المرجعية الشيعية إلى جانب إخواني ممثلي بقية المرجعيات، هذه الوثيقة الصادرة في 5 كانون الثاني 1995 تحدثت منذ ذلك الوقت عن هذه الأمور، وحملت تواقيع المرجعيات الروحية كافة، وهي دعت إلى تصحيح الخلل وإلى إقامة العدل والتوازن قبل إستحفال الأمور وتفاقم العواقب..
فكل إنسان عاقل مدرك، وكل غيور على الوطن، وكل عامل في سبيل الحوار والوحدة والتضامن، كان يدرك أن الظلم والغبن لا بد أن يولدا صرخة وصرخات، وتحركات.. ولقد سبق أن خبرنا ذلك حين صدور "النداء الخير" عن سينودوس الأساقفة الكاثوليك المنعقد في الفاتيكان من 26 تشرين الثاني إلى 14 كانون الأول 1995.. فكيف نستهجن إذن ونستغرب ما صدر أخيراً في نداء إجتماع المطارنة الموارنة؟ (وهو نداء وليس بياناً أي أنه يستعيد نفس صيغة النداء الأخير هادفاً إلى طرح الصوت وإعلان الصرخة التي يأتي بعدها البيان الشافي كما حصل مع الإرشاد الرسولي).
ما أن يصدر كلام مسيحي حتى نسارع إلى إصدار كلام مسلم مضاد له.. ما أن يتحدث أحد قادة الموارنة حتى نسارع إلى فتح ملف التكفير والهجرة..
عشر سنوات والكنيسة والشارع المسيحي يشكوان ويشتكيان ونحن نقول لهما أننا نفهم الشكوى ونوافق على أن المطلوب تصحيح الخلل وإعادة التوازن ولكن فليتم ذلك تحت سقف الدولة ومن خلال المؤسسات.. عشر سنوات مضت فإذا بنا نحن نقول علناً جهاراً أن الدولة ليست دولة، وإن المؤسسات غير موجودة.. وإن القضاء ليس قضاءً، بل هو أقدار مرسومة. ثم جاءت انتخابات الألفين وقلنا نحن المسلمين فيها ما لم يقله مالك في الخمر، وكانت ثورة شعبية عفوية أطاحت بكل الخطوط الحمر والصفر، في بيروت والبقاع والجنوب والجبل.. وتبلورت المواقف في إكتساح جماهيري درزي وسني وشيعي حول رموز وقيادات من طينة الحريري وبري وجنبلاط.. وصفقنا لذلك باعتباره الدليل الأمثل على الخيار الشعبي.. فلماذا نصم الآذان ونغلق العيون إذن عن رؤية ما تبلور في الشارع المسيحي؟ لماذا نريد أن نفرض رموزاً مهترئة على الشارع المسيحي الذي رفض هذه الرموز ونبذها وأسقطها في الإنتخابات رغم مقاطعته الكبيرة لها؟ لماذا نصفق لوليد جنبلاط حين يتحدث عن الوجود السوري ونرجم المطارنة بأقذع السباب حين يقولون بضرورة العلاقات المميزة والمتوازنة مع سوريا؟ لم يتحدث نداء المطارنة بغير اللغة التي تحدث بها كل النواب والوزراء ممن أجمعوا على القول بأن قانون الإنتخابات كان فاسداً وظالماً ومعيباً. ولم يرد في النداء أي مقطع أو جملة لم يتكررا خلال الأسابيع الماضية في كل وسائل الإعلام المسموع والمقروء والمرئي وعلى ألسنة كل السياسيين معارضين وموالين.
ولقد سبق لي أن كتبت أنا شخصياً بان الحكمة الخفية في قانون الإنتخابات كانت الإمعان في تشتيت وإضعاف المسيحيين، وفي تهميش السنة وشق الدروز.. كان الرد العفوي الطبيعي إكتساحاً جماهيرياً سنياً لم يسبق له مثيل متحالفاً مع وحدة درزية صلبة حول الزعيم جنبلاط وهي وحدة لطالما حصلت في الأوقات الصعبة حين يدق ناقوس الخطر على الطائفة، ومتقاطعاً مع وحدة شيعية "مقدسة".
ألم يكن طبيعياً والحال هذه أن ينتفض الجسم المسيحي ويعيد تركيب أعضائه فيطرح من داخله ما لصق عليه خلال السنوات العشر الماضية ويعاقب من ادعى تمثيله والنطق بإسمه؟ أليس غريباً أن نرتد على هذا الوضع المسيحي ونتهمه بالإحتماء بسقف أميركي ـ إسرائيلي نعلم يقيناً أنه غير موجود وإذا كان موجوداً ففي غير هذا المكان؟ وإذا كانت أميركا تريد الضغط على سوريا عبر تحريك ورقة الإنسحاب من لبنان، أفليس صحيحاً أن هذا الضغط يهدف إلى تقديم سوريا تنازلات على جبهة التسوية في الجولان مقابل السكوت عن وجودها في لبنان؟ ألا يعرف المسيحيون ذلك؟
أعتقد انهم يعرفون ويدركون ومن هنا قولهم وقولنا معهم أن مصلحة سوريا ولبنان هي في التكامل وفي النهوض معاً وفي العلاقات الصحيحة المعافاة المتوازنة التي تحمي أمن البلدين وتصون مصالح الشعبين وتحقق سيادة واستقرار الدولتين.
إن ما حدث في الأيام الأخيرة، من إستنفار إسلامي و "وطني علماني" ضد البطريرك صفير ونداء المطارنة، لا يبشّر بالخير، وهو إساءة كبيرة إلى الحوار وإلى السلم الأهلي والمصالحة الوطنية..
أولاً: لأن ما قاله النداء هو ما قاله ويقوله كل الناس، ومن دون إستثناء، اللهم إلا شلة المستفدين الناهبين مصاصي الدماء.
ثانياً: لأن النداء جاء في لغة معتدلة وحوارية وطرح التعاون والتوازن على المستوى الداخلي كما على مستوى العلاقة مع سوريا.
ثالثاُ: لأننا كنا قد صرعنا الآذان حديثاً عن المصالحة الشاملة وعن الحكومة الوفاقية السياسية الممثلة للجميع.. فماذا قصدنا بالمصالحة وبالوفاق وبالتمثيل الشامل؟ هل كان ذلك شعارات استهلاكية؟ أم أننا لا نعرف ماذا نقول؟
رابعاً: لأنه لم يعد مقبولاً وتحت أي ذريعة استمرار سجن جعجع ونفي عون.
خامساً: لأن التكفير والتخوين واستحضار تهم العمالة لأميركا وإسرائيل أصبحت كاريكاتوراً مضحكاً مبكياً خاصة حين تصدر عمن صدرت عنهم.
سادساً: لأن أول أسس الحوار هو أن نسمع رأي الآخر وأن نعرف ماذا يقول وكيف يفكّر، لا أن نفرض عليه رأياً وتفكيراً نمطياً ولغة خشبية جامدة لم تعد تصلح حتى في الجنائز والأعراس.
سابعاً: لأننا نحترم أنفسنا ونحترم مواثيقنا وعهودنا، ونحترم دستورنا وهو القائل "لا شرعية لأية سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك".
ثامناً: لأننا نحترم مرجعياتنا الروحية، صمام أمان الوحدة الوطنية، ونحترم كلامها الذي ينم عن روح المسؤولية الوطنية العامة، ولا نحتكم إلى نقيق الضفادع، التي دمرت الوطن خلال الفتنة ثم أصبحت اليوم توزع علينا شهادات الوطنية والديمقراطية.
تاسعاً: لأننا نريد لسوريا الخير والتقدم، ونريد للعرب العز والسؤدد، فإننا نقول صديقك من صَدَقك.. لا من صدّقك.. ولا خير في صديق لا يقول لك عيوبك، ولا خير في علاقة تقوم على الدسائس والتكاذب وعلى تبديل البندقية لحظة إنقلاب موازين القوى.. ونحن نعرف من التجربة أن المدافعين اليوم عن سوريا (نفاقاً وتزلقاً) هم الذين أنجزوا إخراج سوريا من لبنان عام 1983، والذين وقّعوا اتفاق القاهرة هم أنفسهم ألغوه ووقعوا 17 أيار ثم ألغوه ووقعوا غيره.
عاشراً: لأن الحوار ينطلق من الإعتراف بالإختلاف، وبالآخر شريكاً مختلفاً، وبحق الآخر بهذا الإختلاف وباحترام هذا الحق، وبالبحث معه عن الشراكة لا القطعية، وعن التآلف لا التنابذ، وعن إكتشاف مساحات مشتركة لتطويرها والإنطلاق منها لصياغة رؤية ونظر مشتركين إلى الأمور (كما فعل اتفاق الطائف) وذلك عكس الدعوة إلى الإستيعاب أو الإلغاء أو تذويب الآخر أو الطلب منه مغادرة مواقعه الطبيعية كشرط لقبوله.. فالحوار هو توليد لشراكة حقيقية قائمة على المعرفة وعلى الإحترام وعلى الإختلاف ولذا فإن أصعب خطواته هو حوار الذات، ونقد الذات، ومساءلتها.
حادي عشر: إن المؤسسات القائدة للمجتمع الأهلي (المرجعيات) هي، حسب ما صدر في بيان للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى بتاريخ 25 أيلول 1975: "أعمدة حضارية للوطن ولربط حاضره بماضيه ومستقبله وبالتالي فإنها مسؤولة عن صيانة المعالم الحضارية للطوائف وللبلاد وليست أطراً طائفية رجعية كما يريد أن يصورها البعض. وإذا كانت السلطات هي المسؤولة عن إدارة العلاقات العامة بين المواطنين وتنظيمها، فإن هذه المؤسسات ـ المرجعيات تصون المحتوى وتحفظ الوحدة الوطنية والترابط بين الأجيال"، وهي كانت على الدوام ضمير الوطن وذاكرة العيش المشترك وحاملة لواء الوطن الواحد والدولة الجامعة.
ثاني عشر: ينبغي أن نضع خطاً واضحاً بين القوى التي حاربت مشروع الدولة، ثم إستفادت منه وأكلته وشربت خيره، وبين القوى والمقامات التي حملت مشروع الدولة وحضنته ودفعت الثمن في سبيل ذلك، ولم تنل منه أي إعتراف بالجميل ولا نالت منه أي خير، لأنها رأت عن صواب أن الخير هو للوطن وللمجتمع.. إن للوفاق وللوحدة الوطنية وللسلم اللأهلي آباء حقيقيين معروفين ولا يستطيع آباء "الفرصة السانحة" أو الأنابيب الإصطناعية أن يغيروا حقائق علم الوراثة.
ختاماً، فإن مسيرة السلم الأهلي والمصالحة وبناء الدولة ومؤسساتها قد إنتكست وتراجعت وهي تعاني من ثغرات أساسية ونقاط خلل فاضحة، اعترف بها الجميع، وليس أقلها ذلك الإلتباس في ممارسة السلطات بين الرئاسات الثلاث، وعدم وجود القضاء كسلطة دستورية مستقلة توازن السلطتين الإشتراعية والإجرائية وتضمن وتصون الحريات العامة والخاصة، وعدم وجود قانون إنتخابات شرعي وعادل (من المثير للسخرية أن يعترف الرئيسان الحص وبري بمعارضتهما لقانونهما للإنتخابات من دون أن يقولا لنا كيف مر هذا القانون اللقيط في مجلس الوزراء والنواب).. وعدم إنجاز إصلاح إداري حقيقي بل تفاقم الفساد وسوء الإدارة، وعدم حصول أي إنماء متوازن خصوصاً في البقاع الشمالي وعكار والضنية، والعجز المستمر عن بناء علاقات أخوة وتعاون حقيقية ثابتة ومتوازنة مع سوريا، إلى الإنهيار الشامل في القيم والأخلاق الناظمة للحياة السياسية وللعلاقات داخل إطار النخب السياسية الحاكمة (وقد إنضمت إليها مؤخراً أزمة الأحزاب العقائدية كالشيوعي والقومي وحزب الله والجماعة الإسلامية).
إن ذلك كله، مضافاً إليه حالة الشعور بالغبن والظلم في الشارع المسيحي، قد أسس ويؤسس لشعور وطني عارم بالفراغ السياسي وبالإحباط واليأس، يضاعف منه ويفاقمه مفاعيل الأزمة الإقتصادية الإجتماعية مما يخلق حالة جفاء بين فئات واسعة من المواطنين وبين الدولة ومؤسساتها.. وما لم تعالج الشكوى من الخلل في التوازن السياسي في السلطة وفي إدارة الشؤون العامة، وما لم يتم التوافق الحقيقي على شؤون الحكم، والمصالحة الحقيقية، وطي صفحة الماضي بكل ما يعنيه ذلك (ولنا في مبادرات الزعيم وليد جنبلاط خير النماذج الوطنية) وما لم يتم الإعتراف بحق الآخرين في التعبير عن ذاتهم وعن مشاعرهم، وبضرورة تمثيل الجميع في حكومة وطنية سياسية تستطيع وضع استراتيجية إنقاذ حقيقية.
ما لم يتم ذلك فإن مجمل الإنجازات التي حققتها جمهورية ما بعد الطائف ستبقى على أهميتها قاصرة عن تأمين ضرورات صيانة العيش المشترك وبناء الدولة.
والحال أن المطلوب اليوم بلورة تضامن وطني حقيقي، جامع غير اختزالي، في إطار حوار صريح وواقعي، وإطلاق لغة سياسية جديدة وثقافة سياسية جديدة، من أجل المستقبل، وإلا فسلام على لبنان وعلى المستقبل.. نعم هكذا بكل وضوح!
وليتحمل الجميع مسؤولياتهم!
آل المولى... صلابة لبنان
آل المولى... صلابة لبنان
جريدة البلد في 23 آب 2009-
علي حلاوي
alihalawi@albaladonline.com
واحـــــــدة مــــن الـــعـــائـــلات اللبنانية "أباً عن جد"، اتخذت من قساوة أرض البقاع وبعلبك- الهرمل مقراً لاقامتها. فحجزت لها مقعداً ثابتاً وفاعلاً في الــوقــت ذاتـــه ضــمــن شريحة الــعــائــلات العريقة فــي هذا الوطن. تعلمت من ارض البقاع كيف لا تسكت على ظلم ومذلة، فــحــارب ابــنــاؤهــا الاحــتــلالات المختلفة من الفرنسي وصولاً الى الاسرائيلي، قدمت ابناﺀها شهداﺀها ليعيشوا بعد ذلك في عز الانــتــصــار... انهم "آل المولى".
كما كان لآل المولى الحظ الواسع في مشاركتهم في فتح البلدان، بعد انطلاقتهم من شبه الجزيرة العربية، كان لهم النصيب الاكبر من نيل العلم والثقافة في لبنان، حيث لا تدخل منزلا من منازلهم الا وتجد بين ابنائهم رجــلا من رجـــالات العلم، بــل هناك منازل مأهولة بالمتعلمين، وقــد تبوأ العديد من ابنائهم مناصب هامة على مستوى الــوطــن ســواﺀ اكــان في مؤسسات الدولة ام مؤسسات المجتمع المدني ام المؤسسات الــديــنــيــة، نــذكــر منهم: محافظ النبطية القاضي محمود المولى، وعضو فريق الــحــوار الاســلامــي ـ المسيحي الدكتور سعود المولى، والــقــاضــي الشرعي علي المولى، والبطل اللبناني السابق الممثل محمد المولى، وشخصيات اخرى علمية وثقافية.
تحمل لفظة المولى في اللغة معاني عديدة منها: القريب والسيد والعبد. وقد عرف العرب نوعين من الموالي: العبيد، والامراﺀ فاما العبيد فهم من اصــول غير عربية. واما الامراﺀ فهم من اصول عربية والذين من ضمنهم آل المولى في لبنان كما اشرنا في بحثنا هذا وفقا لاهل الرواية المولوية. ومن المتعارف عليه، في علم الانساب، ان كبريات العائلات الاسلامية الشيعية في لبنان، تنتهي انسابها الى قبائل شبه الجزيرة العربية، ومنها: آل المولى، الذين وفدوا الى لبنان عبر محطات تاريخية متتالية، من خلال ما حصلنا عليه من معلومات من اهل الشأن لدى عائلة آل المولى.
بعد وفـــاة النبي محمد (ص)، عرفت الــدعــوة الاسلامية، مرحلة جديدة من انطلاقتها، هي مرحلة الفتوحات الاسلامية، حيث افتتح المسلمون في البداية، بلاد العراق، ثــم بـــلاد الـــشـــام، الــتــي كـــان من ضمنها لبنان، حيث انتقل الكثير من عرب الجزيرة، للعيش في البلاد المفتتحة، فــكــان مــن ضمنهم الكثير من آل المولى، فتنازعتهم بلدان ثلاثة للاقامة فيها. قسم اقام في العراق، وقسم آخر سكن ســوريــة وهــو الــيــوم مــن كبريات العشائر في سورية، حيث اتخذت هذه العشيرة من السنة مذهبا لها، اما الباقي فقد وصل لبنان واقام في بلاد جبيل، التي اتخذها الشيعة معقلا لهم آنذاك.
لو قرأنا تاريخ الشعوب لوجدنا معظمها، اما مهاجرا او مهجّرا او غازيا، لكن الشعب الرسالي، اينما حل يتخذ من ارضه الجديدة وطنا لــه، يبنيه ويــزرعــه ويــدافــع عنه، ويشارك اهله افراحهم واتراحهم، حتى يتفوق في المواطنية فيبلغ الدرجة الاولى والمقام الرفيع، وهذا ما ينطبق على عائلة آل المولى.
وفي بلاد جبيل، فلكثرة حبها العمل في الارض لاسيما في غابات اشجار السنديان التي تحمل حبا يسمى بلوط، لقبت هذه العائلة بـ (بلوط)، لكن قدر هذه العائلة ان تعيش الترحال، فجاﺀ ت فتن لبنان في اواخر القرن التاسع عشر لتدفع الكثير من ابناﺀ آل المولى، للانتقال الى البقاع الشمالي في قضاﺀ بعلبك، وآخرين للذهاب الى الجنوب ليكون لهم وطــن جديد داخل الوطن الجديد.
يتوزع آل المولى بين مناطق جبيل وقضاﺀ بعلبك الهرمل، حيث تستحوذ بلدة حربتا البقاعية على النسبة الكبيرة منهم، كما يقطنون بلدات بقاعية اخــرى كـ (صبوبا) و (زبود) و(اللبوة)، اما جنوبا فيسكنون مناطق عدة كحومين التحتا حيث يعرفون بآل بلوط.
لهذه العائلة صفحات مشرقة فــي الــتــاريــخ، فقد واجــه ابناؤها الانــتــداب الفرنسي وكانت لهم صــولات وجـــولات فــي البقاع وقد اودع العديد منهم في السجون الفرنسية فــي لبنان، كما عرف عن هذه العائلة حبها للكرم الذي ذاع صيته في لبنان وخارجه فقد اطعمت فرقة من الجيش الفرنسي كاملة من خيرات ضيعتها عندما ارادت هـــذه الــفــرقــة استباحة الضيعة (حربتا) بحثا عن مطلوبين فما كان من زعيمها الا دعوتهم الى تناول طعام الغداﺀ فعندها قال قائد الفرقة اتستطيعون انتم اطعام هــذا الجيش؟ فكان ذلك بالفعل، مفخرة تاريخية لهم تزين التاريخ اللبناني على مر العصور.
رغم تصنيف عائلة آل المولى في المجموعة العشائرية من حيث النسب، الا ان ابناﺀها لا يحبذون العمل في اطار عائلي او عشائري معين، لذا لا ترى اي وجود لجمعية عا ئلية معينة ا وحتى خير ية والسبب في ذلك توجههم للعمل فــي اطـــار جــمــاعــي واســـع يخدم المصلحة الوطنية اكثر وهــذا ما تمليه عليهم ثقافتهم الفكرية الواسعة التي اكتسبوها من خلال انتمائهم الى الاحزاب اللبنانية او مناصرتها او عملهم في اجهزة الدولة اللبنانية اضف الى ذلك ان ادبياتهم السياسية والاجتماعية والثقافية لا تعرف الا حب الآخر والعيش الواحد في الوطن ودعم المقاومة ومواجهة الظالمين بكل اشكالهم، وقــد نسجوا على هذا الاساس شبكة واسعة من العلاقات الاجتماعية في لبنان, والملفت في هذا السياق وجود علاقة مصاهرة قوية مع الكثير من العائلات على مستوى الوطن قد لاتجدها في اي عائلة اخرى.
هناك في لبنان من يحمل لقب المولى من العرب المجنسين ولانعلم حقيقة ما صلتهم بعائلة آل المولى.
يعود نسب آل المولى الى قبيلة بني عنيزة في شبه العربية، حيث بايع ثلاثة من امرائها الرسول محمد (ص) على ان يكون الاسلام دينا لهم ولقومهم. كما جاﺀ في كتاب (اصول الشيعة - اسماعيل بغدادي) وغيره من المراجع التاريخية الموثقة.
جريدة البلد في 23 آب 2009-
علي حلاوي
alihalawi@albaladonline.com
واحـــــــدة مــــن الـــعـــائـــلات اللبنانية "أباً عن جد"، اتخذت من قساوة أرض البقاع وبعلبك- الهرمل مقراً لاقامتها. فحجزت لها مقعداً ثابتاً وفاعلاً في الــوقــت ذاتـــه ضــمــن شريحة الــعــائــلات العريقة فــي هذا الوطن. تعلمت من ارض البقاع كيف لا تسكت على ظلم ومذلة، فــحــارب ابــنــاؤهــا الاحــتــلالات المختلفة من الفرنسي وصولاً الى الاسرائيلي، قدمت ابناﺀها شهداﺀها ليعيشوا بعد ذلك في عز الانــتــصــار... انهم "آل المولى".
كما كان لآل المولى الحظ الواسع في مشاركتهم في فتح البلدان، بعد انطلاقتهم من شبه الجزيرة العربية، كان لهم النصيب الاكبر من نيل العلم والثقافة في لبنان، حيث لا تدخل منزلا من منازلهم الا وتجد بين ابنائهم رجــلا من رجـــالات العلم، بــل هناك منازل مأهولة بالمتعلمين، وقــد تبوأ العديد من ابنائهم مناصب هامة على مستوى الــوطــن ســواﺀ اكــان في مؤسسات الدولة ام مؤسسات المجتمع المدني ام المؤسسات الــديــنــيــة، نــذكــر منهم: محافظ النبطية القاضي محمود المولى، وعضو فريق الــحــوار الاســلامــي ـ المسيحي الدكتور سعود المولى، والــقــاضــي الشرعي علي المولى، والبطل اللبناني السابق الممثل محمد المولى، وشخصيات اخرى علمية وثقافية.
تحمل لفظة المولى في اللغة معاني عديدة منها: القريب والسيد والعبد. وقد عرف العرب نوعين من الموالي: العبيد، والامراﺀ فاما العبيد فهم من اصــول غير عربية. واما الامراﺀ فهم من اصول عربية والذين من ضمنهم آل المولى في لبنان كما اشرنا في بحثنا هذا وفقا لاهل الرواية المولوية. ومن المتعارف عليه، في علم الانساب، ان كبريات العائلات الاسلامية الشيعية في لبنان، تنتهي انسابها الى قبائل شبه الجزيرة العربية، ومنها: آل المولى، الذين وفدوا الى لبنان عبر محطات تاريخية متتالية، من خلال ما حصلنا عليه من معلومات من اهل الشأن لدى عائلة آل المولى.
بعد وفـــاة النبي محمد (ص)، عرفت الــدعــوة الاسلامية، مرحلة جديدة من انطلاقتها، هي مرحلة الفتوحات الاسلامية، حيث افتتح المسلمون في البداية، بلاد العراق، ثــم بـــلاد الـــشـــام، الــتــي كـــان من ضمنها لبنان، حيث انتقل الكثير من عرب الجزيرة، للعيش في البلاد المفتتحة، فــكــان مــن ضمنهم الكثير من آل المولى، فتنازعتهم بلدان ثلاثة للاقامة فيها. قسم اقام في العراق، وقسم آخر سكن ســوريــة وهــو الــيــوم مــن كبريات العشائر في سورية، حيث اتخذت هذه العشيرة من السنة مذهبا لها، اما الباقي فقد وصل لبنان واقام في بلاد جبيل، التي اتخذها الشيعة معقلا لهم آنذاك.
لو قرأنا تاريخ الشعوب لوجدنا معظمها، اما مهاجرا او مهجّرا او غازيا، لكن الشعب الرسالي، اينما حل يتخذ من ارضه الجديدة وطنا لــه، يبنيه ويــزرعــه ويــدافــع عنه، ويشارك اهله افراحهم واتراحهم، حتى يتفوق في المواطنية فيبلغ الدرجة الاولى والمقام الرفيع، وهذا ما ينطبق على عائلة آل المولى.
وفي بلاد جبيل، فلكثرة حبها العمل في الارض لاسيما في غابات اشجار السنديان التي تحمل حبا يسمى بلوط، لقبت هذه العائلة بـ (بلوط)، لكن قدر هذه العائلة ان تعيش الترحال، فجاﺀ ت فتن لبنان في اواخر القرن التاسع عشر لتدفع الكثير من ابناﺀ آل المولى، للانتقال الى البقاع الشمالي في قضاﺀ بعلبك، وآخرين للذهاب الى الجنوب ليكون لهم وطــن جديد داخل الوطن الجديد.
يتوزع آل المولى بين مناطق جبيل وقضاﺀ بعلبك الهرمل، حيث تستحوذ بلدة حربتا البقاعية على النسبة الكبيرة منهم، كما يقطنون بلدات بقاعية اخــرى كـ (صبوبا) و (زبود) و(اللبوة)، اما جنوبا فيسكنون مناطق عدة كحومين التحتا حيث يعرفون بآل بلوط.
لهذه العائلة صفحات مشرقة فــي الــتــاريــخ، فقد واجــه ابناؤها الانــتــداب الفرنسي وكانت لهم صــولات وجـــولات فــي البقاع وقد اودع العديد منهم في السجون الفرنسية فــي لبنان، كما عرف عن هذه العائلة حبها للكرم الذي ذاع صيته في لبنان وخارجه فقد اطعمت فرقة من الجيش الفرنسي كاملة من خيرات ضيعتها عندما ارادت هـــذه الــفــرقــة استباحة الضيعة (حربتا) بحثا عن مطلوبين فما كان من زعيمها الا دعوتهم الى تناول طعام الغداﺀ فعندها قال قائد الفرقة اتستطيعون انتم اطعام هــذا الجيش؟ فكان ذلك بالفعل، مفخرة تاريخية لهم تزين التاريخ اللبناني على مر العصور.
رغم تصنيف عائلة آل المولى في المجموعة العشائرية من حيث النسب، الا ان ابناﺀها لا يحبذون العمل في اطار عائلي او عشائري معين، لذا لا ترى اي وجود لجمعية عا ئلية معينة ا وحتى خير ية والسبب في ذلك توجههم للعمل فــي اطـــار جــمــاعــي واســـع يخدم المصلحة الوطنية اكثر وهــذا ما تمليه عليهم ثقافتهم الفكرية الواسعة التي اكتسبوها من خلال انتمائهم الى الاحزاب اللبنانية او مناصرتها او عملهم في اجهزة الدولة اللبنانية اضف الى ذلك ان ادبياتهم السياسية والاجتماعية والثقافية لا تعرف الا حب الآخر والعيش الواحد في الوطن ودعم المقاومة ومواجهة الظالمين بكل اشكالهم، وقــد نسجوا على هذا الاساس شبكة واسعة من العلاقات الاجتماعية في لبنان, والملفت في هذا السياق وجود علاقة مصاهرة قوية مع الكثير من العائلات على مستوى الوطن قد لاتجدها في اي عائلة اخرى.
هناك في لبنان من يحمل لقب المولى من العرب المجنسين ولانعلم حقيقة ما صلتهم بعائلة آل المولى.
يعود نسب آل المولى الى قبيلة بني عنيزة في شبه العربية، حيث بايع ثلاثة من امرائها الرسول محمد (ص) على ان يكون الاسلام دينا لهم ولقومهم. كما جاﺀ في كتاب (اصول الشيعة - اسماعيل بغدادي) وغيره من المراجع التاريخية الموثقة.
الثلاثاء، 18 أغسطس 2009
ندى وأبطحي.. بين القتل المحترف والاعتراف المحرَّف
السيد هاني فحص
الثلثاء 18 آب (أغسطس) 2009
في حقيبة ذكرياتي صور لعدد من الشهداء الإيرانيين الذين سقطوا بالرصاص في مظاهرات الاحتجاج على الاستبداد والفساد، أو قضوا تحت التعذيب في سجن (إيوين) إياه، أو سجن (كهريزك) الذي أقفل قبل أيام، بعد الاكتشاف المتأخر جدا، من قبل أعلى هرم السلطة، بأنه تنقصه كل الشروط الإنسانية ليكون سجنا.. كان ذلك كله من فعل جهاز أمن الشاه (السافاك) الذي يلتبس في ذاكرتي وذاكرة الإيرانيين وفي لساني بـ(الموساد) وقد كانا رضيعي ثدي واحد، متعاونين ومتداخلين إلى الحد الذي يستدعي الالتباس ويفسره كذلك. شهداء أحياء وأحياء شهداء وخريجو أقبية معتمة، مرسومة في وجوههم وعلى ظهورهم وفي أعماقهم صور القتلة والخفافيش الكاسرة. (نواب صفوي والشيخ الغفاري والسيد سعيدي، ود.فاطمي وعلي شريعتي ومصطفى الخميني والسيد خامنئي والشيخ حسين علي منتظري وهاشمي رفسنجاني ومهدي كروبي والمهندس متيمي وعباس زماني الخ).
ومن بين هذه الصور صورة لخليل الوزير (أبو جهاد) مزينا بخمسين رصاصة، وصورة لمحمد الدرة الطفل الراشد لائذا بأبيه المذهول المذهل.. وصورة لفارس عودة الطفل وهو يعطب دبابة إسرائيلية بحجر فتقتله دبابة أخرى بقذيفة. ولياسر عرفات مبتسما تكاد ابتسامته تختزل وجهه المزموم ألما، صورة يظهر فيها من على سلم الطائرة ما تبقى من جسده العنيد الذاهب إلى شهادة لطالما انتظرها وانتظرته وتأخرت لأن القاتل تأخر عن موعده. إلى صورة محمد باقر الصدر ومرتضى مطهري ومفتح ومحمد منتظري ومحمد بهشتي وموسى الصدر ومنصور الكيخيا (ذهبا إلى ليبيا أولهما ضيفا والثاني كرها، ولم يرجعا حتى الآن). مع صورة جيفارا وفيكتور غارا وعمر المختار والمقدم عميروش وجول جمال الطيار السوري (المسيحي) بطل حرب السويس 1956، والمهدي بن بركة والقسام وعبد القادر الحسيني وجان دارك ودلال المغربي وبلال فحص وراغب حرب وعبد العزيز الرنتيسي. إلى آخر المنظومة المرجانية المنضدة في ضمائرنا وأحلامنا وحكايانا على خيط من حرير رفيق متين وناعم، طالع من شرنقة دؤوب.
الثاني عشر من يونيو (حزيران) يوافق في التقويم الإيراني الثاني والعشرين من شهر خرداد ذكرى بداية التصاعد في الثورة ضد نظام الشاه بقيادة الخميني، ويومها ارتكب النظام مجزرة في قم واعتقل الإمام الخميني ثم نفاه. في هذا اليوم من هذا العام صفعتني صورة الصبية الإيرانية الطهرانية (ندى سلطان آغا) مطروحة أرضا على إسفلت الشارع والدم يتدفق من فمها ويرسم على الوجه الجميل والأرض الساخنة خيوطا وخطوطا تحتاج إلى قراءة وتفسير عميق. كانت ندى عائدة من حصة الموسيقى في المعهد الفني صحبة والدها، تمر في المشهد فتجد نفسها فيه فتنضم إليه بسلام. غير أنها ماتت.
تندّيني وتناديني صورة ندى، تذكرني وتبكيني على الماضي والآتي معا.. على الدم النقي الجميل يدفق من فمها وأنفها وأنوفنا وقلوبنا. وأبوها الذاهل المذهول لا يستوعب من الهول ما يرى.. ولا أنا.
«يوم ترونَها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وترى الناس سكارى وما هم بسكارى».
هل يمكن لأبله، فضلا عن النبيه، أن يصدق أن موظف الـ (بي بي سي) هو الذي قتلها وبهذه السرعة بعدما استأجر قاطع طريق للمهمة؟ وقد سبق لجهاز أمن النظام السابق في بغداد أن أجبر الناس على الاعتقاد بأن الحسين قتل في حادث سير في شارع أبي نؤاس!
سأضع صورة ندى في حقيبتي وأصغي لندائها مع أول قطرة ندى تستقر على ورقة حبق أو دهنون أو وردة بين صخور جبل البرز المطل على طهران من الشمال، فيفوح العطر ويحتشد الرحيق. لا أريد أن أقتل أو أثأر أو أدعو إلى الثأر. كفانا ثارات تحذف مستقبلنا أو ترميه في أقبية الماضي.. وأدعو إلى السلام، إلى التسوية والتنازل الشجاع والشريف من أجل السلام. وأصغي لصوت ذلك الإيراني المكلوم قلبه وصوته يصرخ بالشرطي عشرات المرات بفارسية صريحة واضحة وجريحة، حتى بح صوته وتهدج، والشرطي يجلد والدته بالسوط والرجل يهيب به «بير زن نزن» لا تضرب العجوز. ولكن ضربها. ثم غابت الصورة ولم تغب.
كانت أوامر الجنرال (أويبسي) حاكم طهران العسكري بإطلاق النار على المظاهرات قبل أسابيع من انتصار الثورة في إيران في 11 (فبراير) شباط 1979 وراء المجزرة التي ذهب ضحيتها عشرات الشهداء ومئات الجرحى وعجلت بسقوط النظام. وسميت الساحة التي وقعت فيها المجزرة في جنوب طهران بالفارسية «ميدان هيفده شهريور» أي ساحة السابع عشر من شهر (شهريور) الإيراني. وقد أكد كثير من المطلعين وقتها أن (الموساد) شارك بعملية القتل مستخدما طوافات عسكرية إسرائيلية شوهدت في سماء المعركة.
كان اسم الميدان قبل المجزرة «ميدان جاله» أي الندى. وللندى في الفارسية اسم آخر هو «شب نما» أي علامة أو دليل الليل. سلام الندى يا ندى، يا علامة النهار. حسنا أنك لم تموتي بمرض السحايا برغم التكسير الطازج لأسنانك.. كما جرى للشابين اللذين دخلا سجن (كهريزك) صحيحي العقل والبدن، وخرجا جثتين.. هكذا بسهولة.
كل معارض أو إصلاحي في إيران ضد النظام والسلطة والشعب والثورة والإمام والدين والمذهب الخ، هو عميل وخائن لأنه غير صديق أو معاد لحماس وحزب الله وغير معجب بالدكتاتور (هوغو شافيز) أو (فيديل أو راؤول كاسترو) أو (دانيال أورتيغا) الذي عاد إلى السلطة في (نيكاراغوا) بالتفاهم مع واشنطن بعدما ذاقت (ماناغوا) الأمرّين من استبداد وفوضى الساندينيين، ويمكن دس السم له بالعسل، أو تمرير حبوب الهلوسة له مع الطعام أو الشراب، بعد العزل الطويل والجلد المتكرر والتحقيق المتواصل، ليسجل ويتلو ما يملى عليه من اعترافات مصممة مسبقا، ولكن لا أحد مهما كان ذكيا أو متذاكيا أو مستهترا بالحقوق والقوانين، يستطيع أن يفعل ذلك مع ندى لتعترف بأنها لم تمت، أو أن الـ (بي بي سي) هي التي أطلقت النار عليها من الكاميرا فأصابت قلبها!! ذلك لأن ندى ماتت. والدم المتدفق من قلبها وأحشائها على أرض طهران الدافئة والخصبة، وتزداد خصوبة بالدم الذكي والزكي، وثيقة دامغة بالغة وبليغة وفصيحة، لا يمكن إنكارها إلا مكابرة وكيدا.
أذكر أن شابا فلسطينيا لا يتعدى الثامنة عشرة من عمره، عام 1987، اعترف تحت التعذيب بأنه قتل السيد موسى الصدر، الذين كان قد أخفي في ليبيا عمدا قبل تسع سنوات، حيث كان عمر الفتى المعترف من أجل أن يعدَم ويستريح، تسع سنوات!
وقبل ذلك بسنتين اعترف آخر في لبنان، تحت ضغط أحد الأحزاب على جهاز أمن فلسطيني، بأنه قتل مواطنة قريبة من الحزب في قريته في جنوب لبنان، وعندما قابله أحد رجال الدين الكبار بثوب مدني أصر على ذلك، وعلى أنه نفذ أمرا إسرائيليا بالقتل، أي أنه عميل. وبعد ذلك خرج السيد وعاد إليه مرتديا جبته وعمامته، فبكى الشاب وقال له: عندما قتلت المرأة كنت في بيروت وهي في الجنوب وكان عمري وقتها أحد عشر عاما!!
وقد قرأنا أن صدام حسين نصح القذافي في السنوات الأولى لانقلابه، بعزل المعارضة والتفنن في تعذيبها إلى أن ينسى كل فرد منها اسمه، كما (فعلنا في العراق) ولم يقصر القذافي في العمل بهذه النصيحة كما هو معلوم. وقد ذكر لي صديق كبير أنه وقع في فخ إعلامي مريع وذهب إلى ليبيا مع زملائه لمقابلة العقيد، وقد جرجرهم الأمن أياما وجوعهم وعطشهم وسهَّرهم حتى فقدوا التركيز على أي شيء. أما هو فقد كان، كما قال لي: مستعدا من الإرهاق ومن أجل فنجان من القهوة أو الشعور بالأمان مع رجال الأمن المحدقين به وبأنفاسه، أن يقول إذا شاء رجل الأمن أن يقول، ويقسم بأن اسمه (خديجة) بدل (أحمد) مثلا. ولكن رأينا وسمعنا بسجناء رأي، من زمن الحجاج وحتى الآن، بعضهم عذب وبقيت آثار التعذيب في عقله وأعصابه وجسده، وبعضهم ترك عشرين سنة معزولا عن الدنيا من دون سؤال أو محاكمة، حتى فقد صوابه وذاكرته وقدرته على التمييز بين الخير والشر وبين رأس البطيخ وكرة الطاولة.
لقد استفزني وضع الصديق محمد علي أبطحي، وأعادني إلى ندى وأعاد إلى ذاكرتي كل الجروح البليغة التي ارتكبت وترتكب باسم الدين والوطن. وكأن الدين والوطن يقعان خارج الإنسانية وخارج أنظمة القيم والأخلاق العامة!!. استفزني عندما رأيته وقد كبر عشرين عاما في ستة أسابيع، وانخفض وزنه عشرين كيلوغراما، وكأنه كان في عهدة قصَّاب! أنا ممن يعرفون أبطحي، وأعلم يقينا بأنه بشر يمكن أن يفكر بأن يكون له رأي مختلف مع الأجهزة أو السلطة، وأنه كان يختلف أحيانا مع الرئيس محمد خاتمي وهو مستشاره ونائبه، ويمكن أن يفكر بالحياة الدنيا، وقد فكر بها الأنبياء والصالحون من عباد الله. ويمكن مساومته على ذلك لتبرئته أو إدانته تحت سقف القانون.
أما أن يملي عليه المحققون ما يقوله وبعد ستة أسابيع من العزل والتجويع والتعذيب والتركيز على أعصابه لإشعاره بالذنب والجريمة. وأن يكتب له بخطه ويوقع عنه بيده على اعترافات هزلية تناسب السلطات وتعسفاتها الهزيلة، فإن ذلك دليل دامغ على التزوير وبطلان الاعتراف وموجب لمحاكمة المرتكبين وإدانتهم، بعد التحقيق معهم طبعا.
ثم إن وجه أبطحي معروف دوليا والكل يتذكر علامات العافية والشباب في وجهه وعينيه وحركاته، فمن أين جاءه هذا الشحوب وهذا الذهول وهاتان العينان المطفأتان والنظرات الزائغة وهذا الهزال الشديد والفاضح في جسده!! ماذا جرى لمحمد علي بن السيد آية الله حسن أبطحي، الذي كان أساسيا وفاعلا في فريق الإمام الخميني، والذي أضرت به شجاعته وصراحته ونقده، بعد رحيل الخميني، فنزعت عمامته عقوبة ونفي كرها أو طوعا إلى مدينة مشهد ليعيش بين كتبه؟. أليس ما حدث لأبطحي يمكن أن يكون قد حدث للمسؤول والقائد التاريخي بهزاد بنوي وميردامادي ورفاقهما من القيادات اللاحقة والمضحية والمعروفة بالاستقامة والنظافة والثقافة؟
قياسا على ما حدث لأبطحي ولسعيد حجاريان المقعد جراء جريمة (ارتكبها في حقه موظف مرموق ثم انتحر أو مات في ظروف غامضة) لأن حجاريان صاحب رأي ورؤية، إلى حد أن يكتئب ويعتصم بالصمت ويحني حجاريان رأسه ويشيح بوجهه عن العالم، ويبكي بمرارة أمام زوجته التي صرخت من زكام في أنفها وقلبها وعقلها وروحها بسبب رائحته الكريهة المنبعثة من جسده المعلول، إهمالا وتشفيا وإصرارا على كسر الخاطر والإرادة.
ألا يجعلنا هذا نعيد النظر بما صدقناه من محاكمات وعقوبات وتشهيرات على آخرين وفي السنوات الأولى من عمر الثورة والدولة ومن وراء ظهر الإمام الخميني كما ثبت في كثير من الحالات وقد يثبت في حالات أخرى بقيت مستورة؟. إنه يذكرنا بعزت الله سحابي العالم الشريك في الثورة نضالا، والدولة مسؤولية، إلى جانب أبيه القائد العالم وزير العلوم في أول وزارة بعد الثورة الدكتور يد الله سحابي. يذكرنا به، عندما عبر عن رأيه وهو لا يملك إلا قوت يومه ولا سلاح لديه سوى قلمه، فكان منزله في سجن إيوين زنزانة واحدة كل ما فيها أبيض ناصع البياض. كان لباس السجن ولون النظارات أبيض وطبق الطعام أبيض والملعقة بيضاء والأرز أبيض ورغيف الخبز أبيض، ولا أسود إلا القلب ووجه لمحقق وسوط الجلاد، حتى فقد الرجل قدرته على التمييز بين الأسود والأبيض وبين الدين واللا دين وبين الثورة والثورة المضادة وبين الواقع والخيال وبين الحقيقة والوهم وبين الليل والنهار وبين الأمس واليوم وبين العدو والصديق وبين روحه وجسده وبين زوجته وسجانه!. وأتذكر أسد الله لاجوردي المدعي العام، وما كشفته اللجنة التي كلفها الإمام الخميني بالتحقيق في شأن السجون والسجناء من تعذيب وحشي وموت تحت التعذيب. لقد قتل لاجوردي لاحقا برصاصة من مسدس في يد شاب ما زال مجهولا، ولعله واحد ممن قتل لاجوردي آباءهم أو أشقاءهم من دون محاكمة، ويومها علق السيد علي أكبر محتشمي المختفي أو المتخفي الآن، وقال لي: إن لاجوردي المدعي العام كان يشتغل في دكان للخياطة وليس لديه أي مؤهل علمي. ولا يدري محتشمي كيف أن هذا الرجل تسلق، حتى أصبح مشرفا على الإذاعة والتلفزيون، وعندما وصلت تقارير عن سوء إدارته وجهالاته إلى الإمام كلف السيد محتشمي بالأمر، ولكن لاجوردي تجاهل ذلك واستمر في عمله مما اضطر محتشمي للاستقالة!
«قلتم لي: لا تدسس أنفك في ما يعني جارك/ لكني أسألكم أن تعطوني أنفي، وجهي في مرآتي مجدوع الأنف». هذا الشعر لصلاح عبد الصبور يحلو لي أن أكتبه في بداية أو نهاية كل مقالاتي عن الفوضى والخيبة. *
مفكر وكاتب لبناني عاصر الثورة الإيرانية وشارك في أحداثها منذ بدايتها
الثلثاء 18 آب (أغسطس) 2009
في حقيبة ذكرياتي صور لعدد من الشهداء الإيرانيين الذين سقطوا بالرصاص في مظاهرات الاحتجاج على الاستبداد والفساد، أو قضوا تحت التعذيب في سجن (إيوين) إياه، أو سجن (كهريزك) الذي أقفل قبل أيام، بعد الاكتشاف المتأخر جدا، من قبل أعلى هرم السلطة، بأنه تنقصه كل الشروط الإنسانية ليكون سجنا.. كان ذلك كله من فعل جهاز أمن الشاه (السافاك) الذي يلتبس في ذاكرتي وذاكرة الإيرانيين وفي لساني بـ(الموساد) وقد كانا رضيعي ثدي واحد، متعاونين ومتداخلين إلى الحد الذي يستدعي الالتباس ويفسره كذلك. شهداء أحياء وأحياء شهداء وخريجو أقبية معتمة، مرسومة في وجوههم وعلى ظهورهم وفي أعماقهم صور القتلة والخفافيش الكاسرة. (نواب صفوي والشيخ الغفاري والسيد سعيدي، ود.فاطمي وعلي شريعتي ومصطفى الخميني والسيد خامنئي والشيخ حسين علي منتظري وهاشمي رفسنجاني ومهدي كروبي والمهندس متيمي وعباس زماني الخ).
ومن بين هذه الصور صورة لخليل الوزير (أبو جهاد) مزينا بخمسين رصاصة، وصورة لمحمد الدرة الطفل الراشد لائذا بأبيه المذهول المذهل.. وصورة لفارس عودة الطفل وهو يعطب دبابة إسرائيلية بحجر فتقتله دبابة أخرى بقذيفة. ولياسر عرفات مبتسما تكاد ابتسامته تختزل وجهه المزموم ألما، صورة يظهر فيها من على سلم الطائرة ما تبقى من جسده العنيد الذاهب إلى شهادة لطالما انتظرها وانتظرته وتأخرت لأن القاتل تأخر عن موعده. إلى صورة محمد باقر الصدر ومرتضى مطهري ومفتح ومحمد منتظري ومحمد بهشتي وموسى الصدر ومنصور الكيخيا (ذهبا إلى ليبيا أولهما ضيفا والثاني كرها، ولم يرجعا حتى الآن). مع صورة جيفارا وفيكتور غارا وعمر المختار والمقدم عميروش وجول جمال الطيار السوري (المسيحي) بطل حرب السويس 1956، والمهدي بن بركة والقسام وعبد القادر الحسيني وجان دارك ودلال المغربي وبلال فحص وراغب حرب وعبد العزيز الرنتيسي. إلى آخر المنظومة المرجانية المنضدة في ضمائرنا وأحلامنا وحكايانا على خيط من حرير رفيق متين وناعم، طالع من شرنقة دؤوب.
الثاني عشر من يونيو (حزيران) يوافق في التقويم الإيراني الثاني والعشرين من شهر خرداد ذكرى بداية التصاعد في الثورة ضد نظام الشاه بقيادة الخميني، ويومها ارتكب النظام مجزرة في قم واعتقل الإمام الخميني ثم نفاه. في هذا اليوم من هذا العام صفعتني صورة الصبية الإيرانية الطهرانية (ندى سلطان آغا) مطروحة أرضا على إسفلت الشارع والدم يتدفق من فمها ويرسم على الوجه الجميل والأرض الساخنة خيوطا وخطوطا تحتاج إلى قراءة وتفسير عميق. كانت ندى عائدة من حصة الموسيقى في المعهد الفني صحبة والدها، تمر في المشهد فتجد نفسها فيه فتنضم إليه بسلام. غير أنها ماتت.
تندّيني وتناديني صورة ندى، تذكرني وتبكيني على الماضي والآتي معا.. على الدم النقي الجميل يدفق من فمها وأنفها وأنوفنا وقلوبنا. وأبوها الذاهل المذهول لا يستوعب من الهول ما يرى.. ولا أنا.
«يوم ترونَها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وترى الناس سكارى وما هم بسكارى».
هل يمكن لأبله، فضلا عن النبيه، أن يصدق أن موظف الـ (بي بي سي) هو الذي قتلها وبهذه السرعة بعدما استأجر قاطع طريق للمهمة؟ وقد سبق لجهاز أمن النظام السابق في بغداد أن أجبر الناس على الاعتقاد بأن الحسين قتل في حادث سير في شارع أبي نؤاس!
سأضع صورة ندى في حقيبتي وأصغي لندائها مع أول قطرة ندى تستقر على ورقة حبق أو دهنون أو وردة بين صخور جبل البرز المطل على طهران من الشمال، فيفوح العطر ويحتشد الرحيق. لا أريد أن أقتل أو أثأر أو أدعو إلى الثأر. كفانا ثارات تحذف مستقبلنا أو ترميه في أقبية الماضي.. وأدعو إلى السلام، إلى التسوية والتنازل الشجاع والشريف من أجل السلام. وأصغي لصوت ذلك الإيراني المكلوم قلبه وصوته يصرخ بالشرطي عشرات المرات بفارسية صريحة واضحة وجريحة، حتى بح صوته وتهدج، والشرطي يجلد والدته بالسوط والرجل يهيب به «بير زن نزن» لا تضرب العجوز. ولكن ضربها. ثم غابت الصورة ولم تغب.
كانت أوامر الجنرال (أويبسي) حاكم طهران العسكري بإطلاق النار على المظاهرات قبل أسابيع من انتصار الثورة في إيران في 11 (فبراير) شباط 1979 وراء المجزرة التي ذهب ضحيتها عشرات الشهداء ومئات الجرحى وعجلت بسقوط النظام. وسميت الساحة التي وقعت فيها المجزرة في جنوب طهران بالفارسية «ميدان هيفده شهريور» أي ساحة السابع عشر من شهر (شهريور) الإيراني. وقد أكد كثير من المطلعين وقتها أن (الموساد) شارك بعملية القتل مستخدما طوافات عسكرية إسرائيلية شوهدت في سماء المعركة.
كان اسم الميدان قبل المجزرة «ميدان جاله» أي الندى. وللندى في الفارسية اسم آخر هو «شب نما» أي علامة أو دليل الليل. سلام الندى يا ندى، يا علامة النهار. حسنا أنك لم تموتي بمرض السحايا برغم التكسير الطازج لأسنانك.. كما جرى للشابين اللذين دخلا سجن (كهريزك) صحيحي العقل والبدن، وخرجا جثتين.. هكذا بسهولة.
كل معارض أو إصلاحي في إيران ضد النظام والسلطة والشعب والثورة والإمام والدين والمذهب الخ، هو عميل وخائن لأنه غير صديق أو معاد لحماس وحزب الله وغير معجب بالدكتاتور (هوغو شافيز) أو (فيديل أو راؤول كاسترو) أو (دانيال أورتيغا) الذي عاد إلى السلطة في (نيكاراغوا) بالتفاهم مع واشنطن بعدما ذاقت (ماناغوا) الأمرّين من استبداد وفوضى الساندينيين، ويمكن دس السم له بالعسل، أو تمرير حبوب الهلوسة له مع الطعام أو الشراب، بعد العزل الطويل والجلد المتكرر والتحقيق المتواصل، ليسجل ويتلو ما يملى عليه من اعترافات مصممة مسبقا، ولكن لا أحد مهما كان ذكيا أو متذاكيا أو مستهترا بالحقوق والقوانين، يستطيع أن يفعل ذلك مع ندى لتعترف بأنها لم تمت، أو أن الـ (بي بي سي) هي التي أطلقت النار عليها من الكاميرا فأصابت قلبها!! ذلك لأن ندى ماتت. والدم المتدفق من قلبها وأحشائها على أرض طهران الدافئة والخصبة، وتزداد خصوبة بالدم الذكي والزكي، وثيقة دامغة بالغة وبليغة وفصيحة، لا يمكن إنكارها إلا مكابرة وكيدا.
أذكر أن شابا فلسطينيا لا يتعدى الثامنة عشرة من عمره، عام 1987، اعترف تحت التعذيب بأنه قتل السيد موسى الصدر، الذين كان قد أخفي في ليبيا عمدا قبل تسع سنوات، حيث كان عمر الفتى المعترف من أجل أن يعدَم ويستريح، تسع سنوات!
وقبل ذلك بسنتين اعترف آخر في لبنان، تحت ضغط أحد الأحزاب على جهاز أمن فلسطيني، بأنه قتل مواطنة قريبة من الحزب في قريته في جنوب لبنان، وعندما قابله أحد رجال الدين الكبار بثوب مدني أصر على ذلك، وعلى أنه نفذ أمرا إسرائيليا بالقتل، أي أنه عميل. وبعد ذلك خرج السيد وعاد إليه مرتديا جبته وعمامته، فبكى الشاب وقال له: عندما قتلت المرأة كنت في بيروت وهي في الجنوب وكان عمري وقتها أحد عشر عاما!!
وقد قرأنا أن صدام حسين نصح القذافي في السنوات الأولى لانقلابه، بعزل المعارضة والتفنن في تعذيبها إلى أن ينسى كل فرد منها اسمه، كما (فعلنا في العراق) ولم يقصر القذافي في العمل بهذه النصيحة كما هو معلوم. وقد ذكر لي صديق كبير أنه وقع في فخ إعلامي مريع وذهب إلى ليبيا مع زملائه لمقابلة العقيد، وقد جرجرهم الأمن أياما وجوعهم وعطشهم وسهَّرهم حتى فقدوا التركيز على أي شيء. أما هو فقد كان، كما قال لي: مستعدا من الإرهاق ومن أجل فنجان من القهوة أو الشعور بالأمان مع رجال الأمن المحدقين به وبأنفاسه، أن يقول إذا شاء رجل الأمن أن يقول، ويقسم بأن اسمه (خديجة) بدل (أحمد) مثلا. ولكن رأينا وسمعنا بسجناء رأي، من زمن الحجاج وحتى الآن، بعضهم عذب وبقيت آثار التعذيب في عقله وأعصابه وجسده، وبعضهم ترك عشرين سنة معزولا عن الدنيا من دون سؤال أو محاكمة، حتى فقد صوابه وذاكرته وقدرته على التمييز بين الخير والشر وبين رأس البطيخ وكرة الطاولة.
لقد استفزني وضع الصديق محمد علي أبطحي، وأعادني إلى ندى وأعاد إلى ذاكرتي كل الجروح البليغة التي ارتكبت وترتكب باسم الدين والوطن. وكأن الدين والوطن يقعان خارج الإنسانية وخارج أنظمة القيم والأخلاق العامة!!. استفزني عندما رأيته وقد كبر عشرين عاما في ستة أسابيع، وانخفض وزنه عشرين كيلوغراما، وكأنه كان في عهدة قصَّاب! أنا ممن يعرفون أبطحي، وأعلم يقينا بأنه بشر يمكن أن يفكر بأن يكون له رأي مختلف مع الأجهزة أو السلطة، وأنه كان يختلف أحيانا مع الرئيس محمد خاتمي وهو مستشاره ونائبه، ويمكن أن يفكر بالحياة الدنيا، وقد فكر بها الأنبياء والصالحون من عباد الله. ويمكن مساومته على ذلك لتبرئته أو إدانته تحت سقف القانون.
أما أن يملي عليه المحققون ما يقوله وبعد ستة أسابيع من العزل والتجويع والتعذيب والتركيز على أعصابه لإشعاره بالذنب والجريمة. وأن يكتب له بخطه ويوقع عنه بيده على اعترافات هزلية تناسب السلطات وتعسفاتها الهزيلة، فإن ذلك دليل دامغ على التزوير وبطلان الاعتراف وموجب لمحاكمة المرتكبين وإدانتهم، بعد التحقيق معهم طبعا.
ثم إن وجه أبطحي معروف دوليا والكل يتذكر علامات العافية والشباب في وجهه وعينيه وحركاته، فمن أين جاءه هذا الشحوب وهذا الذهول وهاتان العينان المطفأتان والنظرات الزائغة وهذا الهزال الشديد والفاضح في جسده!! ماذا جرى لمحمد علي بن السيد آية الله حسن أبطحي، الذي كان أساسيا وفاعلا في فريق الإمام الخميني، والذي أضرت به شجاعته وصراحته ونقده، بعد رحيل الخميني، فنزعت عمامته عقوبة ونفي كرها أو طوعا إلى مدينة مشهد ليعيش بين كتبه؟. أليس ما حدث لأبطحي يمكن أن يكون قد حدث للمسؤول والقائد التاريخي بهزاد بنوي وميردامادي ورفاقهما من القيادات اللاحقة والمضحية والمعروفة بالاستقامة والنظافة والثقافة؟
قياسا على ما حدث لأبطحي ولسعيد حجاريان المقعد جراء جريمة (ارتكبها في حقه موظف مرموق ثم انتحر أو مات في ظروف غامضة) لأن حجاريان صاحب رأي ورؤية، إلى حد أن يكتئب ويعتصم بالصمت ويحني حجاريان رأسه ويشيح بوجهه عن العالم، ويبكي بمرارة أمام زوجته التي صرخت من زكام في أنفها وقلبها وعقلها وروحها بسبب رائحته الكريهة المنبعثة من جسده المعلول، إهمالا وتشفيا وإصرارا على كسر الخاطر والإرادة.
ألا يجعلنا هذا نعيد النظر بما صدقناه من محاكمات وعقوبات وتشهيرات على آخرين وفي السنوات الأولى من عمر الثورة والدولة ومن وراء ظهر الإمام الخميني كما ثبت في كثير من الحالات وقد يثبت في حالات أخرى بقيت مستورة؟. إنه يذكرنا بعزت الله سحابي العالم الشريك في الثورة نضالا، والدولة مسؤولية، إلى جانب أبيه القائد العالم وزير العلوم في أول وزارة بعد الثورة الدكتور يد الله سحابي. يذكرنا به، عندما عبر عن رأيه وهو لا يملك إلا قوت يومه ولا سلاح لديه سوى قلمه، فكان منزله في سجن إيوين زنزانة واحدة كل ما فيها أبيض ناصع البياض. كان لباس السجن ولون النظارات أبيض وطبق الطعام أبيض والملعقة بيضاء والأرز أبيض ورغيف الخبز أبيض، ولا أسود إلا القلب ووجه لمحقق وسوط الجلاد، حتى فقد الرجل قدرته على التمييز بين الأسود والأبيض وبين الدين واللا دين وبين الثورة والثورة المضادة وبين الواقع والخيال وبين الحقيقة والوهم وبين الليل والنهار وبين الأمس واليوم وبين العدو والصديق وبين روحه وجسده وبين زوجته وسجانه!. وأتذكر أسد الله لاجوردي المدعي العام، وما كشفته اللجنة التي كلفها الإمام الخميني بالتحقيق في شأن السجون والسجناء من تعذيب وحشي وموت تحت التعذيب. لقد قتل لاجوردي لاحقا برصاصة من مسدس في يد شاب ما زال مجهولا، ولعله واحد ممن قتل لاجوردي آباءهم أو أشقاءهم من دون محاكمة، ويومها علق السيد علي أكبر محتشمي المختفي أو المتخفي الآن، وقال لي: إن لاجوردي المدعي العام كان يشتغل في دكان للخياطة وليس لديه أي مؤهل علمي. ولا يدري محتشمي كيف أن هذا الرجل تسلق، حتى أصبح مشرفا على الإذاعة والتلفزيون، وعندما وصلت تقارير عن سوء إدارته وجهالاته إلى الإمام كلف السيد محتشمي بالأمر، ولكن لاجوردي تجاهل ذلك واستمر في عمله مما اضطر محتشمي للاستقالة!
«قلتم لي: لا تدسس أنفك في ما يعني جارك/ لكني أسألكم أن تعطوني أنفي، وجهي في مرآتي مجدوع الأنف». هذا الشعر لصلاح عبد الصبور يحلو لي أن أكتبه في بداية أو نهاية كل مقالاتي عن الفوضى والخيبة. *
مفكر وكاتب لبناني عاصر الثورة الإيرانية وشارك في أحداثها منذ بدايتها
هكذا تكلم آية الله صانعي
كيف يمكن لرجل الدين أن يكون ضد الشعب؟
يفخر آية الله صانعي بكلام للإمام الخميني عنه مفاده: "لقد ربّيته كما ربّيت إبني". ولكنه يدعو رجال الدين في الحديث التالي للذهاب إلى طهران وغيرها للمشاركة في الإحتجاجات كما فعل هو أثناء ثورة الخميني ضد الشاه! وهو يتساءل: "رجل الدين الذي يقف ضد الشعب، كيف يمكنه أن يفعل ذلك في حين أن الشعب وقف دائماً مع رجال الدين؟ .. من الذي دبّر شؤون رجال الدين عبر التاريخ؟ إنه الشعب. كانوا يأخذون اللقمة من أفواه زوجاتهم وأولادهم، ويعطونني إياها لكي آكل أنا"!
وقد سبق لأية الله صانعي، الذي شارك في وضع دستور الجمهورية الإسلامية ومؤسساتها الأساسية، أن تميّز في فتاواه التي ترفض التمييز بين المرأة والرجل وبين المسلم وغير المسلم: "كيف تقول ان الإسلام هو دين العدل إذا كانت شريعته تعتبر النساء وغير المسلمين اقل من المسلمين الذكور؟ المرأة والرجل، كلاهما إنسان، وفي الإسلام كل البشر من جوهر متساو"!
• إذهبوا وادرسوا حياة "الإمام" (الخميني). ولا تصدّقوا ما يتفوّه به المخادعون والكاذبون.
• أنظروا لما حلّ بأصدقاء "الإمام" الخميني. معظمهم قد استُشهدوا. والقلة الذين ظلوا على قيد الحياة موجودون الآن في السجون لأنهم يريدون تغيير النظام. هل هذا قابل للتصديق؟ هل تصدّقون ذلك. إن هؤلاء الأعزّاء أشخاص متديّنون ومخلصون. كيف يمكن أن يحدث ذلك؟ لقد عرفت السيد موسوي منذ 25 سنة. وأنا أعرف عائلته، وأعرف والده، وأعرف كل واحدة من خصوصيات حياته. هل أراد (موسوي) أن يجلب الفوضى إلى البلاد؟ هل أراد موسوي أن يدفع تلمتس لكي يموتوا في الشارع مضرّجين بدمائهم؟ هل خطّط موسوي لغزو بيوت الناس؟ هل خطّط لتدمير المخازن والمصارف؟ هل خطط لهم لكي يصعدوا إلى السطوح ويصوّبوا رؤوسهم على قلوب الناس؟
• ينبغي أن أقول لكم أنه، في هذا النظام، فإن "ميرحسين موسوي" إما أنه شخص لا مثيل له، أو لا مثيل له تقريباً، من حيث إخلاصه للدين وللبلاد. لم أكن أرغب أن أقول مثل هذا الكلام، ولكنني مضطر لهذا الكلام لأنني شخص عاطفي. وحينما كان مشاركاً في السياسات العليا، ثم حينما خرج منها لاحقاً، فإنه كان يحرص دوماً على تأدية "الخُمس" و"الزكاة". وهو لم يكن يفعل ذلك بدافع الخداع والمكر. وفي أي حال، فهو لا يستطيع أن يخدعني. فأنا أنتمي إلى عائلة "أخوند" (أي عائلة "ملات"، وحسب التقليد الفارسي، فالمرء لا يستطيع أن يخدع رجل الدين). وكان دائماً يأتي ويعطيني المبلغ ثم يغادر بسيارته "البيكان"، وكل زارني كان يعطيني درساً في السياسة.
إقرأوا كلام الإمام علي: التعذيب غير مسموح والإعتراف تحت "التجريد" غير مسموح
• أيها المشايخ الأعزاء، أنتم تقرأون العربية. إقرأوا النصوص. ليس مسموحاً لأحد أن يعذّب المساجين. وحتى لو حُكِمَ على مجرم بعقوبة ما بموجب القانون، فليس مسموحاً لنا أن نعاقبه إذا كان مريضاً. إقرأوا كلام الإمام علي. لقد قال الإمام علي أن السجين الخاضع للأسر، أو للتعذيب والأذى، والمحروم من الصلة بالعالم الخارجي، لا يمكن أن يُرغَم على الإعتراف. التعذيب غير مسموح. الإعتراف تحت "التجريد" غير مسموح.
• أنا هنا اليوم لكي أحذّركم من المخاطر، ولكي أقترح حلولاً لتفاديها..
• لقد قلت لأحد المسؤولين الذي جاء لزيارتي نيابةً عن مسؤول كبير جداً، قلت له: عليكم بإلغاء نتائج الإنتخابات. قوموا بتنظيم إنتخابات جديدة. لن تقع السماء. هذه عقدة يسهل حلّها. العقدة التي يمكن أن نحلّها بأيدينا، لا داعي لأن نحلّها بأسناننا. ولكنه أجابني: كلا، لم يحصل تزوير. فقلت له: لم يحصل تزوير، حسناً. هذا يذكّرني بقصة رجل قال لرجل آخر: سأعطيك 70 سبباً لإقناعك بأنه لا يوجد ماء في البركة. فقال له الآخر: وأنا سأعطيك سبباً واحداً لأقنعك بأن هنالك ماء في البركة، ثم أمسك بالرجل الأول ورماه في الماء. لقد تصرّفوا بطريقة بالغة السوء إلى درجة أنه حتى إلغاء نتيجة الإنتخابات لن يجديهم نفعاً.
إنهم يشعرون بالذعر من الموتي ومن المقابر. ما الذي تخشونه؟
• أنا أستغرب ما حصل، وأجد نفسي مذهولاً وعاجزاً عن الكلام. إعملوا لزيادة معارفكم، ووعيكم، ومعرفتكم بالآخرين. ذلك هو السبب في أن الطغاة يخشون أدنى بادرة وعي لدى الناس. إنهم يخافون من شخصين يتناقشان في ما بينهما. بل إنهم يخافون من المقابر. يا هؤلاء، لماذا تخافون حتى المقابر؟ هل هنالك بنوك في المقابر، أم هل هنالك مخازن تخشون أن تحترق؟ هذه الحالة لن تجد حلاً عبر الخوف. الناس يريدون أن يزوروا (مقابر) أحبائهم الذين سقطوا، أتركوهم يزورونها. ماذا يُفتَرَض بهم أن يفعلوا. إن كل ما يقولونه هو: "شكراً لكم لأنكم ثقبتهم قلب إبني، لأنكم أطلقوا رصاصة في قلبه، والآن إسمحوا لي على الأقل أن أصلّى على ضريح شهيدي". في الزمن القديم، كانوا يستخدمون القتلى لزيادة شعبيتهم. وحينما كانوا يرغبون في إظهار عَظَمة قبيلتهم وشعبيتها، فإنهم كانوا يعدّون عدد قتلاها. أذكر في العهد القديم، حينما كانت الحكومة تعطي بطاقات تموين، فإن العائلات كانت تستخدم شهادات ميلاد موتاها لتحصل على المزيد. ولكننا لم نشهد يوماً ما صرنا نشهده الآن: إنهم يشعرون بالذعر من الموتي ومن المقابر. ما الذي تخشونه؟
• عليكم أن تذكّروا الناس بحقوقهم، واعلموا أن ما يحدث في أيامنا هذه لم يسبق له مثيل لجهة الحقد الذي يخلقه في صدور الناس تجاه بعض مسؤوليهم. طبعاً، إن بعض هؤلاء الناس، بعض هؤلاء المسؤولين، سيقولون أن الأمور ليست على هذا النحو. كل واحد منا يقول ما يعتقد به. وأنا أقول أن هؤلاء المحتجين يبلغ عددهم 13 مليوناً حسب تقديراتكم أنتم. طبعاً، الناس تقول أن الرقم 13 هو رقم نحس، ولهذا السبب فقد اختاروا هذا الرقم (إشارة للتزوير). ولكن ذلك ليس صحيحاً، إن رقم 13 ليس رقم نحس، تلك مجرد خرافات.
على رجال الدين أن يشاركوا في الإحتجاجات
• تذكّروا شيئاً واحداً: إذهبوا إلى أي مكان يسمح لكم بتحقيق غاياتكم، ولا تذهبوا إلى مكان لا يسمح لكم بتحقيق غاياتكم، فالأفضل لكم في هذه الحالة أن تبقوا في بيوتكم. أذكر أنني كنت أذهب إلى طهران من قم، حينما كنت طالباً، للمشاركة في الإحتجاجات. وكان أصدقاء "الإمام" (الخميني) يحرصون على تحديد المكان الذي سيذهبون إليه والذي سيفيد دعوة "الإمام". والآن، عليكم أنتم أن تفعلوا الشيء نفسه. عليكم أن تعرفوا أين يجب أن تكونوا لكي تحققوا أهدافكم. إذهبوا إلى هناك وشاركوا (هذا الكلام يعني أن آية الله العظمى صانعي يحث أتباعه على التواجد حيثما يمكنهم أن يشاركوا في الإحتجاجات..).
• أهم شيء هو أن نعرف وأن نجد جذور مشاكلنا. عليكم أن تجلسوا وأن تقرأوا، وأن تجدوا جذور هذه المعضلات.
• إعلموا أن ذلك كله هو لعبة. كل ذلك لعبة. لعبة القصد منها زيادة سلطة ونفوذ بعض الأفراد. كل الأنباء التي تصلكم بأنهم طلبوا إقالة شخص، أو تعيين شخص آخر، هذه كلها ألاعيب، هذه كلها للتسلية.
• الويل لأمة لا تكون أخبارها اليومية هي أخبار آلامها وعذاباتها (يقصد أن أخباراً من نوع تعيين "مشائي" نائباً لنجاد ثم إقالته هي لمجرّد إلهاء الناس عن التركيز على آلامهم). الألم، اليوم، هو عذاب السجين الذي يحتفظ به الطغاة كرهينة. الألم هو الإعترافات القسرية. الألم هو أنه يُحظر على الناس أن يجلسوا على مقابر أحبائهم لكي يتلوا الصلاة. الألم هو السعي لإطلاق سراح السجناء. هذا ما ينبغي أن نركّز عليه.
• الحمد لله لأنه ليس لنا صلة بالآثام التي تُرتّكب (بمعنى أن آية الله صانعي ليست له صلة بحكومة إيران). التعذيب، والأسر، والقتل... واحدة فقط من هذه الآثام تكفي لكي تظل في نار جهنّم مدى الدهر. (وبعد تلاوة آية، يقول): إن قتل شخص ليس كقتل حركة. إنكم تقتلوا حركة، وتعظّمون غيرها. هذا كله سيودي بكم إلى الجحيم.
• رجل الدين الذي يقف ضد الشعب، كيف يمكنه أن يفعل ذلك في حين أن الشعب وقف دائماً مع رجال الدين؟ الذين لا يتبعون الناس سيرون نتائج أعمالهم. من الذي دبّر شؤون رجال الدين عبر التاريخ؟ إنه الشعب. كانوا يأخذون اللقمة من أفواه زوجاتهم وأولادهم، ويعطونني إياها لكي آكل أنا.
• "إنهم" يقولون: لماذا حطّمتم وحدتنا؟ لماذا خلقتم النزاع؟ حسناً، هنالك دائماً وأبداً نزاع بين المظلومين وظالميهم! وهنا يروي آية الله صانعي قصة رواها له آية الله بروجردي عن بعض الكتابات التي اضطر لحذفها من كتابه لأن "المتطرّفين" ضغطوا عليه وقالوا له أن الإسلام الشيعي سيتضرّر من جرائها، ويقول: لن يلحق الدمار بالإسلام الشيعي لذلك السبب. سيلحق الدمار بالإسلام الشيعي حينما يقول بعض الناس أن رجال الدين لصوص (يقصد "أحمدي نجاد" بهذا الكلام). ذلك ما سيؤدي إلى إلغاء الإسلام الشيعي. حينما يعتقد الناس أن رجال الدين لصوص، وأن أبناء رجال الدين لصوص دأبوا على السرقة منذ ثلاثين عاماً. وبالطبع، فقد تم إرسال الأموال إلى تركيا، وهم ينفون ذلك. لا أعلم. لا يحق لأحد أن يتهم أحداً بالسرقة أمام 200 مليون إنسان، كما تعلمون، في ليلة النقاشات (على التلفزيون) كان 200 مليون شخص في أنحاء العالم يشاهدون النقاشات بين المرشحين. من الذي أعطاهم الحق في اتهام شخص بالسرقة بدون دليل؟ نعم، إن بعض الناس في هذا النظام قد سرقوا، إذهبوا وحققوا في الأمر. ولكن الدين يفرض عقوبة قصوى على من يغتاب الناس.
• نحن مسؤولون عن عدم التعويل على وسائط الإعلام التي تكذب. سواءً كان جريدة تكذب، أو إذاعة تكذب، أو تلفزيون يكذب، أو رجل دين مثلي يجلس على هذا المقعد ويكذب، علينا ألا ننصت لما يقوله. إن الإنصات إلى وسائط الإعلام التي تكذب هو ضد القرآن. والكذب لا يحدث فقط حينما تكون وسائط الإعلام تابعة للغرب. إن أحداً لم يقل أنه يحقّ لجريدة أن تكذب إذا كانت تزعم إنها إسلامية أو تزعم أنها تؤيد الإسلام. (كلام آية الله صانعي يتّفق مع أسلوب الحركة الإصلاحية في إيران التي تقاطع التلفزيون الرسمي، وتدعو الناس لمقاطعة الشركات التي تضع إعلانات لمنتجاتها على التلفزيون الرسمي
يفخر آية الله صانعي بكلام للإمام الخميني عنه مفاده: "لقد ربّيته كما ربّيت إبني". ولكنه يدعو رجال الدين في الحديث التالي للذهاب إلى طهران وغيرها للمشاركة في الإحتجاجات كما فعل هو أثناء ثورة الخميني ضد الشاه! وهو يتساءل: "رجل الدين الذي يقف ضد الشعب، كيف يمكنه أن يفعل ذلك في حين أن الشعب وقف دائماً مع رجال الدين؟ .. من الذي دبّر شؤون رجال الدين عبر التاريخ؟ إنه الشعب. كانوا يأخذون اللقمة من أفواه زوجاتهم وأولادهم، ويعطونني إياها لكي آكل أنا"!
وقد سبق لأية الله صانعي، الذي شارك في وضع دستور الجمهورية الإسلامية ومؤسساتها الأساسية، أن تميّز في فتاواه التي ترفض التمييز بين المرأة والرجل وبين المسلم وغير المسلم: "كيف تقول ان الإسلام هو دين العدل إذا كانت شريعته تعتبر النساء وغير المسلمين اقل من المسلمين الذكور؟ المرأة والرجل، كلاهما إنسان، وفي الإسلام كل البشر من جوهر متساو"!
• إذهبوا وادرسوا حياة "الإمام" (الخميني). ولا تصدّقوا ما يتفوّه به المخادعون والكاذبون.
• أنظروا لما حلّ بأصدقاء "الإمام" الخميني. معظمهم قد استُشهدوا. والقلة الذين ظلوا على قيد الحياة موجودون الآن في السجون لأنهم يريدون تغيير النظام. هل هذا قابل للتصديق؟ هل تصدّقون ذلك. إن هؤلاء الأعزّاء أشخاص متديّنون ومخلصون. كيف يمكن أن يحدث ذلك؟ لقد عرفت السيد موسوي منذ 25 سنة. وأنا أعرف عائلته، وأعرف والده، وأعرف كل واحدة من خصوصيات حياته. هل أراد (موسوي) أن يجلب الفوضى إلى البلاد؟ هل أراد موسوي أن يدفع تلمتس لكي يموتوا في الشارع مضرّجين بدمائهم؟ هل خطّط موسوي لغزو بيوت الناس؟ هل خطّط لتدمير المخازن والمصارف؟ هل خطط لهم لكي يصعدوا إلى السطوح ويصوّبوا رؤوسهم على قلوب الناس؟
• ينبغي أن أقول لكم أنه، في هذا النظام، فإن "ميرحسين موسوي" إما أنه شخص لا مثيل له، أو لا مثيل له تقريباً، من حيث إخلاصه للدين وللبلاد. لم أكن أرغب أن أقول مثل هذا الكلام، ولكنني مضطر لهذا الكلام لأنني شخص عاطفي. وحينما كان مشاركاً في السياسات العليا، ثم حينما خرج منها لاحقاً، فإنه كان يحرص دوماً على تأدية "الخُمس" و"الزكاة". وهو لم يكن يفعل ذلك بدافع الخداع والمكر. وفي أي حال، فهو لا يستطيع أن يخدعني. فأنا أنتمي إلى عائلة "أخوند" (أي عائلة "ملات"، وحسب التقليد الفارسي، فالمرء لا يستطيع أن يخدع رجل الدين). وكان دائماً يأتي ويعطيني المبلغ ثم يغادر بسيارته "البيكان"، وكل زارني كان يعطيني درساً في السياسة.
إقرأوا كلام الإمام علي: التعذيب غير مسموح والإعتراف تحت "التجريد" غير مسموح
• أيها المشايخ الأعزاء، أنتم تقرأون العربية. إقرأوا النصوص. ليس مسموحاً لأحد أن يعذّب المساجين. وحتى لو حُكِمَ على مجرم بعقوبة ما بموجب القانون، فليس مسموحاً لنا أن نعاقبه إذا كان مريضاً. إقرأوا كلام الإمام علي. لقد قال الإمام علي أن السجين الخاضع للأسر، أو للتعذيب والأذى، والمحروم من الصلة بالعالم الخارجي، لا يمكن أن يُرغَم على الإعتراف. التعذيب غير مسموح. الإعتراف تحت "التجريد" غير مسموح.
• أنا هنا اليوم لكي أحذّركم من المخاطر، ولكي أقترح حلولاً لتفاديها..
• لقد قلت لأحد المسؤولين الذي جاء لزيارتي نيابةً عن مسؤول كبير جداً، قلت له: عليكم بإلغاء نتائج الإنتخابات. قوموا بتنظيم إنتخابات جديدة. لن تقع السماء. هذه عقدة يسهل حلّها. العقدة التي يمكن أن نحلّها بأيدينا، لا داعي لأن نحلّها بأسناننا. ولكنه أجابني: كلا، لم يحصل تزوير. فقلت له: لم يحصل تزوير، حسناً. هذا يذكّرني بقصة رجل قال لرجل آخر: سأعطيك 70 سبباً لإقناعك بأنه لا يوجد ماء في البركة. فقال له الآخر: وأنا سأعطيك سبباً واحداً لأقنعك بأن هنالك ماء في البركة، ثم أمسك بالرجل الأول ورماه في الماء. لقد تصرّفوا بطريقة بالغة السوء إلى درجة أنه حتى إلغاء نتيجة الإنتخابات لن يجديهم نفعاً.
إنهم يشعرون بالذعر من الموتي ومن المقابر. ما الذي تخشونه؟
• أنا أستغرب ما حصل، وأجد نفسي مذهولاً وعاجزاً عن الكلام. إعملوا لزيادة معارفكم، ووعيكم، ومعرفتكم بالآخرين. ذلك هو السبب في أن الطغاة يخشون أدنى بادرة وعي لدى الناس. إنهم يخافون من شخصين يتناقشان في ما بينهما. بل إنهم يخافون من المقابر. يا هؤلاء، لماذا تخافون حتى المقابر؟ هل هنالك بنوك في المقابر، أم هل هنالك مخازن تخشون أن تحترق؟ هذه الحالة لن تجد حلاً عبر الخوف. الناس يريدون أن يزوروا (مقابر) أحبائهم الذين سقطوا، أتركوهم يزورونها. ماذا يُفتَرَض بهم أن يفعلوا. إن كل ما يقولونه هو: "شكراً لكم لأنكم ثقبتهم قلب إبني، لأنكم أطلقوا رصاصة في قلبه، والآن إسمحوا لي على الأقل أن أصلّى على ضريح شهيدي". في الزمن القديم، كانوا يستخدمون القتلى لزيادة شعبيتهم. وحينما كانوا يرغبون في إظهار عَظَمة قبيلتهم وشعبيتها، فإنهم كانوا يعدّون عدد قتلاها. أذكر في العهد القديم، حينما كانت الحكومة تعطي بطاقات تموين، فإن العائلات كانت تستخدم شهادات ميلاد موتاها لتحصل على المزيد. ولكننا لم نشهد يوماً ما صرنا نشهده الآن: إنهم يشعرون بالذعر من الموتي ومن المقابر. ما الذي تخشونه؟
• عليكم أن تذكّروا الناس بحقوقهم، واعلموا أن ما يحدث في أيامنا هذه لم يسبق له مثيل لجهة الحقد الذي يخلقه في صدور الناس تجاه بعض مسؤوليهم. طبعاً، إن بعض هؤلاء الناس، بعض هؤلاء المسؤولين، سيقولون أن الأمور ليست على هذا النحو. كل واحد منا يقول ما يعتقد به. وأنا أقول أن هؤلاء المحتجين يبلغ عددهم 13 مليوناً حسب تقديراتكم أنتم. طبعاً، الناس تقول أن الرقم 13 هو رقم نحس، ولهذا السبب فقد اختاروا هذا الرقم (إشارة للتزوير). ولكن ذلك ليس صحيحاً، إن رقم 13 ليس رقم نحس، تلك مجرد خرافات.
على رجال الدين أن يشاركوا في الإحتجاجات
• تذكّروا شيئاً واحداً: إذهبوا إلى أي مكان يسمح لكم بتحقيق غاياتكم، ولا تذهبوا إلى مكان لا يسمح لكم بتحقيق غاياتكم، فالأفضل لكم في هذه الحالة أن تبقوا في بيوتكم. أذكر أنني كنت أذهب إلى طهران من قم، حينما كنت طالباً، للمشاركة في الإحتجاجات. وكان أصدقاء "الإمام" (الخميني) يحرصون على تحديد المكان الذي سيذهبون إليه والذي سيفيد دعوة "الإمام". والآن، عليكم أنتم أن تفعلوا الشيء نفسه. عليكم أن تعرفوا أين يجب أن تكونوا لكي تحققوا أهدافكم. إذهبوا إلى هناك وشاركوا (هذا الكلام يعني أن آية الله العظمى صانعي يحث أتباعه على التواجد حيثما يمكنهم أن يشاركوا في الإحتجاجات..).
• أهم شيء هو أن نعرف وأن نجد جذور مشاكلنا. عليكم أن تجلسوا وأن تقرأوا، وأن تجدوا جذور هذه المعضلات.
• إعلموا أن ذلك كله هو لعبة. كل ذلك لعبة. لعبة القصد منها زيادة سلطة ونفوذ بعض الأفراد. كل الأنباء التي تصلكم بأنهم طلبوا إقالة شخص، أو تعيين شخص آخر، هذه كلها ألاعيب، هذه كلها للتسلية.
• الويل لأمة لا تكون أخبارها اليومية هي أخبار آلامها وعذاباتها (يقصد أن أخباراً من نوع تعيين "مشائي" نائباً لنجاد ثم إقالته هي لمجرّد إلهاء الناس عن التركيز على آلامهم). الألم، اليوم، هو عذاب السجين الذي يحتفظ به الطغاة كرهينة. الألم هو الإعترافات القسرية. الألم هو أنه يُحظر على الناس أن يجلسوا على مقابر أحبائهم لكي يتلوا الصلاة. الألم هو السعي لإطلاق سراح السجناء. هذا ما ينبغي أن نركّز عليه.
• الحمد لله لأنه ليس لنا صلة بالآثام التي تُرتّكب (بمعنى أن آية الله صانعي ليست له صلة بحكومة إيران). التعذيب، والأسر، والقتل... واحدة فقط من هذه الآثام تكفي لكي تظل في نار جهنّم مدى الدهر. (وبعد تلاوة آية، يقول): إن قتل شخص ليس كقتل حركة. إنكم تقتلوا حركة، وتعظّمون غيرها. هذا كله سيودي بكم إلى الجحيم.
• رجل الدين الذي يقف ضد الشعب، كيف يمكنه أن يفعل ذلك في حين أن الشعب وقف دائماً مع رجال الدين؟ الذين لا يتبعون الناس سيرون نتائج أعمالهم. من الذي دبّر شؤون رجال الدين عبر التاريخ؟ إنه الشعب. كانوا يأخذون اللقمة من أفواه زوجاتهم وأولادهم، ويعطونني إياها لكي آكل أنا.
• "إنهم" يقولون: لماذا حطّمتم وحدتنا؟ لماذا خلقتم النزاع؟ حسناً، هنالك دائماً وأبداً نزاع بين المظلومين وظالميهم! وهنا يروي آية الله صانعي قصة رواها له آية الله بروجردي عن بعض الكتابات التي اضطر لحذفها من كتابه لأن "المتطرّفين" ضغطوا عليه وقالوا له أن الإسلام الشيعي سيتضرّر من جرائها، ويقول: لن يلحق الدمار بالإسلام الشيعي لذلك السبب. سيلحق الدمار بالإسلام الشيعي حينما يقول بعض الناس أن رجال الدين لصوص (يقصد "أحمدي نجاد" بهذا الكلام). ذلك ما سيؤدي إلى إلغاء الإسلام الشيعي. حينما يعتقد الناس أن رجال الدين لصوص، وأن أبناء رجال الدين لصوص دأبوا على السرقة منذ ثلاثين عاماً. وبالطبع، فقد تم إرسال الأموال إلى تركيا، وهم ينفون ذلك. لا أعلم. لا يحق لأحد أن يتهم أحداً بالسرقة أمام 200 مليون إنسان، كما تعلمون، في ليلة النقاشات (على التلفزيون) كان 200 مليون شخص في أنحاء العالم يشاهدون النقاشات بين المرشحين. من الذي أعطاهم الحق في اتهام شخص بالسرقة بدون دليل؟ نعم، إن بعض الناس في هذا النظام قد سرقوا، إذهبوا وحققوا في الأمر. ولكن الدين يفرض عقوبة قصوى على من يغتاب الناس.
• نحن مسؤولون عن عدم التعويل على وسائط الإعلام التي تكذب. سواءً كان جريدة تكذب، أو إذاعة تكذب، أو تلفزيون يكذب، أو رجل دين مثلي يجلس على هذا المقعد ويكذب، علينا ألا ننصت لما يقوله. إن الإنصات إلى وسائط الإعلام التي تكذب هو ضد القرآن. والكذب لا يحدث فقط حينما تكون وسائط الإعلام تابعة للغرب. إن أحداً لم يقل أنه يحقّ لجريدة أن تكذب إذا كانت تزعم إنها إسلامية أو تزعم أنها تؤيد الإسلام. (كلام آية الله صانعي يتّفق مع أسلوب الحركة الإصلاحية في إيران التي تقاطع التلفزيون الرسمي، وتدعو الناس لمقاطعة الشركات التي تضع إعلانات لمنتجاتها على التلفزيون الرسمي
الاثنين، 17 أغسطس 2009
هل العراقيون يعشقون العنف ويكرهون السلام؟
لا يزال الدم العراقي ينزف بغزارة، وسقوط الضحايا الأبرياء يتواصل، وتفجير وتدمير دور العبادة من مساجد وحسينيات وكنائس والأسواق، وقتل المزيد من الشعب مستمر، على يد الإرهابيين والتكفيريين والمجرمين، الذين يحاولون إثارة الفتنة المذهبية والدينية والعرقية والقبلية، لإعادة العراق إلى الحكم الدكتاتوري الاستبدادي الدموي المظلم أو العيش في دوامة القتل والكراهية والحقد، وجعل الشعب العراقي حطبا لأعمال العنف والعدوان. بينما دول الجوار والأخوة العرب والمسلمون صامتون لا يحركون ساكنا اتجاه تلك التفجيرات التي تستهدف العراق وشعبه.
بلا شك ان العراق يعيش في ظل أزمات داخلية وخارجية كثيرة - كان الله بعون شعبه-، وأعظم أزمة ومصيبة يعاني منها العراق حاليا هي الفساد والاستغلال المنتشر في الدولة، وذلك بعدما تراجعت الأعمال الإرهابية وتحسن الوضع الأمني. ولكن كلما شهد العراق تحسنا نسبيا في مجال الأمن والامان والاستقرار، وعاد الشعب العراقي لممارسة حياته الطبيعية بالتعايش السلمي مع جميع الأطياف، وبرزت مظاهر الفرح والسرور؛ عاد الإرهابيون والمجرمون والتكفيريون لهوايتهم الحاقدة على الإنسانية بقتل الإنسان، كما حدث مؤخرا من أعمال تفجيرية لدور العبادة التي تسببت بقتل وإصابة المئات من المصلين الآمنين، واستهداف الحسينيات والمواكب والزوار في العديد من المناطق، واستهداف كل عراقي ينشد الأمن والسلام والاستقرار في جميع المناطق، وذلك في محاولة لإثارة النعرات الطائفية البغيضة والفتنة والحرب.
ولا يزال أعداء العراق والديمقراطية والسلام يمارسون جميع الأساليب القذرة الإجرامية، وتغذية كل ما يؤدي إلى الفتنة والحرب والقتل بين فئات الشعب العراقي من خلال التشكيك في كل عمل يعبر عن حالة التعايش السلمي والمحبة والسلام بين العراقيين.
لقد نشرت وسائل الإعلام العراقية خبرا عن عودة حالة الزواج بين أبناء المسلمين الشيعة والسنة كما كانت سابقا قبل دخول الإرهابيين والتكفيريين وأعداء الإنسانية، وسط تقبل وفرحة الشعب العراقي من جميع الأطياف بهذه الحالة المدعومة من قبل الدولة بدعم كل حالة زواج بـ 2000 دولار. فيما أعداء العراق في الداخل والخارج وأعداء التعايش وتقبل الطرف الآخر لم يتقبلوا تلك الروح الأخوية والمحبة وعودة روح الزواج بين أبناء المذاهب والطوائف. بل عبروا عن حقدهم الدفين واستيائهم الشديد والتشكيك في النوايا عن ذلك التقارب، لأن هولاء يريدون تمزيق العراق وشعبه من جميع الطوائف والمذاهب والقوميات والعروق، بعدما فشلت عمليات التفجير والتدمير والقتل والذبح والتهجير.
منذ سقوط نظام صدام في العراق، وأعداء الشعب العراقي والحرية والديمقراطية يحاولون بكل الأعمال والأفعال والأقوال، والأساليب الإجرامية لضرب وتشويه أي عمل ايجابي في العراق ومنها العملية الديمقراطية الحديثة العهد (المليئة بالأخطاء الكبيرة في ممارستها)، وقتل معنويات الشعب العراقي العاشقة للعدالة والحرية والسلام. والعمل على الترويج وتصوير الشعب العراقي بأنه شعب فوضوي لا يستحق أن يعيش في ظل الديمقراطية..، شعب غارق في الدموية يعشق العنف والقتل والتدمير والحرب والانتقام، شعب يكره الحياة والسلام، وأنه شعب اعتاد على الحكم الدكتاتوري الدموي، ولهذا لابد أن يحكمه نظام حديدي قمعي، ترضى عنه الدول المجاورة.. لا صوت فيه إلا لصوت النظام وأزلامه وأبواقه.
ورغم كل الدماء والعمليات التفجيرية والقتل كما حدث مؤخرا باستهداف المساجد والحسينيات وكذلك الكنائس والامنين في حملة عدوانية منسقة فان الشعب العراقي اثبت للجميع بأنه شعب يعشق السلام والاستقرار والامن والامان، بعدم الرد على تلك الأعمال بالانتقام بالمثل، ثم الدخول في فتنة داخلية طائفية تحرق الأخضر واليابس، بفضل وجود قيادات حكيمة رشيدة تدعم التعقل والاتزان وضبط النفس وعدم الرد بالمثل والانتقام.
حفظ الامن ومعاقبة المعتدين والمجرمين هي من مهمات الدولة، ولكن للاسف الحكومة العراقية ضعيفة وهذا الضعف استغل من قبل اعداء العراق لاثارة الفتنة، واصبح المواطن ضحية يدفع ثمن هذا الضعف.. ولكن اذا تخلت الحكومة عن دورها فمن سيدافع عن امن المواطن؟
وأخيرا؛ الا يستحق هذا الشعب وأبناء الطائفة التي تتعرض مساجدها وحسينياتها للتفجير وقتل عشرات المصلين، وسقوط المئات من الجرحى..، كلمة تضامن وإشادة بموقفها بضبط النفس وعدم الرد والانتقام، محبة للسلام والديمقراطية. يا أعداء العراق وأعداء الإنسانية وأعداء الحرية والتعددية الفكرية والدينية والمذهبية موتوا بغيظكم. فالعراق سيكون بلدا للحرية والديمقراطية والسلام.
علي آل غراش، السعودية
بلا شك ان العراق يعيش في ظل أزمات داخلية وخارجية كثيرة - كان الله بعون شعبه-، وأعظم أزمة ومصيبة يعاني منها العراق حاليا هي الفساد والاستغلال المنتشر في الدولة، وذلك بعدما تراجعت الأعمال الإرهابية وتحسن الوضع الأمني. ولكن كلما شهد العراق تحسنا نسبيا في مجال الأمن والامان والاستقرار، وعاد الشعب العراقي لممارسة حياته الطبيعية بالتعايش السلمي مع جميع الأطياف، وبرزت مظاهر الفرح والسرور؛ عاد الإرهابيون والمجرمون والتكفيريون لهوايتهم الحاقدة على الإنسانية بقتل الإنسان، كما حدث مؤخرا من أعمال تفجيرية لدور العبادة التي تسببت بقتل وإصابة المئات من المصلين الآمنين، واستهداف الحسينيات والمواكب والزوار في العديد من المناطق، واستهداف كل عراقي ينشد الأمن والسلام والاستقرار في جميع المناطق، وذلك في محاولة لإثارة النعرات الطائفية البغيضة والفتنة والحرب.
ولا يزال أعداء العراق والديمقراطية والسلام يمارسون جميع الأساليب القذرة الإجرامية، وتغذية كل ما يؤدي إلى الفتنة والحرب والقتل بين فئات الشعب العراقي من خلال التشكيك في كل عمل يعبر عن حالة التعايش السلمي والمحبة والسلام بين العراقيين.
لقد نشرت وسائل الإعلام العراقية خبرا عن عودة حالة الزواج بين أبناء المسلمين الشيعة والسنة كما كانت سابقا قبل دخول الإرهابيين والتكفيريين وأعداء الإنسانية، وسط تقبل وفرحة الشعب العراقي من جميع الأطياف بهذه الحالة المدعومة من قبل الدولة بدعم كل حالة زواج بـ 2000 دولار. فيما أعداء العراق في الداخل والخارج وأعداء التعايش وتقبل الطرف الآخر لم يتقبلوا تلك الروح الأخوية والمحبة وعودة روح الزواج بين أبناء المذاهب والطوائف. بل عبروا عن حقدهم الدفين واستيائهم الشديد والتشكيك في النوايا عن ذلك التقارب، لأن هولاء يريدون تمزيق العراق وشعبه من جميع الطوائف والمذاهب والقوميات والعروق، بعدما فشلت عمليات التفجير والتدمير والقتل والذبح والتهجير.
منذ سقوط نظام صدام في العراق، وأعداء الشعب العراقي والحرية والديمقراطية يحاولون بكل الأعمال والأفعال والأقوال، والأساليب الإجرامية لضرب وتشويه أي عمل ايجابي في العراق ومنها العملية الديمقراطية الحديثة العهد (المليئة بالأخطاء الكبيرة في ممارستها)، وقتل معنويات الشعب العراقي العاشقة للعدالة والحرية والسلام. والعمل على الترويج وتصوير الشعب العراقي بأنه شعب فوضوي لا يستحق أن يعيش في ظل الديمقراطية..، شعب غارق في الدموية يعشق العنف والقتل والتدمير والحرب والانتقام، شعب يكره الحياة والسلام، وأنه شعب اعتاد على الحكم الدكتاتوري الدموي، ولهذا لابد أن يحكمه نظام حديدي قمعي، ترضى عنه الدول المجاورة.. لا صوت فيه إلا لصوت النظام وأزلامه وأبواقه.
ورغم كل الدماء والعمليات التفجيرية والقتل كما حدث مؤخرا باستهداف المساجد والحسينيات وكذلك الكنائس والامنين في حملة عدوانية منسقة فان الشعب العراقي اثبت للجميع بأنه شعب يعشق السلام والاستقرار والامن والامان، بعدم الرد على تلك الأعمال بالانتقام بالمثل، ثم الدخول في فتنة داخلية طائفية تحرق الأخضر واليابس، بفضل وجود قيادات حكيمة رشيدة تدعم التعقل والاتزان وضبط النفس وعدم الرد بالمثل والانتقام.
حفظ الامن ومعاقبة المعتدين والمجرمين هي من مهمات الدولة، ولكن للاسف الحكومة العراقية ضعيفة وهذا الضعف استغل من قبل اعداء العراق لاثارة الفتنة، واصبح المواطن ضحية يدفع ثمن هذا الضعف.. ولكن اذا تخلت الحكومة عن دورها فمن سيدافع عن امن المواطن؟
وأخيرا؛ الا يستحق هذا الشعب وأبناء الطائفة التي تتعرض مساجدها وحسينياتها للتفجير وقتل عشرات المصلين، وسقوط المئات من الجرحى..، كلمة تضامن وإشادة بموقفها بضبط النفس وعدم الرد والانتقام، محبة للسلام والديمقراطية. يا أعداء العراق وأعداء الإنسانية وأعداء الحرية والتعددية الفكرية والدينية والمذهبية موتوا بغيظكم. فالعراق سيكون بلدا للحرية والديمقراطية والسلام.
علي آل غراش، السعودية
حزب الدعوة بين العراق ولبنان
لم يكن صدفة أن يحمل السيد موسى الصدر منذ عاد إلى لبنان تراث السيد عبد الحسين شرف الدين(أي التراث الوطني اللبناني المستند إلى عروبة حضارية لا لبس فيها ولا غبار عليها)، وان يتمايز عن أقرانه ورفاقه الذين أسسوا "حزب الدعوة" في النجف الأشرف ( ما بين عامي 1957 و1959 وهو تاريخ عودة الصدر إلى لبنان).. وهنا تاريخ مجهول لم يفتح أحد صفحاته بعد إلا أنه يستحق الاهتمام والدراسة كونه يلقي لنا ضوءاً كاشفاً على أمور ومواقف ما تزال تتردد أصداؤها إلى اليوم...
فالسيد صدر الدين الصدر (والد السيد موسى) قاد حركة دينية إصلاحية تقدمية وارتبط اسمه بالنهضة الأدبية والثقافية للنجف والعراق ومن ثم إيران التي هاجر إليها وتزوج فيها من السيدة صفيّة كريمة المرجع الديني السيد حسين القمّي..ومن خلال السيد القمي ارتبط السيد صدر الدين بكل اقطاب الحركة الاصلاحية التجديدية وخصوصاً المرجع الكبير المجدد الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي الذي عاونه الصدر في إدارة الحوزة الدينية في قم وصار لاحقاً أحد أركانها وساهم معه في إنشاء مؤسسات علمية ودينية واجتماعية وصحية.. وهذان المرجعان تتلمذا معا على الميرزا محمد حسن المعروف بالمجدد الشيرازي، وعلى الشيخ محمد تقي الشيرازي والشيخ محمد كاظم الخراساني وشيخ الشريعة الأصفهاني.. وهؤلاء لمن لا يعلم كانوا أركان التيار التجديدي الإصلاحي في الحوزات الشيعية وقادة الإصلاحية الدستورية في التاريخ الشيعي... كما أن السيد القمي لم يكن فقط صديق ورفيق درب المجدد الشيرازي بل هو رفيق وزميل المجدد النائيني (صاحب كتاب تنزيه الأمة وتنبيه الملة وأحد أكبر الدعاة إلى الحكم الشوروي الدستوري).. والى هذا التراث ينتسب السيد موسى الصدر... فهو درس في الحوزة العلمية بقم على أيدي أعلام التجديد والإصلاح الكبار.. كما انه كان أول معمم يدخل جامعة طهران الحديثة وكلية الحقوق فيها..وهذه نقطة ثانية مهمة لفهم العقل المنفتح والثقافة الواسعة التي ميزت الإمام الصدر عن أقرانه... وهو تخرّج من جامعة طهران الحديثة العلمانية وعاد إلى قم أستاذاً محاضراً في الفقه والمنطق ومؤسساً لأهم وأكبر مجلة إسلامية شيعية تنويرية إصلاحية ( مكتب إسلام ) مع الشهيد بهشتي والشيخ ناصر مكارم وبدعم وتوجيه من آية الله شريعتمداري..وهنا لا بد من الإشارة إلى أن رئاسة الحوزة الدينية في قم كانت معقودة للمجدد الكبير السيد البروجردي الذي لم يكن الإمام الخميني من أنصاره ومؤيديه بعكس الإمام محسن الحكيم والإمامين موسى الصدر ومحمد مهدي شمس الدين وهم كانوا من أنصار البروجردي. وفي ذلك يكتب الشيخ هاشمي رفسنجاني صراحة أنه "حدثت بعض المشكلات بين السيد الخميني وآية الله البروجردي... قامت منافسة بين نشرتنا "مكتب تشيع" وبين نشرة "مكتب إسلام" التي كان يديرها متقدمون علينا حوزوياً ومن أنصار شريعتمداري... لو أن الإمام الخميني في عصر السيد البروجردي تدخل في الصراعات السياسية لما نجح، لعدم الانسجام بينهما...في عصر البروجردي كانت الأكثرية المطلقة من الطلبة تابعة له...وكان هو المرجع المطلق في باكستان وأفغانستان والعراق والخليج.. وأسس دار التقريب بين المذاهب ومركز هامبورغ الاسلامي...الخ..."(كتاب رفسنجاني:حياتي.دارالساقي،بيروت،2005،ص32-33-36-38-39).
وقد انتقل السيد موسى الصدر إلى النجف بعد وفاة والده (1953) حيث لمع نجمه خلال فترة وجوده هناك (حتى العام 1959) أي في فترة توهج وسطوع نجم مرجعية السيد محسن الحكيم الذي احتضن الإمام الصدر كما احتضن علماً آخر من جيله هو الإمام شمس الدين... وكانت أول زيارة للسيد الصدر إلى لبنان العام 1955 (حيث تزوج من ابنة السيد عزيز الله خليلي).. وقد تميّزت مرحلة النجف التي شهدت زيارات متكررة إلى لبنان والى قم، بدراسته على كبار المراجع: أبو القاسم الخوئي، محسن الحكيم، محمد رضا آل ياسين.. وبإتمامه لمرحلة الدراسات العليا (بحث الخارج) واشتراكه في تأسيس جمعية منتدى النشر... وهنا زامل ورافق الإمام الصدر كبار النجف يوم ذاك: الشهيد محمد باقر الصدر(ابن عمه)، والسادة الشهداء مهدي ومحمد باقر الحكيم (ابني السيد محسن)، والشيخ الموسوي الاردبيلي والسيد موسى الشبيري الزنجاني والسيد مرتضى العسكري (أحد ابرز قادة حزب الدعوة) والشيخ محمد مهدي شمس الدين والسيد محمد حسين فضل الله وغيرهم.
إن انتماء الصدر إلى التيار الإصلاحي المجدد في إيران والعراق، ورفقته وزمالته لرموز الحركة الإسلامية الإيرانية المدنية (حركة تحرير إيران وقيادتها: آية الله طالقاني، د. مهدي بازركان، د. مصطفى شمران، د. علي شريعتي، د. إبراهيم يزدي... وهي حركة إصلاحية كبرى كانت استمرارا وتطويرا لحركة الرئيس مصدق وتيارها المسمى الجبهة الوطنية) وصلته أيضاً بالمرجع الكبير المعتدل والليبرالي آية الله كاظم شريعتمداري، كل ذلك جعله يفترق ومنذ البداية عن أترابه الذين شاركوا لاحقا في تأسيس حزب الدعوة...وكان العراق يشهد نهضة ثقافية وسياسية هائلة كان النجف مركزها والمراجع الكبار محورها... فمع السيد الخوئي والسيد محسن الحكيم وولديه مهدي ومحمد باقر، ومع الشيخين الأخوين محمد رضا ومرتضى آل ياسين(أخوال السيد محمد باقر الصدر)، والسيد محمد صادق الصدر(ابن عم السيد موسى وجد السيد مقتدى)، تشكلت حلقات الدراسة والتفكير ووضعت برامج الحركة والعمل بدءا بجمعية منتدى النشر وجماعة العلماء (ومجلتها الأضواء) ومرورا بمنظمة الشباب المسلم ومنظمة المسلمين العقائديين (وقائدهما عز الدين الجزائري) والحزب الجعفري (عبد الصاحب دخيل وحسن شبر ومحمد صادق القاموسي وقد صاروا لاحقاً من المؤسسين لحزب الدعوة)، ووصولا إلى حزب الدعوة... وكانت الأجواء العربية الملتهبة حافزا للطلبة والعلماء في النجف وكربلاء وبغداد وسامراء إلى البحث عن اطر مناسبة للتحرك الإسلامي الجاد يلبي احتياجات الشيعة العراقيين من جهة (وهم كانوا حرموا أية مشاركة في الحكم رغم ثوراتهم التاريخية ضد الاحتلال البريطاني)، ويواجه الاتجاهات الحديثة التي كانت تغزو بسرعة عقول وقلوب الشباب في مواجهة الملكية والاستعمار (المقصود الاتجاهات الليبرالية والقومية واليسارية والشيوعية منها تحديدا)... وهنا يجدر تسجيل حادثة مهمة كان لها الأثر الكبير في التحركات اللاحقة وهي مظاهرة النجف الكبرى دعما لمصر في مواجهة العدوان الثلاثي.. فقد شهد العراق مظاهرات صاخبة ودامية كان أعنفها وأكثرها تأثيرا مظاهرة النجف الأشرف التي قمعتها السلطة بوحشية رهيبة وتلاها إعلان الأحكام العرفية في البلاد... ورغم ذلك استمرت التظاهرات في النجف وأبرزها تلك التي خرجت يوم 23-11-1956 وشارك فيها علماء الدين وأسفرت عن مجزرة دموية ارتكبتها السلطة وراح ضحيتها عدد كبير من الأهالي (ذكرت مجلة العرفان اللبنانية إن عدد القتلى بلغ 450 الا ان العلامة الكبير الدكتور السيد محمد بحر العلوم أكد لي ان العدد لم يتجاوز اصابع اليد الواحدة في النجف)... وقد تلا ذلك بيان عنيف للمرجع الشيعي السيد الحكيم وإعلان الإضراب العام الشامل في النجف وهو إضراب تجاوب معه العراق كله وانضمت إليه مصر ولبنان وسوريا... والى تأثير هذه الحركة الجماهيرية في النجف، وتأثير حركة مصدق في إيران والتي أسقطتها المخابرات الأميركية، جاءت تجارب لبنان (ثورة 1958) والجزائر (انطلاق ثورة التحرير الوطني) وفلسطين (حركة فتح) لتضيف وعيا كبيرا إلى تحرك شباب الحوزات والطلبة والعلماء في النجف. كما بدا بوضوح تأثر النجفيين بالتجربة الإيرانية الشديدة الوطنية إلى حدود التعصب (وكلنا نعرف ذلك) كما بالتجربة الجزائرية والتجربة الفلسطينية الوليدة، وهما تجربتان وطنيتان صافيتان لا بل أنهما تشكلتا من رحم الاعتماد على الذات الوطنية وليس على المد العربي (تجربة الجزائر المتميزة بمزيج إسلامي – جزائري شديد الخصوصية و تجربة حركة فتح التي خرجت قياداتها من رحم الإخوان المسلمين وعلى أساس الوطنية الفلسطينية).. وقد عرف عن الإمام الصدر في تلك المرحلة تأثره الكبير بفرانز فانون وعلي شريعتي وبثوار الجزائر وفتح بقدر تأثره بالدراسة الحوزوية (وأساتذته فيها) وبالتجربة الإيرانية الوطنية-الإسلامية...في مثل هذه الأجواء ولدت فكرة تشكيل حزب إسلامي شيعي في العراق أسوة بالإخوان المسلمين وحزب التحرير وحركة فتح وجبهة التحرير الجزائرية وحركة تحرير إيران ومنظمة فدائيان إسلام الإيرانية (وقائدها نواب صفوي المتأثر بحسن البنا)... وقد رأى الداعون إلى هذا العمل ضرورة النهوض بأعباء المرحلة وفي مقدمتها طرح الإسلام كعلاج للازمات الاجتماعية السياسية في مقابل التيارات الفكرية الأخرى التي كانت تستقطب شباب العراق، ومواجهة هذه التيارات بنفس الأسلوب الحركي التنظيمي الهادف إلى إيجاد وسائل للوصول إلى قطاعات في المجتمع كان يصعب الوصول إليها من خلال العلماء والطلبة الحوزويين في ذلك الوقت (مثل قطاعات الموظفين الحكوميين والطلبة الجامعيين في المدن الكبرى وأصحاب المهن الحرة وظباط وجنود الجيش)... وفي تلك المرحلة بالضبط بدأ المشروع الإصلاحي اللبناني للإمام الصدر بالتبلور... فهو عايش معايشة وثيقة الحلقة الضيقة المؤسسة والقائدة لما أصبح فيما بعد حزب الدعوة... إذ في منزل السيد محسن الحكيم أو ولديه مهدي ومحمد باقر، أو في منزل السيد الخوئي نفسه، أو الشيخ مرتضى أو الشيخ محمد رضا آل ياسين، كانت تعقد الاجتماعات التأسيسية وبحضور أبناء السيد محسن ووكلائه الأساسيين (محمد مهدي شمس الدين ومحمد باقر الصدر إلى جانب السيد مرتضى العسكري ومحمد صادق الصدر ومحمد حسين فضل الله والشيخ عبد الهادي الفضلي والسيد محمد بحر العلوم والشيخ عارف البصري والسيد طالب الرفاعي والسيد محمد هادي السبيتي وغيرهم). غير أن السيد موسى الصدر لم يكن مرتاحا للعمل وفق النمط الحزبي الإسلامي الحركي للإخوان المسلمين أو حزب التحرير...خاصة وان بعض كبار مؤسسي حزب الدعوة كانوا ينتمون في البداية إلى هذين الحزبين (عارف البصري ومحمد هادي السبيتي من حزب التحرير- وطالب الرفاعي من الاخوان المسلمين).. كما أن التوجهات الفكرية والتنظيمية الأساسية للحزب الجديد جرت صياغتها استنادا إلى كتابات الباكستاني أبو الأعلى المودودي والمصري سيد قطب والفلسطيني تقي الدين النبهاني.. وكان السيد الشهيد محمد باقر الصدر متأثرا بكتاباتهم إلى حد كبير.. وهذه حقيقة أكدها لي مرارا الإمام شمس الدين كما أشار إلى دور المجلات المصرية التي كانت تصل إلى النجف في تلك الأيام...كما أن الإمام الكبير آية الله حسين منتظري أكد في أحاديث كثيرة تأثير سيد قطب عليهم في قم والنجف ومحاولتهم التوفيق بينه وبين عبد الناصر.. وقال منتظري انه يوم إعدام سيد قطب (آب 1966) بكى بحرقة وهو في السجن في طهران...كما روى أكثر من مرجع إيراني وعراقي تأثرهم بالثورة الجزائرية وبتجربة جبهة التحرير الوطني (وقد ظلت العلاقة المميزة بين حركة أمل والجزائر إلى يومنا هذا تأسيسا على ما بدأه الإمام الصدر، ولعل الإمام لم يكن ليسافر إلى ليبيا لولا الطلب الخاص من الرئيس بومدين)....كانت مرحلة قم والنجف إذن عاصفة ومليئة بالتحولات الفكرية التي كانت تعيشها النخب الدينية الشيعية.. وهنا نفتح قوسين لعرض بسيط للحراك الإيراني الذي كان السيد الصدر مرتبطاً به منذ مرحلة الرئيس مصدق.. فالمعروف أن القيادات الدينية الشيعية وقفت مع مصدق ضد الشاه الذي انتصر بدعم أميركي كبير وعاد إلى الحكم في 19 آب 1953. أدى انهيار حركة مصدق الوطنية إلى نشوب صراعات بين قوى الجبهة الوطنية وقوى علماء الدين وعلى رأسهم آية الله كاشاني وحركة فدائيي إسلام(نواب صفوي).. دعم آية الله كاشاني وصدر الدين الصدر والخوانساري حركة نواب صفوي إنما بتحفظ بسبب تطرفهم، في حين كان المرجع البروجردي يعلن عن عدم رضاه عن تصرفاتهم.وبعد وفاة كبار المراجع في قم (البروجردي والخوانساري والصدر) برز العلماء شريعتمداري والحكيم والكلبايكاني ومرعشي نجفي والخوئي.. إلا أن السيد محسن الحكيم أخذ محل البروجردي كمرجع أوحد في عصره.. والجدير ذكره هنا أن الإمام الخميني تجنب الإعلان عن إقامة مجالس عزاء للبروجردي(على مقتضى ما جرت به العادات) "خوفاً من ظهور شائبة من الشوائب ولم يكن راغباً حتى في كتابة رسالة"(رفسنجاني-ص49).إن هذا الأمر يكشف لنا تماماً عن حقيقة الصراعات في قم وأطرافها ومواقعهم وأدوارهم. ومن رحم هذه الصراعات ولدت حركة نهضت آزادي (حركة تحرير إيران-1960) وقائدها مهدي بازركان وآية الله طالقاني والدكتور علي شريعتي "وهم كانوا يعطون أهمية كبيرة للانفتاح الفكري ولإرضاء المثقفين المتنورين.. والعلماء وتجار البازار المتدينين..(رفسنجاني، ص60). وأسس آية الله شريعتمداري دار التبليغ وهدفه "إيجاد مراكز تعليم أكثر تنظيماً متعددة البرامج داخل الحوزات التقليدية... وكان قانعاً بإلقاء الدروس والأبحاث والتبليغ والمهام الدينية.."(رفسنجاني، ص106-107)). وكان السيد الحكيم يؤسس في العراق المكتبات العامة ويقوم بتحديث التدريس الحوزوي والاحتفالات بمناسبة عاشوراء يساعده السيد محمد باقر الصدر والشيخ محمد مهدي شمس الدين وغيرهما.
حين قرر السيد موسى الرجوع إلى لبنان كانت قد نضجت في رأسه واختمرت فكرة العمل الذي كان ينوي القيام به... وقد أخبرنا الإمام شمس الدين أن الفكرة نضجت بالتشاور مع السيد محسن الحكيم الذي أعطى الإمام الصدر وكالة عامة وتفويضا كاملا.. ولم تمض اشهر على عودة الصدر إلى لبنان (1959) حتى اندلعت الانشقاقات والصراعات داخل حزب الدعوة الأمر الذي أدى إلى طلب السيد محسن الحكيم من أبنائه والمخلصين له الانسحاب من الحزب (1960).. فانسحب السيد مهدي ثم السيد محمد باقر (اثر عودته من بنت جبيل في لبنان ولقاءاته مع السيد الصدر، والسيد محمد باقر الحكيم هو للمناسبة ابن شقيقة السياسي اللامع علي بزي وكان يحضر مجالسه في لبنان، وبالتالي فهو ابن خالة السيد فضل الله) ثم الشيخ محمد مهدي شمس الدين وتبعهم آخرون.. وما زالت هذه الوقائع في أساس السجالات والخلافات داخل حزب الدعوة والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق وما بينهما إلى يومنا هذا.. المهم هنا تسجيل الفرادة والتميّز للإمام الصدر ومنذ مرحلة مبكرة، ووعيه لظروف وأوضاع الشيعة ولحاجات التنظيم والاستنهاض التي رأى أنها لا بد أن تختلف عن نمط التنظيم الحزبي الغربي الذي يحمل أسماء إسلامية.كما أن المسالة الاساس التي حكمت كل الصراعات اللاحقة تتمثل في اكتشاف المراجع (السيد محسن الحكيم بداية ثم السيد محمد باقر الصدر الذي كان يعتبر المؤسس لحزب الدعوة) ارتباطات الحزب الخارجية (مع الشاه ومع الاردنيين والبريطانيين) وعقلية النخبوية الحزبية التي تستحل استغلال الناس كما استغلال المراجع والعلماء للوصول الى اهداف الحزب الباطنية..فكان الفراق باكراً بين جماعة المرجعية من جهة وجماعة الحزب من جهة اخرى، وهو فراق ما يزال يحمل بصمات التشكيك والتوتر الى يومنا هذا..
كان اول اللبنانيين المنتسبين الى حزب الدعوة الشيخ محمد مهدي شمس الدين والسيد محمد حسين فضل الله (1958)... وفي العام 1960 صدرت مجلة الاضواء نصف الشهرية باسم جماعة العلماء التي كانت واجهة للحزب يومذاك..وقد استمرت بالصدور حتى العام 1966..وكان يكتب افتتاحيتها السيد محمد باقر الصدر او الشيخ محمد مهدي شمس الدين (باسم رسالتنا)..وفي العام الثاني على الصدور (1961)، انقطعت "رسالتنا" وحلت محلها "كلمتنا" التي صار يكتبها محمد حسين فضل الله.. وكان ذلك يشير الى تطور اساسي تمثل في انسحاب آل الحكيم من الحزب ومعهم شمس الدين، ثم الى انسحاب السيد محمد باقر الصدر نفسه..بعد ذلك سيطر على الحزب هادي السبيتي وطالب الرفاعي وعارف البصري ومرتضى العسكري ومحمد حسين فضل الله وعلي كوراني وكاظم الحائري ومهدي الآصفي..والحقيقة ان حزب الدعوة استظل مرجعية السيد الحكيم والسيد الخوئي في سنوات 1957-1960 ثم مرجعية السيد محمد باقر الصدر (حتى استشهاده 1980)..و لم تتوقف الصراعات والانشقاقات في الحزب بخصوص مسألة العلاقة بين الحزب والمرجعية، وبين المدنيين ورجال الدين..نذكر هنا انشقاق جماعة من العلماء وعلى راسهم عبد الهادي الفضلي حين سيطر السبيتي على قيادة الدعوة (1963)..وانشقاق سامي البدري وجماعة بغداد (1967) لصراعهم مع عارف البصري..الا ان القشة التي قصمت ظهر البعير في العلاقة بين الحزب والمرجعية تمثلت في تخاذل الحزب عن الوقوف خلف السيد الحكيم حين قاد المواجهة مع نظام البعث(1969-1970)..وبعد وفاة المرجع الحكيم (1970) صاغ السيد محمد باقر الصدر نظريته حول العلاقة بين المرجعية والحزب (اطروحة المرجعية الصالحة) داعياً الى ضرورة الفصل بينهما بحيث يكون الحزب ذراعاً من أذرع المرجعية وتحت أوامرها..في حين ان الحزب كان يرى ويعمل للعكس اي استغلال المرجعية واستخدامها..واستمرت المجادلات داخل وخارج الحزب 3 سنوات 1970-1973..الا ان الحزب لم يترك العمل داخل الحوزة وباسم السيد الصدر الامر الذي أدى الى الصدام العنيف بينهما والى اصدار الصدر لفتواه الشهيرة حول عدم جواز انتساب طلبة العلوم الدينية الى الحزب (1974)..وفي اثناء ذلك كانت موجات القمع البعثي الدموي تتوالى من موجة 1970-1972 الى موجة 1974 التي انتهت باعدام عارف البصري وعزالدين القبنجي وعماد الدين الطباطبائي ونوري طعمه (13 نوفمبر 1974) واعتقال محمود الهاشمي (الشهرودي لاحقاً : رئيس القضاء الايراني حالياً)..في تلك الايام كان الامام الخميني منفياً في النجف وعلى صلة طيبة بالنظام العراقي الامر الذي أدى الى الجفاء لا بل العداء بينه وبين العراقيين..وبدءاً من العام 1975 أعاد هادي السبيتي تشكيل الحزب في حين فر العشرات الى الخارج ومنهم اللبنانيون (صبحي الطفيلي وعلي الكوراني وحسن ملك وعبد المنعم مهنا) والذين بقوا في النجف التفوا حول السيد الصدر (علي الامين،حسن طراد،محمد جعفر شمس الدين،عباس الموسوي...)ومع تصاعد الخلاف داخل الدعوة انعقد مؤتمر عام عٌرف باسم مؤتمر مكة (موسم الحج 1977) لم يحضره السبيتي وجماعته وسيطر عليه الثنائي كاظم الحائري (ايران) ومهدي الآصفي (الكويت)..حاول مرتضى العسكري حل الخلاف موسطاً فضل الله والكوراني..وقد اتهم حزب الدعوة كلاً من محمد باقر الصدر ومحمد مهدي شمس الدين ومحمد باقر الحكيم بانهم يتصلون بالكوادر ويحاولون شق الحزب..في حين قررت لجنة العراق في الدعوة (مهدي عبد مهدي) الالتزام بقرار المرجع الصدر..وبحسب صدر الدين القبنجي فان الاختلاف كان كبيراً بين رؤية الصدر ورؤية الدعوة للمرحلة..ذلك ان حزب الدعوة بنى استراتيجية عمله على اساس المرحلية مقسماً مراحل العمل الى اربع رئيسية هي الثقافية (الدعوة وتغيير الافكار) فالسياسية (الصراع السياسي مع الحكم) فالثورية (السيادة السياسية) ثم مرحلة الحكم وبناء الدولة وتصدير الافكار...لذا فان الحزب لم يكن يتبع تحديد المرجعية للمرحلة ومهماتها وانما يتبع نظريته هو حتى حين كانت المرجعية تقود المواجهة الكبرى (ايام الحكيم ثم الصدر كمثال)..غير أن أخطر مظاهر الخلاف يتعلق باختراق الحزب لوكلاء المرجعية (جاء في مجلة الجهاد الناطقة بلسان الحزب في ايران-العدد 12-كانون الاول 1983) ان 80% من وكلاء الصدر عام 1980 كانوا من الدعوة..غير ان الوضع كله تغير مع انتصار الثورة في ايران..تصاعدت المقاومة الشعبية في العراق وتصاعد معها القمع الدموي الذي لم يكن له مثيل في التاريخ المعاصر..فكان اعتقال السيد باقر الصدر (12-6-1979) شرارة انتفاضة 17 رجب التي قمعت بالحديد والنار..أعدم البعث 86 قيادياً معظمهم من وكلاء الصدر وحكم بالسجن المؤبد على 200 وبالسجن مدداً متفاوتة على 814..وبلغ عدد المعتقلين عدة آلاف استشهد الكثيرون منهم تحت التعذيب..وفي 16 تموز 1979 اقال صدام حسين أحمد حسن البكر وقام باعتقالات واسعة في صفوف قيادات وكوادر البعث لحقتها اعدامات شملت 5 وزراء و21 قيادياً بعثياً (غالبيتهم الساحقة من الشيعة)...عن تلك الايام القاسية الدامية خرج حزب الدعوة بتحليل قال فيه ان "تحرك رجب كان تحركاً محدوداً لم تنزل الدعوة فيه كل طاقتها ولم تستنزف كل امكانياتها وهذا نابع من طبيعة المرحلة .وكان عدم انزال كل قوتنا تصرفاً حكيماً وصحيحاً لأن المخزون من طاقتنا ينفعنا ليوم آخر،يوم الحسم"(ثقافة الدعوة الاسلامية،الجزء الرابع،ص 338).غير ان ما يراه الدعوة تصرفاً حكيماً كان بالنسبة للصدر والحكيم خيانة ثانية للمرجعية وللناس بعد الخيانة الاولى في انتفاضة عام 1969...بعد ذلك صعد نجم الثورة الايرانية وجرى اغتيال السيد باقر الصدر وشقيقته بنت الهدى (نيسان 1980)..وتصاعد الصراع المسلح بين البعث والدعوة في بيروت والكويت (محاولة اغتيال الكوراني ،اغتيال شري،اغتيال السيد حسن الشيرازي من الشيرازيين ومنظمة العمل الاسلامي، في بيروت،واغتيال عبد المنعم الشوكي في الكويت..الخ..) قرر الحزب نقل قيادته ومعظم كوادره الى ايران..انتقل الكوراني والآصفي في حين رفض السبيتي القرار ودفع حياته ثمناً لذلك (هو حفيد السيد عبد الحسين شرف الدين،قال يومها انه لم يتعود العيش الا من كد يمينه،وانه لا يجيد اللغة الفارسية..اعتقل في الاردن 9 أيار 1981 وجرى تسليمه الى صدام حسين ليقتله)..وقررت لجنة العراق بقيادة عبد الامير منصوري وحسن شبر الارتباط بالسبيتي وقطع صلتها بالآصفي..وفي ايران اسس الحزب لجنة جهادية بقيادة مهدي عبد مهدي وصبحي الطفيلي وفخري مشكور وعينت حسين كوراني ضابط اتصال بالحرس الثوري الايراني...وصار الحزب بأجنحته تحت قيادة اسمية لا تجتمع ضمت السبيتي والآصفي والعسكري والحائري والكوراني..وبعد اعدام السيد الصدر انهار تنظيم بغداد..فدعا كوادر الحزب الى مؤتمر انعقد في طهران أواخر عام 1980 وعرف باسم مؤتمر القواعد وحضره 72 كادرا وشكل لجنة من 9 للتحكيم بين جناحي القيادة..رفض السبيتي والكوراني وكوادر البصرة مؤتمر طهران وانتخاباته وتلا ذلك اعتزال مرتضى العسكري للعمل الحزبي، في حين واصل جماعة طهران اعادة التنظيم بقيادة ضمت الآصفي (ناطقاً باسم الحزب) والحائري (فقيهاً للحزب)..أعدت القيادة الجديدة لمؤتمر عرف باسم مؤتمر الشهيد الصدر (1981-طهران) شارك فيه من لبنان صبحي الطفيلي ومحمد رعد ونعيم قاسم (ذكر لي أحد الحضور انهم لم يتكلموا ابدا في المؤتمر)وانسحب الكوراني نهائياً من الحزب (اصدر كتابه الشهير "طريقة عمل حزب الله")..واستمر الصراع الداخلي حول ولاية الفقيه فعقد الحزب مؤتمراً جديداً في 1984 ليعيد العمل بمنصب فقيه الحزب وقرر تعيين الحائري مجدداً .. الا ان القيادة المدنية ظلت تسحب البساط من تحت أرجل الفقهاء فقرر الحائري والآصفي الانسحاب والتفرغ للمرجعية مع تبنيهما لولاية الفقيه..الا ان الحزب قرر استعادتهما وتشكيل مجلس فقهي ضمهما الى جانب الشيخ محمد علي التسخيري (أحد كبار مستشاري الخامنئي حالياً وخصوصاً في قضايا العلاقة مع أهل السنة)على أن يكون الحائري فقيه الدعوة.. وكانت القيادة المدنية تريد المجلس الفقهي مرجعية تقليد لا ولاية أمر.. وحاول الحائري والآصفي خلال العام 1985 ربط الحزب بالقيادة الايرانية مباشرة (بعد الاعلان عن تشكيل حزب الله اللبناني على اساس ولاية الفقيه)..ولكن الصراع م يتوقف.. وحين اصدر الامام الخميني قراره بتعطيل اعمال الحزب الجمهوري (10 حزيران 1987) انسحب الشيخ التسخيري من المجلس الفقهي في حين كان الحائري والآصفي يقودان حملة لتعزيز ولاية الفقيه ويدعوان الى حل الحزب اسوة بما حصل في لبنان..وفي مطلع عام 1988 انعقد مؤتمر الحوراء زينب وانتصر فيه خط ولاية الفقيه اذ قرر المؤتمر "ان الحزب جزء من الامة وهو مرتبط بالولاية العامة شأنه في ذلك شأن بقية ابناء الامة ويسري عليه ما يسري على كافة قطاعاتها".ولم بنته الصراع..ففي العام 1989 أعلن عدد من قادة الحزب انشقاقهم معتبرين ان الحزب ما يزال منفصلاً عن القيادة الشرعية وانه يعتبر نفسه بديلاً عنها وان فقيه الدعوة الخفي هو السيد فضل الله رغم تأكيد هذا الاخير انه ترك الحزب منذ 1982 بسبب عدم اختياره فقيهاً للحزب يومذاك..وتسمى المنشقون باسم تنظيم الدعوة-ولاية الفقيه وتفرغ الحائري للعمل لمرجعيته واستمر الآصفي في قيادة الحزب(ناطقاً رسمياً) ممثلاً الاتجاه الايراني في مقابل الباقين الذين التفوا حول فضل الله..
في العام 1989 توفي الامام الخميني..يومها قرر الايرانيون تولية الخامنئي ولياً لامور المسلمين دون ان يكون مرجعاً للتقليد..واعتبروا ان السيد الآراكي هو مرجع التقليد..وبين الاعوام 1990-1991(حرب العراق الاولى) و2003 (حرب العراق الثانية) هاجر مئات الكوادر من العراق والدول العربية الى بريطانيا وانخرطوا هناك في العمل السياسي الديمقراطي وسط الجالية العراقية التي يصل تعدادها الى أكثر من مليون..وارتبطوا بعلاقات مع قوى عربية ودولية.. تمخضت التحولات الكبرى بعد وفاة الخميني وحرب العراق الاولى عن قرار للدعوة انها في حل من التزامها بقيادة الخميني الذي كانت نصت على ولايته بالاسم في نظامها الداخلي..والغى الحزب منصب الناطق الرسمي واستبدلته بثلاثة ناطقين:ايران (علي الاديب) وواحد في بريطانيا عن اقليم اوروبا (ابراهيم الجعفري) وواحد في سوريا عن اقليم الشرق الاوسط (نوري المالكي)..
وفي العام 1992 توفي المرجع الخوئي، وفي آخر العام 1993 توفي المرجع السيد الكلبايكاني.. وبعده بقليل توفي المرجع السيد السبزواري .. وتلاهم مرجع ايران بعد الخميني الشيخ الآراكي (1994).. حينها قرر الخامنئي طرح نفسه كمرجع وهو الذي انتخب ولياً لأمر المسلمين دون أن يكون مجتهداً ومرجعاً .. إثر ذلك عيّنت جمعية مدرسي حوزة قم سبعة مراجع للتقليد بينهم الخامنئي دون محمد
حسين فضل الله.واعلن الحائري اعتزاله حزب الدعوة وطرح مرجعيته على الناس،وأعلن الآصفي التزامه قيادة الخامنئي وولايته، في حين أعلن فضل الله تصديه لمنصب المرجعية..واختاره حزب الدعوة مرجعاً له وفقيهاً معتمداً..ثم قرر الحزب تبني رأي فضل الله حول تعدد الولاية :"فكما يمكن ان يكون للامام (المهدي) في حال حضوره أن يحكم عدة اقاليم وله في كل منها نائب فانه يمكن كذلك ان يكون له في حال غيبته عدة نواب ايضاً...فالأصل في الولاية النائبة عن الامام (المهدي) تعدد الولي الا اذا كانت هناك مصلحة اسلامية عليا تفرض وحدته وكانت الوحدة واقعية"(صدرت الفتوى في 13-9-1998)..
ومنذ 2003 صار الدعوة عدة خطوط: خط الحائري، وخط الآصفي، وخط الجعفري، وخط المالكي، وخط البصرة (جماعة السبيتي)، وخط هاشم ناصر محمود، وخط خضير موسى جعفر، وخط موفق الربيعي، ناهيك عن الخطوط التي التحقت بحركة مقتدى الصدر أو بحزب الفضيلة أو بمرجعية السيد حسين الصدر أو بمرجعية وخط محمد حسين فضل الله...
وهنا لا بد من التوقف عند دور الدعوة في لبنان....
مع عودة فضل الله الى لبنان العام 1966 شرع في العمل على بناء كوادر وخلايا لحزب الدعوة..فكانت أسرة التآخي ومجلتها "الحكمة"، وكان الاتحاد اللبناني للطلبة المسلمين ومجلته "المنطلق" ..وأبرز من تخرج من الاتحاد محمد رعد ونعيم قاسم وهاني قاسم ومحمود قماطي وحسن حدرج (من حزب التحرير) ومحمد سعيد الخنسا .. ومن جيل لاحق علي فياض وقاسم قصير ونواف الموسوي وحسان عبد الله. وكان فضل الله متأثراً بتقي الدين النبهاني وبسيد قطب (لاحظ تفسيره للقرآن بعنوان من وحي القرآن تيمناً بظلال سيد) كما بنظرية او مبدأ القوة..وقد نشر فضل الله كتابه "منطق القوة في الاسلام"عام 1967 واستمر على ترداد مفهوم منطق القوة كما يظهر ذلك بوضوح في مقاله عن الشهيد باقر الصدر في جريدة العهد، العدد 42 ،22 رجب 1405-1985،بعنوان "لأنك قوة"..ونقل السيد حسن نصرالله عنه هذا المفهوم (راجع محاضرته في الاتحاد اللبناني للطلبة المسلمين بعنوان "التعبئة الثورية في عملية التغيير"،النهار في 27-1-1986)..وفي العام 1978 حمل الشهيد حسن شري فتوى الى الحركيين الاسلاميين (من دعوة وغيرها) بوجوب الانضمام الى حركة أمل والعمل من داخلها بعد اختطاف السيد موسى الصدر..
وكانت الضربات البعثية للدعوة في العراق تؤدي الى هجرة العديد من الكوادر الى لبنان..ففي السنوات 1975-1977 جاء الى لبنان عدد كبير من المشايخ الذين كانوا من تلامذة السيد محمد باقر الصدر ومن اعضاء حزب الدعوة..من علي الكوراني وعلي الامين ،الى صبحي الطفيلي وعبد المنعم مهنا وحسن ملك ، ومن عباس الموسوي و حسن طراد وجعفر شمس الدين الى عفيف النابلسي وحسين الكوراني...وحملوا معهم صراعات القوى والمحاور داخل حزب الدعوة..وقد جاء غيرهم واحتموا بعباءة السيد موسى الصدر ومحمد مهدي شمس الدين وانتشروا في قرى النميرية-الشرقية-الدوير-جبشيت-عبا-القصيبة-وكفرتبنيت..الخ..وحصلوا على اذونات رسمية من المجلس الشيعي للعمل كمدرسين لمادة التربية الدينية في مدارس الجنوب والبقاع..(على سبيل المثال أقام الشيخ حسن ملك في كفرتبنيت والشيخ حسين كوراني في الشرقية وعلي الامين في حي السلم..في حين عاد هاني فحص ومحمد حسن الامين يحملان وعياً عروبياً يسارياً وثورياً....واسس عبد المنعم مهنا حوزة في صديقين،وعلي الامين حوزة في حي السلم..واسس حسين سرور وعلي ياسين واسعد فنيش حوزة صور، وعلي العفي ومحمد يزبك حوزة بعلبك،وهؤلاء كانوا مع عباس الموسوي من طلبة السيد باقر الصدر..اما راغب حرب فهو درس في النجف (1967-1977 وعاد الى لبنان ليعمل مع الشيخ شمس الدين في منطقة النبطية ويؤسس ويتولى مبرة السيدة زينب في جبشيت..وفي الغبيري سكن الشيخ حسن طراد والشيخ علي الكوراني (مسجد الغبيري) والشيخ حسن عواد (مسجد الشياح)..وهرب حسن ملك الى قم (1978) بعد محاولة اغتيال بعثية (كفرتبنيت كانت معقلاً للشيوعيين واليسار ومعادية لحركة المشايخ)..وعاد ملك الى الشياح عام 1980 بحماية حركة فتح التي أمنت الحماية للعشرات من قادة وكوادر حركة المحرومين (من بينهم النائب علي عمار)..يقول حسن ملك لوضاح شرارة (دولة حزب الله ص109و118) انه درب خلال الاعوام 1975-1980 حوالي 700 شاب شيعي عراقي ولبناني من حزب الدعوة في معسكرات حركة فتح..
أدى اجتياح 1978 واحتلال جزء من ارض الجنوب إلى نشوء وضع جديد..فالى جانب التحرك السياسي سارع الإمام الصدر (والشهيد مصطفى شمران) إلى تمتين العلاقات التي نشأت مع لبنانيي حركة فتح في الجنوب، والى احتضان التعبيرات اللبنانية المرتبطة بالثورة الفلسطينية وذلك في مقابل عمل عشرات الايرانيين من أنصار الخميني ممن وفدوا مبكراً الى لبنان واقاموا في قواعد حركة فتح وأقاموا علاقات مع أجهزتها الامنية ..
عن هذه المرحلة يروي الشيخ رفسنجاني وقائع زيارته إلى لبنان في مطلع الحرب الأهلية(1975) فيقول ما حرفيته:"في لبنان كانت الحرية أمراً لافتاً...كنت أعرف السيد موسى الصدر من قبل فقد قرأت عليه جزءاً من المطوّل(أي أنه تتلمذ عليه في قم)...الشهيد محمد منتظري (ابن الشيخ حسين علي وكان يومها زعيم التيار الراديكالي في حركة الخميني) كان على معرفة وثيقة بالقوى المناضلة والفاعلة في لبنان كلها...مباحثاتي كان لها تأثير في تعديل بعض المواقف ووجهات النظر المتطرفة(التي كان يحملها الإيرانيون الملتحقون بالثورة الفلسطينية مثل الشهيد منتظري والشهيد محمد صالح الحسيني وجلال الدين الفارسي ومحسن رفيق دوست ومحتشمي وغيرهم).... وكان أنصار الإمام وعلى رأسهم ابنه المرحوم السيد مصطفى في نزاع مع السيد موسى مصدره الأصلي والوحيد مسألة المرجعية..إذ لم يعلن السيد الصدر تأييده لمرجعية الخميني... كان الشبان الإيرانيون في لبنان يريدون أن يأخذ السيد موسى موقفاً صريحاً.. وكانت لهم خطب لاذعة وبيانات ..ذهبت لمقابلة الإمام الخميني في النجف وللتقريب بينه وبين السيد موسى الصدر.."(من كتاب رفسنجاني:حياتي،الصفحات170 إلى 176).
حزب الله والمقاومة الإسلامية
كانت الحالة اللبنانية التي ولدت في الجنوب حول الكتيبة الطلابية وأفواج المقاومة اللبنانية (وقد وصفها الشهيد مصطفى شمران في كتابه التاريخي التوثيقي: شيعة لبنان) السباقة إلى التضامن مع طروحات الإمام الخميني في منفاه في النجف ومع اندلاع ثورة العصر في إيران.... ثم ابتدأ عصر الإسلام السياسي الجديد مع اللجان الإسلامية والشباب المؤمن والاتحاد اللبناني للطلبة المسلمين ومجلة المنطلق (واجهات الدعوة)، ولجان العمل الإسلامي (خليط مرتبط بمنظمة العمل الاسلامي الشيرازية وبعض المستقلين من مشايخ اليسار المرتبطين بحركة فتح)، وأنصار الثورة الإسلامية (تيار منتظري والحرس الثوري لاحقاً وقد كانوا مرتبطين بحركة فتح)... وكلها شكلت لاحقا إلى جانب المنشقين عن حركة أمل (السيد إبراهيم أمين السيد ممثل امل في طهران، السيد حسين الموسوي رئيس هيئتها التنفيذية ومنافس بري على القيادة، السيد حسن نصر الله مسؤول الحركة في البقاع، وهم بالمناسبة من متسللي حزب الدعوة الى داخل حركة أمل وكان رئيسهم الفعلي حسن شري الذي قتله البعثيون في بيروت) الروافد التأسيسية التي صبّت جميعها في نهر حزب الله والمقاومة الإسلامية..
خطف الإمام الصدر، وانتصار الثورة في إيران، أديا إلى تفاعلات حتمية ادت إلى التحاق أعداد كبيرة من الشباب المقاوم بالجو الإسلامي الشيعي بعد 1979 (وتبوأ العديد منهم مراكز قيادية لاحقا كما أن العشرات أيضا استشهدوا وهم يقودون قوات وعمليات من المقاومة الإسلامية).وفي نفس المرحلة كان الصراع الداخلي بين حركة أمل وأحزاب اليسار اللبناني والفلسطيني (نتيجة الدور الليبي في اختطاف السيد موسى الصدر والدور اليساري في الارتباط بالعراق بعد اغتيال الشهيد السيد محمد باقر الصدر) قد وصل إلى ذروته العنيفة ما سمح لحزب الدعوة (الشديد المركزية والتنظيم الأمني المحكم) بالإمساك بالمواقع الأمنية والعسكرية داخل حركة أمل و بقيادة عملية الصراع هذه.ولا توجد دراسات موثقة حول دور حزب الدعوة في لبنان قبل تشكيل حزب الله إلا أن الأكيد أن كوادره عملت من داخل ومن خارج حركة أمل (وابرزهم الشهيد حسن شري)، كما من داخل ومن خارج حركة فتح الفلسطينية (وابرزهم الشهيد عماد مغنية).وأخيرا جاء اجتياح صيف 1982 ليطوي صفحة الوجود الفلسطيني المسلح في جنوب لبنان وليفتح صفحة التموضع الشيعي مع الحرس الثوري في البقاع..
صحيح أن حزب الدعوة حل نفسه وانخرط في تشكيلة حزب الله (صبحي الطفيلي،محمد رعد، نعيم قاسم، علي كوراني،حسين كوراني ،محمد حسين فضل الله،محمد سعيد الخنسا،محمود قماطي ،حسن حدرج)الا أن الصحيح أكثر ان من دخلوا حزب الله دخلوه فرادى مفككين مختلفين بسبب صراعات الحزب في العراق وسوريا والخليج ولندن..فبعد اغتيال هادي السبيتي في الاردن انفرط عقد الدعوة في لبنان.. ولم يترك الايرانيون الأمر للصدف او العواطف..فمنذ العام 1979 بدأوا بتأطير القوى اللبنانية التي كانت تؤيدهم ومن ضمنها حزب الدعوة المنفرط..وخلال 3 سنوات ركز الايرانيون على دعوة القيادات الدينية والمدنية الشيعية الى طهران وهناك كانت الحوارات والنقاشات والصراعات تدور حول الحركة الاسلامية المطلوب تاسيسها في لبنان..وقد شكلوا عدة تجمعات لرجال الدين (تجمع علماء البقاع، وتجمع علماء جبل عامل،وتجمع العلماء المسلمبن، ومعها الحوزات الدينية ومدارس الكوادر ..وبعد اجتياح 1982 عملت قيادة الحرس الثوري في بعلبك طوال 3 سنوات (مركز عشاق الشهادة)على تفكيك واعادة تركيب كل العلاقات الشيعية بما فيها حزب الدعوة الذي صار شيعاً وجماعات متفرقة ترتبط كلها بايران..فقد استطاع الايرانيون السيطرة على المجال العام عبر الاذاعة(صوت المستضعفين)والجريدة(العهد)والمجلة(الوحدة الاسلامية)وخطب الجمعة والمسيرات واليافطات والملصقات والمنشورات والزيارات المنظمة الى السيدة زينب في دمشق والى المقامات في ايران...كما سيطروا على غالبية المساجد والحسينيات في لبنان وعينوا رجال دين لها،وعملوا على اختيار شباب للدراسة في الحوزات في ايران،وتنظيم معسكرات التعبئة والتدريب،وتقديم الخدمات المجانية مثل الطبابة والاستشفاء والوقود وغيرها..وانشاء المدارس والمعاهد،والسيطرة على التعليم الديني في كل المدارس، والسيطرة على اوقاف الشيعة....وقاموا بالتنسيق مع قوات فتح في البقاع بالعمليات العسكرية الكبرى للمقاومة اللبنانية وتحت اسماء متعددة (حركة ابناء جبل عامل،العادلون،حزب الله،الشباب المؤمن)..وحين تشكلت لجنة قيادة حزب الله من 9 كان من الطبيعي ان تضم عباس الموسوي وصبحي الطفيلي وحسين كوراني وحسن نصرالله ومحمد يزبك وحسين الموسوي وابراهيم امين السيد وعفيف النابلسي ومحمد رعد..ثم قلصت الى 7 ،لتستقر في العام 1984 على خمسة وفي 1985 تعود الى سبعة (عباس الموسوي،صبحي الطفيلي،ابراهيم امين السيد،حسن نصرالله،حسين الموسوي،نعيم قاسم،محمد رعد)..كانت النسب التمثيلية تعكس كل التجمعات السالفة الذكر ولكن الحصة الاكبر فيها كانت من نصيب بقايا الدعوة...وكان الجامع بينها كلها هو الالتزام بولاية الفقيه.. ووصاية السفير الايراني في دمشق يومذاك علي اكبر محتشمي بور ثم حسين اختري..
في العام 1989 انتخب صبحي الطفيلي أميناً عاماً للحزب..وخرج السيد حسن نصرالله الى قم للدراسة..وفي 1991 ازيح صبحي الطفيلي عن منصب الامين العام وانتخب عباس الموسوي محله..الا انه اغتيل في شباط 1992 ليحل محله حسن نصرالله الذي استقدم على عجل من قم ..
وتعكس هذه التغيرات تغيرات كبرى في ايران (وفاة الخميني،تحالف خامنئي-رفسنجاني-احمد الخميني في وجه جماعة خط الامام وممثلهم الاول محتشمي مؤسس حزب الله وصديق الطفيلي...انتصار خط خامنئي-رفسنجاني واسقاط محتشمي وكل تياره من السلطة.)..اذن جاء حسن نصرالله كممثل لخط خامنئي منذ ذلك الحين وهو لما يزل...اما الدعوة فلم يعد حزباً واحداً ولا تياراً متجانساً ولذلك يصعب الحديث عنه داخل حزب الله وانما يتوجب الحديث عن اشخاص يرتبطون بمراكز قوى في ايران ليس الا..
فالسيد صدر الدين الصدر (والد السيد موسى) قاد حركة دينية إصلاحية تقدمية وارتبط اسمه بالنهضة الأدبية والثقافية للنجف والعراق ومن ثم إيران التي هاجر إليها وتزوج فيها من السيدة صفيّة كريمة المرجع الديني السيد حسين القمّي..ومن خلال السيد القمي ارتبط السيد صدر الدين بكل اقطاب الحركة الاصلاحية التجديدية وخصوصاً المرجع الكبير المجدد الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي الذي عاونه الصدر في إدارة الحوزة الدينية في قم وصار لاحقاً أحد أركانها وساهم معه في إنشاء مؤسسات علمية ودينية واجتماعية وصحية.. وهذان المرجعان تتلمذا معا على الميرزا محمد حسن المعروف بالمجدد الشيرازي، وعلى الشيخ محمد تقي الشيرازي والشيخ محمد كاظم الخراساني وشيخ الشريعة الأصفهاني.. وهؤلاء لمن لا يعلم كانوا أركان التيار التجديدي الإصلاحي في الحوزات الشيعية وقادة الإصلاحية الدستورية في التاريخ الشيعي... كما أن السيد القمي لم يكن فقط صديق ورفيق درب المجدد الشيرازي بل هو رفيق وزميل المجدد النائيني (صاحب كتاب تنزيه الأمة وتنبيه الملة وأحد أكبر الدعاة إلى الحكم الشوروي الدستوري).. والى هذا التراث ينتسب السيد موسى الصدر... فهو درس في الحوزة العلمية بقم على أيدي أعلام التجديد والإصلاح الكبار.. كما انه كان أول معمم يدخل جامعة طهران الحديثة وكلية الحقوق فيها..وهذه نقطة ثانية مهمة لفهم العقل المنفتح والثقافة الواسعة التي ميزت الإمام الصدر عن أقرانه... وهو تخرّج من جامعة طهران الحديثة العلمانية وعاد إلى قم أستاذاً محاضراً في الفقه والمنطق ومؤسساً لأهم وأكبر مجلة إسلامية شيعية تنويرية إصلاحية ( مكتب إسلام ) مع الشهيد بهشتي والشيخ ناصر مكارم وبدعم وتوجيه من آية الله شريعتمداري..وهنا لا بد من الإشارة إلى أن رئاسة الحوزة الدينية في قم كانت معقودة للمجدد الكبير السيد البروجردي الذي لم يكن الإمام الخميني من أنصاره ومؤيديه بعكس الإمام محسن الحكيم والإمامين موسى الصدر ومحمد مهدي شمس الدين وهم كانوا من أنصار البروجردي. وفي ذلك يكتب الشيخ هاشمي رفسنجاني صراحة أنه "حدثت بعض المشكلات بين السيد الخميني وآية الله البروجردي... قامت منافسة بين نشرتنا "مكتب تشيع" وبين نشرة "مكتب إسلام" التي كان يديرها متقدمون علينا حوزوياً ومن أنصار شريعتمداري... لو أن الإمام الخميني في عصر السيد البروجردي تدخل في الصراعات السياسية لما نجح، لعدم الانسجام بينهما...في عصر البروجردي كانت الأكثرية المطلقة من الطلبة تابعة له...وكان هو المرجع المطلق في باكستان وأفغانستان والعراق والخليج.. وأسس دار التقريب بين المذاهب ومركز هامبورغ الاسلامي...الخ..."(كتاب رفسنجاني:حياتي.دارالساقي،بيروت،2005،ص32-33-36-38-39).
وقد انتقل السيد موسى الصدر إلى النجف بعد وفاة والده (1953) حيث لمع نجمه خلال فترة وجوده هناك (حتى العام 1959) أي في فترة توهج وسطوع نجم مرجعية السيد محسن الحكيم الذي احتضن الإمام الصدر كما احتضن علماً آخر من جيله هو الإمام شمس الدين... وكانت أول زيارة للسيد الصدر إلى لبنان العام 1955 (حيث تزوج من ابنة السيد عزيز الله خليلي).. وقد تميّزت مرحلة النجف التي شهدت زيارات متكررة إلى لبنان والى قم، بدراسته على كبار المراجع: أبو القاسم الخوئي، محسن الحكيم، محمد رضا آل ياسين.. وبإتمامه لمرحلة الدراسات العليا (بحث الخارج) واشتراكه في تأسيس جمعية منتدى النشر... وهنا زامل ورافق الإمام الصدر كبار النجف يوم ذاك: الشهيد محمد باقر الصدر(ابن عمه)، والسادة الشهداء مهدي ومحمد باقر الحكيم (ابني السيد محسن)، والشيخ الموسوي الاردبيلي والسيد موسى الشبيري الزنجاني والسيد مرتضى العسكري (أحد ابرز قادة حزب الدعوة) والشيخ محمد مهدي شمس الدين والسيد محمد حسين فضل الله وغيرهم.
إن انتماء الصدر إلى التيار الإصلاحي المجدد في إيران والعراق، ورفقته وزمالته لرموز الحركة الإسلامية الإيرانية المدنية (حركة تحرير إيران وقيادتها: آية الله طالقاني، د. مهدي بازركان، د. مصطفى شمران، د. علي شريعتي، د. إبراهيم يزدي... وهي حركة إصلاحية كبرى كانت استمرارا وتطويرا لحركة الرئيس مصدق وتيارها المسمى الجبهة الوطنية) وصلته أيضاً بالمرجع الكبير المعتدل والليبرالي آية الله كاظم شريعتمداري، كل ذلك جعله يفترق ومنذ البداية عن أترابه الذين شاركوا لاحقا في تأسيس حزب الدعوة...وكان العراق يشهد نهضة ثقافية وسياسية هائلة كان النجف مركزها والمراجع الكبار محورها... فمع السيد الخوئي والسيد محسن الحكيم وولديه مهدي ومحمد باقر، ومع الشيخين الأخوين محمد رضا ومرتضى آل ياسين(أخوال السيد محمد باقر الصدر)، والسيد محمد صادق الصدر(ابن عم السيد موسى وجد السيد مقتدى)، تشكلت حلقات الدراسة والتفكير ووضعت برامج الحركة والعمل بدءا بجمعية منتدى النشر وجماعة العلماء (ومجلتها الأضواء) ومرورا بمنظمة الشباب المسلم ومنظمة المسلمين العقائديين (وقائدهما عز الدين الجزائري) والحزب الجعفري (عبد الصاحب دخيل وحسن شبر ومحمد صادق القاموسي وقد صاروا لاحقاً من المؤسسين لحزب الدعوة)، ووصولا إلى حزب الدعوة... وكانت الأجواء العربية الملتهبة حافزا للطلبة والعلماء في النجف وكربلاء وبغداد وسامراء إلى البحث عن اطر مناسبة للتحرك الإسلامي الجاد يلبي احتياجات الشيعة العراقيين من جهة (وهم كانوا حرموا أية مشاركة في الحكم رغم ثوراتهم التاريخية ضد الاحتلال البريطاني)، ويواجه الاتجاهات الحديثة التي كانت تغزو بسرعة عقول وقلوب الشباب في مواجهة الملكية والاستعمار (المقصود الاتجاهات الليبرالية والقومية واليسارية والشيوعية منها تحديدا)... وهنا يجدر تسجيل حادثة مهمة كان لها الأثر الكبير في التحركات اللاحقة وهي مظاهرة النجف الكبرى دعما لمصر في مواجهة العدوان الثلاثي.. فقد شهد العراق مظاهرات صاخبة ودامية كان أعنفها وأكثرها تأثيرا مظاهرة النجف الأشرف التي قمعتها السلطة بوحشية رهيبة وتلاها إعلان الأحكام العرفية في البلاد... ورغم ذلك استمرت التظاهرات في النجف وأبرزها تلك التي خرجت يوم 23-11-1956 وشارك فيها علماء الدين وأسفرت عن مجزرة دموية ارتكبتها السلطة وراح ضحيتها عدد كبير من الأهالي (ذكرت مجلة العرفان اللبنانية إن عدد القتلى بلغ 450 الا ان العلامة الكبير الدكتور السيد محمد بحر العلوم أكد لي ان العدد لم يتجاوز اصابع اليد الواحدة في النجف)... وقد تلا ذلك بيان عنيف للمرجع الشيعي السيد الحكيم وإعلان الإضراب العام الشامل في النجف وهو إضراب تجاوب معه العراق كله وانضمت إليه مصر ولبنان وسوريا... والى تأثير هذه الحركة الجماهيرية في النجف، وتأثير حركة مصدق في إيران والتي أسقطتها المخابرات الأميركية، جاءت تجارب لبنان (ثورة 1958) والجزائر (انطلاق ثورة التحرير الوطني) وفلسطين (حركة فتح) لتضيف وعيا كبيرا إلى تحرك شباب الحوزات والطلبة والعلماء في النجف. كما بدا بوضوح تأثر النجفيين بالتجربة الإيرانية الشديدة الوطنية إلى حدود التعصب (وكلنا نعرف ذلك) كما بالتجربة الجزائرية والتجربة الفلسطينية الوليدة، وهما تجربتان وطنيتان صافيتان لا بل أنهما تشكلتا من رحم الاعتماد على الذات الوطنية وليس على المد العربي (تجربة الجزائر المتميزة بمزيج إسلامي – جزائري شديد الخصوصية و تجربة حركة فتح التي خرجت قياداتها من رحم الإخوان المسلمين وعلى أساس الوطنية الفلسطينية).. وقد عرف عن الإمام الصدر في تلك المرحلة تأثره الكبير بفرانز فانون وعلي شريعتي وبثوار الجزائر وفتح بقدر تأثره بالدراسة الحوزوية (وأساتذته فيها) وبالتجربة الإيرانية الوطنية-الإسلامية...في مثل هذه الأجواء ولدت فكرة تشكيل حزب إسلامي شيعي في العراق أسوة بالإخوان المسلمين وحزب التحرير وحركة فتح وجبهة التحرير الجزائرية وحركة تحرير إيران ومنظمة فدائيان إسلام الإيرانية (وقائدها نواب صفوي المتأثر بحسن البنا)... وقد رأى الداعون إلى هذا العمل ضرورة النهوض بأعباء المرحلة وفي مقدمتها طرح الإسلام كعلاج للازمات الاجتماعية السياسية في مقابل التيارات الفكرية الأخرى التي كانت تستقطب شباب العراق، ومواجهة هذه التيارات بنفس الأسلوب الحركي التنظيمي الهادف إلى إيجاد وسائل للوصول إلى قطاعات في المجتمع كان يصعب الوصول إليها من خلال العلماء والطلبة الحوزويين في ذلك الوقت (مثل قطاعات الموظفين الحكوميين والطلبة الجامعيين في المدن الكبرى وأصحاب المهن الحرة وظباط وجنود الجيش)... وفي تلك المرحلة بالضبط بدأ المشروع الإصلاحي اللبناني للإمام الصدر بالتبلور... فهو عايش معايشة وثيقة الحلقة الضيقة المؤسسة والقائدة لما أصبح فيما بعد حزب الدعوة... إذ في منزل السيد محسن الحكيم أو ولديه مهدي ومحمد باقر، أو في منزل السيد الخوئي نفسه، أو الشيخ مرتضى أو الشيخ محمد رضا آل ياسين، كانت تعقد الاجتماعات التأسيسية وبحضور أبناء السيد محسن ووكلائه الأساسيين (محمد مهدي شمس الدين ومحمد باقر الصدر إلى جانب السيد مرتضى العسكري ومحمد صادق الصدر ومحمد حسين فضل الله والشيخ عبد الهادي الفضلي والسيد محمد بحر العلوم والشيخ عارف البصري والسيد طالب الرفاعي والسيد محمد هادي السبيتي وغيرهم). غير أن السيد موسى الصدر لم يكن مرتاحا للعمل وفق النمط الحزبي الإسلامي الحركي للإخوان المسلمين أو حزب التحرير...خاصة وان بعض كبار مؤسسي حزب الدعوة كانوا ينتمون في البداية إلى هذين الحزبين (عارف البصري ومحمد هادي السبيتي من حزب التحرير- وطالب الرفاعي من الاخوان المسلمين).. كما أن التوجهات الفكرية والتنظيمية الأساسية للحزب الجديد جرت صياغتها استنادا إلى كتابات الباكستاني أبو الأعلى المودودي والمصري سيد قطب والفلسطيني تقي الدين النبهاني.. وكان السيد الشهيد محمد باقر الصدر متأثرا بكتاباتهم إلى حد كبير.. وهذه حقيقة أكدها لي مرارا الإمام شمس الدين كما أشار إلى دور المجلات المصرية التي كانت تصل إلى النجف في تلك الأيام...كما أن الإمام الكبير آية الله حسين منتظري أكد في أحاديث كثيرة تأثير سيد قطب عليهم في قم والنجف ومحاولتهم التوفيق بينه وبين عبد الناصر.. وقال منتظري انه يوم إعدام سيد قطب (آب 1966) بكى بحرقة وهو في السجن في طهران...كما روى أكثر من مرجع إيراني وعراقي تأثرهم بالثورة الجزائرية وبتجربة جبهة التحرير الوطني (وقد ظلت العلاقة المميزة بين حركة أمل والجزائر إلى يومنا هذا تأسيسا على ما بدأه الإمام الصدر، ولعل الإمام لم يكن ليسافر إلى ليبيا لولا الطلب الخاص من الرئيس بومدين)....كانت مرحلة قم والنجف إذن عاصفة ومليئة بالتحولات الفكرية التي كانت تعيشها النخب الدينية الشيعية.. وهنا نفتح قوسين لعرض بسيط للحراك الإيراني الذي كان السيد الصدر مرتبطاً به منذ مرحلة الرئيس مصدق.. فالمعروف أن القيادات الدينية الشيعية وقفت مع مصدق ضد الشاه الذي انتصر بدعم أميركي كبير وعاد إلى الحكم في 19 آب 1953. أدى انهيار حركة مصدق الوطنية إلى نشوب صراعات بين قوى الجبهة الوطنية وقوى علماء الدين وعلى رأسهم آية الله كاشاني وحركة فدائيي إسلام(نواب صفوي).. دعم آية الله كاشاني وصدر الدين الصدر والخوانساري حركة نواب صفوي إنما بتحفظ بسبب تطرفهم، في حين كان المرجع البروجردي يعلن عن عدم رضاه عن تصرفاتهم.وبعد وفاة كبار المراجع في قم (البروجردي والخوانساري والصدر) برز العلماء شريعتمداري والحكيم والكلبايكاني ومرعشي نجفي والخوئي.. إلا أن السيد محسن الحكيم أخذ محل البروجردي كمرجع أوحد في عصره.. والجدير ذكره هنا أن الإمام الخميني تجنب الإعلان عن إقامة مجالس عزاء للبروجردي(على مقتضى ما جرت به العادات) "خوفاً من ظهور شائبة من الشوائب ولم يكن راغباً حتى في كتابة رسالة"(رفسنجاني-ص49).إن هذا الأمر يكشف لنا تماماً عن حقيقة الصراعات في قم وأطرافها ومواقعهم وأدوارهم. ومن رحم هذه الصراعات ولدت حركة نهضت آزادي (حركة تحرير إيران-1960) وقائدها مهدي بازركان وآية الله طالقاني والدكتور علي شريعتي "وهم كانوا يعطون أهمية كبيرة للانفتاح الفكري ولإرضاء المثقفين المتنورين.. والعلماء وتجار البازار المتدينين..(رفسنجاني، ص60). وأسس آية الله شريعتمداري دار التبليغ وهدفه "إيجاد مراكز تعليم أكثر تنظيماً متعددة البرامج داخل الحوزات التقليدية... وكان قانعاً بإلقاء الدروس والأبحاث والتبليغ والمهام الدينية.."(رفسنجاني، ص106-107)). وكان السيد الحكيم يؤسس في العراق المكتبات العامة ويقوم بتحديث التدريس الحوزوي والاحتفالات بمناسبة عاشوراء يساعده السيد محمد باقر الصدر والشيخ محمد مهدي شمس الدين وغيرهما.
حين قرر السيد موسى الرجوع إلى لبنان كانت قد نضجت في رأسه واختمرت فكرة العمل الذي كان ينوي القيام به... وقد أخبرنا الإمام شمس الدين أن الفكرة نضجت بالتشاور مع السيد محسن الحكيم الذي أعطى الإمام الصدر وكالة عامة وتفويضا كاملا.. ولم تمض اشهر على عودة الصدر إلى لبنان (1959) حتى اندلعت الانشقاقات والصراعات داخل حزب الدعوة الأمر الذي أدى إلى طلب السيد محسن الحكيم من أبنائه والمخلصين له الانسحاب من الحزب (1960).. فانسحب السيد مهدي ثم السيد محمد باقر (اثر عودته من بنت جبيل في لبنان ولقاءاته مع السيد الصدر، والسيد محمد باقر الحكيم هو للمناسبة ابن شقيقة السياسي اللامع علي بزي وكان يحضر مجالسه في لبنان، وبالتالي فهو ابن خالة السيد فضل الله) ثم الشيخ محمد مهدي شمس الدين وتبعهم آخرون.. وما زالت هذه الوقائع في أساس السجالات والخلافات داخل حزب الدعوة والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق وما بينهما إلى يومنا هذا.. المهم هنا تسجيل الفرادة والتميّز للإمام الصدر ومنذ مرحلة مبكرة، ووعيه لظروف وأوضاع الشيعة ولحاجات التنظيم والاستنهاض التي رأى أنها لا بد أن تختلف عن نمط التنظيم الحزبي الغربي الذي يحمل أسماء إسلامية.كما أن المسالة الاساس التي حكمت كل الصراعات اللاحقة تتمثل في اكتشاف المراجع (السيد محسن الحكيم بداية ثم السيد محمد باقر الصدر الذي كان يعتبر المؤسس لحزب الدعوة) ارتباطات الحزب الخارجية (مع الشاه ومع الاردنيين والبريطانيين) وعقلية النخبوية الحزبية التي تستحل استغلال الناس كما استغلال المراجع والعلماء للوصول الى اهداف الحزب الباطنية..فكان الفراق باكراً بين جماعة المرجعية من جهة وجماعة الحزب من جهة اخرى، وهو فراق ما يزال يحمل بصمات التشكيك والتوتر الى يومنا هذا..
كان اول اللبنانيين المنتسبين الى حزب الدعوة الشيخ محمد مهدي شمس الدين والسيد محمد حسين فضل الله (1958)... وفي العام 1960 صدرت مجلة الاضواء نصف الشهرية باسم جماعة العلماء التي كانت واجهة للحزب يومذاك..وقد استمرت بالصدور حتى العام 1966..وكان يكتب افتتاحيتها السيد محمد باقر الصدر او الشيخ محمد مهدي شمس الدين (باسم رسالتنا)..وفي العام الثاني على الصدور (1961)، انقطعت "رسالتنا" وحلت محلها "كلمتنا" التي صار يكتبها محمد حسين فضل الله.. وكان ذلك يشير الى تطور اساسي تمثل في انسحاب آل الحكيم من الحزب ومعهم شمس الدين، ثم الى انسحاب السيد محمد باقر الصدر نفسه..بعد ذلك سيطر على الحزب هادي السبيتي وطالب الرفاعي وعارف البصري ومرتضى العسكري ومحمد حسين فضل الله وعلي كوراني وكاظم الحائري ومهدي الآصفي..والحقيقة ان حزب الدعوة استظل مرجعية السيد الحكيم والسيد الخوئي في سنوات 1957-1960 ثم مرجعية السيد محمد باقر الصدر (حتى استشهاده 1980)..و لم تتوقف الصراعات والانشقاقات في الحزب بخصوص مسألة العلاقة بين الحزب والمرجعية، وبين المدنيين ورجال الدين..نذكر هنا انشقاق جماعة من العلماء وعلى راسهم عبد الهادي الفضلي حين سيطر السبيتي على قيادة الدعوة (1963)..وانشقاق سامي البدري وجماعة بغداد (1967) لصراعهم مع عارف البصري..الا ان القشة التي قصمت ظهر البعير في العلاقة بين الحزب والمرجعية تمثلت في تخاذل الحزب عن الوقوف خلف السيد الحكيم حين قاد المواجهة مع نظام البعث(1969-1970)..وبعد وفاة المرجع الحكيم (1970) صاغ السيد محمد باقر الصدر نظريته حول العلاقة بين المرجعية والحزب (اطروحة المرجعية الصالحة) داعياً الى ضرورة الفصل بينهما بحيث يكون الحزب ذراعاً من أذرع المرجعية وتحت أوامرها..في حين ان الحزب كان يرى ويعمل للعكس اي استغلال المرجعية واستخدامها..واستمرت المجادلات داخل وخارج الحزب 3 سنوات 1970-1973..الا ان الحزب لم يترك العمل داخل الحوزة وباسم السيد الصدر الامر الذي أدى الى الصدام العنيف بينهما والى اصدار الصدر لفتواه الشهيرة حول عدم جواز انتساب طلبة العلوم الدينية الى الحزب (1974)..وفي اثناء ذلك كانت موجات القمع البعثي الدموي تتوالى من موجة 1970-1972 الى موجة 1974 التي انتهت باعدام عارف البصري وعزالدين القبنجي وعماد الدين الطباطبائي ونوري طعمه (13 نوفمبر 1974) واعتقال محمود الهاشمي (الشهرودي لاحقاً : رئيس القضاء الايراني حالياً)..في تلك الايام كان الامام الخميني منفياً في النجف وعلى صلة طيبة بالنظام العراقي الامر الذي أدى الى الجفاء لا بل العداء بينه وبين العراقيين..وبدءاً من العام 1975 أعاد هادي السبيتي تشكيل الحزب في حين فر العشرات الى الخارج ومنهم اللبنانيون (صبحي الطفيلي وعلي الكوراني وحسن ملك وعبد المنعم مهنا) والذين بقوا في النجف التفوا حول السيد الصدر (علي الامين،حسن طراد،محمد جعفر شمس الدين،عباس الموسوي...)ومع تصاعد الخلاف داخل الدعوة انعقد مؤتمر عام عٌرف باسم مؤتمر مكة (موسم الحج 1977) لم يحضره السبيتي وجماعته وسيطر عليه الثنائي كاظم الحائري (ايران) ومهدي الآصفي (الكويت)..حاول مرتضى العسكري حل الخلاف موسطاً فضل الله والكوراني..وقد اتهم حزب الدعوة كلاً من محمد باقر الصدر ومحمد مهدي شمس الدين ومحمد باقر الحكيم بانهم يتصلون بالكوادر ويحاولون شق الحزب..في حين قررت لجنة العراق في الدعوة (مهدي عبد مهدي) الالتزام بقرار المرجع الصدر..وبحسب صدر الدين القبنجي فان الاختلاف كان كبيراً بين رؤية الصدر ورؤية الدعوة للمرحلة..ذلك ان حزب الدعوة بنى استراتيجية عمله على اساس المرحلية مقسماً مراحل العمل الى اربع رئيسية هي الثقافية (الدعوة وتغيير الافكار) فالسياسية (الصراع السياسي مع الحكم) فالثورية (السيادة السياسية) ثم مرحلة الحكم وبناء الدولة وتصدير الافكار...لذا فان الحزب لم يكن يتبع تحديد المرجعية للمرحلة ومهماتها وانما يتبع نظريته هو حتى حين كانت المرجعية تقود المواجهة الكبرى (ايام الحكيم ثم الصدر كمثال)..غير أن أخطر مظاهر الخلاف يتعلق باختراق الحزب لوكلاء المرجعية (جاء في مجلة الجهاد الناطقة بلسان الحزب في ايران-العدد 12-كانون الاول 1983) ان 80% من وكلاء الصدر عام 1980 كانوا من الدعوة..غير ان الوضع كله تغير مع انتصار الثورة في ايران..تصاعدت المقاومة الشعبية في العراق وتصاعد معها القمع الدموي الذي لم يكن له مثيل في التاريخ المعاصر..فكان اعتقال السيد باقر الصدر (12-6-1979) شرارة انتفاضة 17 رجب التي قمعت بالحديد والنار..أعدم البعث 86 قيادياً معظمهم من وكلاء الصدر وحكم بالسجن المؤبد على 200 وبالسجن مدداً متفاوتة على 814..وبلغ عدد المعتقلين عدة آلاف استشهد الكثيرون منهم تحت التعذيب..وفي 16 تموز 1979 اقال صدام حسين أحمد حسن البكر وقام باعتقالات واسعة في صفوف قيادات وكوادر البعث لحقتها اعدامات شملت 5 وزراء و21 قيادياً بعثياً (غالبيتهم الساحقة من الشيعة)...عن تلك الايام القاسية الدامية خرج حزب الدعوة بتحليل قال فيه ان "تحرك رجب كان تحركاً محدوداً لم تنزل الدعوة فيه كل طاقتها ولم تستنزف كل امكانياتها وهذا نابع من طبيعة المرحلة .وكان عدم انزال كل قوتنا تصرفاً حكيماً وصحيحاً لأن المخزون من طاقتنا ينفعنا ليوم آخر،يوم الحسم"(ثقافة الدعوة الاسلامية،الجزء الرابع،ص 338).غير ان ما يراه الدعوة تصرفاً حكيماً كان بالنسبة للصدر والحكيم خيانة ثانية للمرجعية وللناس بعد الخيانة الاولى في انتفاضة عام 1969...بعد ذلك صعد نجم الثورة الايرانية وجرى اغتيال السيد باقر الصدر وشقيقته بنت الهدى (نيسان 1980)..وتصاعد الصراع المسلح بين البعث والدعوة في بيروت والكويت (محاولة اغتيال الكوراني ،اغتيال شري،اغتيال السيد حسن الشيرازي من الشيرازيين ومنظمة العمل الاسلامي، في بيروت،واغتيال عبد المنعم الشوكي في الكويت..الخ..) قرر الحزب نقل قيادته ومعظم كوادره الى ايران..انتقل الكوراني والآصفي في حين رفض السبيتي القرار ودفع حياته ثمناً لذلك (هو حفيد السيد عبد الحسين شرف الدين،قال يومها انه لم يتعود العيش الا من كد يمينه،وانه لا يجيد اللغة الفارسية..اعتقل في الاردن 9 أيار 1981 وجرى تسليمه الى صدام حسين ليقتله)..وقررت لجنة العراق بقيادة عبد الامير منصوري وحسن شبر الارتباط بالسبيتي وقطع صلتها بالآصفي..وفي ايران اسس الحزب لجنة جهادية بقيادة مهدي عبد مهدي وصبحي الطفيلي وفخري مشكور وعينت حسين كوراني ضابط اتصال بالحرس الثوري الايراني...وصار الحزب بأجنحته تحت قيادة اسمية لا تجتمع ضمت السبيتي والآصفي والعسكري والحائري والكوراني..وبعد اعدام السيد الصدر انهار تنظيم بغداد..فدعا كوادر الحزب الى مؤتمر انعقد في طهران أواخر عام 1980 وعرف باسم مؤتمر القواعد وحضره 72 كادرا وشكل لجنة من 9 للتحكيم بين جناحي القيادة..رفض السبيتي والكوراني وكوادر البصرة مؤتمر طهران وانتخاباته وتلا ذلك اعتزال مرتضى العسكري للعمل الحزبي، في حين واصل جماعة طهران اعادة التنظيم بقيادة ضمت الآصفي (ناطقاً باسم الحزب) والحائري (فقيهاً للحزب)..أعدت القيادة الجديدة لمؤتمر عرف باسم مؤتمر الشهيد الصدر (1981-طهران) شارك فيه من لبنان صبحي الطفيلي ومحمد رعد ونعيم قاسم (ذكر لي أحد الحضور انهم لم يتكلموا ابدا في المؤتمر)وانسحب الكوراني نهائياً من الحزب (اصدر كتابه الشهير "طريقة عمل حزب الله")..واستمر الصراع الداخلي حول ولاية الفقيه فعقد الحزب مؤتمراً جديداً في 1984 ليعيد العمل بمنصب فقيه الحزب وقرر تعيين الحائري مجدداً .. الا ان القيادة المدنية ظلت تسحب البساط من تحت أرجل الفقهاء فقرر الحائري والآصفي الانسحاب والتفرغ للمرجعية مع تبنيهما لولاية الفقيه..الا ان الحزب قرر استعادتهما وتشكيل مجلس فقهي ضمهما الى جانب الشيخ محمد علي التسخيري (أحد كبار مستشاري الخامنئي حالياً وخصوصاً في قضايا العلاقة مع أهل السنة)على أن يكون الحائري فقيه الدعوة.. وكانت القيادة المدنية تريد المجلس الفقهي مرجعية تقليد لا ولاية أمر.. وحاول الحائري والآصفي خلال العام 1985 ربط الحزب بالقيادة الايرانية مباشرة (بعد الاعلان عن تشكيل حزب الله اللبناني على اساس ولاية الفقيه)..ولكن الصراع م يتوقف.. وحين اصدر الامام الخميني قراره بتعطيل اعمال الحزب الجمهوري (10 حزيران 1987) انسحب الشيخ التسخيري من المجلس الفقهي في حين كان الحائري والآصفي يقودان حملة لتعزيز ولاية الفقيه ويدعوان الى حل الحزب اسوة بما حصل في لبنان..وفي مطلع عام 1988 انعقد مؤتمر الحوراء زينب وانتصر فيه خط ولاية الفقيه اذ قرر المؤتمر "ان الحزب جزء من الامة وهو مرتبط بالولاية العامة شأنه في ذلك شأن بقية ابناء الامة ويسري عليه ما يسري على كافة قطاعاتها".ولم بنته الصراع..ففي العام 1989 أعلن عدد من قادة الحزب انشقاقهم معتبرين ان الحزب ما يزال منفصلاً عن القيادة الشرعية وانه يعتبر نفسه بديلاً عنها وان فقيه الدعوة الخفي هو السيد فضل الله رغم تأكيد هذا الاخير انه ترك الحزب منذ 1982 بسبب عدم اختياره فقيهاً للحزب يومذاك..وتسمى المنشقون باسم تنظيم الدعوة-ولاية الفقيه وتفرغ الحائري للعمل لمرجعيته واستمر الآصفي في قيادة الحزب(ناطقاً رسمياً) ممثلاً الاتجاه الايراني في مقابل الباقين الذين التفوا حول فضل الله..
في العام 1989 توفي الامام الخميني..يومها قرر الايرانيون تولية الخامنئي ولياً لامور المسلمين دون ان يكون مرجعاً للتقليد..واعتبروا ان السيد الآراكي هو مرجع التقليد..وبين الاعوام 1990-1991(حرب العراق الاولى) و2003 (حرب العراق الثانية) هاجر مئات الكوادر من العراق والدول العربية الى بريطانيا وانخرطوا هناك في العمل السياسي الديمقراطي وسط الجالية العراقية التي يصل تعدادها الى أكثر من مليون..وارتبطوا بعلاقات مع قوى عربية ودولية.. تمخضت التحولات الكبرى بعد وفاة الخميني وحرب العراق الاولى عن قرار للدعوة انها في حل من التزامها بقيادة الخميني الذي كانت نصت على ولايته بالاسم في نظامها الداخلي..والغى الحزب منصب الناطق الرسمي واستبدلته بثلاثة ناطقين:ايران (علي الاديب) وواحد في بريطانيا عن اقليم اوروبا (ابراهيم الجعفري) وواحد في سوريا عن اقليم الشرق الاوسط (نوري المالكي)..
وفي العام 1992 توفي المرجع الخوئي، وفي آخر العام 1993 توفي المرجع السيد الكلبايكاني.. وبعده بقليل توفي المرجع السيد السبزواري .. وتلاهم مرجع ايران بعد الخميني الشيخ الآراكي (1994).. حينها قرر الخامنئي طرح نفسه كمرجع وهو الذي انتخب ولياً لأمر المسلمين دون أن يكون مجتهداً ومرجعاً .. إثر ذلك عيّنت جمعية مدرسي حوزة قم سبعة مراجع للتقليد بينهم الخامنئي دون محمد
حسين فضل الله.واعلن الحائري اعتزاله حزب الدعوة وطرح مرجعيته على الناس،وأعلن الآصفي التزامه قيادة الخامنئي وولايته، في حين أعلن فضل الله تصديه لمنصب المرجعية..واختاره حزب الدعوة مرجعاً له وفقيهاً معتمداً..ثم قرر الحزب تبني رأي فضل الله حول تعدد الولاية :"فكما يمكن ان يكون للامام (المهدي) في حال حضوره أن يحكم عدة اقاليم وله في كل منها نائب فانه يمكن كذلك ان يكون له في حال غيبته عدة نواب ايضاً...فالأصل في الولاية النائبة عن الامام (المهدي) تعدد الولي الا اذا كانت هناك مصلحة اسلامية عليا تفرض وحدته وكانت الوحدة واقعية"(صدرت الفتوى في 13-9-1998)..
ومنذ 2003 صار الدعوة عدة خطوط: خط الحائري، وخط الآصفي، وخط الجعفري، وخط المالكي، وخط البصرة (جماعة السبيتي)، وخط هاشم ناصر محمود، وخط خضير موسى جعفر، وخط موفق الربيعي، ناهيك عن الخطوط التي التحقت بحركة مقتدى الصدر أو بحزب الفضيلة أو بمرجعية السيد حسين الصدر أو بمرجعية وخط محمد حسين فضل الله...
وهنا لا بد من التوقف عند دور الدعوة في لبنان....
مع عودة فضل الله الى لبنان العام 1966 شرع في العمل على بناء كوادر وخلايا لحزب الدعوة..فكانت أسرة التآخي ومجلتها "الحكمة"، وكان الاتحاد اللبناني للطلبة المسلمين ومجلته "المنطلق" ..وأبرز من تخرج من الاتحاد محمد رعد ونعيم قاسم وهاني قاسم ومحمود قماطي وحسن حدرج (من حزب التحرير) ومحمد سعيد الخنسا .. ومن جيل لاحق علي فياض وقاسم قصير ونواف الموسوي وحسان عبد الله. وكان فضل الله متأثراً بتقي الدين النبهاني وبسيد قطب (لاحظ تفسيره للقرآن بعنوان من وحي القرآن تيمناً بظلال سيد) كما بنظرية او مبدأ القوة..وقد نشر فضل الله كتابه "منطق القوة في الاسلام"عام 1967 واستمر على ترداد مفهوم منطق القوة كما يظهر ذلك بوضوح في مقاله عن الشهيد باقر الصدر في جريدة العهد، العدد 42 ،22 رجب 1405-1985،بعنوان "لأنك قوة"..ونقل السيد حسن نصرالله عنه هذا المفهوم (راجع محاضرته في الاتحاد اللبناني للطلبة المسلمين بعنوان "التعبئة الثورية في عملية التغيير"،النهار في 27-1-1986)..وفي العام 1978 حمل الشهيد حسن شري فتوى الى الحركيين الاسلاميين (من دعوة وغيرها) بوجوب الانضمام الى حركة أمل والعمل من داخلها بعد اختطاف السيد موسى الصدر..
وكانت الضربات البعثية للدعوة في العراق تؤدي الى هجرة العديد من الكوادر الى لبنان..ففي السنوات 1975-1977 جاء الى لبنان عدد كبير من المشايخ الذين كانوا من تلامذة السيد محمد باقر الصدر ومن اعضاء حزب الدعوة..من علي الكوراني وعلي الامين ،الى صبحي الطفيلي وعبد المنعم مهنا وحسن ملك ، ومن عباس الموسوي و حسن طراد وجعفر شمس الدين الى عفيف النابلسي وحسين الكوراني...وحملوا معهم صراعات القوى والمحاور داخل حزب الدعوة..وقد جاء غيرهم واحتموا بعباءة السيد موسى الصدر ومحمد مهدي شمس الدين وانتشروا في قرى النميرية-الشرقية-الدوير-جبشيت-عبا-القصيبة-وكفرتبنيت..الخ..وحصلوا على اذونات رسمية من المجلس الشيعي للعمل كمدرسين لمادة التربية الدينية في مدارس الجنوب والبقاع..(على سبيل المثال أقام الشيخ حسن ملك في كفرتبنيت والشيخ حسين كوراني في الشرقية وعلي الامين في حي السلم..في حين عاد هاني فحص ومحمد حسن الامين يحملان وعياً عروبياً يسارياً وثورياً....واسس عبد المنعم مهنا حوزة في صديقين،وعلي الامين حوزة في حي السلم..واسس حسين سرور وعلي ياسين واسعد فنيش حوزة صور، وعلي العفي ومحمد يزبك حوزة بعلبك،وهؤلاء كانوا مع عباس الموسوي من طلبة السيد باقر الصدر..اما راغب حرب فهو درس في النجف (1967-1977 وعاد الى لبنان ليعمل مع الشيخ شمس الدين في منطقة النبطية ويؤسس ويتولى مبرة السيدة زينب في جبشيت..وفي الغبيري سكن الشيخ حسن طراد والشيخ علي الكوراني (مسجد الغبيري) والشيخ حسن عواد (مسجد الشياح)..وهرب حسن ملك الى قم (1978) بعد محاولة اغتيال بعثية (كفرتبنيت كانت معقلاً للشيوعيين واليسار ومعادية لحركة المشايخ)..وعاد ملك الى الشياح عام 1980 بحماية حركة فتح التي أمنت الحماية للعشرات من قادة وكوادر حركة المحرومين (من بينهم النائب علي عمار)..يقول حسن ملك لوضاح شرارة (دولة حزب الله ص109و118) انه درب خلال الاعوام 1975-1980 حوالي 700 شاب شيعي عراقي ولبناني من حزب الدعوة في معسكرات حركة فتح..
أدى اجتياح 1978 واحتلال جزء من ارض الجنوب إلى نشوء وضع جديد..فالى جانب التحرك السياسي سارع الإمام الصدر (والشهيد مصطفى شمران) إلى تمتين العلاقات التي نشأت مع لبنانيي حركة فتح في الجنوب، والى احتضان التعبيرات اللبنانية المرتبطة بالثورة الفلسطينية وذلك في مقابل عمل عشرات الايرانيين من أنصار الخميني ممن وفدوا مبكراً الى لبنان واقاموا في قواعد حركة فتح وأقاموا علاقات مع أجهزتها الامنية ..
عن هذه المرحلة يروي الشيخ رفسنجاني وقائع زيارته إلى لبنان في مطلع الحرب الأهلية(1975) فيقول ما حرفيته:"في لبنان كانت الحرية أمراً لافتاً...كنت أعرف السيد موسى الصدر من قبل فقد قرأت عليه جزءاً من المطوّل(أي أنه تتلمذ عليه في قم)...الشهيد محمد منتظري (ابن الشيخ حسين علي وكان يومها زعيم التيار الراديكالي في حركة الخميني) كان على معرفة وثيقة بالقوى المناضلة والفاعلة في لبنان كلها...مباحثاتي كان لها تأثير في تعديل بعض المواقف ووجهات النظر المتطرفة(التي كان يحملها الإيرانيون الملتحقون بالثورة الفلسطينية مثل الشهيد منتظري والشهيد محمد صالح الحسيني وجلال الدين الفارسي ومحسن رفيق دوست ومحتشمي وغيرهم).... وكان أنصار الإمام وعلى رأسهم ابنه المرحوم السيد مصطفى في نزاع مع السيد موسى مصدره الأصلي والوحيد مسألة المرجعية..إذ لم يعلن السيد الصدر تأييده لمرجعية الخميني... كان الشبان الإيرانيون في لبنان يريدون أن يأخذ السيد موسى موقفاً صريحاً.. وكانت لهم خطب لاذعة وبيانات ..ذهبت لمقابلة الإمام الخميني في النجف وللتقريب بينه وبين السيد موسى الصدر.."(من كتاب رفسنجاني:حياتي،الصفحات170 إلى 176).
حزب الله والمقاومة الإسلامية
كانت الحالة اللبنانية التي ولدت في الجنوب حول الكتيبة الطلابية وأفواج المقاومة اللبنانية (وقد وصفها الشهيد مصطفى شمران في كتابه التاريخي التوثيقي: شيعة لبنان) السباقة إلى التضامن مع طروحات الإمام الخميني في منفاه في النجف ومع اندلاع ثورة العصر في إيران.... ثم ابتدأ عصر الإسلام السياسي الجديد مع اللجان الإسلامية والشباب المؤمن والاتحاد اللبناني للطلبة المسلمين ومجلة المنطلق (واجهات الدعوة)، ولجان العمل الإسلامي (خليط مرتبط بمنظمة العمل الاسلامي الشيرازية وبعض المستقلين من مشايخ اليسار المرتبطين بحركة فتح)، وأنصار الثورة الإسلامية (تيار منتظري والحرس الثوري لاحقاً وقد كانوا مرتبطين بحركة فتح)... وكلها شكلت لاحقا إلى جانب المنشقين عن حركة أمل (السيد إبراهيم أمين السيد ممثل امل في طهران، السيد حسين الموسوي رئيس هيئتها التنفيذية ومنافس بري على القيادة، السيد حسن نصر الله مسؤول الحركة في البقاع، وهم بالمناسبة من متسللي حزب الدعوة الى داخل حركة أمل وكان رئيسهم الفعلي حسن شري الذي قتله البعثيون في بيروت) الروافد التأسيسية التي صبّت جميعها في نهر حزب الله والمقاومة الإسلامية..
خطف الإمام الصدر، وانتصار الثورة في إيران، أديا إلى تفاعلات حتمية ادت إلى التحاق أعداد كبيرة من الشباب المقاوم بالجو الإسلامي الشيعي بعد 1979 (وتبوأ العديد منهم مراكز قيادية لاحقا كما أن العشرات أيضا استشهدوا وهم يقودون قوات وعمليات من المقاومة الإسلامية).وفي نفس المرحلة كان الصراع الداخلي بين حركة أمل وأحزاب اليسار اللبناني والفلسطيني (نتيجة الدور الليبي في اختطاف السيد موسى الصدر والدور اليساري في الارتباط بالعراق بعد اغتيال الشهيد السيد محمد باقر الصدر) قد وصل إلى ذروته العنيفة ما سمح لحزب الدعوة (الشديد المركزية والتنظيم الأمني المحكم) بالإمساك بالمواقع الأمنية والعسكرية داخل حركة أمل و بقيادة عملية الصراع هذه.ولا توجد دراسات موثقة حول دور حزب الدعوة في لبنان قبل تشكيل حزب الله إلا أن الأكيد أن كوادره عملت من داخل ومن خارج حركة أمل (وابرزهم الشهيد حسن شري)، كما من داخل ومن خارج حركة فتح الفلسطينية (وابرزهم الشهيد عماد مغنية).وأخيرا جاء اجتياح صيف 1982 ليطوي صفحة الوجود الفلسطيني المسلح في جنوب لبنان وليفتح صفحة التموضع الشيعي مع الحرس الثوري في البقاع..
صحيح أن حزب الدعوة حل نفسه وانخرط في تشكيلة حزب الله (صبحي الطفيلي،محمد رعد، نعيم قاسم، علي كوراني،حسين كوراني ،محمد حسين فضل الله،محمد سعيد الخنسا،محمود قماطي ،حسن حدرج)الا أن الصحيح أكثر ان من دخلوا حزب الله دخلوه فرادى مفككين مختلفين بسبب صراعات الحزب في العراق وسوريا والخليج ولندن..فبعد اغتيال هادي السبيتي في الاردن انفرط عقد الدعوة في لبنان.. ولم يترك الايرانيون الأمر للصدف او العواطف..فمنذ العام 1979 بدأوا بتأطير القوى اللبنانية التي كانت تؤيدهم ومن ضمنها حزب الدعوة المنفرط..وخلال 3 سنوات ركز الايرانيون على دعوة القيادات الدينية والمدنية الشيعية الى طهران وهناك كانت الحوارات والنقاشات والصراعات تدور حول الحركة الاسلامية المطلوب تاسيسها في لبنان..وقد شكلوا عدة تجمعات لرجال الدين (تجمع علماء البقاع، وتجمع علماء جبل عامل،وتجمع العلماء المسلمبن، ومعها الحوزات الدينية ومدارس الكوادر ..وبعد اجتياح 1982 عملت قيادة الحرس الثوري في بعلبك طوال 3 سنوات (مركز عشاق الشهادة)على تفكيك واعادة تركيب كل العلاقات الشيعية بما فيها حزب الدعوة الذي صار شيعاً وجماعات متفرقة ترتبط كلها بايران..فقد استطاع الايرانيون السيطرة على المجال العام عبر الاذاعة(صوت المستضعفين)والجريدة(العهد)والمجلة(الوحدة الاسلامية)وخطب الجمعة والمسيرات واليافطات والملصقات والمنشورات والزيارات المنظمة الى السيدة زينب في دمشق والى المقامات في ايران...كما سيطروا على غالبية المساجد والحسينيات في لبنان وعينوا رجال دين لها،وعملوا على اختيار شباب للدراسة في الحوزات في ايران،وتنظيم معسكرات التعبئة والتدريب،وتقديم الخدمات المجانية مثل الطبابة والاستشفاء والوقود وغيرها..وانشاء المدارس والمعاهد،والسيطرة على التعليم الديني في كل المدارس، والسيطرة على اوقاف الشيعة....وقاموا بالتنسيق مع قوات فتح في البقاع بالعمليات العسكرية الكبرى للمقاومة اللبنانية وتحت اسماء متعددة (حركة ابناء جبل عامل،العادلون،حزب الله،الشباب المؤمن)..وحين تشكلت لجنة قيادة حزب الله من 9 كان من الطبيعي ان تضم عباس الموسوي وصبحي الطفيلي وحسين كوراني وحسن نصرالله ومحمد يزبك وحسين الموسوي وابراهيم امين السيد وعفيف النابلسي ومحمد رعد..ثم قلصت الى 7 ،لتستقر في العام 1984 على خمسة وفي 1985 تعود الى سبعة (عباس الموسوي،صبحي الطفيلي،ابراهيم امين السيد،حسن نصرالله،حسين الموسوي،نعيم قاسم،محمد رعد)..كانت النسب التمثيلية تعكس كل التجمعات السالفة الذكر ولكن الحصة الاكبر فيها كانت من نصيب بقايا الدعوة...وكان الجامع بينها كلها هو الالتزام بولاية الفقيه.. ووصاية السفير الايراني في دمشق يومذاك علي اكبر محتشمي بور ثم حسين اختري..
في العام 1989 انتخب صبحي الطفيلي أميناً عاماً للحزب..وخرج السيد حسن نصرالله الى قم للدراسة..وفي 1991 ازيح صبحي الطفيلي عن منصب الامين العام وانتخب عباس الموسوي محله..الا انه اغتيل في شباط 1992 ليحل محله حسن نصرالله الذي استقدم على عجل من قم ..
وتعكس هذه التغيرات تغيرات كبرى في ايران (وفاة الخميني،تحالف خامنئي-رفسنجاني-احمد الخميني في وجه جماعة خط الامام وممثلهم الاول محتشمي مؤسس حزب الله وصديق الطفيلي...انتصار خط خامنئي-رفسنجاني واسقاط محتشمي وكل تياره من السلطة.)..اذن جاء حسن نصرالله كممثل لخط خامنئي منذ ذلك الحين وهو لما يزل...اما الدعوة فلم يعد حزباً واحداً ولا تياراً متجانساً ولذلك يصعب الحديث عنه داخل حزب الله وانما يتوجب الحديث عن اشخاص يرتبطون بمراكز قوى في ايران ليس الا..
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)