الجمعة، 18 يونيو 2010

ماذا يعني ضعف المعارضة العربية؟!

ميشال كيلو


كلما فتحت سيرة المعارضة العربية، لاحظ جماعة النظام العربي أنها ضعيفة. المعارضة ضعيفة: هذا هو النبأ السار، الذي يزفه لنا عالمنا الرسمي، قبل أن يضيف: بما أن المعارضة ضعيفة، فإن من الصعب أن تتحسن أحوال العرب. هكذا، بسحبة واحدة ، تصير المعارضة، التي لا تنفك تعير بضعفها، مسؤولة عن حال عربي لعين، لا يغيظ عدوا ولا يسر صديقا.
المعارضة العربية ضعيفة. هذا الاكتشاف لا يحمل جديدا. إنها ضعيفة حقا وضعفها أمر مؤكد منذ وقت طويل. غير أن القول بضعف المعارضة لا يجب أن يكون بداية الكلام، بل نهايته، خلاصته الأخيرة، التي تفتح شهيتنا للتفكير والنقاش بدل أن تفتح باب الشماتة، ما دام ضعف المعارضة حدثا كاشفا إلى أبعد الحدود، يتعلق أساسا وبدرجة أولى بالنظم وأحوالها، أكثر مما يتعلق بمئات أو آلاف قليلة من الأفراد، يعارضون، أو ينسبون أنفسهم إلى معارضة الأمر العربي القائم.
لو قال أحد بين عامي 1933 و1945 إن المعارضة الألمانية ضعيفة، لذهب ذهن متابعي أوضاع ألمانيا إلى النظام الهتلري أكثر بكثير مما كان سيذهب إلى المعارضة، ولتذكر هؤلاء بنية النظام وممارساته، وما سار عليه من إقصاء وإبادة للآخرين، ومن رفض مطلق للاعتراف بحق الاختلاف، في علاقاته مع المواطن والمجتمع والدولة، ولفكروا بالطريقة والوسائل التي عالج من خلالهما أي انزياح عن مواقفه وآرائه، وكيف مارس القتل الفردي والجماعي، وطبق سياسات إجرامية على الجميع، سواء كانوا من أنصاره أم خصومه أم من المحايدين. قبل الحرب العالمية الثانية، كتب مؤرخون ألمان وأجانب كثيرون عن المعارضة الألمانية وأحوالها ومصائرها المأساوية، لكنهم ناقشوا أوضاعها انطلاقا من أوضاع النظام وبدلالتها، واعتبروا ضعفها من الأحداث التي تفضح حقيقته، ورأوا فيه نتيجة طبيعية لإغلاق المجال العام وقصره على الحزب النازي وأجهزته القمعية الجبارة من جهة، ولخطط الملاحقة والتضييق والإبادة، التي تعرض لها على مدار الساعة كل من لم ينتسب إلى النازية، وحتى بعض أبرز من انتسبوا إليها، من جهة أخرى، فمن غير الجائز رد الضعف إلى وضع المعارضة الذاتي وحده، أو إلى أخطائها وحدها وهي موجودة حتما وقد تكون فادحة -. قال الدارسون: لو تعرض الحزب النازي، الواسع الانتشار والحديدي التنظيم والمسلح، لقدر مماثل من الاضطهاد والملاحقات والتصفيات، لما كان حاله أفضل من حال المعارضة الألمانية، التي تمت تصفية معظم قادتها في أفران الغاز، وهلك الملايين من أعضائها وأنصارها جوعا وتعذيبا وهم يكدون كالعبيد في المناجم ومصانع السلاح، أو قتلوا خلال غارات الحلفاء الجوية على مواقع عملهم ومعسكرات اعتقالهم، ولم ينج منهم بالكاد أحد، رغم أن أحزابهم نالت مجتمعة قرابة أحد عشر مليون صوت في انتخابات عام 1933، التي أوصلت هتلر إلى السلطة.
عندنا، يقفز كثير من كتابنا عن الواقعة الأهم، وهي طابع نظمنا القمعي، الذي يمكنها من الاستئثار بكل شيء: من السلطة والثروة والقوة إلى الإعلام والتعليم والخدمات الاجتماعية والاقتصادية، إلى توزيع الأرزاق وتقرير المصائر العامة والفردية، ومن القدرة شبه الكلية على تقطيع أو احتلال قنوات التواصل الاجتماعي والسياسي، إلى ممارسة رقابة لحظية على عقول وأرواح المواطنين، الذين يولدون ويموتون في ظل سلطة هي تجمع مؤسسات حجر وقمع تمكن حكوماتها من إحكام قبضتها على أي جديد يظهر في بلادها، مما يمر عبر قنواتها أو يخضع لمقصها ويتكيف مع معاييرها ومصالحها، فإنه يصير من قبيل التعالم السخيف اكتشاف أن المعارضة ضعيفة، فكيف إذا أضيف إلى هذا الاكتشاف استنتاج أكثر سخفا ومجافاة للحقيقة يدعي أن ضعف المعارضة هو مشكلة بلداننا العربية!.
ثمة أسئلة يطرحها الواقع العربي على من يقولون بضعف المعارضة العربية: هل المجتمعات العربية، التي تتعرض منذ قرابة نصف قرن أو يزيد لسياسات وتدابير تنفرد السلطة بتقريرها انفرادا مطلقا، قوية؟. وهل الدولة العربية، التي تنفرد السلطة بوضع قوانينها وتديرها دون أية مشاركة من أية جهة أخرى، قوية؟ أخيرا: هل السلطة العربية نفسها، التي تفرد سلطانها على كل شيء وفي كل مكان، وتكتم أنفاس مجتمعاتها ومواطنيها، قوية؟.. إذا كانت المجتمعات العربية قوية، لماذا تقبل التهميش، وتصمت على تدهور أوضاعها، وتخضع خضوعا شبه مطلق لسلطة تنكر حقها في المساهمة بأي شيء أو شأن، مع أن حصتها من ثروات وطنها تتناقص، وفقرها يتزايد حتى صار واحدة من العلامات الفارقة لوجودها؟ وإذا كانت الدولة قوية، لماذا تسمح بانتهاك السلطة لقوانينها، وبقفزها من فوق مصالحها العليا، وتخريب علاقاتها مع مجتمعاتها؟ وإذا كانت السلطة قوية، لماذا هزمت في كل صراع أو عراك خاضته مع الخارج، أي خارج، وفشلت في تنمية بلدانها وفي إقامة حد أدنى من العلاقات الودية والسلمية مع جوارها العرب؟ أخيرا: هل أحزاب هذه السلطة قوية / أم أنها تجمعات مغلوبة على أمرها، انتسب أعضاؤها إليها لتفادي مصير مواطنيهم البائس، وكي ينجوا من القمع والتجويع؟ لو كانت السلطة قوية، هل كانت بحاجة لأن تنقض دون رحمة على أي شخص تتباين آراؤه عن آرائها، مهما كان التباين طفيفا وهامشيا، ولأن تتصرف وكأن مصيرها معلق على رأي أو سلوك أو كلمة يقولها أحد من رعاياها؟ هل هكذا يكون سلوك القوي؟
لا شك في أن المعارضة العربية ضعيفة. هذا تحصيل حاصل. لكن ضعفها يكمن أيضا في ضعف المجتمع والدولة، وفي تشوه السلطة وتغولها وشعور من بيدهم أمرها بالخوف من مواطنيهم، واعتقادهم أن إضعاف المجتمع ومراقبته وإذلاله وتعريضه لعمليات تطهير دائمة، من ضرورات دوام الحال، وأن عدوهم الحقيقي الوحيد موجود داخل مجالهم الوطني وليس خارجه، فلا بد من التنمر عليه واستخدام عنف مفتوح وغير محدود ضده. أليس سلوك هؤلاء دليلا دامغا على ضعفهم؟ ألا يشي بغربتهم عن داخلهم وبخوفهم منه، وبعجزهم عن التصدي لمشكلاته بالطريقة التي تعتمدها السلطة القوية في كل مكان: أي بالسياسة وأدواتها؟. أليس مسخ السلطة إلى أجهزة قمع، واستخدام كل ما في حوزة الممسكين بأعنتها من وسائط لدعم طابعها القهري ولإفقار مواطنيهم ووضعهم بعضهم في مواجهة بعضهم الآخر، والتعامل معهم كما تتعامل سلطة أجنبية مع شعب غريب تخوض حربا متنوعة الأشكال ضده، علامة ضعف قاتل للرسمية العربية، التي تضرب عرض الحائط بما تؤكد عليه دعايتها حول وحدة الحال المطلقة بينها وبين شعبها، وحول تفانيها في خدمته. في الختام، تمارس السلطات العربية سياسات إضعاف منهجي لمجتمعاتها، خوفا من أن ينمو فيها بدائل لها أو أن تتلمس سبل الخروج مما هي فيه. هذه هي وظيفتها الرئيسية، وهي ليست وظيفة سلطة قوية بأي حال من الأحوال.
ليس إضعاف المجتمع عموما والمعارضة خصوصا مما تعمل له سلطة شرعية وقوية. إنه بالأحرى وصمة عار على جبين السلطة، إن كان نتاجا مقصودا لبرامجها وممارساتها. في هذه الحالة، العامة عند عرب زماننا الشقي، يغدو من الخطأ عزل ضعف المعارضة عن ضعف الدولة والمجتمع والسلطة، ويصير ضعفها مقياسا ل، وبرهانا على، تدهور وانهيار الحكم الشرعي، وإفلاس أساليب السياسة المدنية والقانونية، يؤدي إلى مزيد من عجز الممسكين بالسلطة عن السيطرة على الشأن العام بغير العنف، الذي يمكن أن يصيب عندئذ أي شخص أو جماعة، مع أنه يضعف أيضا من يمارسونه ويقيد قدرتهم على تلبية حاجات وطنهم وشعبهم، وبناء قوة داخلية قادرة على رد الأخطار الخارجية - إن كان ردها مطلوبا أساسا- هذه الحلقة الشيطانية المفرغة، لا تبقي للسلطة أي مظهر من مظاهر القوة غير استخدام وتصعيد العنف ضد داخلها، وتجاهل ما يجمع عليه الفكر السياسي الحديث، وهو أن قوة الحكم من قوة مجتمعه ودولته ومعارضته، وأن شرعيته تتوقف أيضا على قبول الأخيرة بها، هذا إذا كان يعبر حقا عن وطنه، ويحظى بتأييد مواطنيه، ويفهم أن المعارضة هي وجه من وجوه الإرادة العامة، يعمل ضمن ثوابت وطنية متوافق عليها، ترتبط السلامة العامة بدوره في ترسيخها، وبنضاله من أجل تقوية مجتمعه ودولته، خاصة في مراحل البناء الداخلي ومواجهة التحديات الخارجية، التي تكون السلطة والمعارضة خلالها في قارب واحد، وتكون نجاتهما في تكامل قوتيهما، ويؤدي إضعافهما المتبادل إلى هلاكهما معا، وإن في أزمنة متباينة.
هل تتوهم السلطة، التي تضعف مجتمعها ودولته، وتقوض المعارضة، أنها قوية ؟ على مستوى الكلام، هي تفعل ذلك أو شيئا منه. أما على مستوى الواقع، فتؤكد تجارب التاريخ أنها تشعر بضعفها وتخاف نتائجه، وأن شعورها وخوفها هما اللذان يضيقان عليها الخناق، فلا تجد طريقة شرعية تخرجها من مأزقها، فتجنح إلى كتم أنفاس مواطنيها، أفرادا وجماعات، كي لا تنطلق نهايتها من كلمة أو هتاف أو صرخة أو احتجاج، على غرار ما حدث في رومانيا. إن مشكلة العرب تكمن أساسا في ضعف السلطة، التي تولت أمورهم واحتكرت شؤونهم، وأضعفت مجتمعاتهم ودولهم، وانخرطت في مغامرات كشفت خلالها أوطانها وتسببت في هزيمتها. هذه السلطة تتحمل مسؤولية حصرية عن أحوال العرب الراهنة، فكيف يقول من يقول: إن ضعف المعارضة هو اليوم مشكلة العرب، بينما كان عليه القول: لقد أضعفت السلطة المجتمع والدولة والمواطن، وأقامت أوضاعا تحول دون قيام معارضة، وهذه هي مشكلة العرب، اليوم، وإلى أن تغيير هذه السلطة. لا تتباهى السلطة القوية بضعف المعارضة، ولا تضعف سلطة رشيدة وعاقلة المعارضة في بلدانها. لا تفعل سلطة وطنية وعقلانية شيئا كهذا، وتدرك أن لكل مجتمع تعبيرات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية متباينة تجسد رؤى ومصالح شرائحه وفئاته وطبقاته المختلفة، التي تتوحد، بالمقابل، في مشتركاته الجامعة، داخل حقل السياسة وغيره من حقول الشأن العام. وقد بينت تجارب العصر الحديث أن مصالح الدولة والمجتمع العليا تنتفي في ظل سلطة أحدية السياسة والطابع والخطاب والرموز، لأن سلطة كهذه لا يكون لها أي هدف آخر غير الحفاظ على حكمها.
لا تكون المعارضة ضعيفة في مجتمع حر وقوي. ولا تلاحق وتقمع في دولة حق وقانون وشرعية. بالمقابل، لا تكون المعارضة قوية في مجتمع ضعيف ومستعبد ودولة متهالكة وسلطة مستبدة. كما لا تتحمل المعارضة وزر أوضاع لا علاقة لها بتقريرها أو إقامتها، يقتصر دورها فيها على التعرض للقمع والملاحقة. هذا ما يقوله لنا واقع العرب القائم، المهزوم والفاشل والمخجل إلى أبعد حد!.