سعود المولى
إن النهضة الاقتصادية الحقيقية لن تحققها إلا عقول أبناء الوطن وسواعدهم. ومن ثم فإن تلك النهضة مشروطة بالاستثمار الجاد فى البشر عبر محورين: الأول هو ضمان الحياة الكريمة لهم، والثاني هو تنمية ملكاتهم و صقل مهاراتهم وإطلاق مواهبهم لتحقيق النهضة.
وعلى ذلك فإن هناك مجموعة من المبادئ العامة والسياسات المقترحة لحل الأزمة الاقتصادية. ذلك أننا لا نرسم سياستنا الاقتصادية في فراغ. فهي من ناحية ترتبط إرتباطاً وثيقاً بقراءتنا لطبيعة الأزمات الإقتصادية التى تعاني منها بلادنا ومحيطنا فى اللحظة الراهنة، بينما ترتكز من ناحية أخرى على علم الاقتصاد بل وعلى الاستفادة من التجارب المختلفة حول العالم ، بما فيها التجربة اللبنانية ذاتها عبر العصور المختلفة...بعبارة أخرى، فإننا نفرق بين المبادئ العامة للنهضة وبين السياسات التى يتوجب تبنيها. فالمبادئ العامة تمثل الرؤية السياسية لإدارة الاقتصاد وهى ثابتة من زاوية تعبيرها عن الأولويات الوطنية. أما السياسات المقترحة فهى متغيرة بتغير الظروف الاقتصادية.
من المبادىء العامة النهوض بالطبقتين الوسطى والفقيرة، فالهم الأساسي الذي ينبغي أن يشغلنا هو البحث فى سبل النهوض بأبناء الطبقتين الوسطى والفقيرة لأنهما تتحملان أعباء تردي الأوضاع الإقتصادية فى البلاد. والاهتمام بأولئك الذين يمثلون الأغلبية من الشعب اللبناني من الفقراء وأصحاب الدخول الثابتة والمتوسطة والمحدودة هو أمر لا يتعارض مع حرية السوق ولا مع مصالح الرأسمالية الوطنية. فالهدف هو سد الفجوة بين الأغنياء والفقراء عبر رفع مستوى معيشة الفقراء وأبناء الطبقة الوسطى ودعم الخدمات المقدمة لهم وإعادة الاعتبار للطبقة الوسطى واستعادتها إلى قلب المجال العام...
ثم هناك دور الدولة : الحرية الاقتصادية هى أحد مفاتيح بناء النهضة الاقتصادية المنشودة. ولكن البعض يتحدث عن اقتصاد السوق وكأنه يعني الشيء نفسه فى كل بلدان العالم بغض النظر عن ظروف كل دولة ومستوى تطورها الاقتصادي. فيبدو عندهم وكأن لبنان يتساوى مع دولة كالولايات المتحدة وأخرى كالكونغو، فعلى هذه الدول الثلاث- رغم الاختلافات الواضحة بينها - إتباع السياسات والآليات نفسها. والأخطر من ذلك أن يتبنى البعض الآخر اقتصاد السوق بمعنى تقليص دور الدولة إلى حد الدعوة لانسحابها شبه الكامل وتخليها عن أغلب مهامها.
وإذا كنا نرفض كلا المنهجين في التعامل مع السوق الحر فذلك لأنه لا ينافي فقط ما يجمع عليه كبار علماء الاقتصاد وإنما يتجاهل أيضا ما ثبت من خلال التجارب الاقتصادية حولنا، ومن خلال دروس الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية الراهنة.
إن الدولة منوط بها القيام بالمهام التي لا يمكن للسوق القيام بها مثل وضع الرؤية السياسية التي تنظم عمل السوق، وهي الرؤية التى تحدد الإطار القيمي والأولويات السياسية. فبغير تلك الرؤية الحاكمة تصبح كل الغايات مباحة بغض النظر عن أخلاقيتها أو إضرارها بالصالح العام. وتصبح كل الأهداف متساوية بغض النظر عن أثر بعضها السلبي على شرائح بعينها فى المجتمع. وتصبح أيضاً كل الوسائل مشروعة مادامت تحقق الغاية بغض النظر عن تأثيرها على نسيج المجتمع وقيمه.
كما أن على الدولة تحقيق العدالة الاجتماعية. فالسوق لايمكنه أن يقوم بهذه المهمة وهو عاجز عن إحداث التوازن الاجتماعى اللازم لإحتفاظ المجتمع بعافيته وامتلاك أفراده للأمل الذى يشحذ الهمم. والعدالة الاجتماعية هّم رئيس.وهي أيضاً من أهم مكونات الاقتصاد السياسي للدولة وليست مجرد نوع من "الرعاية الاجتماعية". والعدالة الاجتماعية فى نظرنا ليست مشكلة توزيع وانما هي مسألة تتعلق بانخفاض مستوى معيشة قطاعات واسعة من أبناء الوطن ومن ثم فإن العلاج يكمن فى النهوض بتلك الفئات. وفضلاً عما تقدم، يتعين القول إنه فى لحظات الأزمات الكبرى يكون للدولة دور استثنائى ينتهي بعد تجاوز الأزمة. وهو مافعلته مثلاً الولايات المتحدة الأميركية فى الثلاثينيات وما تكرره اليوم بأشكال مختلفة لمواجهة الأزمة المالية التى عصفت بها.
على الدولة إقامة البنية الأساسية للبلد وصيانتها المستمرة. والبنية الأساسية لا تشمل فقط المتعارف عليه بالبنية التحتية كالمرافق العامة وإنما المقصود هو البنية الأساسية اللازمة لأي تطور اقتصادي عموماً وهو ما يتضمن البنية التعليمية والتكنولوجية فضلاً عن البحث العلمي.
ومن مهمات الدولة رفع معدلات النمو، وهذا لا بد وأن يصاحبه ارتفاع محسوس فى مستوى المعيشة. ففي بلد مثل لبنان لايمكن الاعتماد فقط على معدل النمو دليلاً على التحسن الاقتصادي. ومن ثم، فإن معيار التنمية يضم إلى جانب رفع معدل النمو إشباع الحاجات الأساسية لدى الغالبية العظمى من المواطنين والمتمثلة فى المأكل والملبس والمسكن فضلاً عن الصحة والتعليم. ومن المهم أن يصاحب العمل على رفع معدل النمو سعي مماثل لإيجاد فرص عمل تحقق ذلك الحد الأدنى المطلوب للحياة الكريمة.
ومن الضرورى ترشيد السياسة النقدية عبر دعم العملة الوطنية والتحكم فى مستوى الأسعار عند حدود مناسبة من خلال معالجة التضخم. وتلك هى مسؤولية البنك المركزي التي يستطيع القيام بها عبر الإستخدام السليم للأدوات المالية المتاحة له مثل سعر الفائدة وسعر الخصم. ومن هنا فإنه ينبغي تحقيق سياسة نقدية سليمة بواسطة البنك المركزي الذي يستطيع الإسهام الجاد فى عملية التنمية عبر تقديم الحوافز للبنوك لإتباع سياسات تحد من الإقراض الإستهلاكي وتتوسع فى الإقراض الانتاجي.كما أن جذب الاستثمارات الحقيقية العينية لايتأتى دون إيجاد مناخ مؤسسي وقضائي وتشريعي مستقر ويتسم بالشفافية.
إن تحقيق النمو الاقتصادي الحقيقي الذي يقف بلبنان على أرضية صلبة يقوم على تحقيق توزان فى النمو بين قطاعات الاقتصاد الوطني المختلفة كالزراعة والصناعة والبناء والخدمات لأن مثل هذا التوازن هو الذى يخلق قوة الاقتصاد الوطني. ومن ثم فإن الأولوية الكبرى هي لعلاج الخلل الراهن الذى انحسر فيه قطاعا الصناعة والزراعة بشكل فادح. فقطاعا العقارات والخدمات على أهميتهما لايمكنهما وحدهما النهوض بالاقتصاد اللبناني. وعلى الدولة إيلاء أهمية خاصة لقطاع الزراعة ، ليس فقط لأهميته التاريخية بالنسبة للبنان ، وإنما أيضا بسبب المشكلات العديدة التي عانى منها في الفترة الأخيرة الأمر الذي يحتاج معه إلى علاج سريع.
وتقوم رؤية النهوض بهذا القطاع على محاور خمسة رئيسية:
1- النهوض بالمزارعين: لا يمكن النهوض بقطاع الزراعة دون إعادة الاعتبار للفلاح والمزارع وضمان الحياة الكريمة له ولأسرته. فالمعاناة التي يعيشها الفلاح والمزارع هي جوهر أزمة الزراعة بل هي المسؤولة أيضا عن الهجرة من الريف إلى المدينة وخلق أحزمة من العشوائيات حول المدن الكبرى خصوصاً العاصمة بيروت.
2- حسن استغلال الموارد المائية : ضرورة اللجوء إلى أساليب جديدة للري كالرش والتنقيط. هذا فضلاً عن الاتجاه للاستفادة القصوى من المياه الجوفية في الري وإقامة المجمعات والسدود وخصوصاً في البقاع الشمالي..
3- المحافظة على الرقعة الزراعية : تتعرض الرقعة الزراعية في لبنان للتآكل بسبب سوء التخطيط العمراني والتعديات المستمرة. ومن هنا ضرورة تفعيل القوانين التي تجرم البناء على الأرض الزراعية أو الاعتداء عليها تحت أي مسمى. ومن الضروري إضافة مساحات جديدة للأرض الزراعية. كما أن إعتماد قوانين جديدة وإدارة جديدة شفافة وإنسانية ، تسمح بفرز وضم الأراضي وتسجيلها وانتقال ملكيتها، دون تكبد التكاليف الخرافية التي لا يقدر عليها المواطن (خصوصاً في البقاع الشمالي) هو من أولى الأولويات..
4- الاكتفاء الذاتي في الغذاء قضية تتعلق بالأمن الوطني الاستراتيجي بشكل مباشر.
5- إعادة الاعتبار للإنتاج الزراعي: يتحتم أن يعود لبنان لعرشه فى مجال إنتاج الفاكهة والخضار والحبوب الذي طالما احتفظ فى إنتاجه بمزية نسبية، ولا يجوز فى الواقع أن ينهار الإنتاج اللبناني القديم تحت أى مسمى...
ويتوجب إعطاء أولوية قصوى لمكافحة الفساد الذي صار بنيوياً، وذلك عبر وسيلتين: الأولى هى التفعيل الصارم لمبدأ سيادة القانون، والثانية هي إعطاء كل صاحب جهد ما يستحقه من أجر يحفظ كرامته ويغنيه عن غض الطرف عن إنتهاك القانون ناهيك عن مشاركته في إنتهاكه لسد حاجاته الأساسية.
كما أن محاربة الفقر ومساعدة الفقراء هي إحدى أهم مسؤوليات الدولة فى كل بلدان العالم بما فيها أعتى الرأسماليات. والفقر لاتكون معالجته عبر إعادة التوزيع، أو عبر زيادة متوسط الدخل الكلي للدولة وانما عبر برامج تنموية هدفها زيادة دخل الفقراء أنفسهم ودعم الخدمات المقدمة لهم. كما عبر إصدار قانون ملزم لكل من القطاعين العام والخاص بحد أدنى للأجور يستجيب لمطالب القطاعات العمالية ، وربطه بمعدل التضخم، والتعامل مع الفجوة الهائلة بين أعلى الأجور وأدناها فى بعض المؤسسات.
وبما أن التعليم والصحة هما عماد النهضة الاقتصادية ومن ثم فإنه يتحتم توفير الموارد اللازمة من الميزانية العامة للدولة لتغطية نفقات زيادة موازنة هذين البندين.
وبخصوص أنظمة الضمان الاجتماعي والتأمينات الاجتماعية ونظام التقاعد والمعاشات وتعويض نهاية الخدمة فإن هناك ضرورة لفصل موازنة الرعاية الاجتماعية (إيراداً وإنفاقًاً) عن الموازنة العامة للدولة ؛ حفاظًا على حقوق الفقراء ومحدودي الدخل . ولا يمكن القبول بمحاولات ضم أموال الضمان والتأمين والتقاعد إلى الموازنة العامة للدولة لأن استخدامها لسد العجز فى الموازنات العامة أو تقليص الدين العام من شأنه أن يعرض تلك الأموال للضياع وهو الأمر الذى يفاقم المشكلات الاجتماعية والاقتصادية ولا يساعد فى حلها بل ويلقي بأعباء تلك المديونيات على أجيال متتالية قادمة مع ربط الزيادة السنوية لمعاشات التقاعد بقيمة معدل التضخم السنوي .
منع الإحتكار والرقابة على الأسعار : إن الإحتكار جريمة ذات عواقب اقتصادية وخيمة تحاربها النظم السياسية فى شتى أنحاء العالم. ولعل منع الإحتكار هو أكثر المجالات التى تختبر مدى الالتزام بمبدأ سيادة القانون، ذلك أن المحتكر عادة مايكون من أصحاب القوة والنفوذ. ومن هنا ضرورة تفعيل قانون الإحتكار ضماناً لدعم العملية الاقتصادية. وفى سبيل الكشف عن ظواهر الإحتكار المدمرة للاقتصاد والتوازن الاجتماعى ينبغي أن يكون جهاز مراقبة الإحتكار والأسعار وحماية المستهلك جهازاً قوياً وفاعلاً..
كما أن المنظومة الضريبية هي أحد أهم عناصر السياسة المالية لأنها الأداة التى تحقق التوازن بين رفع النمو الاقتصادي وتحقيق العدالة الاجتماعية. ومن هنا فإنه لا بد أن تقوم السياسة الضريبية قبل كل شيء على خلق مناخ من الثقة مع قاعدة الممولين عبر تفعيل مبدأ سيادة القانون من ناحية ورسم سياسة ضريبية عادلة من ناحية أخرى. ولايجوز أن تتحمل الفئات الأضعف فى المجتمع العبء نفسه الذى تتحمله الفئات الميسورة. ولذلك، لا بد من رفع حد الإعفاء الضريبي بحيث يشمل متوسطي الدخول مع كون الضريبة تصاعدية على دخول الأفراد مع الإبقاء عليها متساوية على المشروعات الخاصة كي تهدف لخلق الثقة بين الحكومة والممولين. ومن المهم أيضا أن تميز السياسة الضريبية بين المشروعات الانتاجية والإستهلاكية عبر الحوافز والإعفاءات المختلفة. إن المطلوب تعديل المنظومة الضريبية على نحو يسعى لعلاج الخلل الشديد فى التركز السكاني فى العاصمة والمدن الكبرى. ومن ثم مطلوب خلق نظام ضريبي يختلف باختلاف المنطقة الجغرافية وهدفه تشجيع الانتشار المتوازن فى كل مناطق الجمهورية.
ومع وجود قانون حماية المستهلك، وإنشاء جهاز حماية المستهلك ، صار واضحا أن العبرة الحقيقية هى مدى التطبيق الفعلي لهذا القانون على أرض الواقع. ومن هنا أهمية إطلاق قوى المجتمع الأهلي والمدني والسماح لها بالعمل فى إطار من الشرعية. فالمجتمع هو الرقيب الأهم القادر على حماية المستهلك.