لن أضيف الكثير إلى ما قيل وسيقال عن هذا الرجل التاريخي الإستثنائي.. إنما سأشهد معه وله بمقدار ما عرفته وعايشت مواقفه. لقد أحببته وإحترمته منذ عرفته مطراناً يجهر بالحق ويحمل صليب المحرومين والمظلومين في هذا الوطن..وإزداد حبي وإحترامي له من وقفته إلى جانب السيد موسى الصدر ثم إلى جانب الشيخ محمد مهدي شمس الدين من أجل وطن الحرية والعدالة والكرامة لجميع اللبنانيين..إن تاريخية وإستثنائية هذه القامة السامقة في سجل الخالدين تنبع من عناوين ثلاثة: الحرية والديموقراطية والكرامة: وهذه إرث آبائه وأجداده من الموارنة الذين عمروا هذا الجبل الأشم وسقوه من عرقهم ودمائهم لكي يكون لبنان ولكي يبقى لبنان..أذكر أنني كنت يوماً في مجلس للشيخ الإمام حين دخل علينا أحد المعممين القادمين من ماكينات تفقيس العمائم وهو يشتم ويلعن الموارنة وبطريركهم بسبب خطاب أو موقف لم يعجبه...يومها نظر سماحة الإمام إلى ذلك المعمم وقال له بلهجته النجفية الحلوة: "عمي! لولا الموارنة وبطركهم لما كان لبنان ولما كنت أنت اليوم تتنعم بالحرية في التعبيرعن رأيك هذا"..
لقد كان قدَر الموارنة وبطركهم الدفاع عن خصوصية لبنان وعن دوره في محيطه العربي والعالم...وكان قدَرغيرهم من الطوائف اللبنانية الدفاع عن عروبة لبنان الحضارية..وفرادة العظماء في تاريخ لبنان المعاصر تكمن في فهمهم لخصوصية لبنان وفي وعيهم لدوره ولرسالته التي قال فيها الإمام الصدر والبابا يوحنا بولس الثاني والإمام شمس الدين والبطريرك صفير إنها رسالة الحوار والتعايش والمحبة ضمن الحرية والكرامة والديموقراطية.. ولم يكن للموارنة أن ينجحوا في حمل هذه الرسالة لولا قادة بطاركة تاريخيين وإستثنائيين يقف مار نصرالله بطرس صفير في مقدمتهم..لولا هؤلاء البطاركة وأولهم بطركنا صفير لم يكن من الممكن التلاقي والتلاقح بين اللبنانية الحوارية المنفتحة غير العنصرية ولا الإنعزالية، وبين العروبة السمحة الحضارية غير الإستبدادية ولا الإلغائية...فبين الميثاق الوطني ومعركة الإستقلال وبين وثيقة الطائف ومعركة الجمهورية الجديدة، أكثر من مجرد توازنات دولية وإقليمية..إذ لولا إرادة العيش المشترك، وإرادة الشراكة الإسلامية-المسيحية، وإرادة حفظ صيغة لبنان في الحرية والتنوع والكرامة والديموقراطية، لما تحقق وفاق ولما قام دستور ولما بقي لبنان أصلاً في زمن تلاشي أمبراطوريات ودول كبرى..وهذه الإرادة الوطنية الجامعة كان البطريرك صفير خير من عبّر عنها خصوصاً بعد غياب المرجعيات الإسلامية الكبرى: رفيق الحريري وكمال جنبلاط وحسن خالد وصائب سلام ورشيد كرامي وتقي الدين الصلح وصبري حمادة وعادل عسيران وموسى الصدر ومحمد مهدي شمس الدين ومحمد أبو شقرا وحليم تقي الدين.. ونحن ندين لهؤلاء الرجال الكبار سعيهم ومبادراتهم في توحيد إرادة اللبنانيين الوطنية العربية وفي التعبير عنها عند كل المنعطفات التاريخية.. وقد كان على البطريرك صفير أن يحمل وحده هذا العبء في أحلك الظروف وأصعب الأوقات بعد رحيل كل هؤلاء الكبار...فكان هو مرجعيتنا الوطنية والأخلاقية والحوارية نحن المسلمين أيضاً..
يكفي أن نذكر له موقفه يوم الهجوم على الطائف والجمهورية أعوام 1989-1992..فلولا البطريرك صفير لما كان طائف ولا كان دستور جديد.. يكفي أن نذكر له موقفه في عقد القمة الروحية التاريخية في صرح بكركي يوم 2 آب 1993 (إبان حرب السبعة أيام الصهيونية الشرسة) لإعلان تلاقي وتفاهم القيادات الروحية اللبنانية قاطبة في إحتضان المقاومة وحمايتها وجعلها مقاومة كل اللبنانين لا مقاومة طائفة أو فئة واحدة منهم... يكفي أن نذكر له موقفه يوم عقدنا المؤتمر العالمي الإسلامي المسيحي "مسلمون ومسيحيون معاً من أجل القدس" في 14-16 حزيران 1996 وبعد شهر فقط على مجزرة قانا وحرب نيسان.. يكفي أن نذكر موقفه في رفض الوصاية ورفض الدولة البوليسية ورفض الظلم، وفي رفع لواء العدالة والحرية والديموقراطية، يوم كان غيره يخشى مجرد التعبير عن هواجسه وأفكاره في وجه التمديد ولغة التهديد والوعيد والسجن والنفي والتشريد أعوام 1998-2004..
يكفي أن نذكر له موقفه ودوره في إحتضان ورعاية كل أعمال وهيئات الحوار الإسلامي المسيحي التي كنا نبادر إلى إطلاقها وذلك منذ العام 1989 وإلى يومنا هذا..
يكفي أن نذكر له موقفه التاريخي الإستثنائي في إطلاق معركة التحرر من الوصاية والتبعية ومن الدولة البوليسية في أيلول من العام 2000 وبعد أربعة أشهر فقط على تحرير الجنوب من رجس الإحتلال الصهيوني، صارخاً بأعلى الصوت: آن الأوان لكي يلتقي التحريران ويتعانق الإستقلالان في حركة وطنية واحدة تحقق المصالحة الشاملة النهائية والسلم الأهلي الحقيقي، وتبني لبنان الذي نريد: دولة سيدة حرة مستقلة، عربية الهوية والإنتماء، إنسانية الهم والمشاعر..دولة الحق وحكم القانون والمؤسسات..دولة تحمي ولا تهدد..تصون ولا تبدد.. تقف مع شعب فلسطين لإستعادة حقوقه وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس، ترفض التوطين كما ترفض التهجير والعنصرية، وتقف مع كل العرب في معارك التنمية والعدالة والحرية والديموقراطية...
يكفي أن نذكر له دوره في السينودوس التاريخي من أجل لبنان، وفي المجمع البطريركي الماروني، وفي المجامع البطريركية الكاثوليكية، وفي السينودوس من أجل مسيحيي الشرق، وفي كل المحافل الكنسية والعلمانية، دفاعاً عن دور الموارنة التاريخي في هذا الشرق العربي..حتى صار الموارنة ولبنان واحداً..فكما أنه لا يمكن تصور دور الموارنة والمسيحيين في المحيط العربي والعالمي لولا وجود لبنان..فإن ما يعطي لبنان خصوصيته وفرادته هو الوجود الماروني على قاعدة الشراكة الاسلامية المسيحية فيه..وإن إستعادة الموارنة وكل المسيحيين لحضورهم ولدورهم في لبنان والعرب، وفي صنع القرارات وفي تسيير حركة التاريخ العربي، لم تكن ممكنة أبداً لولا وجود أمثال البطريرك هزيم والبطاركة حكيم ولحام وإخوانهم بطاركة الشرق..وفي القلب منهم وأمامهم ومعهم البطريرك صفير العظيم..
نعم يكفي أن يكون البطريرك صفير قد أنجز كل ماسبق حتى نتوجه بطريركاً لكل العرب ولكل اللبنانيين، مسلمين ومسيحيين...
عشت يا بطريركنا حتى ترى حلم حياتك يتحقق.. فتكتمل الفرحة.. وتهنأ بالاً وترتاح.. بعد طول تعب وسنين...