العلامة المستشار السيد محمد حسن الأمين
توفي الإمام الحكيم قبل أربعين سنة ومازال يشكل المعلم الأساس الأول في بنية العراق الحديث، مرجعاً دينياً عالمياً للطائفة الشيعية في العالم، ومرجعاً عراقياً على الأخص. علماً بأن السيد الحكيم (قده) لم يفد إلى الساحة العامة وإلى قيادة العراق من الحوزة العلمية فحسب، بل وفد إليها من موقع قيادي مميّز وكبير في الثورة العراقية (ثورة العشرين) على الاحتلال الإنكليزي، ولمع كمجاهد وقائد كبير في هذه الثورة. وظلّ، وهو يتدرج في مواقع المسؤولية الشرعية والدينية وصولاً إلى المرجعية العليا، الزعيم الأول للعراق على كل المستويات من المستوى الديني إلى المستوى السياسي والاجتماعي.
في فترة الستينات من القرن الماضي كنت في العراق، وكانت مرجعية الإمام الحكيم في تلك الفترة في أوجهَا، ومن يتابع تاريخ العراق الحديث يعرف أنها كانت أكثر السنوات استقراراً نسبياً في تاريخ العراق. لم تكن في تلك الفترة حكومة شرعية، أي لم تأتِ نتيجة انتخاب من الشعب، ولكن على الرغم من ذلك كانت فترة استقرار وفترة نهوض على جميع المستويات، وكان للمرجعية الدينية في النجف الأشرف الدور الكبير في العراق وفي قيادة العراق أيضاً.كانت النجف الأشرف في أوائل الستينات تشهد الاحتفالات بميلاد الإمام الحسين (ع) حيث كان يقام مهرجان كبير على مستوى العراق كله. وكان يتحول إلى منبر شعبيٍّ عراقيٍّ في مواجهة السلطة ومطالبتها بالأمور الحيوية الحساسة للشعب العراقي. كانت النجف إذاً تشارك مشاركة فعّالة في قيادة العراق، ولو من موقع المعارضة والاعتراض والنقد للحكومة وللسلطة القائمة آنذاك.
إن هذه الندوة ليست إلا محاولة لإيجاد مفتاحٍ للموضوع العراقي وأهميته بالنسبة لنا كعرب وكمسلمين، وبالنسبة لنا كلبنانيين بصورة خاصة، وأكاد أقول كمنتمين إلى جبل عامل بهويته الواسعة التي قد تشمل أكثر من الجنوب، قد تشمل جزءاً من بيروت والبقاع وغير ذلك. إذاً، المقصود هو أن نفتتح حواراً حول العراق حول الموضوع السياسي، الاجتماعي، الثقافي، الفكري والعلمي الذي يخرج من دائرة النظر إلى العراق من خلال الوضع الراهن الذي نأمل أن يقود إلى مرحلة من التعافي، أي إلى العراق المعافى مما يصيبه وهو يعمل على النهوض من كبواته التاريخية الماضية.
في الستينات كانت النجف الأشرف والحوزة العلمية آنذاك في أوج ازدهارهما، وكانتا تعجان بالكبار من المراجع والعلماء، أي من المدرسين المشرفين على هذه الحوزة. ويهمني أن أشير إلى نقطة جوهرية قد تتفرد بها الحوزة العلمية في النجف الأشرف، هي هذا القدر من التسامح في الأمور الفكرية والأمور الاجتهادية، بحيث لم نكن نلاحظ أي شكل من أشكال التشدّد المذهبي. بل كنا نلاحظ أن النجف تتحرك بكل ثقلها وبكل رجالاتها لتسجّل مواقف طليعية في هذه الشؤون العربية والإسلامية والوطنية العراقية دون تعصّب أو مغالاةٍ مذهبيين، على الرغم من أن النجف هي القاعدة العلمية والفكرية والدينية للتشيّع في العالم. ولكن التشيع في رؤيته النجفية لم يكن مذهباً محصوراً في دائرة ضيّقة، وإنما كانت الرؤية النجفية رؤية إسلامية شاملة تنطلق من التشيّع، لا بوصفه مذهباً مكرّساً، وإنما بوصفه رؤية ذات طابع إصلاحي وتغييري في تاريخ الإسلام..وكان في النجف من العلماء الكبار ما جعل هذه الحوزة مركزاً من مراكز العلوم على مستوى العالم الإسلامي كله، وكانت النجف تتقدم شيئاً فشيئاً من أجل تطوير الحوزة العلمية، وقد نشأ في الخمسينات والستينات منهج جديد من مناهج الدراسة في الحوزة العلمية هو المنهج المنظّم، ونشأت كلية الفقه التي أدخلت إلى مواد التدريس في ذلك الوقت المواد العلمية الحديثة التي لم تكن مألوفة في الحوزة العلمية آنذاك من علم الاجتماع وعلم النفس والفلسفة الحديثة واللغة الإنكليزية وغيرها من العلوم... كان هذا نتيجة الشعور بأن الدعوة الإسلامية تحتاج لمرحلة نهوض جديدة، هذه المرحلة من النهوض كان لا بدّ لها أن تهيئ الطلاب ليكونوا علماء المستقبل ويكونوا قادرين على القيام بالمهمة الحضارية على مستوى العالم الإسلامي كله. وكانت الخطوات تتسارع في النجف الأشرف على هذا الصعيد، في الستينات، وقبل أن تصاب النجف بالنكسة التي نعرفها جميعاً في السبعينات، أي بوفاة الإمام الحكيم من جهة، وبالحصار الذي فرضته السلطة على النجف والقسوة التي مارستها على النجف حوزة وشعباً من جهة أخرى.إذاً العراق قيمة، فالنجف هي لبّ العراق فعلاً، لكنها ليست كل العراق. والعراق قيمة عربية وإسلامية كبيرة طيلة التاريخ، وفي المراحل الحديثة من تاريخنا العربي والإسلامي كله. والعراق شهد حركات فكرية وثقافية كثيرة. وكان متعارفاً عليه في الستينات والسبعينات لدى دور النشر وناشري المجلات الثقافية أن الكتاب الذي يصل العراق هو الكتاب الذي ينجح. فقد كانت مجلة الآداب ـ مثلاً ـ توزع في العالم العربي عدداً من نسخ مجلتها وكانت توزع مثله في العراق وحده فقط، نظراً للعدد الكبير والهائل من القراء والمثقفين والمتابعين للقضايا الفكرية على مستوى العالم العربي.وكما نعلم فإن العراق شهد نهضة الشعر العربي الحديث منذ نهاية الأربعينيات حيث بدأت حركة الشعر الحديث في العالم العربي التي بلغت أوجه في عصرنا الراهن. ولكن لا يستطيع أي دارسٍ أو باحثٍ في حركة الشعر العربي أن يؤرخ لهذا لشعر، وأن يؤرّخ للينابيع التي انطلقت منها حركة الشعر المعاصر، إلا بالعودة إلى العراق وإلى شعراء العراق، علماً بأن النهضة الأدبية والشعرية كانت في أوجِها في العراق خلال النصف الأول من القرن العشرين، وقد برز عدد كبير من الشعراء والأدباء العراقيين على مستوى العالم العربي.
إذاً العراق هو بلد النهضة، موطن النهضة العربية والإسلامية، وبالتالي فإننا قد نقلّل من العجب عندما نجد أن العراق يتعرض الآن لما يتعرّض له يومياً عن عمليات قتل وتفجير ضخمة، لا أستطيع أن أصف هذه الظاهرة إلا بوصفها ظاهرة تتصل بحركة النهوض العراقي الذي هو حركة نهوض الأمة العربية والإسلامية. أي أن العراق الذي يمكن أن تتحقق فيه شرعية السلطة، أن ينتج سلطة شرعية بالأدوات الديموقراطية التي يعتمدها في ظل هذا الوضع العربي والإسلامي الواسع، إن هذا أمر يلقي هذا القدر من القسوة ومن التدخل لإفشال التجربة العراقية الحديثة.
بين لبنان والعراق أواصر عديدة، كالعلاقة بين جبل عامل والعراق وبين الحركة الأدبية الحديثة في البلدين. والميِّزة، التي تسِمُ العراق ولبنان في هذه المرحلة من التطوّر السياسي على مستوى الأمة العربية والإسلامية، هي هذه الديموقراطية، أي البحث عن سلطة شرعية ينتخبها الناس في عالم لا يعرف إلا الديكتاتوريات باستثناءات قليلة على مستوى العالم العربي والإسلامي. تجربة لبنان تعرّضت للإفشال من خلال الحرب الأهلية اللبنانية وإثارة النعرات الطائفية، لكي يقال إن الدول والمجموعات والمجتمعات التي تسكن في هذه المنطقة لا يمكن حكمها بوسائل ديموقراطية، بل لا بدّ من الديكتاتوريات التي ترعى أنظمةً شاملةً وقاسية حتى تحقيق الأمن والاستقرار في هذه الدول.
لبنان والعراق اليوم، هما في طليعة العالم العربي التي يسعى إلى إنتاج سلطةٍ شرعيةٍ أي سلطة منتخبة، لأن أي سلطة أخرى ليست منتخبة من الشعب لا تكون شرعية، حتى لو كانت شعاراتها بالغة الحماس تجاه المسألة القومية والمسألة الإسلامية.
الشرعية هي أن يرتضي الشعب حكومةً أو سلطة معيّنة وينتخبها، هذا ما يجعل العراق الآن يعيش أزمة، أعتقد أن جزءاً منها هي هذه المحاولة لإفشال التجربة العراقية، إذا العراق لا يريد أن يكون دولة من الدول العربية التي تأتي بحاكم بعد انقلاب عسكري، فهذا هو السبب الذي جعلنا نرحب بسقوط النظام العراقي الديكتاتوري البائد، فلا نريد أن نستبدل ديكتاتورية بديكتاتورية. وأعتبر أن المراهنة على نجاح الديموقراطية في العراق هي مسألة بالغة الأهمية ونجاحها لا تقتصر آثاره الطيبة على العراق وحده ، بل تشمل العالم العربي والإسلامي كله، ومن مصلحة لبنان أن تكون هناك دولة في المنطقة العربية تنطلق من التجربة الديموقراطية وأن يتعاون وهذه الدولة على ترسيخ هذه التجربة الديموقراطية، وفي العراق ـ أكثر من لبنان ـ ستكون نتائج الديموقراطية نتائج باهرة وزاهرة على مستوى الشعب العراقي.
العراق ليس جغرافيا فحسب، إنه حغرافيا وتاريخ في آنٍ واحد والجغرافيا في العراق جغرافيا حيّة. نحن في لبنان نحو خمسة ملايين نسمة ليس لدينا من الثروات ما يمكن أن يلفت النظر، وبالتالي كل ما نملكه في لبنان هو هذه الحرية والديموقراطية وهذه الحياة المشتركة. أما في العراق، فإضافة إلى هذا التعدد الجميل الموجود في مكوّناته، فهو دولة عظمى مقارنة بلبنان، يضم نحو 30 مليون إنسان، وفيه ثروات كثيرة.. من الثروة النفطية الكبرى على مستوى المنطقة العربية، إلى الأرض الزراعية التي تتضاعف مساحتها مئات المرات عن مساحة وطننا لبنان، والكنوز العراقية الحقيقية تكمن في الكفاءات العليا للشعب العراقي الذي يملك كل المؤهلات لكي يقود عملية النهوض على مستوى العراق وعلى مستوى الأمة العربية والإسلامية في البلاد.. فهل يمكننا نحن هنا في لبنان أن نقدم شيئاً للعراق، كيف يمكننا أن نقدم للتجربة العراقية بعض ما عشناه من تجارب؟ وكيف يستفيد العراقيون من تجربة لبنان، من أجل أن تكون كُلفة النهوض وكُلفة قيامة العراق أقل مما قد يلوح في الأفق أحياناً من مشاهد دموية، لا نريد لها أن تستمر في العراق الحبيب؟
أما الدور الرسمي العربي، وليس الدور على مستوى شعوب المنطقة العربية، هو بكل أسف ومرارة، إفشال تجربة العراق، إذ ليس من مصلحة الأنظمة السياسية في المنطقة العربية أن ينجح هذا النظام العراقي الجديد الذي لم تكتمل أبعاده بعد والذي يريد أن يقيم السلطة لأول مرة على أساس ديموقراطي، إذ لا يوجد لدى التجربة البشرية نظام سياسي أكثر عدلاً من الديموقراطية التي نستطيع أن نعالج سلبياتها، وليس واضحاً تماماً أن الموقف الإسلامي من الديموقراطية هو موقف سلبي. فإذا تحدثنا عن الشورى وما يشبهها في المصطلح الإسلامي، فإننا نعني هذا الاحترام لإرادة الناس لتكون السلطة نتيجة عقد يقوم بين الأمة وبين عدد من الأشخاص في هذه الأمة، لكي تقوم مسألة النظام السياسي.. الديموقراطية فيها عيوب ويمكن إصلاحها والديموقراطية التي نريدها هي التي يمكننا أن نرسي فيها الأسس الصحيحة للنهضة على مستوى شعب من الشعوب أو أمة من الأمم.
لا أريد أن أقول الآن العراق اكتملت تجربته ونحن مدعوون لكي نناقش هذه التجربة. ولكي نرصد هذه التجربة أقول: دورنا نحن أن نساعد العراق ليس فقط على تخطي المآسي والمذابح التي تواجهه يومياً، وبل أن نساهم أيضاً مع العراق فكرياً ورؤيوياً في الصيغة التي يجب أن تكون عليها المرحلة العراقية الجديدة، والتي لا نشك أن أحد أهم ركائزها هو أن لا يسلّم العراق إلى جهة معينة سواء على مستوى الجهات العالمية والإقليمية الموجودة الآن أو على مستوى القوى السياسية في العراق. فلا يمكن لقوة سياسية واحدة أن تحكم العراق، وإلا عدنا للديكتاتورية والنظام البائد الذي سقط في العراق. نريد لهذا السقوط وللاحتلال الأمريكي للعراق أن يكون له مقابل كبير يناسبه، هو نهضة عراقية ترسي أساساً لنظام ديموقراطي بالفعل، أي يمثل المكوّنات المتعددة للشعب العراقي. لا نريد اتفاق طائف للعراق لأن الطائف قد كرّس الطائفية في لبنان، ونحن لا نريد تكريس الطائفية في العراق. ومعرفتي الشخصية بمزاج الشعب العراقي أنه ليس شعباً طائفياً أو مذهبياً على الإطلاق. وأراهن على أن الشعب العراقي قادر فعلاً أن ينتج صيغة حكم وسلطة أبعد ما تكون عن الطائفية. وهذا ما ينبغي علينا أن نساعد فيه الشعب العراقي، أن نطلق مجالاً واسعاً للمزيد من الأبحاث والدراسات التي تساهم في إرساء رؤى وتوجهات يمكن أن يستفيد منها إخوتنا العراقيون..