سعود المولى
ينبغي أن يحكم رؤيتنا في مجال السياسة الخارجية والعلاقات الدولية أصل قيمي من جهة، وإدراك واع بحقائق الواقع الدولي من جهة أخرى. فالعلاقات الدولية، شأنها شأن كل العلاقات البشرية تقوم على مبادئ عامة، بغض النظر عن حكمنا القيمي على تلك المبادئ المتبعة. ومن هنا فإن المبادىء التى تحكم رؤيتنا اللبنانية فى العلاقات الدولية هي كالتالي:
1- العدل: وهو قيمة إسلامية ومسيحية وإنسانية عليا. ونعني بها، في مجال العلاقات الدولية، أن تُبنى العهود والمواثيق والاتفاقات الدولية على أساس كفالة العدالة للأطراف المختلفة، وعدم الجور على طرف فيها. وثمة علاقة وثيقة بين إقرار العدل ، ووجود السلام لأن غياب العدل يخلق الصراع ولا يمكن للسلام أن يدوم إلا إذا كان عادلاً .
2ـ الحرية : ويعني مبدأ الحرية فى مجالات العلاقات الدولية مايلي:
أ ـ الانفتاح على العالم شرقه وغربه، شماله وجنوبه، والتفاعل معه والاستفادة من خبرات شعوبه. وهو تفاعل مبني على الثقة بالذات الحضارية والإيمان بأن لدينا أيضاً مانسهم به فى عالم اليوم.
ب ـ بطلان الأوضاع التي تنشأ نتيحة للقسر والإكراه ؛ حتى لو تكرست عبر اتفاقيات أو معاهدات أو بحكم الأمر الواقع ، فهذه كلها تتنافى مع قيمة الحرية ، ولا بد لسياستنا الخارجية أن تعمل لتصحيح الأوضاع بما يتفق مع هذه القيمة الإنسانية العليا .
3ـ احترام العهود والمواثيق: إن احترام العهود والمواثيق يعد عاملاً أساسياً وحاسماً
في عملية التفاعل المنتظم في العلاقات الدولية. وهو لا يقتصر فقط على الجوانب الشكلية أو القانونية ، وإنما يمتد ليصبح أداة من أدوات ترسيخ مبادئ التعاون والتعايش، وعاملاً أساسياً لترسيخ ثقافة السلام لأن الإخلال بالتعهدات ونقض المواثيق هو أحد الأسباب التي تؤدي إلى تجدد النزاعات واندلاع الحروب.
4ـ الإحتفاء بالتعددية واحترام الخصوصية الثقافية:نحن نؤمن بالتعددية الحضارية والثقافية والسياسية والدينية ؛ ذلك لأن التنوع والاختلاف من سنة الحياة الاجتماعية ، ومن ثم لا يجوز السعي إلى طمس الاختلافات وتنميطها في قالب واحد لأنه مخالف للطبيعة البشرية من ناحية ولأنه لا يأتي إلاّ عن طريق الجبر والإكراه. ومن هنا أيضاً، دعوتنا لحماية الخصوصية الحضارية والثقافية واحترامها.
5ـ التعاون والاعتماد المتبادل: إن التعاون المبني على تبادل المنافع ورعاية المصالح المشتركة ، في إطار من السعي الدائب إلى تحقيق الخير الإنساني العام، هو الأساس المنشود للعلاقات الدولية .
طبعاً نحن ندرك أن العلاقات الدولية فى واقعها تبتعد كثيراً عن تلك المبادئ والقيم التي تكفل التعاون والسلام والحرية لجميع الأمم والشعوب. ومن ثم، فإن التحدي الحقيقي هو التفاعل الناجح فى الساحة الدولية بواقعية ومن منطلق قيمي فى آن معاً. ومن هنا، ضرورة التفريق بين الواقعية والإنهزام. فالواقعية تقتضي الكفاح من أجل حماية المصالح العليا للوطن فى ظل الظروف الدولية أياً كانت طبيعتها وبغض النظر عن الموقف منها. إلا أن تلك الواقعية لا تعني بالضرورة الاستسلام للواقع الدولي بكل آفاته. فالواقعية التى تسعى لتعظيم المنفعة الوطنية تعني أيضاً امتلاك روح المبادرة والتفكير في السبل التى من خلالها يمكن العمل مع دول وشعوب أخرى من أجل تغيير واقع دولي ظالم يضر بها كما يضر بنا. فلا يجوز المصادرة على حق الشعوب فى أن تحلم بواقع أفضل.ومن خلال هذه الرؤية والمبادئ العامة، نرى العالم باعتباره يحمل للبنان، شأنه شأن الدول الأخرى، منظومة مركبة من الفرص والتحديات. ولايمكن للبنان أن يضع يده على الفرص التي تخدم مصالحه أو أن يرصد التحديات التى تواجهه إلا من خلال رؤية واضحة مستمدة من السؤال الرئيسي المتعلق بهويتنا ومشروعنا الوطني..
إن تعريفنا للأمن القومي اللبناني يتضمن العمل على حماية لبنان من كل ما يهدد استقلاله سياسياً أو اقتصادياً أو عسكرياً.ومن المهم التفرقة بين ما يمثل تهديداً للأمن القومي وما يشكل تحدياً ينبغي الاستعداد لمواجهته، هذا فضلاً عن إدراك أن سبل مواجهة التهديدات ليست كلها واحدة. ففى حين تتطلب بعض تهديدات الأمن القومي تعبئة شاملة للمجتمع، يتعين فى حالات أخرى إتخاذ خطوات متعددة فى إطار خطة طويلة الأجل. أما التحديات فهى قد تكون بمثابة عقبة فى وجه مصلحة لبنانية ينبغي إزالتها، أو قد تمثل فرصاً ينبغي بذل جهود حثيثة لاقتناصها.
وتأتي قضيتا العلاقة مع سوريا والقضية الفلسطينية على قمة أولويات الأمن القومي اللبناني على الإطلاق. فإلى جانب علاقات الأخوة العميقة وروابط الجوار والتاريخ والجغرافيا والمصالح ، فإن سوريا تمثل العمق الاستراتيجي للبنان. إن السياسة اللبنانية تجاه سوريا في حاجة إلى إعادة نظر شاملة تحقق التوازن الدقيق بين ثوابت حماية سيادة واستقلال وحرية لبنان من ناحية وبين احترام المصالح العليا لسوريا وأمنها الاستراتيجي من ناحية أخرى. إن بناء العلاقات المميزة بين البلدين على أساس الاحترام والثقة المتبادلة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لكلا البلدين، وضمن إطار التضامن العربي، يمكّن لبنان من أن يلعب دوراً مؤثراً في العالم يحمي سوريا ويكون لخيرها وخير العرب . وينبغي فى هذا الإطار التشديد على أن مقتضيات الأمن القومي والسيادة اللبنانية تفرض التعامل مع أي نظام حكم فى سوريا أياً كانت طبيعته أو طريقة وصوله للحكم أو طريقة تعامله مع شعبه ومجتمعه، تماماً كما نرفض أي تدخل سوري في شؤون لبنان الداخلية، دون أن يعني ذلك الإخلال بمقتضيات الأخوة وحسن الجوار ولا بمقتضيات التضامن العربي في وجه العدو الصهيوني، إنما نطمح الى علاقات قائمة على الوضوح والشفافية وعلى الإندراج ضمن استراتيجية عربية موحدة تحقق الأمن والإزدهار لشعوبنا.. ولبنان لا يملك رفاهية الإنحياز لأحد أطراف الصراع العربي الداخلي بالضبط مثلما لا يملك رفاهية الوقوف على الحياد إزاء ما يدبر لسوريا من أطراف وقوى دولية.
كما أن رؤيتنا للعلاقات المميزة مع سوريا تشمل أيضاً البحث فى المشروعات المشتركة التى تعود بالنفع على البلدين كالمشروعات المائية والزراعية والكهربية والتجارية والسياحية فضلاً عن مشروعات تنمية الثروات الحرجية والحيوانية والسمكية والثروة البشرية في التعليم والثقافة.
وبالقدر نفسه من الأهمية، تعتبر القضية الفلسطينية قضية محورية فى رؤيتنا للأمن القومي اللبناني. لأن حرمان الشعب الفلسطيني من حقوقه المشروعة معناه استمرار انتهاك القانون الدولي والإنساني على حدود لبنان الجنوبية، الأمر الذى يمثل تهديداً صريحاً للأمن القومي اللبناني. ونحن حين نؤكد تأييدنا الكامل لحق الشعب الفلسطينى فى تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس، وحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة لديارهم، نؤكد أيضاً على حق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال بكل الوسائل المشروعة ، بما فيها القوة المسلحة التى يعتبرها العالم مقاومة مشروعة نصت عليها المواثيق والمقررات والأعراف الدولية كحق ثابت لأي شعب في مواجهة الاحتلال، ونرفض في الوقت نفسه كل أشكال الإرهاب والقتل التي تصيب المدنيين..
ولكن فوق كل هذا وربما قبله فإن الوضع الحالي لمزارع شبعا وتلال كفرشوبا يمثل خطراً حقيقياً يهدد الأمن القومي اللبناني. فقد مر أكثر من عشر سنوات على تحرير الأرض العزيزة في الجنوب والبقاع الغربي دون حصول الإنسحاب الاسرائيلي الموعود من تلك المنطقة ولا توقف التجسس الإسرائيلي والطلعات الجوية والاعتداءات الموسمية.وليس سراً أن إسرائيل لها مطامع متجددة في أرضنا ومياهنا وشواطئنا الأمر الذى يتحتم معه إعطاء الأولوية القصوى لقضية استكمال السيادة الوطنية في ظل احترامنا للقرارات الدولية الخاصة بجنوب لبنان وآخرها القرار 1701 ومع اليقظة والحذر في مراقبة تنفيذها والتقيد بها بما يخدم مصلحة لبنان وأهل الجنوب الصابرين الصامدين...
يتعين على صانع القرار اللبناني العمل على تعميق العلاقات اللبنانية العربية لا فقط في الجوانب العسكرية والسياسية والاقتصادية وانما ضرورة الاهتمام بالتفاعل الثقافي والشعبي أيضاً. فمن أهم ما فقده لبنان فى كبوته الأخيرة هو مايطلق عليه "القوة الناعمة" أو "القوة الرخوة" أي نفوذه المعنوي والثقافي. ومن هنا فإن التفاعل اللبناني فى الثقافة والفنون والآداب من شأنه أن يسهم في استعادة لبنان لهذا النفوذ وهو الذي يساعد بالضرورة على تدعيم قدرته على لعب دور عربي وإقليمي مؤثر.
وبناء على التعريف السابق ذكره للأمن القومى اللبنانى، يتحدد موقفنا من القضايا المختلفة بل ومن دول العالم على اختلافها. فنحن لا نتخذ موقفاً موحداً من دول الغرب مثلاً أو من دول الشرق، فهي علاقات تبنى مع كل دولة على حدة بناء على المصالح العليا اللبنانية من ناحية وبناء على مدى احترام تلك الدولة لإستقلالية لبنان ومصالحه ومصالح العرب من ناحية أخرى، وأولها قضية فلسطين، وذلك في إطار علاقة تقوم على تبادل المصالح ولا تتعارض مع المبادئ العامة السابق ذكرها ، وعلى رأسها احترام المواثيق والمعاهدات الدولية التي وقع عليها لبنان. ويعني ذلك أنه باستثناء الدول الغاصبة المعتدية لا يوجد خصومة دائمة ولا تحالف دائم فهي مسألة تحددها أولويات الأمن القومي اللبناني والمصالح العليا كما يراها شعب لبنان وحكومته المنتخبة انتخاباً حراً.
ومن أجل أن يتم بناء مثل تلك العلاقات التي يسودها الاحترام المتبادل للمصالح العليا، فإن لبنان فى حاجة ماسة إلى استعادة مكانته الإقليمية والدولية. وهو ما لا يتأتى دون استعادة المجتمع اللبناني ذاته لعافيته عبر نهضة اقتصادية شاملة وتحول ديموقراطي حقيقي. فالنهضة الذاتية هي مفتاح النفوذ الإقليمي والدولي وهي التي تفرض على الآخرين دولا ومنظمات احترام مصالحنا العليا.
وفى إطار هذه الرؤية، ننظر بعين الاعتبار إلى التحولات الكبرى فى النظام الدولي ومايفرضه ذلك على لبنان من تحديات وما يتيحه من فرص. فعلى المستوى الدولي، صار انحسار الإمبراطورية الأميركية واضحاً بالقدر الذي يشير إلى أن مرحلة القطب الواحد مرحلة انتقالية سوف تليها على الأرجح مرحلة جديدة من مراحل تعدد الأقطاب، لاتملك فيها حتى الآن أي من القوى الصاعدة كل المفردات التى تجعلها منافساً كاملاً للولايات المتحدة الأميركية. فروسيا مرشحة للعب دور سياسي أكبر بينما تمثل الصين واليابان والإتحاد الأوربي التحدي الاقتصادي الأكبر للولايات المتحدة. وعلى المستوى الإقليمي، من المهم للبنان أن يأخذ فى اعتباره صعود كل من تركيا وإيران والوضع في العراق وما لذلك من تداعيات على التوازن الإقليمي.
وفي ظل هذه التحولات الدولية والإقليمية، هناك عشرات الفرص المبنية على التعاون المشترك ليس فقط مع دول الجوار المباشر وإنما مع دول الجنوب عموما. فمن غير المعقول أن يظل الاهتمام اللبناني مسلطاً على دول الغرب وحده، إذ أن فرص التعاون مع دول آسيا وأفريقيا جنوب الصحراء وأميركا الجنوبية ذات أهمية قصوى ليس فقط اقتصادياً وإنما لاستعادة لبنان لنفوذه . فثقل لبنان نبع تاريخياً من علاقاته الخارجية ومن دوره في العالم، وخصوصاً لجهة وزن ودور المغتربين من أبنائه وهذا ما يفرض على السياسة الخارجية اللبنانية إيلاء مسألة المغتربين اهتماماً أكبر ضمن خطة واضحة لتعزيز إرتباطهم بالوطن الأم وخدمتهم لمصالحه الوطنية ولقضاياه المصيرية، وفي الآن نفسه إعادة الإعتبار الى المغتربين بصفتهم مواطنين كاملي الحقوق والواجبات في وطنهم وخارجه..
ولايمكن للبنان أن يضع يده على الفرص التى تخدم مصالحه أو أن يرصد التحديات التي تواجهه إلا من خلال رؤية واضحة مستمدة من السؤال الرئيسي المتعلق بهويتنا ومشروعنا الوطني..