د. برهان غليون
كالعنقاء التي تنبعث من رمادها، تولد الشعوب العربية اليوم من الحطام الذي آلت إليه في العقود الطويلة الماضية على يد نظم سياسية واجتماعية قاهرة وقهرية، وتتقدم على مسرح التاريخ طامحة إلى امتلاك مصيرها. ويعني امتلاك المصير استعادة الحق الأصلي في التصرف والسيادة التي نازعتها عليها قبل أن تنتزعها منها النخب الحاكمة في سياق تاريخي استثنائي كسرت فيه إرادة الشعوب العربية، ونجحت فيه الدول الكبرى في استتباع النخب الحاكمة واستخدامها للعمل على أجندتها الخاصة.
هي إذن في الجوهر ثورة سياسية عميقة تعيد تشكيل الشعوب التي صارت خلال العقود الماضية في حكم الرعايا والأتباع والموالي والعبيد المنقسمين والمتنازعين والمهمشين والشاكّين بعضهم ببعض واليائسين من مصيرهم ومستقبلهم والمحتقرين لأنفسهم والمنخلعين عن ذواتهم بسبب عمق المهانة والعطالة والإحباط، وصهرها في أتون الحركة الاحتجاجية والثورة المستمرة على أشباه أسيادها أو أسيادها الزائفين، إلى أمم أو شعوب أمم يوحدها العمل المشترك والأمل الجامع في استلام زمام أمورها وانتزاع حقوقها.
ففي هذه الثورة ومن خلالها اكتشفت الشعوب التي دفعت إلى الشك في نفسها، وحدتها وقدراتها -أي ذاتها- ووقعّت دون أن يستدعي ذلك أي مفاوضات مسبقة أو حوارات سابقة أو تنظير، على عقدها أو عهدها الوطني الجديد: عهد الخبر والكرامة والحرية، تماما كما كانت الثورة الفرنسية عام 1789 قد أسست لعهد الديمقراطية الغربية الجديد بشعارات تحولت في ما بعد إلى جدول أعمال جميع الشعوب الغربية والديمقراطية: الحرية والمساواة والإخاء.
وقصدي من ذلك أن أقول أيضا إن هذه الثورة هي بالتأكيد ثورة الديمقراطية العربية كما وصفها العديد من المحللين، بما تعنيه الديمقراطية من إلغاء نظام السلطة المطلقة أو أشكال الحكم الدكتاتورية، وإقامة نظم سياسية تقوم على مشاركة جميع الأفراد في القرارات العمومية عبر ممثلين ينتخبونهم بحرية.
وهذا ما حصل في أوروبا الشرقية في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، وما حصل في أميركا اللاتينية وبعض الدول الأفريقية قبل ذلك في السبعينيات. لكنها ليست كذلك فحسب، ولا تقتصر على عملية إطلاق الحريات لشعب انتزعت منه.. إنها أكثر شبها بالثورة الفرنسية التي لم تكن هي أيضا مجرد إطلاق للحريات أو تغيير نظام سياسي دكتاتوري بنظام ديمقراطي آخر، وإنما كانت إطارا لولادة أمة من هشيم الرجال والطوائف والجماعات المحلية والطبقات المتنابذة التي ينكر بعضها بعضا.
ومن حيث هي كذلك، كانت في الوقت نفسه ثورة نفسية وأخلاقية وفكرية وسياسية واجتماعية واقتصادية تستبطن بالضرورة انقلابا جيوستراتيجيا أيضا.
فما حصل في البلاد العربية في العقود الأربعة الماضية على يد بعض النخب التي استلمت السلطة في ظروف تاريخية وبوسائل استثنائية، هو إعادة توطين الملكية المطلقة والتعسفية فيها كما لم يحصل في أي منطقة من مناطق العالم الأخرى، فوضعت العالم العربي بالفعل في حالة شاذة معاكسة لحركة التاريخ واتجاهها.
وأقصد بالملكية المطلقة هنا نفي أي حقوق مهما كانت للشعوب في المشاركة في تقرير الشؤون العامة، وتحويلها إلى شعوب قاصرة أو فرض حالة القصور عليها، وتحويل البلدان إلى ما يشبه الإقطاعات القرسطوية التي يتحكم فيها أولياء نعمة من الملوك والسلاطين والرؤساء المبجلين الذين يفرضون سيطرتهم عبر ترويع السكان بالمليشيات المسلحة التي لا تخضع لقانون غير إرادتهم، ويستحلون جميع الحقوق ويتعاملون مع البلاد كما لو كانت ملكية خاصة لهم، ولهم عليها حق التصرف الكامل، لهم ولأبنائهم وأقربائهم، كما يملكون حق الموت والحياة على السكان ويحولونهم بالجملة إلى عبيد وأتباع.
وربما كانت نكتة توريث الأبناء الحكم من قبل الآباء في الجمهوريات العربية أكبر مؤشر على نوعية هذه العلاقة التي نشأت بين أصحاب الحكم وبين الأرض والشعب، وكان من نتيجتها تصفية الإرث الفكري والسياسي الوطني أو المواطني العميق الذي تراكم منذ عصر النهضة في القرن التاسع عشر وعزز الشعور بوجود شعب وأمة عربيتين لدى الأفراد وفي نظر الرأي العام العالمي أيضا، بعد الانتصار على الاستعمار ونيل الاستقلال، ثم في مرحلة ثانية، الثورة الوطنية التي تفجرت في الخمسينيات والستينيات بهدف تعميق أسس الاستقلال الاقتصادي والاجتماعي ودمج الأرياف في الحياة العامة، وقادتها الحركة القومية العربية، والناصرية منها بشكل خاص.
ونجم عن انحطاط نموذج الحكم والسلطة في البلاد العربية تدمير منظم للنسيج الوطني، وتفجير نواة الوطنية الجديدة التي ولدت في إطار الصراع ضد الاستعمار والهيمنة الأجنبية وفي سياق الطموح إلى الانخراط في العصر ومسايرة القيم السياسية الحديثة.
وحلت السلطة الشخصية المستندة إلى الولاء للحزب الواحد أو الطائفة أو العشيرة محلّ سلطة القانون، وفرغت مؤسسات الدولة جميعا من مضمونها، واحتلت الجماعات الزبائنية ذات الأصول الحزبية أو الطائفية أو العشائرية، الدولة واستعمرت مؤسساتها وطردت أي أثر لروح السياسة الوطنية وللقانون فيها، وتحولت الجيوش إلى مليشيات تأتمر بأوامر النخب الحاكمة ولا تخدم سوى مصالحها، وأخضعت نظم التعليم لحاجات تعزيز سيطرة هذه النخب وهيمنتها، ووظفت المعارضات السياسية ذاتها -بعد عمليات إخضاع وإذلال وتدجين طويلة ومتواصلة- في خدمة السلطة شبه الإقطاعية الجديدة، وحيل بين الأفراد وإمكانية التواصل والتعارف والتفاهم والعمل المشترك والتعبير عن الرأي أو المصالح الخاصة، فما بالك بالتنظيم والتظاهر والاحتجاج.
ووصل الأمر حدّ منع الناس من التضامن في ما بينهم أثناء الكوارث الطبيعية من زلازل وغيرها، حتى لا يقلل ذلك من هيبة الدولة أو القائمين عليها. وتفنن النظام في تفريغ الثقافة العربية من محتواها التحرري والإنساني أيضا، وفي تعميم ثقافة تجمع بين تعميم الخوف الشامل من كل شيء ولأي سبب أو من دون سبب، نتيجة العسف المعمم وغياب أي حماية سياسية أو قانونية للفرد، والانكفاء على النفس، والاستقالة من أي مسؤولية عمومية، والانطواء على قيم العصبية الأسرية أو العائلية أو الطائفية أو العشائرية، واليأس من المستقبل والانسحاب من العالم، وإدارة الظهر لكل ما يشير إلى قيم التحرر الحديثة.
وفي هذا العالم الاجتماعي الجديد الذي صاغه النظام، وفرغه من أي لحمة مدنية تجمع بين الأفراد، وأقامه على تعميم الخوف الدائم والتهديد المنظم الذي يضمنه الحضور الشامل لأجهزة الأمن والقهر والمخابرات، والاستخدام المفرط للعنف الرمزي والمادي معا، والقطيعة مع العالم الخارجي نفسيا وفكريا وأحيانا ماديا، وسن قوانين المراقبة على كل ما يتعلق بالاتصالات الحديثة والقديمة، وتنويع القيود المفروضة على تنقل الأفراد وحركتهم داخل بلدانهم وخارجها، وكسر حلقات التواصل الاجتماعي والثقافي بتضييق هامش العمل الجمعوي والإنساني والخيري، وكل ما يتعلق بما نسميه اليوم منظمات المجتمع المدني، وتجنيد قسم كبير من النخب المثقفة لبث أيدولوجية القهر الذاتي التي تقوم على تغذية مشاعر كراهية الذات وتشجع على الانخلاع عن الهوية والتبرم بالانتماء للجماعة التاريخية والثقافية، من خلال الانتقاص من قدر الحضارة العربية وتشويه التاريخ وتسويد الثقافة وتقزيم الإنسان والتشكيك في تاريخ العرب ومقدرتهم العقلية على تمثل قيم الحضارة الحديثة أو معانقة القيم المدنية، وتكبيلهم بمشاعر الفشل والعجز واللافاعلية، وتوجيه الدراسة التاريخية والاجتماعية نحو ميادين لا هدف منها سوى إفقاد الفرد الثقة بنفسه ومقدرة مجتمعاته على الانخراط في العصر، مثل ما اعتدنا على قراءته عن الجروح النرجسية والعصاب والماضوية والانطواء على النفس والعداء للآخر، مما حفلت به المكتبة العربية في العقود الثلاثة الماضية ولم تعرفه الدراسات الاجتماعية عن أي شعب آخر خلال التاريخ.. أقول في هذا العالم الاجتماعي الجديد الذي ساهم في خلقه واستمراره الطغاة الكاسرون والأجهزة الأمنية الضاربة والمتمولون الشرهون والمثقفون والدعاة المحبطون والناقمون أو المستفيدون، انحلت جميع العرى الاجتماعية، وقضي على أي أثر للروح العمومية، للوعي الجمعي والإرادة العامة.
لم يعد هناك شعب ولم تعد هناك أمة ولم يعد هناك مجتمع.. ما بقي هو هشيم من الأفراد الذين يتعامل معهم النظام كزبائن، يجازيهم أو يعاقبهم حسب ولائهم له أو ابتعادهم عنه. وبمقدار ما فقد المجتمع مرجعياته السياسية والقانونية، وقتل فيه معنى الإنسان والإنسانية، أصبح أفراده يتعاملون في ما بينهم أيضا كزبائن، يشترون ولاء بعضهم حتى داخل الأسرة الواحدة، ويبيعون بعضهم ويشترون بعضهم كما يبيعهم النظام ويشتريهم.
في هذا السياق تشكل استعادة الشعوب لسيادتها وحقها في تقرير مصيرها من يد الطغاة والطغم التي حولتها إلى رعاع حتى تتحول هي إلى ملوك وسلاطين وأسياد السلطة والمال والجاه، إطارا لاستعادة الوجود كأمة وشعب ومجتمع وجماعة حية، وفي السياق نفسه إطارا لاستعادة الملكية على الأوطان التي انتزعت وحولت إلى إقطاعات قرسطوية. وهي تنطوي بالضرورة -في ما وراء نداء الحريات المدنية والسياسية وبرامج تطبيقها وتعميمها على كل فرد- على ثورة أخلاقية واجتماعية وسياسية بالمعنى العميق للكلمة.
فأول أبعاد هذه الثورة التاريخية، والأكثر وضوحا في الأحداث اليومية المستمرة لها، هو من دون شك قلب التوازنات السياسية القائمة، بحيث يصبح عاليها سافلها والعكس. فقد انقلبت الآية وصار الشعب منذ الآن سيد الموقف بعدما كانت السيادة للنخب الحاكمة المسلحة بأجهزة الأمن والمخابرات، وهو الذي يقود الآن اللعبة السياسية ويحدد برنامج عمل الحكومة وجدول أعمالها.
ولأول مرة في تاريخ العرب يتعرف الشعب على نفسه، ويتصرف بالفعل كمصدر للسلطات، ولا يتضرع إلى الحاكمين أو يستجديهم احترام حقوقه، كما لا يتطلع إلى الدول الأجنبية لاستجداء بيان الإدانة أو الشجب أو المساعدة، وإنما يعتمد على نفسه ويحرص على عدم السماح لأي قوة داخلية أو خارجية أن تنتقص من سيادته.
ولأول مرة تجد النخب الحاكمة نفسها في وضعية التبعية لإرادة الشعب والخادمة له. ولعل أفضل ما يعبر عن ذلك هذا الشعار الذي انتشر أيضا كالثورة في جميع أصقاع العالم العربي كشعار رئيسي ودائم "الشعب يريد". في البداية كانت الإرادة متمثلة في إسقاط النظام، والآن جميع المطالب الاجتماعية تبدأ بفكرة الشعب وبالشعب.
لكن في ما وراء هذا الانقلاب التاريخي الذي نشأ من إعادة تعريف العلاقة أو تحديدها بين الشعب والنخبة الحاكمة، أو بين السلطة والجمهور، هناك ثورة أخلاقية أعمق من ذلك تتعلق بإعادة تعريف العلاقة بين الفرد والفرد في إطار هذه السلطة التي يملك الشعب زمامها ويشكل مصدرها.
ويعني الانقلاب هنا الانتقال من تعريف الناس أو تصورهم لأنفسهم في ما يتعلق بالعلاقات بين بعضهم البعض، كزبائن وأتباع وموال ومحاسيب وأزلام، داخل الأحزاب وخارجها، في وسط النخب الحاكمة وداخل صفوف الشعب والمعارضة معا، إلى تعريفهم كمواطنين. وجوهر المواطنة الاعتراف بالمساواة في إطار القانون أولا، لكن أبعد من ذلك، على المستوى الفكري والأخلاقي. ولا مساواة من دون الحرية التي تشكل جوهر المواطنة كحقيقة سياسية ومسؤولية عمومية.
ومن منطلق المسؤولية التي تؤسسها الحرية والمساواة ينبع التكافل الضامن لإعادة إنتاج علاقة المواطنة، أي الشعب بوصفه أفرادا أحرارا ومتساوين، أو استمرارها. وأي إلغاء للحريات والمساواة القانونية والأخلاقية أو انتقاص منها أو مس بقداستها، يهدد تماسك الأمة ووحدة إرادتها ووجودها.
في هذا السياق الذي تكونت فيه الأمة، أي روح المواطنية الجامعة، من خلال التضامن النشط الذي ما كان للثورة أن تنتصر وتحقق أهدافها من دونه، برزت القيم الجديدة التي صقلت الأفراد وأعادت تربيتهم في لحظة واحدة، اللحظة التأسيسية المنبثقة في زمن الثورة المحررة، وهي في طريقها لإعادة تشكيل القيم والعلاقات الاجتماعية على أنقاض ثقافة الزبائنية والمحسوبية التي ورثتها من الحقبة الاستبدادية البائدة.
فعادت الأمور إلى نصابها الطبيعي، لم تلغ العائلية ولا الانتماءات الطائفية والقبلية، ولكنها رجعت إلى حجمها الطبيعي أمام صعود مشاعر الانتماء الوطني والهوية الجامعة والمصالح والقيم الاجتماعية. فوجدنا الناس يتصرفون بعفوية وبساطة كأعضاء في مجتمع أو شعب واحد، يدافع كل فرد عن الآخر ويضحي من أجله، كما شاهدنا تسامي الأفراد والجماعات على مصالحها الخاصة والزمنية والارتفاع إلى مستوى المبادئ المحركة والملهمة، فتراجعت -وفي بعض الأحيان ذابت- التمايزات والتناقضات الدينية وغير الدينية والحزازات الطائفية والعشائرية، وسار الجميع في حركة واحدة وعلى قلب واحد تحملهم موجة الانعتاق من ذل القهر والجوع والخوف الذي دمر لحمتهم الاجتماعية والوطنية.
لقد ولدت الأمة الحرة من تلك النواة الشبابية الصغيرة التي نجحت في التحرر من نظام العبودية وملحقاته الثقافية والسياسية والاجتماعية، وتعامل فيها كل فرد مع ذاته كرجل حر مسؤول، ومع أقرانه كأفراد أحرار متساوين، بصرف النظر عن أصولهم وأفكارهم واعتقاداتهم.
ما جمع بين هؤلاء كافة لم يكن العقيدة الواحدة ولا الأصل الواحد ولا الدين أو المذهب الواحد، وإنما الإرادة الواحدة في العيش بكرامة وحرية، أي الطموح المقدس لمعانقة أفق القيم الإنسانية، والذي لا يمكن لفرد أن يحترم فيه ذاته من دون أن يحترم غيره، ولا أن يضفي الشرعية على حقوقه -وأولها الحرية- من دون أن يعترف بشرعية حقوق الآخر، وبالتالي مساواته معه، وتقاسمه مع أعضاء مجتمعه جميعا حياة الكرامة والمسؤولية.
كان من الطبيعي أن لا تخرج ثورة التكوين الجديد للشعب الأمة، أو انبعاثه كمجتمع مواطنين أحرار ومتساوين، من رحم تلك البؤر السياسية والثقافية والاجتماعية التي نشأت في ظل العلاقات الزبائنية وترعرت في ثقافة الاستقالة السياسية والأخلاقية، وإنما في وسط أجيال جديدة شابة لم تعرف حياة الذل والمهانة والزبائنية ولم تتعامل معها، بقيت متحررة من تجارب الماضي السلبية، ومن القيود الذاتية المفروضة على العقل والمانعة له من معانقة أفق الكونية الإنسانية. فمن الكرم الذي يحرك روح الشباب في كل زمان ومكان ويجعل منهم الأسرع إلى التضحية ونكران الذات، ومن روح الحرية الطبيعية التي تسكن أجيالا لم تلوثها النزاعات الفكرية المديدة وتمزقها الحزازات المذهبية القديمة، ستولد ثورة الحرية والكرامة والأخوة العربية.
وهي في الواقع وطنية عربية جديدة، أي مشروع أمة جديدة، تولد الآن من وراء الحدود الجغرافية وعبرها، تجمع بين العرب من دون استثناء وتوحدهم من جديد حول مبادئ وقيم أساسية ستشكل المرجعية في تعامل الأفراد مع بعضهم بعضا، وفي تعاملهم مع النخب الحاكمة والسلطات السياسية، وتشكل بالتالي العقد أو العهد العربي الوطني الجديد.
وهي وطنية لا يتناقض فيها القطري والقومي، وإنما يتكاملان بمقدار ما يعزز تحرر شعب عربي من نظام الإذلال والقهر والعبودية والجوع تحرر الشعب الآخر، ويزيد من قدرته على مقاومة الضغوط الداخلية والخارجية.
كما لا تنفي فيها ممارسة الحريات الفردية الحقوق الجماعية، سواء أتجسدت هذه الحقوق في تأكيد تكافل الجميع في مواجهة الفقر والجوع، أو في تعاونهم للحفاظ على السيادة والاستقلال في مواجهة الضغوط الأجنبية.
هنا تتكامل الأجندة الديمقراطية مع الأجندة الوطنية والأجندة الاجتماعية وتنشئ أو تدفع إلى ولادة نموذج لنظام مجتمعي وإقليمي جديد يشكل الالتزام بما سميته العهد الوطني العربي الجديد، عهد الخبز والكرامة والحرية، وتحقيق أهدافه وإنجاحه والفوز فيه، أساسَ وحدة مشاعر عرب اليوم وغاياتهم ومحور اجتماعهم، وقريبا الأساس العقدي لاتحادهم كافة، داخل كل قطر، وعلى مستوى الأقطار جميعا.
ويعني عهد الخبز في هذا البرنامج المؤسس لوطنية عربية وأمة جديدة، أنه لا يجوز بعد اليوم أن يقبل العربي بأن يكون هناك في بلاد العرب من يجوع، وأن تأمين الحد الأدنى للحياة التزام جماعي أخلاقي، وليس سياسة حكومية فحسب، وهو ما يساوي في العهد الجمهوري القديم شعار الإخاء والتكافل والتضامن كحق طبيعي للأضعف وواجب على الأقدر، وما لا يستقيم من دونه بناء اجتماعي حي وقابل للحياة.
وتعني الكرامة أن احترام كل فرد -بصرف النظر عن أصله وفصله ومهنته ووضعه الاجتماعي- واجب وطني، وأنه لا يجوز أن يبقى في بلاد العرب من يقبل الذل أو يتعرض للإذلال، سواء أجاء ذلك من قبل إهانة فرد لآخر أو جماعة لأخرى أو الانتقاص من كرامتهما أو حقوقهما، او ممارسة أي أشكال حاطة بالكرامة الإنسانية تجاه أحد، سلطة كان أم فردا أو جماعة مدنية. وأن أساس هذا الاحترام المتبادل للإنسان في كل إنسان، هو مساواة الجميع، من وراء اختلافات البشر والأفراد في اللون أو الجنس أو الطبقة الاجتماعية أو الديانة أو الثقافة أو المذهب أو الفكر أو العقيدة السياسية.
وأخيرا تعني الحرية الاعتراف بالحق المقدس لأي فرد في التصرف بشؤونه وتحكيم ضميره والتعبير عن نفسه وفكره والتواصل مع أقرانه والمشاركة المتساوية مع غيره في النشاطات العامة السياسية وغير السياسية، كما تعني كفالة تأمين ممارسة هذا الحق للجميع من دون تمييز، وأن أي انتهاك لهذا الحق والحريات المدنية والسياسية والاجتماعية المرتبطة به هو انتهاك لحق الجماعة والمجتمع وليس لحق الضحية فحسب، وتهديد للعهد الوطني وخيانة للمبادئ التي قامت على أساسها وحدة المجتمع والشعب.
من هنا، في ما وراء مظاهر التحرر السياسية البارزة اليوم، تشكل هذه الثورة/الثورات مرجلا عظيما لإعادة صهر الشعوب العربية التي شوهها الطغيان والاستقالة المعنوية والفساد، وحولها إلى أشباه أمم وأشباه رجال وأشباه دول، وإعادة صوغها في قالب جديد، إنساني واجتماعي، أي إعادة صقلها بالقيم والمبادئ والمثل العليا التي انتزعت منها أو فرض عليها الانخلاع عنها، حتى تتحول إلى ما يحتاج إليه الطغاة من انحطاط ليتمكنوا من وضع أنفسهم في موضع المبدأ الأخلاقي الملهم والروح المحركة والجامعة لهشيم الأمم وركامها.