سعود المولى
التعليم هو عصب النهضة وماء حياتها. والمحنة التى يعيشها لبنان اليوم ناتجة فى قسم كبير منها عن إنهيار نظمه التعليمية والتربوية (بعد انهيار نظمه السياسية والمدنية) وما ترتب على ذلك من تراجع مذهل فى مستوى المعرفة والكفاءة لدى القطاعات الأوسع من المجتمع.
ويستحيل تحقيق النهضة دون خروج التعليم من محنته.. ومن ثم فإنه ينبغي أن يحتل التعليم لدينا أولوية قصوى وأن نؤمن بالحاجة إلى مراجعة شاملة لتوجهاته وإصلاح جذري لكافة مكوناته.
والحال أن تلك عملية طويلة الأجل لن تحدث بين ليلة وضحاها، وهي تحتاج إلى دراسات مستفيضة تستلهم باستمرار الجديد من تجارب الدول الأخرى وتستفيد من الخبرات اللبنانية والعربية الكثيرة في هذا المجال.
وبادئ ذى بدء، التعليم حق لكل مواطن على أرض لبنان وهو هدف فى حد ذاته لا فقط مجرد وسيلة للتوظيف أو الترقي الاجتماعي أو الوفاء باحتياجات السوق. فإذا كان الإنسان اللبناني هو هدف أية نهضة يصبح العلم قيمة عليا والتعليم أحد الحقوق الأساسية.
كما أن الاهتمام بتطوير التعليم يقع فى القلب من الرؤية الإقتصادية الوطنية. فإن الارتباط الوثيق بين النهضة الاقتصادية والتعليم انما يأتي من الدور المهم الذى يلعبه التعليم فى زرع قيم بعينها هي التى تجعل الشباب فاعلاً فى عملية التنمية بل وقادراً على المنافسة بغض النظر عن تقلبات السوق. وتطوير التعليم لايقتصر على الإهتمام بإدخال التكنولوجيا الحديثة وتطوير المباني والمعدات وإنما يتضمن (وهو الأهم) خلق جيل معتز بهويته وعلى وعي بقدرات بلاده ودورها وإماكاناتها ويمتلك من المهارات مايمكنه من المشاركة فى عملية التنمية.
ومن هذا المنطلق ولأن الأسس التى تقوم عليها المنظومة التعليمية والتربوية برمتها فى حاجة إلى مراجعة جذرية، نرى أن الأمر يحتاج إلى حشد إمكانات الدولة بكل وزاراتها وهيئاتها وطاقات المجتمع بكل فئاته وعناصره. بعبارة أخرى، فقد بلغت أزمة التعليم مبلغاً لا يمكن معه أن تتولى إصلاحه وزارة التربية وحدها دون تنسيق وتعاون وثيق مع كافة أجهزة الدولة الأخرى أو فى غياب الدعم الواسع من جانب قطاعات المجتمع المختلفة.
ومن هنا، فإن تلك العملية الشاملة من الإصلاح لايمكن أن تتم دون التوصل إلى إجماع وطني حول أهدافها. لذلك فإن أية خطة مقترحة لتطوير التعليم لا بد وأن يتم عرضها للنقاش المجتمعي واسع النطاق فى إطار يتسم بالشفافية ويسعى لتعديل تلك الخطة بناء على الرؤى المختلفة التى يتلقاها من المجتمع ويقوم في الوقت ذاته بإعداد المجتمع لاستقبال التغيير والإقبال عليه ودعم أهدافه.
مبررهذا الكلام ما شهدناه من قرارات متسرعة صدرت عن وزارة التربية تتجاهل دروس من سبقوا وحاجات الناس الفعلية وتجارب الدول المختلفة.. فالترفيع الآلي لللأولاد حتى الصف الرابع إبتدائي حق مشروع اقتضته المدنية الحديثة وحثت عليه علوم النفس والتربية، وطبقته كل دول العالم قبلنا.. ولا علاقة له البتة بهبوط في مستوى التعليم إلا إن كانت الوزارة تظن أن واجب المدرسة حشو رأس الأولاد بالقوة والتعامل معهم وكأنهم شاحنات يتم تحميلها طوال العام بالمعلومات التى يتم تفريغها على أوراق الامتحان فى نهايته (بغض النظر عن الحالات الخاصة كالإعاقة أو التأخر الدراسي والتي تستوجب صفوفاً خاصة)..ونفس الإعتراض ينطبق على جعل الدراسة تبدأ أول أيلول وعلى عملية دمج وإلغاء مدارس.. فهذه القرارات تصدر عن ذهنية لا تلحظ الوضع في الريف اللبناني الذي يختلف عن أوروبا وأميركا حيث الشتاء أطول من الصيف وحيث القرى أشبه بالمدن تتوفر فيها كل مقومات الراحة والحياة المستقرة.. فمن دون إقامة مجمعات مدرسية وتأمين النقليات لها وتوفير الرعاية الصحية والغذائية للأولاد فيها، وتوفير الماء والكهرباء والتدفئة، ووجود دورة إقتصادية إجتماعية ثقافية في الأرياف، تصبح قرارات الدمج وتقديم مواعيد الدراسة أشبه بفقاعات الصابون...إلا أنها للأسف فقاعات مؤذية..
ولا بد من الاستفادة من خبرات الدول التي حققت نهضة تعليمية. لكن الجوانب الفنية والمنهجية التى يمكن الاستفادة منها في تلك الخبرات لا تنهض وحدها بالتعليم. إذ أن الاهتمام بالقيم التي يبثها النظام التعليمي لايقل أهمية عن الجوانب التقنية والفنية في إصلاح التعليم. ورغم أن هناك مجموعة من القيم الإنسانية التي يمكن أن تشترك في التركيز عليها المنظومة التعليمية فى أكثر من دولة، إلا أن واقع كل دولة وطبيعة مشكلاتها قد يحتم التأكيد على قيم بعينها في مرحلة ما. ثم أن لكل أمة حضارتها وتاريخها الذي يمكن أن يسهم في بناء نهضتها.
وتحتل قيمة الإنتماء أهمية قصوى في العملية التعليمية المنشودة. فلا قيمة لتعليم لا يدرك فيه النشء من نحن وما هي أهدافنا. والإنتماء للوطن هو وحده الذي يغرس في النشء الثقة بالذات الحضارية ويسمح بالتفاعل الصحي مع العالم دون انسحاق أمام الأقوى ولا حساسية من الإستفادة من خبرات الآخرين. ومن هنا ضرورة إيلاء أهمية لدراسة التاريخ اللبناني بكل مراحله دراسة جادة نقدية تهدف إلى دعم الشخصية الوطنية المركبة ذات العناصر المتعددة، والإستمرارية الحضارية التي ربطت بين الحلقات التاريخية المتعاقبة في تاريخنا . ودراسة التربية المدنية والتنشئة الوطنية أكثر من ضرورية لبناء قيم المواطنة والخير العام واحترام الدولة والدستور والقوانين والسلم الأهلي..
وقد لفت إنتباهي خلال مشاركتي في بعض المؤتمرات أو المنتديات الخاصة بالمجتمع المدني أن معظم المشاركين، وفيهم علماء وأساتذة في الدعوة إلى العلمانية، وفيهم نواب ووزراء ورؤساء أحزاب وحركات، لا يعرفون حقيقة عما يتكلمون.. فالجميع (وبلا إستثناء) يحدثك لساعات وساعات عن ضرورة توحيد كتاب التاريخ وإعتماد كتاب موحَّد للتربية المدنية، على إعتبار أن ذلك كفيل بحل المشكلة الطائفية في البلاد..ولا أدري لماذا يجهل كل هؤلاء أن تلامذة المدارس الرسمية عندنا يدرسون في كتاب تاريخ موحَّد وفي كتاب موحَّد للتربية المدنية والتنشئة الوطنية، هي من صنع وزارة التربية..وكذا أغلبية المدارس الخاصة التي تلتزم ببرامج الوزارة.. ومن العجب العجاب أن لا يعرف من يتصدى للشأن العام هذه الحقيقة البديهية.. ويبدو أن حديثهم العصبي المتوتر عن غياب كتاب موّحد وعن كونه الحل الشافي لأمراضنا المزمنة،هو من قبيل الكلام الشائع الثرثري الذي يعطي صاحبه صفة الجدية العلمانية أمام خصومه، ويعفيه من البحث الفعلي عن مكمن المشكلة.
وقد يقول قائل إن المشكلة هي في وجود التعليم الخاص ومدارسه وجامعاته، وكل واحدة لها إنتماء طائفي محدد، وتدرس في كتب خاصة بها..وهذا ليس مشكلة في حال كان هناك خطة تربوية رسمية وتنسيق رسمي فاعل يشرف على كل المناهج والبرامج والكتب والوسائل والأدوات.. وقد يقول آخر إنها في عدم وجود نظم ومناهج وبرامج تربوية وتعليمية موحدة خاضعة للدولة...ولكن ألم يكن الإتحاد السوفياتي في قمة تماسكه الأيديويولوجي والنظامي والمنهجي والبرنامجي والتربوي وحتى الرياضي، حين انهار وانهارت معه كل المنظومة الإشتراكية الشرقية ؟؟ وهل منع التعليم الشيوعي الرسمي الموحَّد قيام شتى النزعات القبلية والإثنية والطائفية في ما كان يُعرف باسم يوغوسلافيا أو الإتحاد السوفياتي أو جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية مثلاً ؟؟ المشكلة ليست في التوحيد بل في الإعتراف بالتنوع والتعدد الثقافي وفي صياغة المسألة بما يضمن العدالة والمساواة مع التنوع ضمن الوحدة..
إن مشكلة التعليم فى لبنان لا تتعلق بوجود أشكال مختلفة ومتوازية من التعليم، كالتعليم العام والخاص، الأهلي منه والأجنبى كما الديني ، وإنما المشكلة هي في انسحاب الدولة وتجاهلها وضع المعايير العامة التى تحكم العملية التعليمية أياً كان نوع مقدم الخدمة التعليمية، وعدم قيامها بالرقابة وفرض معايير صارمة على الأداء والجودة وعدم إيجاد آليات فعالة للرقابة. أما قضايا المواطنة والإنتماء فلها حديث آخر.
لا يمكن للنشء الاستفادة الحقيقية من المعارف المختلفة دون تنمية قيمة الجمال بمعناها الواسع وهو ما يتطلب اهتماماً بالفنون بكافة أنواعها من المسرح والشعر والرسم إلى الخطابة والخط... الخ. وبسبب الفساد والواسطة، انهارت قيمتا العلم والعمل الجاد. فقد صارت الشهادة العلمية لا العلم نفسه هى الهدف ولم يعد العمل الجاد والإتقان والتميز والتفوق هو سبيل الترقي فى العقل الجمعى اللبناني بل صارت الشطارة والانتهازية الوصولية والتشبيح والواسطة المذهبية أو الطائفية هي الطريق القرب والأسرع...وبدل أن تخرج كل طائفة أفضل وأحسن ما عندها صارت الوظائف العامة مرتعاً للفاشلين والساقطين في مجتمعهم لا للمخلصين الجادين المسؤولين الأكفياء..
وفضلاً عن كل ذلك تراجعت قيمة المصلحة العامة وصارت المنافسة لا العمل بروح الفريق هى معيار النجاح، الأمر الذى أدى إلى تدهور فى الأداء بل وانهيار أخلاقيات المنافسة وقيمها...ومن المهم للغاية أن يغرس النظام التعليمي قيم المواطنة لدى النشء، بما تعنيه من المساواة وتكافؤ الفرص بين كل أبناء الوطن فضلا عن حقهم المشروع فى المشاركة الفعالة فى إدارة شؤونه وإعادة اندماج المواطنين في المجال العام / السياسي باعتباره المكان الطبيعي للقاء المختلفين وليس الانكفاء/ العزل أو الارتداد لدوائر الانتماء الأولية .
لا بد من إعادة الإعتبار لتلك القيم عبر العملية التعليمية بكل مراحلها وهو ما لا يمكن حدوثه فقط من خلال المناهج الدراسية وانما من خلال إعادة الاعتبار للنشاط المدرسى بكافة أنواعه، فى إطار سياسة متكاملة للتربية المدنية.
وينبغي للنظام التعليمى أن يؤكد على القيم التى اتسمت بها الحضارة العربية الإسلامية وأضفت عليها الشخصية اللبنانية طابعاً مميزاً. ولعل أهم هذه القيم هى تلك المتعلقة بالتكافل الاجتماعى والعلاقات الأسرية القوية والاحتفاء بالتعددية. وهى كلها قِيم تعرضت للانهيار لأسباب كثيرة ولا بد من بذل الجهد الكافي لإعادة بنائها وتقويتها.
وهناك مجموعة من القيم السلبية الى تسربت للعقل الجمعي اللبناني فى العقود الأخيرة وأثرت تأثيراً بالغاً على العملية التعليمية برمتها. فلايمكن التقليل من أثر الاستهانة بقيمتي العلم والعمل، والحط من شأن مهنة التدريس والنظرة الدونية للتعليم الفني، هذا فضلا عن تحول التعليم إلى سلعة تدر الربح. ويحتاج تطوير التعليم إلى مواجهة تلك القيم السلبية، وهو ما لا يتأتى إلا من خلال خطة توعية شاملة تعمل فيها أجهزة الدولة ومؤسساتها بالتنسيق العمدي لتكمل بعضها بعضا بدلاً من أن تضر كل منها بما تسعى الأخرى لتحقيقه. فلايعقل مثلا أن يكون النظام التعليمى يهدف للتأكيد على قيمة العلم والعمل الجاد بينما يروج الإعلام لقيم الكسب السريع والاستهلاك وينشر ثقافة مؤداها أن الحظ أو الحرام أساس الثروة.
وفي عصر المعلومات، لم يعد من الممكن أن تقوم العملية التعليمية على تلقين المعلومات ولا أن يكون معيار نجاح الطالب هو مدى قدرته على سردها. لذلك فإن مناهج التعليم اللبنانية فى حاجة إلى إعادة نظر شاملة هدفها ليس تلقين المعلومات وانما تعليم النشء كيفية تحديد مايحتاجه من المعلومات ثم كيفية الحصول عليها وتدريبه على اختبار مصداقية المصادر، ثم كيفية فرز المعلومات وتصنيفها بشكل نقدي خلاق وبمنهج مقارن يسمح بالاستفادة منها ويضمن تحويل التعليم إلى عملية حياتية مستمرة لاتنتهي عند سور المدرسة والجامعة. ولايكفي تدريب الطلاب على البحث عن الإجابة عن أسئلة تطرح عليهم وانما يتحتم أيضا تدريبهم على طرح الأسئلة الصحيحة وتنمية قدراتهم على التمييز بين الأهم والمهم والهامشي فيما يتعرضون له من بيانات وموضوعات.كما ان أحد القضايا الأكثر إلحاحاً هى مسألة إعادة الاعتبار إلى مهنة التدريس. ففي كل الدول التى تبنت إصلاحا تعليميا ناجحاً تمت العناية الفائقة بالمدرس. فهل تم ذلك في لبنان بعد 20 عاماً على انتهاء الحرب الأهلية ؟؟
نعم هناك أزمة خطيرة في بنية التعليم والتربية في لبنان! وهذه الأزمة تبدأ من تحديد وقت الدراسة ، ووسائل النقل، وصحة الأولاد ،والتلوث البيئي والصوتي، والإزدحام ، وحمولة حقيبة المدرسة... ولا تنتهي مع الحشو والوسائل البدائية في التربية والتعليم، والإهمال واللامسؤولية لدى أغلب المدرسين والمدرسات...
نعم نحن نعاني أزمة خطيرة لم يتم حتى الآن التطرق إليها وهي تحتاج إلى شيء من الخيال الواقعي ومن الجرأة في تقديم حلول جديدة لا علاقة لها بالمألوف.. فعلى سبيل المثال أنا لا أدري ما الحكمة في جعل وقت الدراسة يبدأ قبل الثامنة صباحاً على العموم، علماً أن بعض المدارس يجعلها في السابعة والنصف.. في الماضي كان عدد السكان أقل، والشوارع فارغة، والسيارات قليلة، والمدارس تقع قرب البيوت..وكنا نصل إلى المدرسة سيراً على الأقدام في عشر دقائق، ونعود إلى البيت وقت الغذاء، ثم نرجع إلى المدرسة حتى العصر، أو نتغذى في المدرسة إذا كنا نأخذ معنا "المطبقية"...أما اليوم فقد صار على التلميذ أن يستيقظ في الخامسة صباحاً لينتظر الباص أو الفان عند السادسة فلا ينام كفاية لأنه ينشغل أيضاً بالتلفزيون والإنترنت والسهرات الطويلة، ولا يأخذ وجبة صباحية صحيحة لأن الكل يكون مستعجلاً للخروج من البيت ليصل إلى مدرسته وعمله في الوقت المطلوب (بسبب زحمات السير)..أما الانتقال فلم يعد سيراً أو على الأقدام أو في باص مدرسي شرعي بل صار يتم في فانات صغيرة يحشرون فيها التلاميذ كالبهائم تساق إلى الذبح... وخلال النهار يخضع التلميذ للضجيج والزمامير المتواصلة ولأصوات المصانع الصغيرة المنتشرة بين المنازل والمدارس، أو لروائح معامل الدهان والسيارات..الخ... ناهيك عن حمولة حقيبة الطفل الصغير، وهذه أكبر جناية صحية يرتكبها التعليم بحق الطفولة ولا أحد يسأل أو يهتم!!! يضاف إلى ذلك إنعدام الرقابة الصحية الأولية من وزارتي التربية والصحة وانعدام الخدمات الصحية الأساسية في المدارس..
ألا يمكن جعل الدراسة تبدأ عند التاسعة صباحاً كما في معظم دول العالم؟ إن هذا يجنب البلد إزدحامات الصباح الشهيرة ويعطي الولد وقتاً أطول للنوم والراحة ويخفف التوتر العصبي عند الأهل وخصوصاً الموظفين منهم الذين يوصلون أولادهم إلى المدرسة صباحاً..
ألا يمكن التوقف ساعة أو ساعة ونصف للغذاء داخل المدرسة كما كان يحصل في أيامنا ألا يمكن إلزام المدارس بتأمين باصات شرعية للنقل تستوفي شروط السلامة والصحة والإنسانية؟ الا يمكن إبقاء كتب التلميذ محفوظة في المدرسة بدل أن يحمل معه إلى البيت شنطة وزنها أكثر من 20 وحتى 30 كيلو؟
ثم هل قرأ أحد منكم كتب التربية والتاريخ والجغرافيا الخاصة بالمرحلة المتوسطة من التعليم الأساسي على سبيل المثال؟ هل يعقل أن نطلب من تلميذ لم يبلغ الثالثة عشرة من العمر أن يحفظ عشرات الصفحات عن أمور لا علاقة له بها ولا علاقة لها أصلاً بالتعليم الصحيح وبالتربية السليمة؟ كتبها مثقفون وأساتذة جامعات وشعراء وأدباء وكتاب، حريصون على المواطنة السليمة وعلى التاريخ الوطني الموحد وعلى العلم والثقافة في البلاد، ولكن لا علاقة لهم البتة بالتعليم الإبتدائي أو المتوسط او الثانوي، ولا بالمنهجية التربوية الخاصة بكل مرحلة، ولا بأساليب ووسائل التعليم الحديثة المتوافقة مع حاجات وإمكانات التلميذ الصغير..
وهل فحصت وزارة التربية مستوى أداء وعطاء المعلمين والمعلمات؟؟ كان التعليم رسالة وكان المعلم رسولاً...فأين صارت المهنة وأين صار صاحبها اليوم؟؟ بل أين صارت كلية التربية ودور المعلمين والمعلمات اليوم، وهي المراكز التي تخرج منها خيرة أبناء جيلنا؟
مسكين شعبنا !! كلما جاءت "أمة"، لعنت من سبقها واعتقدت أن الإصلاح والتغيير سيكون من عملها هي، وأن نتائجه ستظهر في زمنها هي.. ومسكينة نخب بلادنا لا تدري أن الإصلاح بناء تراكمي وأن النهضة مشروع تاريخي.....
إن غياب "مفهوم الهوية الثقافية " عن معظم المشروعات الإصلاحية والتنموية كان عاملاً رئيسياً من عوامل إخفاق هذه المشروعات . وإذا كان البعض يفترض أن الهوية دائرة واحدة مغلقة ، فإننا نرى أن هذا التوجه هو من قبيل الفهم المجتزأ والمنقوص؛ ذلك أن الانتماء للدائرة الحضارية العربية / الإسلامية لا يعني استبعاد المكون الفينيقي أو السرياني-الآرامي أو البيزنطي-الأورثوذوكسي، من الثقافة اللبنانية . والوعاء الثقافي اللبناني نجح في صهر المكونات الثقافية المتعددة وصنع منها مزيجاً متماسكاً ، وهذا ما منح الثقافة اللبنانية خصوصيتها وفرادتها بين ثقافات العالم. والانطلاق هذا المفهوم المنفتح المركب للهوية يعني أن تنمية الهوية اللبنانية لا يتأتى إلا بتنمية كل أبعادها وجوانبها ومكوناتها ( فينيقية-كنعانية، و مسيحية سريانية-آرامية- مارونية-بيزنطية- مشرقية- لاتينية، وإسلامية عربية-، وسنية-شيعية-درزية-علوية-،وبدوية –فلاحية-حضرية، وجميعها داخل المكون العربي الإسلامي والثقافة اللبنانية الوطنية) .
ويرتبط بقضية الهوية عنصران أساسيان هما:
1ـ اللغة العربية : ونحن نعيش قلقاً مشروعاً من تراجع اللغة العربية ، وهى الوعاء الذي تصب فيه مكونات الهوية اللبنانية ، والتي بدونها ينفرط عقدها ، وهو ما يشكل خطراً يتمثل في أن إهمال اللغة العربية أو تهميشها يعني تهميش التراث المكتوب ، ومن ثم فقدان الذاكرة التاريخية ، وتحول الإنسان اللبناني إلى وحدة اقتصادية جسمانية إستهلاكية .
وقد انعكس غياب الاهتمام باللغة في طرق التدريس والكتب المدرسية والمنشورات الحكومية ووسائل الإعلام ؛ وهو الأمر الذي يدفعنا للدعوة المشددة إلى إعادة الإحترام للغة العربية وتفعيلها كأداة للتواصل بين المواطنين كافة ، والتواصل مع تراثنا وهويتنا التاريخية .
2 ـ الخصوصية التاريخية والمشترك الإنساني : إن قضية استيراد نظم الغرب الحضارية المعرفية وتعميمها والانفتاح على الآخر أصبحت مثار اهتمام كبير في الآونة الأخيرة. وأنه بفعل الإخفاقات السياسية والتراجعات الحضارية المتوالية صارت الثقافة العربية محل تساؤل عما إذا كانت تصلح لأن تكون ركيزة للنهضة أم لا ؟ بل وجرى التشكيك في صلاحيتها وفي قدرتها على استيفاء شروط النهضة ، ونعتت بالتقليدية والركود ، وبأنها إحدى موروثات عصور الانحطاط والتخلف . ومن هنا كانت الدعوة إلى تهميشها وتحويلها إلى مجرد تراث أو فلكلور .
وإذا كنا نؤيد الانفتاح على الثقافات الأخرى فهذا يعني ألا نقصر اهتمامنا على الثقافة الغربية وحدها بزعم أنها الثقافة العالمية الوحيدة ، بل علينا أن نتجه شطر الحضارات الشرقية المجاورة لنا (من ايران وتركيا الى الهند والصين) ونوليها اهتماماً أكبر، وخاصة أنها ثقافات عريقة وثرية، وتحوي رؤية للطبيعة وللإنسان تتفق مع كثير من عناصر رؤيتنا العربية الإسلامية واللبنانية الخاصة.
ومن ناحية أخرى فإن قضايا الفن ليست منعزلة عن قضايا الثقافة الأخرى ؛ فالفن لغة الروح ودعوة للتسامي بالإنسان وتعميق فهمه لنفسه وللكون بأسره . ومن هنا ضرورة أن يكون الفن متحرراً ومنفتحاً ، على ارتباط بالمجتمع وبالقيم الإنسانية والأخلاقية ، ولا بد من التوازن بين تشجيع الآداب والفنون والإبداع من ناحية ، وبين الإلتزام بقيم المجتمع وبموجبات الدستور والعيش المشترك والأمن العام من ناحية أخرى.
كما أن الجمعيات الأدبية والثقافية هي بمثابة المحضن الذي يفرخ جماعات من الباحثين والمبدعين الشبان ، ويسمح لهم بالاحتكاك مع أجيال الرواد. والمركزية الثقافية التي ركزت كل المؤسسات الثقافية في بيروت هى أحدى العلل الأساسية لتراجع الثقافة التي تعبر عن هوية الإنسان اللبناني ، وبالتالي يجب تنشيط المراكز الثقافية والفنية في مدن المحافظات والأقضية ومراكزها وقراها وتشجيع المؤلفين والفنانين المحليين على الإبداع ، وتوظيف إبداعاتهم في خدمة جهود التنمية الشاملة لمختلف مجالات الحياة في المجتمع.