عصام دربالة يكتب عن محاولة تفجير طائرة ديترويت..
(عصام دربالة هو المنظّر الأول والفقيه الأبرز لتنظيم الجماعة الاسلامية الجهادي المصري الذي خطط ونفذ اغتيال الرئيس السادات عام 1981... ومنذ 1997 وقيادات وكوادر الجماعة يجرون مراجعات فكرية وفقهية لكل موضوع العنف المسلح والحركات الجهادية التكفيرية في العالم العربي... وهذه آخر مقالات الشيخ عصام حفظه الله= د.سعود)
لا ينبغي أن تمر محاولة الشاب النيجيري عمر الفاروق عبد المطلب لتفجير الطائرة المتجهة إلى ديترويت بأميركا مرور الكرام دون تعقيب أو تحليل خاصة وأن تنظيم القاعدة أعلن مسئوليته عن تلك المحاولة مبرراً ذلك بأنها رداً على التدخل الأميركي في أحداث اليمن.
وتخيل نفسك أنت وأطفالك وزوجتك بين ركاب هذه الطائرة وتخيل أنك صرت أشلاءً أنت وأطفالك وزوجتك وبعض النسوة والمسنين حولك.. فإن تخيلت ذلك فلابد أن تتفق معي على أن هذه المحاولة الفاشلة تشير إلى وجود خلل كبير يحتاج إلى علاج في أكثر من قضية:
الخلل في الرأي الشرعي الذي يستند إليه أصحاب هذه المحاولة.
الخلل في الإستراتيجية التي يتبناها تنظيم القاعدة.
إستراتيجية أوباما الكلامية تجاه العالم الإسلامي.
وكل هذه الأمور تحتاج إلى توضيح وتبيين نوجزها فيما يلي.
أولاً: خطأ الرأي القائل بجواز تفجير الطائرات المدنية:
وقبل أن نبين أوجه خطأ القول بجواز تفجير الطائرات المدنية نشير إلى عدة أمور تسهم في توصيف هذه العمليات بشكل يساعد على تحديد الحكم الشرعي المناسب لها:
نحن بصدد تقييم خطف وتفجير الطائرات المدنية من الناحية الشرعية وهو ما يختلف عن تقييم ذلك بالنسبة للطائرات العسكرية في حالة قيام حرب مع الدولة التابعة لها هذه الطائرات والتي يكون كل ركابها من العسكريين.
فمثل هذه الطائرات العسكرية لاشك في جواز خطفها وتدميرها في ظل وجود حالة الحرب، حتى لو تم تفجيرها في أماكن قد يصاب فيها مدنيون، فالخطأ هنا ليس في خطفها أو تفجيرها إنما في قصد تفجيرها في أحد الأهداف المدنية التي يبيح الشرع قصدها بذلك.
إن ركاب الطائرة المدنية المخطوفة يتوزعون على جنسيات مختلفة وينتمون إلى أديان متباينة ويضمون بين صفوفهم الأطفال والنساء والرجال والشيوخ بالإضافة إلى طاقم الطائرة.
إن ركاب الطائرة في الغالب الأعم لا تكون لهم أي علاقة بالقضية التي يدافع عنها الخاطفون أو المطالب التي يريدون تحقيقها.
إن تفجير الطائرة ينطوي على قتل الخاطفين لأنفسهم.
ويمكن القول بعد هذا التوصيف أن الإقدام على اختطاف وتفجير الطائرات المدنية لا يجوز شرعاً للآتي:
لأن هذا الخطف والتفجير ينطوي على ترويع وقتل من لا يجوز ترويعه أو قتله؛ وذلك لوجود ركاب من المسلمين بالطائرة أو وجود أطفال أو نساء أو شيوخ من غير المسلمين، لا يجوز قتلهم حتى في حالة الحرب بالإضافة إلى احتمال قتل من لا يصح قتله إذا ما ارتطمت الطائرة بهدف مدني لا يعرف الخاطف من فيه.
إن خطف وتفجير الطائرة ينطوي على غدر بالشركة المالكة للطائرة وبالركاب، وبيان ذلك كالآتي:
فالشركة أعطت الخاطف تذكرة لاستخدام طائرتها بشرط عدم تعريض سلامتها وسلامة ركابها للخطر، وعندما يقوم الخاطف بخطف وتفجير الطائرة يكون قد أخل بتعهده ذلك.
أما الركاب فكل منهم يعتقد أن الآخرين لا يريدون إصابته بسوء ولا يضمرون شراً له، وذلك جرياً على العرف والعادة المستقرة بين المتعاملين مع شركات الطيران، وهو ما يمثل أماناً أو شبهة أمان تمنع من إلحاق الأذى بهم.
ومن المعلوم أن الشريعة الإسلامية أمرت بالوفاء بالعهود فقد قال الله تعالى : "وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً"
وقال النبي: "لكل غادر لواء يوم القيامة يقال هذه غدرة فلان" أ. هـ
إن خطف الطائرة والمساومة بركابها لتحقيق بعض المطالب، وتعريضهم للترويع، وربما للقتل للضغط على حكومات بلدانهم أو المحتلين لها لا يجوز شرعاً، لأنه بمثابة معاقبة البرئ "وهم الركاب" من أجل إرغام المحتل أو الجاني على الاستجابة لمطالب الخاطف.. ولأن هؤلاء الركاب في الغالب ليس لهم علاقة بقضية الخاطفين، وربما يكونون من المتعاطفين معهم، لكن لا يدرك الخاطفون ذلك.
وكل هذا ينافي العدل، وهذا الصنيع منهي عنه لقوله تعالي: "وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا" فلا يصح الاعتداء على هؤلاء الأبرياء من أجل بغضنا للمستعمرين ورغبتنا في إجبارهم على الاستجابة لمطالبنا منهم.
إن تفجير الطائرة بفعل الخاطفين يؤدي إلى تدمير ممتلكات لا يجوز إتلافها شرعاً، فالطائرة وأمتعة الركاب والخسائر المادية التي تنجم عن ارتطام الطائرة بهدف أرضي.. كل هذه الأشياء لا يجوز إتلافها في الغالب.
إن قيام الخاطفين بتفجير الطائرة المدنية سيؤدي إلى قتلهم بفعلهم هذا، وهو ما قد يعده بعض العلماء المعاصرين من قبيل الانتحار المنهي عنه شرعاً.
ولا شك في أن استهداف طائرة ديترويت بالتفجير سينطوي على تلك المخالفات الشرعية التي تجعلها محاولة خاطئة، ويكفي أن نعلم أن الذي يقوم بالتفجير سيقتل من لا يعرف مدي استحقاقه للقتل من عدمه، ولا يدري هل هناك معصوم الدم موجود بين ركابها أم غير موجود.
وكل هذا يبين أوجه الخطأ التي تكتنف مثل هذه العمليات.
ثانياً: الخلل في إستراتيجية تنظيم القاعدة:-
تعكس هذه المحاولة الخاطئة لتفجير طائرة ديترويت قضية هامة تتعلق بإستراتيجية تنظيم القاعدة لتحقيق أهدافه سواء على مستوي العالم أو على مستوي بعض الدول مثل: العراق – اليمن – أفغانستان – السعودية – الولايات المتحدة الأمريكية.
فالناظر في إستراتيجية تنظيم القاعدة تجاه هذه الدول يجد أنها تتسم بقدر كبير من الغموض وعدم التحديد، ولعل هذا يظهر من جملة الأسئلة الآتية:
هل تهدف إستراتيجية القاعدة تجاه العراق إلى طرد الولايات المتحدة الأمريكية منه فحسب.. أم أنها تسعي لإقامة دولة إسلامية في العراق؟!!
وإذا كان الأمر كذلك فعلى أي جزء من الأراضي العراقية سيتم ذلك: الجنوب الشيعي أم الوسط السني أم الشمال الكردي ؟
وهل سيتم ذلك بأيدي المنتمين لتنظيم القاعدة أم بأيدي العراقيين ؟
وما هي فرص نجاح ذلك ؟
هل يستهدف تنظيم القاعدة في اليمن دعم الحوثيين في صراعهم ضد حكومة الفريق على عبد الله صالح أم يستهدف دعم انفصال الجنوب عن الشمال؟
وهل سيتم ذلك بأيدي يمنية أم بأيدي أبناء التنظيم.. وما فرص نجاح أي من ذلك؟
هل يستهدف تنظيم القاعدة في أفغانستان طرد قوات التحالف الدولي بقيادة أميركا منها ودعم سيطرة طالبان عليها.. أم يستهدف ملاحقة أميركا في باكستان؟
وإن كان الهدف دعم سيطرة طالبان فهل إستراتيجية التنظيم ستتجه لدعم بقائها كدولة ناشئة تبني نفسها.. أم أنه سيواصل إقحامها في معركته اللانهائية ضد الولايات المتحدة الأمريكية؟
وهل تقبل القاعدة الوصول لهدف طرد المحتل من أفغانستان عبر التفاوض السلمي؟
هل يستهدف تنظيم القاعدة في السعودية إسقاط الحكم الملكي فيها والحلول محله.. أم يسعي لملاحقة الأمريكيين بها فحسب؟!!
أم أن المعركة في السعودية تحولت إلي مواجهة السعوديين بدلاً من الأمريكان؟!!
هل يستهدف تنظيم القاعدة في إستراتيجيته الموجهة لأميركا أن ينهي التفوق الأميركي كقوة عظمي على مستوي العالم؟!!
وإن كان الأمر كذلك فهل سيصير تنظيم القاعدة القوي العظمي الأولي!!؟
وإن كان هذا غير ممكن فهل ستصعد دولة أخرى غير إسلامية لتحل محل أميركا؟!!
وهل كتب على الحركات الإسلامية الجهادية أن تسهم في إسقاط القوي العظمي القائمة لحساب قوي عظمي أخري لا تنتمي إلى عالمنا الإسلامي؟!!
هذه بعض الأسئلة التي توضح ضرورة قيام تنظيم القاعدة بإعادة النظر في إستراتجيته الحالية التي جعلته في صراع قائم مع أغلب حكومات دول العالم الإسلامي ودفعتها إلى انتهاج بعض الأساليب القتالية غير الجائزة شرعاً.
إذا كنا تعرضنا - نحن وغيرنا - كثيراً لبيان أوجه الخلل الذي يكتنف إستراتجية تنظيم القاعدة.. فإننا نري أنه يجب علينا وعلى غيرنا أن نتوجه إليهم بعرض استراتيجيات بديلة صحيحة لربما تسهم في إعادة نظر قادة تنظيم القاعدة في تلك الإستراتيجية القائمة حالياً.
ثالثاً: إستراتيجية أوباما الكلامية تجاه العالم الإسلامي:
لا نستبعد أن محاولة تفجير طائرة ديترويت قد جاءت كرد فعل على الدور الأميركي في أحداث اليمن الأخيرة.. ولكن أيضاً هناك ملاحظة هامة يجب أن يلتفت إليها وهي تتعلق بتاريخ هذه المحاولة.
فالناظر إلى هذا التاريخ يدرك أنه يأتي قبل مرور عام تقريباً على تولي باراك أوباما رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية.
وهذا قد يعني أن الآمال التي أنعشها خطاب أوباما الإيجابي تجاه العالم الإسلامي قد بدأت في التبخر.. وبدأ شعور عام ينمو بأن إستراتيجية أوباما تجاه العالم الإسلامي هي إستراتيجية كلامية أكثر منها فعلية.. وأن الظلم الأميركي المتعلق بقضايا العالم الإسلامي سوف يستمر.. ولكن من خلال ارتداء قفاز حريري وهذا ما سيؤدي إلى ردود أفعالٍ غاضبة تجاه كل ما هو أميركي.
وإن كنا لا نجيز أي رد فعل غاضب ينطوي على ظلم أي أحد سواء كان أمريكياً أو غير أمريكي فإننا نري أن هناك معضلة حقيقية أمام براك أوباما يجب أن يتصدي لها بالحل الصحيح.
وإذا كنا نحكم على محاولة تفجير طائرة ديترويت بالخطأ.. فإننا أيضاً نؤكد على أن السياسات الأمريكية الظالمة تجاه قضايا العالم الإسلامي في فلسطين وأفغانستان والعراق وغيرها تعد سبباً رئيسا ً محركاً لهذه المحاولات.
ونؤكد أيضاً أن مثل هذه السياسات الظالمة الخاطئة لا تجيز دفع الظلم بظلم.. أو الخطأ بخطأ مثله.