سعود المولى
لا يمكن فصل الجانب القيمي والأخلاقي عن عملية التنمية. فانهيار المنظومة الأخلاقية في المجتمع تؤدي إلى الإخلال بقيم العدل والمساواة وتؤدي بالتالي إلى تثبيط الهمم وسيادة الشعور العام باليأس. وإذا اختلت القيم يحدث التحلل الاجتماعي وتكون تصرفات وسلوكيات ، وحتى تطلعات ، مجموعات كبيرة من الأفراد والجماعات والتكوينات المهنية محكومة بمنظومات من القيم والمعايير السلبية ـ المعلنة وغير المعلنة ـ مثل:
ـ الحنث بالعهود والتعاقدات والشهادة الزور.
ـ الرشوة والمحسوبية والاختلاس والنصب .
ـ التسيب والإهمال واللامبالاة .
ـ ضعف الميول نحو المشاركة والمبادرة والاهتمام بالشأن العام .
ـ غلبة النزعة المادية والإستهلاك الترفي .
ـ زيادة معدلات الجريمة والعنف .
ـ ضمور معنى المصلحة العامة لدى قطاعات واسعة من المواطنين.
ـ انخفاض قدرات المواطنين ـ وأحيانًا رغباتهم ـ على العمل المنتج النافع .
ـ إختلال ميزان العدالة ( في توزيع الدخل ، وفي تطبيق القانون ،وفي توفير فرص العمل وفى القدرة على النفاذ إليها)..
ـ ولأن الفنون والآداب كثيراً ماتعكس أمراض المجتمع فإن انهيار القيم يدفع بها بعيداً عن مقاصدها النبيلة ، ويجعلها تتجه نحو التركيز على التفكير الخرافي ومخاطبة الغرائز.
وتؤدي تلك الأمراض الاجتماعية وغيرها ليس فقط إلى اختلال ميزان العدالة وانما أيضا إلى فوضى اجتماعية حيث يميل المواطنون إلى اليأس أو إلى السعي للحصول على حقوقهم بالقوة أو بطرق أخرى غير مشروعة. ولذلك لو افترضنا جدلاً أننا أفلحنا في إنجاز الإصلاح السياسي والاقتصادي والتشريعي على النحو الذي ترجوه القوى والتيارات الوطنية والديموقراطية المطالبة بالإصلاح في لبنان ، مع بقاء الأوضاع على ما هي عليه في الجوانب الأخلاقية السائدة ، فإن إمكانية تفعيل برامج الإصلاح في تلك الجوانب ونجاحها في الواقع ستكون قليلة ، وستكون فرصتها في تحقيق مقاصدها محدودة للغاية.
إن إدماج الإصلاح الأخلاقي في مختلف المداخل الإصلاحية السياسية والاقتصادية والتشريعية والثقافية والاجتماعية ، أمر ضروري ولازم ، لأنه الضمان الرئيسي الذى يحفظ تماسك المجتمع ويشكل المناخ الملائم لتقدمه.
ومهما كانت صعوبة عملية إدماج الأخلاق في مداخل الإصلاح المختلفة عامة ، فإنها عملية تستحق ما سيبذل فيها من الجهد والوقت لأنها من وجهة نظرنا شرط ضروري ولازم لنجاح الإصلاح وإدراك مقاصده.
وتنبغي الإشارة إلى أن مبحث "الأخلاق" محل إجماع أو توافق فكري كبير بين مختلف التوجهات الفكرية، وهو مطلب الجميع ـ أو هكذا يفترض ـ سواء كانوا من السلطة أو من المعارضة. كما أن مسؤولية القيام به تقع على عاتق الجميع من الأفراد والمؤسسات الأهلية والمدنية والحكومية وتشمل مختلف المستويات من قمة المجتمع وأعلى هرم السلطة والمسؤولية إلى القاعدة العريضة من جمهور المواطنين.
مكافحة الأمية والتسرب من التعليم: يمكن تبني حملة وطنية تستغرق فترة تتراوح بين 3 و5 سنوات يتم فيها الاستعانة بخريجي الجامعات والمعاهد العليا الذين يبحثون عن عمل لمدة عام أو عامين للمشاركة فى محو الأمية وذلك مقابل أجر معقول يزداد وفق استعداد الخريج للإنتقال إلى المناطق النائية والأكثر احتياجاً..وتتضمن الحملة الوطنية برنامجاً لمكافحة التسرب من التعليم عبر تعميم الوجبات الغذائية وتطبيق نظام اليوم الكامل حتى يتسنى إيجاد الوقت للتدريب على الحِرف إلى جانب حصص التعليم الأساسي ، وهو الأمر الذى يقلل من رغبة الأهل فى إخراج أولادهم من التعليم بسبب الضغوط الاقتصادية. ومن المهم للغاية أن تشمل تلك الحملة الوطنية برنامجاً مخصصاً لمواجهة التسرب الخاص بالفتيات يقوم على التوعية بأهمية تعليمهن ويضع منظومة من الحوافز خصوصاً فى الريف والمناطق الفقيرة لتعليم الفتيات كالحصول على مزايا عينية أو غذائية للأسر.
من المداخل المقترحة لتفعيل الإصلاح الأخلاقي، وربطه في الوقت نفسه بمداخل الإصلاح
المدخل التربوي التعليمي: وهذا يرتكز على الدور الكبير الذي تقوم به مؤسسات التربية والتعليم في بناء العقليات وتوجيه السلوك الفردي والجماعي. ومن خلال هذه المؤسسات يتم غرس منظومة القيم والمبادئ والمعايير التي تحقق الإصلاح الأخلاقي المرغوب..
وإذا كانت أغلب البرامج التربوية والثقافية وغيرها من برامج التنشئة الاجتماعية ـ في وضعها الحالي ـ تفتقر إلى المضمون الأخلاقي المطلوب ؛ فمن الضروري تطوير المناهج الدراسية والأنشطة الترفيهية والتربوية فى هذا الاتجاه. وتقع مسؤوليات إنجاز هذه المهمة التطويرية في مناهج التربية والتعليم على الهيئات والمراكز التربوية والإعلامية والتعليمية الحكومية وغير الحكومية، كما تقع أيضاً على المفكرين ودعاة الإصلاح وصانعي الرأي وقادة المجتمع المدني ومنظماته وهيئاته .
المدخل الثقافي الإعلامي: نظراً لضعف الخطاب الثقافي الذي تبثه وسائل الإعلام اللبنانية عامة ، والأجنبية ـ على وجه الخصوص ـ فيما يتعلق بالمضامين الأخلاقية الإصلاحية بالمعنى السابق شرحه ؛ فإن المطلوب هو صياغة ونشر خطاب ثقافي إعلامي يركز على تلك المعاني الغائبة ، ويهدف إلى بناء صورة ذهنية صحيحة وواقعية عن القيم والمعايير الأخلاقية الواجب احترامها والالتزام بها. وليس المقصود هنا انتاج برامج ذات طابع تعبوي خطابي ولا مادة فنية تلقى على الناس محاضرات فى الأخلاق والقيم، وانما المقصود هو رؤية إعلامية متكاملة تضع البعد القيمي فى قمة أولوياتها وتبث عبر برامجها الثقافية والفنية القيم المراد دعمها وتكريسها.
مدخل تجديد الخطاب الديني: إن الخطاب الديني السائد في لبنان والعالم العربي منذ فترة طويلة يحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى إصلاح أساليبه ، وتجديد مضامينه وتنحية المفاهيم السليبة واللغة الاعتذارية والمعاني الانعزالية التي يحتويها ؛ وذلك بهدف استيعاب متغيرات الواقع ، وتفعيل دور الخطاب الديني في مواجهة المشكلات التي يعاني منها المجتمع ، وبخاصة فئة الشباب ، كما أن هذا التجديد يجب أن ينعكس بشكل إيجابي على مكانة المؤسسة الدينية ( المسجد – الكنيسة -الخلوة ) ودورها في جهود التنمية والإصلاح الاجتماعي العام . وهذا الموقف ليس جديداً ولا مرتبطاً بدعوات حديثة قادمة من الخارج ، ولكنها دعوة قديمة ومتأصلة تبناها المصلحون والمفكرون قديما وحديثاً ؛ لأنه واجب ديني ووطني لإدراك الواقع والتفاعل معه وتطويره بما يخدم مصالح البلاد والعباد ولا يصطدم بغير مبرر مع العالم .
وفي هذا السياق يصبح تطوير المؤسسة الدينية مسألة بالغة الأهمية خصوصاً لجهة استقلالها مالياً وإدارياً عن بيروقراطية الدولة ، مع السعي الحثيث لإصلاحها وتدعيم دورها في تقديم الفكر المعتدل؛ بما يكفل قيامها بالمهام المنوطة به في الدعوة والإرشاد والتعليم محلياً وإقليمياً وعالمياً ، ومن ثم دعم مكانة لبنان عربياً ودولياً.
القدوة والشفافية: إن المبادئ والقيم والمعايير الأخلاقية مهما كان نبلها وسموها تظل قليلة التأثير في الواقع ما لم تتجسد قدوات حسنة يقتدي بها جموع المواطنين على كل مستوى من المستويات، على أن يجري دعم هذا التوجيه بمجموعة من إجراءات الشفافية ( مثل إعلان الذمة المالية ومصادر الدخل قبل تولي الوظائف العامة أو الولايات النيابية وبعدها، قانون الاثراء غير المشروع أو قانون من أين لك هذا، وجود مؤسسات رقابية تابعة للمجتمع المدني، المساءلة والمحاسبة في البرلمان، الخ....) وغيرها من الإجراءات التي تبرهن على صدقية هذه القدوات الحسنة ومن يليها من المقتدين بها في مختلف مواقع المسؤولية..
نعم إن لدى لبنان ما يقدمه للعالم. فقد أضفى من روحه وشخصيته كمركب حضاري ثري بعناصره المتعددة طابعاً مميزاً على الحضارة العربية الإسلامية وعلى الحضارة الإنسانية، الأمر الذى جعله صاحب ثقافة ثرية أسهم فى صقلها أبناؤه - مسلمون ومسيحيون- عبر العصور المختلفة.