بنت جبيل 1978
في آذار من كل عام يتفتح الحنين شوقاً إلى حارات بنت جبيل وزواربيها، إلى عطر مقابرها ومآذنها، إلى ذاكرة لأهلها لا يعقلها كومبيوتر ولا تضبطها عولمة.. في 17 آذار 1970 خفق قلبنا خفقات حب ووفاء لشهيدها واصف شرارة، وفي 17 آذار 1978 لم نستطع احتضان جثمان شهيدها حسان شرارة ورفيقيه قاسم بزي وفؤاد دباجة، قرأنا لهم الفاتحة ولم نعرف رسم قبورهم... وظلت الغصة في القلب والدمعة في العين، نحبسها، ونرفع الرأس ونقول: سقى الله ايام بنت جبيل...
قبل أسابيع من استشهاده كتب حسان شرارة إلى اخته رسالة اعتذار، على أمل ان يفهم الأهل لماذا حملنا الحلم وركبنا المستحيل. قال حسان في رسالته (المؤرخة في 19 شباط 1978) "ان أهلنا لا يمكن ان ينعموا براخة البال الا بعد زوال الكيان المصطنع الذي لم يعد يهدد الشعب الفلسطيني بل كل الأمة العربية.. إننا لا نقاتل من أجل ان يقولوا عنا قاتلنا وتعبنا. لا بالعكس. فإننا نقاتل من أجل ارضاء الضمير والعمل في سبيل الله ودفاعاً عن أرضنا وأهلنا وشعبنا وعروبتنا. أنه وفاء للأرض، لتربتها التي منها خلقنا، ولشجرها الذي منه نأكل، وأنهارها التي منها نشرب... على الأقل أنه عدم أنكار للجميل.."
وبعده بأيام، كتبت دلال المغربي في رسالتها – الوصية عشية انطلاقها في العملية الاستشهادية على شاطىء فلسطين (11 آذار 1978):" انا التي لم اولد على أرض فلسطين ولم أرها سوى على الخارطة التي كانت معلقة على جدران المدرسة، كنت أجمع رفيقاتي كل يوم واعرفهن من أين أنا، من أي بلد ومن أي حي في يافا القديمة. وكان أبي يحدثني عن فلسطين التي طرد منها إلى لبنان سيراً على الأقدام من يافا إلى بيروت وهو يحمل أمه وأخيه زحفاً وعطشاً وجوعاً وبرداً..." واختتمت دلال وصيتها بمقطع من أغنية ثورية شاعت على لسان المقاتلين في تلك الأيام: بلغوا أمي الحنونة وأبي والأخوات... كفكفوا دمعاً حزينا، صرت بنتاً للبلاد.. لا تظنوه عقوقاُ لقضاء النزوات.. حبكم صار عظيماً، كل يوم في ازدياد".
لم يكن يدور في خلد هذا الجيل الرومانسي، ان يأتي يوم تصبح فيه أحلامهم وتضحياتهم و" جنونهم الثوري"، مثار تندر وتهكم أو إهمال ونسيان..
حسان شرارة ودلال المغربي ينتميان إلى هذا الجيل، وإلى تجربة ثورية فذة، كان لها شرف صناعة كرامة الجنوب في حرب آذار 1978، وكانت (مع من كانوا) حجارة الحلم المستحيل! فإلى أبطال الكتيبة الطلابية ، إلى رفاق المواجهة في بنت جبيل، الأحياء منهم والشهداء، وإلى ذكرى هؤلاء الأحباب، الذين كانوا الوجع والعمر، وكانوا الالق والفجر، ألف تحية وقبلة على جبين الذاكرة... علّ الذكرى تنفع والحاضر يسطع ليضيء المستقبل .