الجمعة، 18 يونيو 2010

قراءة فى المسألة البرادعية : مأساة المستور ..وملهاة الدستور

د. سمير غطاس - القاهرة

ليست له وسامة أهل الفن أو السينما ، ليست له كاريزما رجال السياسة والزعماء ،ليس شابا فى حيوية نجوم الكرة ، و لم يرث عن ابيه ملكة الخطابة ولا حسن البيان وطلاقة اللسان ،و هو ما يزال يراوح فى المناطق الرمادية للتردد ،و لم يختبر بعد صلابة عظامه ان هى تعرضت للضغط ، للوي ، وربما للتكسير . ومع ذلك كله اصبح بين ليلة وضحاها النجم الاول للشباك ، وتصدر واجهات الاعلام المكتوب والمرئى مذ عاد مؤخرا الى القاهرة بعد غياب طويل ملوحا بعزمه ، المشروط ، على التنافس فى الانتخابات القادمة على منصب رئيس الجمهورية . وليس لاحد بالطبع ان ينكر ما احدثته عودة الدكتور البرادعى الى مصر من حراك ايجابى نسبى فى المجتمع السياسى القاهرى ،كما انه ليس لاحد ان ينكر ايضا ان عودة البرادعى هذه ما كان لها ان تهز خشبة للموتى ولا حتى خيال للمآتة فى اى خربة مصرية مالم تكن الحالة الحزبية والثقافية – السياسية فى المجتمع المصرى على ما هى عليه من هشاشة وضعف وتخلف . وقد يكون من المبكر جدا اصدار احكام قيمية قاطعة بشأن ظاهرة " البردعة " او " التبردع " التى هى ظاهرة لاتخص شخص الدكتور البرادعى وحده وانما تتسع ايضا لتشمل تلك الجماعة السياسية المتباينة الالوان التى توافقت ،من جهة ، على المراهنة عليه ، والتى تتجاذبه ايضا فيما بينها من الجهة الاخرى، فنحن ما نزال فحسب فى مستهل المشهد التمهيدى لتطور وتصاعد احداث فصول نوع جديد من الدراما السياسية التى طرأت على الواقع المصرى ،وكان لها الفضل الذى لاينكر فى تحريك ركوده وكسر ملله ورتابته . ورغم حداثة عهد هذه الظاهرة فأنها مع ذلك اجتذبت قراءات متعددة لها ، معها وضدها ،وهو حراك آخر ، وليس اخير ،يحسب ايضا فى ميزان حسناتها السياسية ،وتسعى هذه القراءة ،الأولية بطبيعة الحال ، للاسهام فى اثراء مثل هذه القراءات ، ولكن من زوايا مغايرة فى الرؤية والتحليل.
قد تكون مسوغات استدعاء الدكتور البرادعى لولاية مصر المحروسة هى المحور الاول فى هذه القراءة ،ومن المفهوم تماما ان يكون الاحساس العميق بالعجز الذاتى عن احداث الاصلاح والتغيير من داخل مصرهو السبب الاول وربما الوحيد الذى تستند اليه الجماعة السياسية التى استدعت البرادعى وتراهن عليه لاحداث ماعجزت هى عن تحقيقه سواء لاسباب تتعلق بأزمتها الذاتية التى غالبا ماتكابر فى الاعتراف بها ، او للاسباب الموضوعية الاخرى التى تتعلق بالقيود المقننة التى ابتدعها النظام فى مصر والتى تعيق او تعطل التحولات الضرورية نحو الاصلاح والتغيير السياسى او للسببين معا، ومثلما هو الحال فى اللجؤ للغيبيات والقوى المفارقة للواقع عند وقوع الهزائم والعجز عن مواجهة تحدياتها ،لجأت الجماعة السياسية فى مصر لسابقة استدعاء " المخلص او المنقذ " من الخارج ، ولذا كان يستوى فى هذا الاستدعاء كل من محمد البرادعى او احمد زويل ،وبعد اعتذار زويل جرت المراهنة على البرادعى لانه يحظى بمكانة دولية مرموقة تمنحه نوعا ما من الحصانة او الحماية الدولية التى قد تكف عنه بعضا من شر اذى منافسيه المتنفذين ،بما يعنى بكل صراحة حاجة الجماعة السياسية فى مصرللاحتماء بمظلة دولية كعامل مؤثر فى معادلة الصراع السياسى الداخلى . والحقيقة انه باستثناء توافر هذا الشرط فى الدكتور البرادعى فأنه ينكشف امام المعايير الاخرى الضرورية للنهوض بقيادة العملية التاريخية الشاقة للاصلاح والتغيير السياسى فى مصر ،وهى مهمة مختلفة تماما عن حقه هو وغيره فى الترشح لرئاسة مصر التى توالى على ولايتها وحكمها اليونانيون والبطالمة والبيزنطيون والامويون والعباسيون والاخشيد والفاطميون والمماليك والجراكسة البحرية والبرجية والعثمانيون الاتراك والبايات والفرنسوية والانكليز وتولى حكمها حتى الامير خاير بك الجركسى الملقب بالخائن و العبد الخصى ابو المسك كافور الاخشيد ، وكان التاريخ المصرى عرف ، فى هذا السياق ، العديد من الحالات المتفاوتة التى جرى فيها استدعاء او تولية حكام على مصر ، ربما كان من اهمها تأثيرا و حضورا حالة استدعاء محمد على وتوليته على حكم مصر، وقد يكون من المفيد لنا وللدكتور البرادعى وللجماعة السياسية التى ساندت استدعاءه ، " استدعاء " دروس هذه التجربة الهامة من سجلات التاريخ للمقارنة معها و للتمعن فيها على ضوء الواقع الراهن . كانت تولية المصريين لمحمد على قد حدثت فى ظل شروط تاريخية هامة من ابرزها اشتداد وطأة الازمة الداخلية التى تمثلت فى عجز الولاة السابقين ( خسرو وطاهر )عن تدبير رواتب الجنود ، وانتشار المجاعة الحقيقية بعد منع المماليك فى الصعيد توريد الغلال والحبوب للقاهرة ، وتحت وطأة جباية الضرائب التى اخرجت اول مظاهرة نسائية فى مصر تهتف :" ايش تاخد من تفليسى يا برديسى " ،وفى ظل مشاركة شعبية واسعة فى ثورة القاهرة الاولى والثانية وبروز قيادة وطنية مصرية مدنية يتزعمها السيد عمر مكرم والمحروقى كبير التجار والشيخ عبد الله الشرقاوى وحسين السيوطى وابن شمعة شيخ الجزارين وغيرهم ممن قادوا ثورة الشعب المصرى ضد المماليك والاتراك فى مايو 1815، ولما اظهر محمد على انحيازه الكبير للشعب جرى استدعاءه وتوليته على مصر ولكن فى اطار التزامه بعقد اجتماعى يدعوه لتخليص مصر من ظلم المماليك وينهاه عن فرض الضرائب دون موافقة الشعب ، ولم يكن تمكين محمد على للولاية على مصر الا خطوة فى مشروعه النهضوى الكبير الذى ارسى فيه قواعد الدولة المصرية الحديثة على النسق الاوروبى مستعينا فى ذلك بخبرات عدد من جنرالات نابليون المسرحين من الخدمة وعدد من اتباع الفكر السانسيمونى التحررى ،وتحولت مصر بسرعة فى عهده من بلد فقير ومتخلف الى دولة عصرية حديثة وقوة اقليمية كبرى بفضل مشروعه النهضوى الذى يرتكز على منظومة من الاستقرار السياسى والمجتمع المدنى واعتماد التعليم العصرى ومناهج العلم الحديث والتركيز على خيار التصنيع ، لم يكن محمد على اول من استدعى من الخارج ليولى على حكم مصر لكن التاريخ يذكره وحده فيما ارسل الآخرين الى مزبلته لانه الوحيد الذى كان لديه مشروع نهضوى منفتح على العصر والحداثة ، وربما وجبت الاشارة ايضا الى نموذج آخر مختلف عن استدعاء الرؤساء من الخارج كانت عرفته الجزائر فى اعقاب اندلاع ازمة دستورية خلفتها استقالة الشاذلى بن جديد من رئاسة الدولة هناك ما ادى الى استدعاء محمد ابو ضياف الذى كان واحدا من قادة الثورة الجزائرية البارزين وتنصيبه رئيسا للجزائر فى يناير 1992 ولم يعمربوضياف فى منصبه هذا لاكثر من نصف عام حيث جرى اغتياله على يد ضابط صغير فى الجيش الجزائرى لتسود بعدها الفوضى والحرب الاهلية ،قبل ان يجرى استدعاء الرئيس الحالى عبد العزيز بوتفليقة من الامارات العربية فتقد م لترشيح نفسه فى الانتخابات وانسحب جميع منافسيه امامه وبقى هو مرشحا وحيدا تولى بعدها رئاسته الاولى فى عام 1999 قبل ان يخترق الدستور مؤخرا ليواصل ولايته الثالثة على التوالى . كانت هذه نماذج متنوعة على استدعاء مرشحين او ولاة ورؤساء من الخارج ، وهى على اختلافها فأن القاسم المشترك بينها هو احتدام ازمة الحكم ما يستوجب تدخل قوى خارجية او داخلية لاستدعاء مرشح يحل هذه الازمة ويسد الفراغ ويعتلى سدة الحكم او الرئاسة ، و لهذا يجب طرح السؤال الاولى عن طبيعة ودرجة نضج الازمة الداخلية قبل طرح السؤال عن ملائمة البرادعى كمرشح مستدعى لحل هذه الازمة واعتلاء منصب رئاسة الجمهورية خاصة فى دولة مركزية مثل مصر ما تزال تعيش فى ظل النظام الرئاسى الذى يمنح الرئيس صلاحيات واسعة جدا وغير مقيدة بالمقارنة مع الانظمة البرلمانية التى يحظى الرئيس فيها بموقع شرفى فقط ، او حتى بالمقارنة بالانظمة الرئاسية التى تقيم انواعا من التوازن بين السلطة الرئاسية والسلطات الاخرى ، وقد حدث فى مصر مرارا ،وخاصة فى تاريخها الحديث منذ 1952، ان كان لشخص رئيس الجمهورية التأثير الحاسم فى تغيير سياسات مصر وتوجهاتها ليس فقط بعد توليه منصب الرئاسة ولكن ايضا فى اثناء ولايته نفسها المحددة بست سنوات ولكن المفتوحة بغير عدد من المرات،ولا يوجد اى خلاف فى الجماعة السياسية فى مصر حول الاهمية الكبرى للاصلاح السياسى الذى يبدأ بالاصلاح الدستورى ، و مع اهمية المطالب السبعة التى تضمنها البيان الاول التأسيسى " للجمعية المصرية من اجل التغيير "التى اعلنها البرادعى فى اول مارس ،فأنها وحدها ، لاتمثل سوى اعادة استنساخ لمطالب الاحزاب الرئيسة المعارضة فى مصر ، وثمة امثلة عديدة معاصرة تبرهن على ان التقدم والتنمية ورفع مستوى الدخل القومى والفردى لايمكن احرازه فقط بالاصلاح الدستورى وحده ،وكثيرا ما يجرى النظر فى مصر بأعجاب بالغ الى نماذج التقدم التى احرزتها الصين كبلد كبير او ماليزيا كدولة صغيرة ،ولكن من دون الاشارة الى استمرار الحزب الشيوعى الصينى على رأس الدولة والنظام هناك ، ومن دون الاشارة ايضا الى فترة حكم مهاتير محمد لماليزيا التى امتدت حوالى 22 عاما من 1981- 2003 وتمكن فيها ، خلافا لغيره ، من تحويل ماليزيا من دولة زراعية تصدر المواد الاولية الى بلد صناعى متقدم معتمدا فى ذلك على اولوية الثورة التعليمية التى باتت واحدة من المداخل البديهية لاحداث هذا التقد م ، ويحفظ الناس فى بلاده قوله : " اذا اردت الصلاة سأذهب الى مكة واذا اردت العلم سأذهب الى اليابان " ،ولا يعنى ذلك الانحياز لهذه النماذج وحدها وعلى حساب العديد من نماذج التقدم الاخرى والتى اختارت البدء بالاصلاح الدستورى والسياسى ولكن فى اطار خيارات استراتيجية كبرى تصر على اجراء تغيير حقيقى ثقافى ومجتمعى عميق وشامل وليس مجرد علاكة عبارات شعبوية مستهلكة . ومن المدهش حقا ان تتزامن دعوة الدكتور البرادعى ومبادرة الاحزاب الاربعة ( الوفد والتجمع والجبهة والناصرى )، كل على طريقته ، لتعديل الدستور المصرى ، مع تصويت الاغلبية من اعضاء الجمعية العمومية لمجلس الدولة ونادى القضاة بمعارضة تعيين مواطنات مصريات قاضيات ،ومن الاكثر ادهاشا ان لا يستدل على وجودعلاقة ناظمة بين الحدثين ، فالقضاة كانوا دائما هم حراس الدستور وحماة القانون وضمانة صيانة حقوق المواطنة المتساوية بين جميع المصريين بلا ادنى شبهة فى التمييز بسبب الجنس او الدين او النوع او الفكر والاعتقاد ، ولا توجد اى جدوى من الجهد المبذول لاجراء تعديلات اكثر ديموقراطية على الدستور المصرى اذا لم يبذل جهد اولى تنويرى ثقافى ومجتمعى لتغيير مضمون الثقافة السياسية الاصولية السائدة التى تقدم الدولة الدينية على الدولة المدنية والتى تخلط سيادة القانون بفوضى الافتاء ،والتى تؤخر العقل وتقدم النقل ،و فى ظل غياب الاحزاب والدولة وسكوتهما معا على زحف وغزو هذه الثقافة وتلك الافكارجرى اختراق قطاعات غير قليلة حتى من القضاة، ولم يكن تمييز هؤلاء ضد المرأة كمواطنة مصرية هو المظهرالاول و الوحيد على عمق هذه الازمة الثقافية المجتمعية ، فقد تداولت الصحف اخبار سوابق اخرى اعتدى فيها بعض القضاة على الدستور وميزوا دينيا بين المواطنين المصريين ، وحتى وان كانت هذه حالات فردية فأنها فى ظل السكوت عليها يمكن ان تتكاثر كالفطر فى البيئة العفنة وتتحول الى واحدة من اخطر الظواهر التى تنخر نخاع المجتمع المصرى ، لأن السؤال وقتها سيكون عن من سيحمى الحقوق الدستورية الاساسية للمواطن قبل البحث فى تطوير حقوقه السياسية والديموقراطية ، وربما لهذا تبدو المشكلة الحقيقية للتغيير فى مصر اكثر عمقا واتساعا و تعقيدا، لأن الازمة كما فى الحكم كما فى المعارضة ، وكما فى المتهم كما فى القاضى ، وكما فى النخبة كما هى ايضا فى المجتمع ،ولهذا لا يجب اختزالها فقط فى تعديل الدستور او فى استدعاء المنقذ : الوريث او الجنرال او الامام الغائب او الموظف الدولى المرموق .