هاني فحص
قد يعبر أعضاء من حزب الله، عن رغبتهم في دولة شيعية في لبنان، لكن القيادة لم تقدم أدلة كافية على أن هذا هو اختيارها في المدى المنظور، ولعل تناقضات الحكومة الحالية في لبنان، والتي ولدت في بيت الحزب، تؤكد ان حكومة اللون الواحد، أو اللون المهيمن، في بلد متعدد، في غاية الصعوبة، بصرف النظر عن حجم نفوذ حزب الله، الذي يقلل منه البعض ويبالغ فيه آخرون.
طبعاً، ليس هناك مانع ولا إلحاح ايديولوجي، لدى حزب الله، للشروع في إنشاء دولته الشيعية، وان كانت الدولة الاسلامية (المذهبية في المحصلة) هي هدف كل فصائل الاسلام السياسي، محلاة بقشرة ديمقراطية مؤقتة أو من دونها، غير ان حزب الله، يبدي، احياناً، استيعاباً للثقافة المجتمعية اللبنانية التعددية، المانعة أي مغامرة شمولية، ما يعني ان الفشل سوف يكون في انتظار الحزب او غيره، اذا اقترف هذه «الفضيلة» التي تضيق عن تأصيلها المنظومة العقدية والذاكرة الشيعية ولا تكفي ولاية الفقيه (كحكم فرعي) وضرورة سياسية ايرانية (حصراً) لاسنادها، بعدما تعرضت الى اهتزاز عميق في بلد المنشأ.
قد يرى العقلاء في حزب الله، أنهم يخسرون حزبهم ومقاومتهم وطائفتهم ووطنهم، اذا هم اقدموا على هذا الفعل، رغم قدرة الحزب عليه اذا ما قاس الأمور على حجم المقاومة وقوة سلاحها وعديد الحزب وعدد ابناء الطائفة وقوة الدعم الخارجي المشكوك مع توسع الربيع العربي في بقائه على حاله.
لم ينجح حزب الله في تشكيل الحكومة الشقاقية في لبنان، ولكنه لم يفشل، باعتبار ان هيمنته لم تغره، حتى الآن، بالاستئثار على حلفائه وخصومه، واذا وقع في الاغراء وطمع او طمح الى أكثر، كان فشله اشد ذراعة.
في العراق، بعد سقوط النظام، وقع بعض السنة في الخطأ، عندما اظهروا وكأن سقوط النظام خسارة لهم، وان السياق التاريخي السني للعراق قد انكسر، ولكن هذا التصور لم يمنعهم من الدخول المتصاعد في العملية السياسية ما كان مفروضاً ان يؤدي الى مسح الخطأ. غير أن الخطأ الشيعي كان اغراء للسنة بالعودة الى الخطأ الذي يغري الشيعة بالخطأ كذلك.
لقد كان الخطأ الشيعي في البداية هو تصور بعضهم ان في امكانهم ومن حقهم (المذهبي) الذي قد لا يتطابق مع الحق او الواجب الوطني، أن يرتبوا على عددهم وحرمانهم التاريخي، دولة من دون شراكة وطنية كافية، كشف الفشل في تحقيقها لاحقاً، ان العصبية تسقط معايير الكفاءة من حساب الدولة، حيث ان الكفاءة والنزاهة من شروط المشروع الوطني لا الطائفي ولا حتى الحزبي.
لقد كانت هذه النبرة الشيعية مفهومة، نظراً لالحاح النظام البائد على تجريم الشيعة والفتك بهم مع غيرهم من السنة العرب والاكراد، وان كان نصيبهم من الفتك اكثر.
وكان مقدراً لهذه النبرة، او النتعة، ان تقف عند حد، عندما لمس المعنيون الشروط الميدانية لبناء الدولة، والشروط العربية للكيان، فأيقنوا ان دولة بغلبة شيعية «كاسحة» تجعلهم يخسرون العراق من دون ان يربحوا الطائفة، وتحمل خطر تحويل الاكثرية الشيعية في العراق، الى اقلية عربية يلعب فيها وبها العرب وغير العرب.
ألم يكن الحل الامثل هو الدولة الوطنية التي يحتاج بناؤها الى زمن وصبر وحكمة وشراكة؟ ويحتاج الى تأسيس لم ينجز... ولم يكن شفافاً الكلام الذي قيل عن النية في بنائها... وكانت السلطة، بما هي غنيمة من حرب الآخرين، هي البديل على اساس المحاصصة، فماذا يقول الجمهور الذي يعاني؟ يقول بأن الشيعة كقوة فاعلة، كانوا الأمناء على فكرة دولة المواطنة، بسبب معاناتهم من دولة الاختزال والمصادرة، ولكنهم (كطبقة سياسية) لم يبنوها، من دون ان يستطيعوا التنصل من مسؤولية عدم بنائها كما وعدوا، باعتبار ان اكثر المقاليد بأيديهم.
ما جعل مذهبيين آخرين (من السنة - عدنان الدليمي مثلاً) محكومين بنستالجيا سلطة لم تكن لهم بل كانت عليهم، ولم تقصر في قتلهم، يجاهرون بأن الدولة في العراق شأنهم واختصاصهم، مثبتين او متضامنين مع امثالهم من اهل الشيعية السياسية، ان المنظار المذهبي يحجب الحقائق الوطنية.
ليس الخطأ الشيعي بديلاً للخطأ البعثي، وليس الخطأ السني بديلا للخطأ الشيعي، والفشل البعثي لا يعني النجاح الشيعي، والفشل الشيعي لا يعني النجاح السني. ويلزم الجميع بالتمييز في المجال السياسي، بين المذهب والمذهبيين، حتى لا يبقى العراق ميداناً للارتكابات المذهبية، التي يبرر بعضها نفسه بالبعض الآخر امعاناً في الضلال والتضليل.
الاثنين، 28 نوفمبر 2011
الى الراحل الكبير ماجد صبري حمادة
ليلى الصلح حمادة
الوطني المفقود والشيعي المطلوب
الى أوفى الناس وانت اكبرهم،
الى أعز الناس وانت ا...غلاهم
في قلبي للأحبة قدر وانت اعلاهم.
صلب الجوهر ومرن المظهر
منارة خلق وصخرة صدق
لا كذّب ولا خان، وفي الزمن الصعب ما جبن ولا هان.
نسيج فريد من الذكاء والصمت
متواضع على كبر، حاد على تهذيب
في حسبك، انت الفتى العريق وليس الوريث
وفي عشيرتك انت الاخ والرفيق وليس الزعيم
لم تبن سياستك على اضعف ما في النفوس اي على العجز والاستسلام بل بنيتها على اقوى ما في النفوس اي على الضمير والكرامة اذ ما يصنع الاستبداد ليس جبروته بل تخاذل شعبه.
صحيح ان زعامتك بدأت وليدة اقطاع ولكنها انتهت زعامة استحقاق.
وهبك الله بغير حساب
واحبك الناس بغير حساب
بكوك لكثرة صفاتك
وبكوك لقلة امثالك.
انه ماجد حمادة
ثار على الوصاية السورية آنذاك بوقار المترفعين وعاند السياسة اللبنانية آنذاك بغيرة الوطنيين.
خاض انتخاباته الاخيرة متحاملاً على اوجاعه فاسقطه التزوير متمادياً في ظلمه.
اسقطوك ليدفنوا معك الاحلام وهويت شهيدا لمبادئك وقتيلاً لانحرافهم، فقهرتهم باحياء الرجاء.
من عاداك بالامس، تملقاً للوصاية وطمعا بالحماية هم ذاتهم اليوم، اسماً اسماً، اؤكد لك، يفاخرون بالاستقلال الثاني ويناصبون العداء لسوريا في محنتها.
أهكذا تقاس الوطنية؟
اهكذا يتغيّر الولاء؟
سامحهم فعذرهم انهم عابرون يعيشون امواتاً.
يوم ذكرى مماتك في الـ20 من تشرين الثاني 1994، زرتك في مثواك الاخير، في الهرمل وجلست بجوارك، لأوانسك في وحشتك كما افعل دائماً.
سألتني عن وطنك اجبتك انه في مأمن مؤقت لضعف الجوار.
سألتني عن بقاعك اجبتك ا نه في حرمان شديد لجور الاحكام.
سألتني عن طائفتك اجبتك انها قاومت وانتصرت واعتزت في الجنوب ولكنها فشلت في حكم بيروت.
وتذكرنا سوياً، حديثاً صحافياً ادليت به الى احدى المجلات اللبنانية، تقول فيه "انا ارفض اي تطلع الى الخارج لان الاحداث اللبنانية اثبتت ان المسيحي يتطلع الى الغرب ولكن الغرب لم يتطلع اليه والسني يتطلع الى الدول العربية لكن العرب لم يتطلعوا اليه وقياساً فانا ضد التطلعات الشيعية الى ايران او غيرها لان نصيب الشيعي من العالم الاسلامي لن يكون احسن من المسيحي والسني من الغرب والعرب".
(واهمية هذا الحديث انه أعطي منذ اكثر من 25 سنة).
انت من ينتظرونه الآن.
ولكن اين انت الآن؟
هل سيرونك بابنك يوماً اذا اختار واخذ القرار بالرغم من عدم ايماني بالارث السياسي، فلن اشجعه ولن اعترضه.
الى ماجد،
الى اغلى الرجال
لن تمر حياتك بلا أثر ولا خبر كركام من الايام والاعوام.
فاذا كانت الاموات تعيش على قدر محبة الاحياء فما ابقاك يا ماجد وما اخلدك، من قمة مجد الى عنفوان وطن.
الوطني المفقود والشيعي المطلوب
الى أوفى الناس وانت اكبرهم،
الى أعز الناس وانت ا...غلاهم
في قلبي للأحبة قدر وانت اعلاهم.
صلب الجوهر ومرن المظهر
منارة خلق وصخرة صدق
لا كذّب ولا خان، وفي الزمن الصعب ما جبن ولا هان.
نسيج فريد من الذكاء والصمت
متواضع على كبر، حاد على تهذيب
في حسبك، انت الفتى العريق وليس الوريث
وفي عشيرتك انت الاخ والرفيق وليس الزعيم
لم تبن سياستك على اضعف ما في النفوس اي على العجز والاستسلام بل بنيتها على اقوى ما في النفوس اي على الضمير والكرامة اذ ما يصنع الاستبداد ليس جبروته بل تخاذل شعبه.
صحيح ان زعامتك بدأت وليدة اقطاع ولكنها انتهت زعامة استحقاق.
وهبك الله بغير حساب
واحبك الناس بغير حساب
بكوك لكثرة صفاتك
وبكوك لقلة امثالك.
انه ماجد حمادة
ثار على الوصاية السورية آنذاك بوقار المترفعين وعاند السياسة اللبنانية آنذاك بغيرة الوطنيين.
خاض انتخاباته الاخيرة متحاملاً على اوجاعه فاسقطه التزوير متمادياً في ظلمه.
اسقطوك ليدفنوا معك الاحلام وهويت شهيدا لمبادئك وقتيلاً لانحرافهم، فقهرتهم باحياء الرجاء.
من عاداك بالامس، تملقاً للوصاية وطمعا بالحماية هم ذاتهم اليوم، اسماً اسماً، اؤكد لك، يفاخرون بالاستقلال الثاني ويناصبون العداء لسوريا في محنتها.
أهكذا تقاس الوطنية؟
اهكذا يتغيّر الولاء؟
سامحهم فعذرهم انهم عابرون يعيشون امواتاً.
يوم ذكرى مماتك في الـ20 من تشرين الثاني 1994، زرتك في مثواك الاخير، في الهرمل وجلست بجوارك، لأوانسك في وحشتك كما افعل دائماً.
سألتني عن وطنك اجبتك انه في مأمن مؤقت لضعف الجوار.
سألتني عن بقاعك اجبتك ا نه في حرمان شديد لجور الاحكام.
سألتني عن طائفتك اجبتك انها قاومت وانتصرت واعتزت في الجنوب ولكنها فشلت في حكم بيروت.
وتذكرنا سوياً، حديثاً صحافياً ادليت به الى احدى المجلات اللبنانية، تقول فيه "انا ارفض اي تطلع الى الخارج لان الاحداث اللبنانية اثبتت ان المسيحي يتطلع الى الغرب ولكن الغرب لم يتطلع اليه والسني يتطلع الى الدول العربية لكن العرب لم يتطلعوا اليه وقياساً فانا ضد التطلعات الشيعية الى ايران او غيرها لان نصيب الشيعي من العالم الاسلامي لن يكون احسن من المسيحي والسني من الغرب والعرب".
(واهمية هذا الحديث انه أعطي منذ اكثر من 25 سنة).
انت من ينتظرونه الآن.
ولكن اين انت الآن؟
هل سيرونك بابنك يوماً اذا اختار واخذ القرار بالرغم من عدم ايماني بالارث السياسي، فلن اشجعه ولن اعترضه.
الى ماجد،
الى اغلى الرجال
لن تمر حياتك بلا أثر ولا خبر كركام من الايام والاعوام.
فاذا كانت الاموات تعيش على قدر محبة الاحياء فما ابقاك يا ماجد وما اخلدك، من قمة مجد الى عنفوان وطن.
لنصدّق الخرافات عن العصابات المسلحة
الحياة- السبت, 26 نوفمبر 2011
معن البياري *
لافتٌ في دلالته أنّ التصريحات والبيانات السورية الحكومية عن العصابات المسلحة التي يواجهها النظام، منذ تسعة شهور، تخلو تماماً من الإتيان على الضحايا المدنيين الذين يسقطون برصاص هذه العصابات. وهذا الرئيس بشار الأسد في أحدث مقابلةٍ صحافيةٍ معه يشير إلى مقتل 800 عنصر وضابط من قوى الأمن والجيش سقطوا برصاص هذه العصابات، ويقول إنّ من واجب النظام مواجهتها لحماية مواطنيه. وإذ تتوالى كل يوم أخبارٌ عن مقتل أزيد من 25 مدنياً سورياً، ويصل العدد إلى 50 أحياناً، فإن السلطات الحكومية لا تكترث، ولا تجد نفسها مضطرّةً إلى نفي هذه الأعداد أو أقله نشر أعداد أقل للضحايا.
ويتفاصح محبو النظام السوري، حين مجادلتهم بشأن هذا القتل اليومي حين يشككون بهذه الأعداد، وأنك لم تكن هناك في سورية حتى تردّدها، وتجعلها حجّةً في مناهضتك السلطة الغاصبة للسلطة في دمشق. والإجابة الوحيدة على هؤلاء أنّ المعتاد في أنباء الاضطرابات والصدامات والاحتجاجات في أيّ دولةٍ تتصّف بأقلّ قدرٍ من احترام مواطنيها أنّ وزارة الداخلية، أو وزارة الصحة ممثلة بالمستشفيات أحياناً، هي التي تعلن أعداد القتلى والجرحى، وتزوّد وسائل الإعلام بها، وهو ما عهدناه في مصر إبان ثورة يناير، وفي غضون الاعتصامات والتظاهرات المستجدّة ضد المجلس العسكري للقوات المسلحة. ولأنّ النظام السوريّ لا يأبه لهذا التقليد، تصير مهمّة تعريف الرأي العام ووسائل الإعلام بأعداد القتلى والمصابين المدنيين، والعسكر أحياناً، منوطةً بالناشطين والهيئة العامة للثورة السورية ولجان التنسيق المحلية والمركز السوري لحقوق الإنسان، ويحدث أن تنشر التنسيقيّات في مواقعها الإلكترونية أسماء الضحايا ومناطق إطلاق الرصاص عليهم. ومن الطريف، والمخزي في الوقت نفسه، أنّ نفياً وحيداً لعدد قتلى سقطوا أصدرته الحكومة السورية في اليوم التالي لإعلان موافقتها على الخطة العربية، ولم تكن قد فعلت مثله قبل ذلك النهار، ولم تفعل بعده.
ليست المسألة هذه تفصيلية، أو قضية إعلامٍ كاذب أو صادق، إنها تتعلق بأبسط واجبات الدولة تجاه مواطنيها، أما إذا كانت الدولة تتعاطى مع مواطنيها باعتبارهم رعايا عليهم واجب الولاء والطاعة أو يواجهون القتل والقهر والسجن والتعذيب والتغييب، فإنّ تناول المسألة في مطرحٍ آخر. وإذ يصرّ الحكم في دمشق على روايته إياها عن انتشار مجموعات مسلحة، وأنه لا يقوم بغير مواجهتها، وأنّ هذا هو المشهد السوري وليس غيره منذ شهور، فإنّ هذه الرواية وحدها تسوّغ المطالبة بإسقاط النظام، فأن تتمكن هذه المجموعات من التسلح والتمدّد في مختلف محافظات الجمهورية، وتستطيع قتل العسكر والمدنيين بوتيرةٍ نشطةٍ كل يوم، وأن يكون في مقدورها قتل 120 جندياً ودفنهم في منطقةٍ حدوديةٍ في جسر الشغور شمالاً، وأن يكون ميسوراً لأفراد هذه المجموعات، والتي لم يعد تركيز النظام على سلفيّتها كبيراً كما في الأسابيع الأولى للانتفاضة السورية، التواصل مع جهاتٍ خارجيةٍ تمولهم بالمال والسلاح، أن يكون ذلك كله صحيحاً وفق المقولة الحكومية السورية. فنحن، إذاً، أمام مشهدٍ صوماليٍّ بامتياز، ويكاد يكون مستحيلاً تخيّله في سورية، وهذا بلدٌ تتنوع فيه أجهزةٌ أمنيةٌ ومخابراتيةٌ واستخباراتية، قيل إنها إحدى عشرة وقيل أكثر، منها المخابرات الجوية التي لا مثيل لها في العالم ربما، ولا يعرف كاتب هذه السطور توصيفاً لمهمتها. ومعلومٌ أنّ هذه الأجهزة يقظةٌ إلى حدٍّ مروع، وفي أرشيفها سوءاتٌ غزيرةٌ عن تجسّسها على الرعايا والعباد الذين قضوا سنواتٍ في السجون وأقبية التعذيب جراء كلامٍ قالوه، أو جلسةٍ كانوا فيها، أو مكالمةٍ هاتفيةٍ تلقوها.
ليس ميلاً إلى سجالٍ أو استسلاماً لغوايته، أن يقال هنا إنّ تصديق هذه الرواية يدين النظام برمته، لأنها تعني أنه فشل في تأمين البلد وحماية مواطنيه من إرهابيين يتحركون بيسرٍ في كل جهات الجمهورية، وأنّ إنفاقه الكبير على الأجهزة والمؤسسات العسكرية والأمنية كان إهداراً للمال العام، سيّما وأنّ حديثه المضحك عن أصابع المؤامرة الخارجيّة في تركيا ولبنان والسعودية وإسرائيل هي التي تحرّك هذه العصابات لا يعني سوى هشاشة تلك الأجهزة والمؤسسات وتردّي أدائها. لا يريد الحكم في دمشق أن يتوقف عن ترديد أزعومة العصابات المسلحة، ويتعامى تماماً عن حقيقة أنّ حماقاته ومغامراته العسكرية العدوانية تجاه المتظاهرين المدنيين هي التي تسبّبت بحدوث مظاهر الانتقام المسلحة والانشقاقات المتتالية في الجيش، وجعلته غير قادر على التواجد في بعض المدن إلا بأدوات القتل من الشبيحة وقوى الأمن. وهذه الحماقات والمغامرات وحدها المسؤولة عن إحداث الفتنة التي دلّت وقائع عليها، في حمص مثلاً، ومنها استهداف علويين سنّةً واستهداف سنّةٍ علويين بالقتل، وأحياناً بالخطف، وهما ممارستان إرهابيتان، وكان طيّباً من رئاسة المجلس الوطني السوري المعارض أنّها أصدرت بياناً يشدد على خطورة الأمر، فلم تتعام عنه، وكان طيّباً أيضاً من علماء حمص السنّة والعلويين إصدارهم بياناً يحرّم القتل والخطف.
لا ييسّر إصرار السلطة في سورية، وكذا الرئيس بشار الأسد نفسه، على خرّافية العصابات المسلحة، وعلى تجاهل سقوط مدنيين سوريين برصاص الأمن، أيّ إمكانية حوارٍ مع هذه السلطة، أو أيّ رهانٍ على إصلاحٍ تشيع أنّها في صدد التوجه إليه. هنا جوهر الأزمة المحتدمة معها، ببساطةٍ لأنّ مشكلتها مع شعبها، وليست مع قطر وقناة الجزيرة وتركيا وجامعة الدول العربية. والبادي أنّ هذه السلطة كأنّها تشتهي تعرّض سورية لتدخلٍ عسكريٍّ أجنبي، لتبدو ضحيةً، ولتتحقّق لخرافيّة المؤامرة الخارجية وجاهةٌ تسندها. وليس مزاحاً، وإن هو محض تكهنٍ ليس إلا، أن يقال إنّ الحكم في دمشق متوترٌ لأنّ مسؤولي حلف الناتو والإدارة الأميركية والاتحاد الأوروبي لا يلوّح أيٌّ منهم بإمكانية التدخل العسكري. على هؤلاء أن يشيعوا بين وقتٍ وآخر كلاماً عن هذا الأمر، ليتزوّد النظام بلوازم ملحةٍ لصورته ضحيّةً مستهدفة، أما الشعب السوري فلا وجود له في هذه المعادلة البائسة، لا لسببٍ إلا لأنّ لا أحد يسقط منه قتيلاً وجريحاً، لا مستشفى قال ذلك ولا وزارة أعلنت ذلك.
... يا للسوريين، إذاً، كم صبرهم في ليلهم المديد أسطوريٌّ وباهر.
* كاتب فلسطيني
معن البياري *
لافتٌ في دلالته أنّ التصريحات والبيانات السورية الحكومية عن العصابات المسلحة التي يواجهها النظام، منذ تسعة شهور، تخلو تماماً من الإتيان على الضحايا المدنيين الذين يسقطون برصاص هذه العصابات. وهذا الرئيس بشار الأسد في أحدث مقابلةٍ صحافيةٍ معه يشير إلى مقتل 800 عنصر وضابط من قوى الأمن والجيش سقطوا برصاص هذه العصابات، ويقول إنّ من واجب النظام مواجهتها لحماية مواطنيه. وإذ تتوالى كل يوم أخبارٌ عن مقتل أزيد من 25 مدنياً سورياً، ويصل العدد إلى 50 أحياناً، فإن السلطات الحكومية لا تكترث، ولا تجد نفسها مضطرّةً إلى نفي هذه الأعداد أو أقله نشر أعداد أقل للضحايا.
ويتفاصح محبو النظام السوري، حين مجادلتهم بشأن هذا القتل اليومي حين يشككون بهذه الأعداد، وأنك لم تكن هناك في سورية حتى تردّدها، وتجعلها حجّةً في مناهضتك السلطة الغاصبة للسلطة في دمشق. والإجابة الوحيدة على هؤلاء أنّ المعتاد في أنباء الاضطرابات والصدامات والاحتجاجات في أيّ دولةٍ تتصّف بأقلّ قدرٍ من احترام مواطنيها أنّ وزارة الداخلية، أو وزارة الصحة ممثلة بالمستشفيات أحياناً، هي التي تعلن أعداد القتلى والجرحى، وتزوّد وسائل الإعلام بها، وهو ما عهدناه في مصر إبان ثورة يناير، وفي غضون الاعتصامات والتظاهرات المستجدّة ضد المجلس العسكري للقوات المسلحة. ولأنّ النظام السوريّ لا يأبه لهذا التقليد، تصير مهمّة تعريف الرأي العام ووسائل الإعلام بأعداد القتلى والمصابين المدنيين، والعسكر أحياناً، منوطةً بالناشطين والهيئة العامة للثورة السورية ولجان التنسيق المحلية والمركز السوري لحقوق الإنسان، ويحدث أن تنشر التنسيقيّات في مواقعها الإلكترونية أسماء الضحايا ومناطق إطلاق الرصاص عليهم. ومن الطريف، والمخزي في الوقت نفسه، أنّ نفياً وحيداً لعدد قتلى سقطوا أصدرته الحكومة السورية في اليوم التالي لإعلان موافقتها على الخطة العربية، ولم تكن قد فعلت مثله قبل ذلك النهار، ولم تفعل بعده.
ليست المسألة هذه تفصيلية، أو قضية إعلامٍ كاذب أو صادق، إنها تتعلق بأبسط واجبات الدولة تجاه مواطنيها، أما إذا كانت الدولة تتعاطى مع مواطنيها باعتبارهم رعايا عليهم واجب الولاء والطاعة أو يواجهون القتل والقهر والسجن والتعذيب والتغييب، فإنّ تناول المسألة في مطرحٍ آخر. وإذ يصرّ الحكم في دمشق على روايته إياها عن انتشار مجموعات مسلحة، وأنه لا يقوم بغير مواجهتها، وأنّ هذا هو المشهد السوري وليس غيره منذ شهور، فإنّ هذه الرواية وحدها تسوّغ المطالبة بإسقاط النظام، فأن تتمكن هذه المجموعات من التسلح والتمدّد في مختلف محافظات الجمهورية، وتستطيع قتل العسكر والمدنيين بوتيرةٍ نشطةٍ كل يوم، وأن يكون في مقدورها قتل 120 جندياً ودفنهم في منطقةٍ حدوديةٍ في جسر الشغور شمالاً، وأن يكون ميسوراً لأفراد هذه المجموعات، والتي لم يعد تركيز النظام على سلفيّتها كبيراً كما في الأسابيع الأولى للانتفاضة السورية، التواصل مع جهاتٍ خارجيةٍ تمولهم بالمال والسلاح، أن يكون ذلك كله صحيحاً وفق المقولة الحكومية السورية. فنحن، إذاً، أمام مشهدٍ صوماليٍّ بامتياز، ويكاد يكون مستحيلاً تخيّله في سورية، وهذا بلدٌ تتنوع فيه أجهزةٌ أمنيةٌ ومخابراتيةٌ واستخباراتية، قيل إنها إحدى عشرة وقيل أكثر، منها المخابرات الجوية التي لا مثيل لها في العالم ربما، ولا يعرف كاتب هذه السطور توصيفاً لمهمتها. ومعلومٌ أنّ هذه الأجهزة يقظةٌ إلى حدٍّ مروع، وفي أرشيفها سوءاتٌ غزيرةٌ عن تجسّسها على الرعايا والعباد الذين قضوا سنواتٍ في السجون وأقبية التعذيب جراء كلامٍ قالوه، أو جلسةٍ كانوا فيها، أو مكالمةٍ هاتفيةٍ تلقوها.
ليس ميلاً إلى سجالٍ أو استسلاماً لغوايته، أن يقال هنا إنّ تصديق هذه الرواية يدين النظام برمته، لأنها تعني أنه فشل في تأمين البلد وحماية مواطنيه من إرهابيين يتحركون بيسرٍ في كل جهات الجمهورية، وأنّ إنفاقه الكبير على الأجهزة والمؤسسات العسكرية والأمنية كان إهداراً للمال العام، سيّما وأنّ حديثه المضحك عن أصابع المؤامرة الخارجيّة في تركيا ولبنان والسعودية وإسرائيل هي التي تحرّك هذه العصابات لا يعني سوى هشاشة تلك الأجهزة والمؤسسات وتردّي أدائها. لا يريد الحكم في دمشق أن يتوقف عن ترديد أزعومة العصابات المسلحة، ويتعامى تماماً عن حقيقة أنّ حماقاته ومغامراته العسكرية العدوانية تجاه المتظاهرين المدنيين هي التي تسبّبت بحدوث مظاهر الانتقام المسلحة والانشقاقات المتتالية في الجيش، وجعلته غير قادر على التواجد في بعض المدن إلا بأدوات القتل من الشبيحة وقوى الأمن. وهذه الحماقات والمغامرات وحدها المسؤولة عن إحداث الفتنة التي دلّت وقائع عليها، في حمص مثلاً، ومنها استهداف علويين سنّةً واستهداف سنّةٍ علويين بالقتل، وأحياناً بالخطف، وهما ممارستان إرهابيتان، وكان طيّباً من رئاسة المجلس الوطني السوري المعارض أنّها أصدرت بياناً يشدد على خطورة الأمر، فلم تتعام عنه، وكان طيّباً أيضاً من علماء حمص السنّة والعلويين إصدارهم بياناً يحرّم القتل والخطف.
لا ييسّر إصرار السلطة في سورية، وكذا الرئيس بشار الأسد نفسه، على خرّافية العصابات المسلحة، وعلى تجاهل سقوط مدنيين سوريين برصاص الأمن، أيّ إمكانية حوارٍ مع هذه السلطة، أو أيّ رهانٍ على إصلاحٍ تشيع أنّها في صدد التوجه إليه. هنا جوهر الأزمة المحتدمة معها، ببساطةٍ لأنّ مشكلتها مع شعبها، وليست مع قطر وقناة الجزيرة وتركيا وجامعة الدول العربية. والبادي أنّ هذه السلطة كأنّها تشتهي تعرّض سورية لتدخلٍ عسكريٍّ أجنبي، لتبدو ضحيةً، ولتتحقّق لخرافيّة المؤامرة الخارجية وجاهةٌ تسندها. وليس مزاحاً، وإن هو محض تكهنٍ ليس إلا، أن يقال إنّ الحكم في دمشق متوترٌ لأنّ مسؤولي حلف الناتو والإدارة الأميركية والاتحاد الأوروبي لا يلوّح أيٌّ منهم بإمكانية التدخل العسكري. على هؤلاء أن يشيعوا بين وقتٍ وآخر كلاماً عن هذا الأمر، ليتزوّد النظام بلوازم ملحةٍ لصورته ضحيّةً مستهدفة، أما الشعب السوري فلا وجود له في هذه المعادلة البائسة، لا لسببٍ إلا لأنّ لا أحد يسقط منه قتيلاً وجريحاً، لا مستشفى قال ذلك ولا وزارة أعلنت ذلك.
... يا للسوريين، إذاً، كم صبرهم في ليلهم المديد أسطوريٌّ وباهر.
* كاتب فلسطيني
الانتفاضة والجولانيّون
الحياة- الإثنين, 28 نوفمبر 2011
حسّان القالش *
شكّل خروج الأسير السوري السابق في سجون الاحتلال الإسرائيلي، وئام عماشة، إلى حريّته الأولى، في الثامن عشر من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، مناسبة للفرح اخترقت الأشهر الثمانية الدامية التي عاشتها بلاده ولا تزال. كما مثّل مناسبة جديدة للتفكير بسورية. ذاك أن الحدث لم يتمثل في الزخم الذي أضافه إلى الانتفاضة السورية فقط، بل جعل الجولان المحتل، برمزيّتيه الوجدانية والوطنية الكبيرتين، حاضراً أيضاً، إلى جانب هذه الانتفاضة، كون وئام ابن الجولان وابن انتفاضة شعبه، التي كسبت به معركة أخلاقية جديدة في مواجهة السلطة.
فالأسير السوري المحرّر، كان قد وقف مع المقهورين من أبناء شعبه، وأعلن الإضراب عن الطعام من معتقله الإسرائيلي تضامناً معهم، وأعلن مراراً عن مواقفه المعارضة للسلطة، كانت تنجح في اختراق المعتقل ولا يسمع بها إلا قلّة من السوريين.
على أن السلطة، بتصرفات أجهزتها الإعلامية الحمقاء، وتجاهل الحدث «التحريري» لأحد أبنائها «المقاومين» للعدو الإسرائيلي، ومعاملته معاملة الخصم، بناءً على موقفه ورأيه السياسيّين، تثبت قصورها الفادح في جعل قضية الجولان مشتعلة وملتهبة في الوعي الجماعي العمومي، وخصوصاً عند الموالين لها. والأنكى من ذلك، أن إعلام السلطة قد امتطى القضيّة الجولانية لحسابه، فبعد أيام من حرية وئام عماشة، نشر بياناً يدّعي صدوره عن «أحرار الجولان العربي السوري المحتلّ»، كان حافلاً بخطاب خوّن من يتعاطفون مع انتفاضة شعبهم، من أبناء الجولان المحتل، وصفهم فيه بأنهم «خونة مارقون... ضلّوا الطريق».
والراهن أن قضية الجولان المحتلّ والجولانيين مدعوّة للدخول إلى المشهد العام وتفاصيل هذه المرحلة التاريخية من حياة البلاد. فلم يعد مقبولاً أن يكون موقع هذه القضية في العمل السياسي، الحالي، موقعاً ثانوياً، أو مجرد عنوان وطنيّ عام وبلا حيويّة أو معنى. وطالما أن هناك، في الجولان المحتلّ، سوريين يشاركون في قضايا بلادهم الداخليّة وأحوال إخوتهم، ويتفاعلون معها، إضافة إلى المرارات التي يسبّبها الاحتلال المديد وحروبه المتواصلة على هويّتهم الوطنيّة، فهذا ما يلحّ على السوريين في الداخل لرفع وتيرة تواصلهم مع إخوتهم الجولانيين، والاقتراب منهم أكثر. ليس على مستوى الشعار والعمل التحريريين فحسب، بل بالاقتراب من حياتهم اليومية، وجعل المشهد الاجتماعي للجولانيين حاضراً بقوة أكثر في وجدان بقية مواطني البلاد.
فمن المؤسف، والمفجع، أن تجد اليوم سوريّاً لم يسمع قبل بـ وئام عماشة، ولا يستطيع أن يذكر اسم واحد من بقية الأسرى السوريين الجولانيين القابعين في المعتقل الإسرائيلي (ناصر وفداء وماجد الشاعر، شام ويوسف شمس، صدقي المقت).
لهؤلاء، للجولانيّين، لتلك الأرض الجميلة، ألف تحيّة وسلام...
* صحافي وكاتب سوري
حسّان القالش *
شكّل خروج الأسير السوري السابق في سجون الاحتلال الإسرائيلي، وئام عماشة، إلى حريّته الأولى، في الثامن عشر من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، مناسبة للفرح اخترقت الأشهر الثمانية الدامية التي عاشتها بلاده ولا تزال. كما مثّل مناسبة جديدة للتفكير بسورية. ذاك أن الحدث لم يتمثل في الزخم الذي أضافه إلى الانتفاضة السورية فقط، بل جعل الجولان المحتل، برمزيّتيه الوجدانية والوطنية الكبيرتين، حاضراً أيضاً، إلى جانب هذه الانتفاضة، كون وئام ابن الجولان وابن انتفاضة شعبه، التي كسبت به معركة أخلاقية جديدة في مواجهة السلطة.
فالأسير السوري المحرّر، كان قد وقف مع المقهورين من أبناء شعبه، وأعلن الإضراب عن الطعام من معتقله الإسرائيلي تضامناً معهم، وأعلن مراراً عن مواقفه المعارضة للسلطة، كانت تنجح في اختراق المعتقل ولا يسمع بها إلا قلّة من السوريين.
على أن السلطة، بتصرفات أجهزتها الإعلامية الحمقاء، وتجاهل الحدث «التحريري» لأحد أبنائها «المقاومين» للعدو الإسرائيلي، ومعاملته معاملة الخصم، بناءً على موقفه ورأيه السياسيّين، تثبت قصورها الفادح في جعل قضية الجولان مشتعلة وملتهبة في الوعي الجماعي العمومي، وخصوصاً عند الموالين لها. والأنكى من ذلك، أن إعلام السلطة قد امتطى القضيّة الجولانية لحسابه، فبعد أيام من حرية وئام عماشة، نشر بياناً يدّعي صدوره عن «أحرار الجولان العربي السوري المحتلّ»، كان حافلاً بخطاب خوّن من يتعاطفون مع انتفاضة شعبهم، من أبناء الجولان المحتل، وصفهم فيه بأنهم «خونة مارقون... ضلّوا الطريق».
والراهن أن قضية الجولان المحتلّ والجولانيين مدعوّة للدخول إلى المشهد العام وتفاصيل هذه المرحلة التاريخية من حياة البلاد. فلم يعد مقبولاً أن يكون موقع هذه القضية في العمل السياسي، الحالي، موقعاً ثانوياً، أو مجرد عنوان وطنيّ عام وبلا حيويّة أو معنى. وطالما أن هناك، في الجولان المحتلّ، سوريين يشاركون في قضايا بلادهم الداخليّة وأحوال إخوتهم، ويتفاعلون معها، إضافة إلى المرارات التي يسبّبها الاحتلال المديد وحروبه المتواصلة على هويّتهم الوطنيّة، فهذا ما يلحّ على السوريين في الداخل لرفع وتيرة تواصلهم مع إخوتهم الجولانيين، والاقتراب منهم أكثر. ليس على مستوى الشعار والعمل التحريريين فحسب، بل بالاقتراب من حياتهم اليومية، وجعل المشهد الاجتماعي للجولانيين حاضراً بقوة أكثر في وجدان بقية مواطني البلاد.
فمن المؤسف، والمفجع، أن تجد اليوم سوريّاً لم يسمع قبل بـ وئام عماشة، ولا يستطيع أن يذكر اسم واحد من بقية الأسرى السوريين الجولانيين القابعين في المعتقل الإسرائيلي (ناصر وفداء وماجد الشاعر، شام ويوسف شمس، صدقي المقت).
لهؤلاء، للجولانيّين، لتلك الأرض الجميلة، ألف تحيّة وسلام...
* صحافي وكاتب سوري
برهان غليون: ثقافة الاعتذار
بقلم أحمد مولود الطيار
(كاتب سوري)
مقال جهاد الزين: "اعتداء القاهرة: لماذا لم يستقل برهان غليون!؟" ("قضايا النهار" 17/11/2011) نص يمكن تأويله لما هو أبعد من حرفية السؤال والمطالبة بالاستقالة، انه تحذير، والخوف من استمرار ثقافة الاستبداد حتى بعد سقوط أركانه. الخوف كما يقول الباحث اللبناني من "بذرة فاشية قد تصبح في المستقبل مادة قمع انتقامية مخيفة". و"الربيع العربي" كما يتابع المقال "لم ينطلق ضد اسرائيل وانما ضد الاستبداد الداخلي، لذلك فان التساهل غير جائز أمام أي بذرة استبدادية" و"سوريا المستقبل" غير مقبول فيها "أي نوع من الارهاب الثقافوي والسياسي".
في المحصلة كما يقول المقال ويكاد يجمع الكل ثورات "الربيع العربي" هي لاسترداد الكرامة الوطنية.
يدرك برهان غليون وغيره أن سقوط الاستبداد كاملا وبكل رموزه، لا يعني أن الطريق بات مفروشا بالورود لمسيرة سوريا المستقبل، فما هو أصعب من سقوط نظام سياسي مستبد، هو سقوط ثقافة ذلك النظام. تلك عملية طويلة، الشغل عليها يتم على كل الصعد وهي محفوفة بمطبّات ومنزلقات خطرة وكثيرة.
الاستبداد، وفي سوريا ربما شاهدنا أحدث طبعاته، تغلغل على مدى عقوده الطويلة في كل المفاصل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية واستطاع عبر عمل دؤوب وممنهج تشويه كل تلك المناحي والصعد حتى عمّ الخراب وطاول النفوس، ولا يكفي هنا أن تكون معارضا لتكون بمنجى من تلك الثقافة وحادثة الاعتداء في القاهرة لا يجب الاستهانة بها أو التقليل من شأنها، فالحقد شاهدنا ارتساماته على الوجوه من خلال الصورة التي بثت وهو كان موجها الى شخصيات لها تاريخها النضالي المعروف، كيف سيعبّر عن نفسه ذلك الحقد فيما لو خرجت سوريا عن السيطرة؟! كيف سيعبّر وبات الكثيرون يدركون الى أين يقود النظام سوريا وفاتورة الدم التي ترتفع كل يوم.
برهان غليون وكل من يريد العبور بسوريا الى الضفة الأخرى الآمنة و بأقل الخسائر الممكنة قام بعمل تأصيلي وتأسيسي يقطع مع ثقافة الاستبداد خلال فترة زمنية قصيرة جدا على رأس "المجلس الوطني السوري"، قدم اعتذارين مهمين بشكلهما ودلالاتهما، الأول للأشقاء الأكراد حول اللغط الذي اثير جراء لقاء تلفزيوني أجري معه والثاني وبلغة "حاسمة" أيضا حول اعتداء القاهرة.
ذلك تقليد جديد يجب أن يتكرس لأنه على الضد من عنجهية وغطرسة الاستبداد ورموزه، فالمواطن العربي المبتلى لم يعتد من المسؤول العربي الاعتذار رغم كل الخطايا والأخطاء التي تذهب بأوطان ولازالت ترتكب يوميا، ما اعتاد عليه هو "المكرمات" و"العطايا" ويجب أن يلهج باسم الحاكم خمس مرات في اليوم. المعارضة السورية وبكل أطيافها اليوم مطلوب منها تقديم وجه مغاير عن النظام الذي تعارضه وهي محقة في معارضتها له، مطلوب منها خطاب سياسي شفاف ومواقف متقدمة فكريا وسياسيا وأخلاقيا بالدرجة الأولى تتلاقى مع تضحيات الشارع المنتفض الذي أوصلها الى ما هي عليه اليوم.
سوريا لا تُختصر ولا تتلخص بأحد وهذا التنوع غنى لها إن تم استثماره. الثورة السورية قامت لتؤكد ذلك والصراع الجاري حاليا ليس بين معارضة ومعارضة، هو بين نظام الغى الكرامة وشعب يريد استعادتها.
(كاتب سوري)
مقال جهاد الزين: "اعتداء القاهرة: لماذا لم يستقل برهان غليون!؟" ("قضايا النهار" 17/11/2011) نص يمكن تأويله لما هو أبعد من حرفية السؤال والمطالبة بالاستقالة، انه تحذير، والخوف من استمرار ثقافة الاستبداد حتى بعد سقوط أركانه. الخوف كما يقول الباحث اللبناني من "بذرة فاشية قد تصبح في المستقبل مادة قمع انتقامية مخيفة". و"الربيع العربي" كما يتابع المقال "لم ينطلق ضد اسرائيل وانما ضد الاستبداد الداخلي، لذلك فان التساهل غير جائز أمام أي بذرة استبدادية" و"سوريا المستقبل" غير مقبول فيها "أي نوع من الارهاب الثقافوي والسياسي".
في المحصلة كما يقول المقال ويكاد يجمع الكل ثورات "الربيع العربي" هي لاسترداد الكرامة الوطنية.
يدرك برهان غليون وغيره أن سقوط الاستبداد كاملا وبكل رموزه، لا يعني أن الطريق بات مفروشا بالورود لمسيرة سوريا المستقبل، فما هو أصعب من سقوط نظام سياسي مستبد، هو سقوط ثقافة ذلك النظام. تلك عملية طويلة، الشغل عليها يتم على كل الصعد وهي محفوفة بمطبّات ومنزلقات خطرة وكثيرة.
الاستبداد، وفي سوريا ربما شاهدنا أحدث طبعاته، تغلغل على مدى عقوده الطويلة في كل المفاصل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية واستطاع عبر عمل دؤوب وممنهج تشويه كل تلك المناحي والصعد حتى عمّ الخراب وطاول النفوس، ولا يكفي هنا أن تكون معارضا لتكون بمنجى من تلك الثقافة وحادثة الاعتداء في القاهرة لا يجب الاستهانة بها أو التقليل من شأنها، فالحقد شاهدنا ارتساماته على الوجوه من خلال الصورة التي بثت وهو كان موجها الى شخصيات لها تاريخها النضالي المعروف، كيف سيعبّر عن نفسه ذلك الحقد فيما لو خرجت سوريا عن السيطرة؟! كيف سيعبّر وبات الكثيرون يدركون الى أين يقود النظام سوريا وفاتورة الدم التي ترتفع كل يوم.
برهان غليون وكل من يريد العبور بسوريا الى الضفة الأخرى الآمنة و بأقل الخسائر الممكنة قام بعمل تأصيلي وتأسيسي يقطع مع ثقافة الاستبداد خلال فترة زمنية قصيرة جدا على رأس "المجلس الوطني السوري"، قدم اعتذارين مهمين بشكلهما ودلالاتهما، الأول للأشقاء الأكراد حول اللغط الذي اثير جراء لقاء تلفزيوني أجري معه والثاني وبلغة "حاسمة" أيضا حول اعتداء القاهرة.
ذلك تقليد جديد يجب أن يتكرس لأنه على الضد من عنجهية وغطرسة الاستبداد ورموزه، فالمواطن العربي المبتلى لم يعتد من المسؤول العربي الاعتذار رغم كل الخطايا والأخطاء التي تذهب بأوطان ولازالت ترتكب يوميا، ما اعتاد عليه هو "المكرمات" و"العطايا" ويجب أن يلهج باسم الحاكم خمس مرات في اليوم. المعارضة السورية وبكل أطيافها اليوم مطلوب منها تقديم وجه مغاير عن النظام الذي تعارضه وهي محقة في معارضتها له، مطلوب منها خطاب سياسي شفاف ومواقف متقدمة فكريا وسياسيا وأخلاقيا بالدرجة الأولى تتلاقى مع تضحيات الشارع المنتفض الذي أوصلها الى ما هي عليه اليوم.
سوريا لا تُختصر ولا تتلخص بأحد وهذا التنوع غنى لها إن تم استثماره. الثورة السورية قامت لتؤكد ذلك والصراع الجاري حاليا ليس بين معارضة ومعارضة، هو بين نظام الغى الكرامة وشعب يريد استعادتها.
الجمعة، 25 نوفمبر 2011
The 99%: A Community of Resistance
By Angela Davis
Guardian (UK)
November 5, 2011
http://www.guardian.co.uk/commentisfree/cifamerica/2011/nov/15/99-percent-community-resistance
When the Occupy Wall Street movement erupted on 17
September 2011, I happened to be reflecting on my
remarks for the upcoming International Herbert Marcuse
Society conference. By the time the conference convened
on 27 October at the University of Pennsylvania, the
encampment in Zuccotti Park was well-established and
similar encampments had emerged in hundreds of
communities around the country. On the opening day of
the Marcuse conference, there were over 300 tents in
the plaza outside Philadelphia city hall.
The organising theme of the conference - "Critical
Refusals" - was originally designed to encourage us to
reflect on the various ways Marcuse's philosophical
theories push us in the direction of a critical
political practice located outside the proper realm of
philosophy, but nevertheless as anchored in philosophy
as it is in a will to transform society.
So, while we were certainly prepared to ponder the
connection between Marcuse's philosophical ideas and
his association with the movements of the sixties, we
were struck by the serendipitous affinity of the theme
with the emergent Occupy movement. As presenters
arrived in Philadelphia, we repeatedly expressed our
enthusiasm about the confluence of the Wall Street and
Philadelphia occupations and the conference theme,
which seemed to us to emphatically enact the 21st-
century relevance of Herbert Marcuse's work.
I don't know whether any of us could not have predicted
that on the second day of the conference, the plenary
audience of more than 1,000 would be so riveted by this
historical conjuncture that almost all of us
spontaneously joined a night march, which wended its
way through the streets of Philadelphia toward the
tents outside city hall. At the site, I reflected aloud
- with the assistance of the human microphone - on the
differences between the social movements with which we
have become familiar over the last decades and this
newly-grown community of resistance.
In the past, most movements have appealed to specific
communities - workers, students, black people,
Latinas/Latinos, women, LGBT communities, indigenous
people - or they have crystallised around specific
issues like war, the environment, food, water,
Palestine, the prison industrial complex. In order to
bring together people associated with those communities
and movements, we have had to engage in difficult
coalition-building processes, negotiating the
recognition for which communities and issues inevitably
strive.
In a strikingly different configuration, this new
Occupy Movement imagines itself from the beginning as
the broadest possible community of resistance - the
99%, as against the 1%. It is a movement arrayed from
the outset against the most affluent sectors of society
- big banks and financial institutions, corporate
executives, whose pay is obscenely disproportionate to
the earnings of the 99%. It seems to me that an issue
such as the prison industrial complex is already
implicitly embraced by this congregation of the 99%.
Indeed, it can be persuasively argued that the 99%
should move to ameliorate the conditions of those who
constitute the bottom tiers of this potential community
of resistance - which would mean working on behalf of
those who have suffered most from the tyranny of the
1%. There is a direct connection between the
pauperising effect of global capitalism and the soaring
rates of incarceration in the US. Decarceration and the
eventual abolition of imprisonment as the primary mode
of punishment can help us begin to revitalise our
communities and to support education, healthcare,
housing, hope, justice, creativity and freedom.
The Occupy activists and their supporters have brought
us together as the 99%. They call upon the majority to
stand up against the minority. The old minorities, in
effect, are the new majority. There are major
responsibilities attached to this decision to forge
such an expansive community of resistance. We say no to
Wall Street, to the big banks, to corporate executives
making millions of dollars a year. We say no to student
debt. We are learning also to say no to global
capitalism and to the prison industrial complex. And
even as police in Portland, Oakland and now New York,
move to force activists from their encampments, we say
no to evictions and to police violence.
Occupy activists are thinking deeply about how we might
incorporate opposition to racism, class exploitation,
homophobia, xenophobia, ableism, violence done to the
environment and transphobia into the resistance of the
99%. Of course, we must be prepared to challenge
military occupation and war. And if we identify with
the 99%, we will also have to learn how to imagine a
new world, one where peace is not simply the absence of
war, but rather, a creative refashioning of global
social relations.
Thus, the most pressing question facing the Occupy
activists is how to craft a unity that respects and
celebrates the immense differences among the 99%. How
can we learn how to come together? This is something
those of the 99% who are living at Occupy sites can
teach us all. How can we come together in a unity that
is not simplistic and oppressive, but complex and
emancipatory, recognising, in June Jordan's words that
"we are the ones we have been waiting for."
Where Does Occupy Wall Street Go From Here?
by Michael Moore
November 22, 2011
http://www.michaelmoore.com/words/mike-friends-blog/where-does-occupy-wall-street-go-here
This past weekend I participated in a four-hour meeting of
Occupy Wall Street activists whose job it is to come up with
the vision and goals of the movement. It was attended by 40+
people and the discussion was both inspiring and
invigorating. Here is what we ended up proposing as the
movement's "vision statement" to the General Assembly of
Occupy Wall Street:
We Envision: [1] a truly free, democratic, and just society;
[2] where we, the people, come together and solve our
problems by consensus; [3] where people are encouraged to
take personal and collective responsibility and participate
in decision making; [4] where we learn to live in harmony
and embrace principles of toleration and respect for
diversity and the differing views of others; [5] where we
secure the civil and human rights of all from violation by
tyrannical forces and unjust governments; [6] where
political and economic institutions work to benefit all, not
just the privileged few; [7] where we provide full and free
education to everyone, not merely to get jobs but to grow
and flourish as human beings; [8] where we value human needs
over monetary gain, to ensure decent standards of living
without which effective democracy is impossible; [9] where
we work together to protect the global environment to ensure
that future generations will have safe and clean air, water
and food supplies, and will be able to enjoy the beauty and
bounty of nature that past generations have enjoyed.
The next step will be to develop a specific list of goals
and demands. As one of the millions of people who are
participating in the Occupy Wall Street movement, I would
like to respectfully offer my suggestions of what we can all
get behind now to wrestle the control of our country out of
the hands of the 1% and place it squarely with the 99%
majority.
Here is what I will propose to the General Assembly of
Occupy Wall Street:
10 Things We Want A Proposal for Occupy Wall Street
Submitted by Michael Moore
1. Eradicate the Bush tax cuts for the rich and
institute new taxes on the wealthiest Americans and on
corporations, including a tax on all trading on Wall
Street (where they currently pay 0%).
2. Assess a penalty tax on any corporation that moves
American jobs to other countries when that company is
already making profits in America. Our jobs are the most
important national treasure and they cannot be removed
from the country simply because someone wants to make
more money.
3. Require that all Americans pay the same Social
Security tax on all of their earnings (normally, the
middle class pays about 6% of their income to Social
Security; someone making $1 million a year pays about
0.6% (or 90% less than the average person). This law
would simply make the rich pay what everyone else pays.
4. Reinstate the Glass-Steagall Act, placing serious
regulations on how business is conducted by Wall Street
and the banks.
5. Investigate the Crash of 2008, and bring to justice
those who committed any crimes.
6. Reorder our nation's spending priorities (including
the ending of all foreign wars and their cost of over $2
billion a week). This will re-open libraries, reinstate
band and art and civics classes in our schools, fix our
roads and bridges and infrastructure, wire the entire
country for 21st century internet, and support
scientific research that improves our lives.
7. Join the rest of the free world and create a single-
payer, free and universal health care system that covers
all Americans all of the time.
8. Immediately reduce carbon emissions that are
destroying the planet and discover ways to live without
the oil that will be depleted and gone by the end of
this century.
9. Require corporations with more than 10,000 employees
to restructure their board of directors so that 50% of
its members are elected by the company's workers. We can
never have a real democracy as long as most people have
no say in what happens at the place they spend most of
their time: their job. (For any U.S. businesspeople
freaking out at this idea because you think workers
can't run a successful company: Germany has a law like
this and it has helped to make Germany the world's
leading manufacturing exporter.)
10. We, the people, must pass three constitutional
amendments that will go a long way toward fixing the
core problems we now have. These include:
a) A constitutional amendment that fixes our broken
electoral system by 1) completely removing campaign
contributions from the political process; 2)
requiring all elections to be publicly financed; 3)
moving election day to the weekend to increase voter
turnout; 4) making all Americans registered voters
at the moment of their birth; 5) banning
computerized voting and requiring that all elections
take place on paper ballots.
b) A constitutional amendment declaring that
corporations are not people and do not have the
constitutional rights of citizens. This amendment
should also state that the interests of the general
public and society must always come before the
interests of corporations.
c) A constitutional amendment that will act as a
"second bill of rights" as proposed by President
Franklin D. Roosevelt: that every American has a
human right to employment, to health care, to a free
and full education, to breathe clean air, drink
clean water and eat safe food, and to be cared for
with dignity and respect in their old age.
Let me know what you think. Occupy Wall Street enjoys the
support of millions. It is a movement that cannot be
stopped. Become part of it by sharing your thoughts with me
or online (at OccupyWallSt.org). Get involved in (or start!)
your own local Occupy movement. Make some noise. You don't
have to pitch a tent in lower Manhattan to be an Occupier.
You are one just by saying you are. This movement has no
singular leader or spokesperson; every participant is a
leader in their neighborhood, their school, their place of
work. Each of you is a spokesperson to those whom you
encounter. There are no dues to pay, no permission to seek
in order to create an action.
We are but ten weeks old, yet we have already changed the
national conversation. This is our moment, the one we've
been hoping for, waiting for. If it's going to happen it has
to happen now. Don't sit this one out. This is the real
deal. This is it.
Have a happy Thanksgiving!
Thanks for What?
by Robert Scheer
November 24, 2011
http://www.truthdig.com/report/item/thanks_for_what_20111124/
I love Thanksgiving for its illusion of abundance. It brings
back early childhood memories of the one day each year
during the Depression when the food on my family's table was
not the leftover produce that my Uncle Leon could no longer
sell at his stall, or the nearly spoiled organ meats that
our local butcher offered at a steep discount.
But Thanksgiving day was quite the opposite, and while I
obviously can't recall what was served in 1936, the year I
was born, the holiday was soon seared into my childhood
memory as the day when the good times looked upon us in the
form of charity gift baskets from philanthropists of various
religious and political orders, much like the needy will be
served today in volunteer kitchens across America and just
as soon will be forgotten.
It did not take long before I was old enough to realize that
the largesse of Thanksgiving was the rare exception, and
that "just getting by," as my mother's brave optimism would
have it, was the norm. Getting by, thanks to Mom's piecework
in the downtown sweatshops and my mechanic father's signing
on to one of the New Deal's public jobs programs.
Then came the economic miracle of World War II, dismissed in
its day by some Republicans as Franklin Roosevelt's
treachery, and my parents and other relatives got their jobs
back. The relevance of the wartime jobs to Thanksgiving in
our family was that my Uncle Edward, the welder, was
rewarded every year at his plant with one enormous turkey or
two smaller ones.
The result was what I recall as an annual day of bloating,
as if my extended family was frantically storing calories in
preparation for a severe economic winter that was certain to
return. But for us it didn't return. Not with the good union
jobs that abounded in the postwar boom and the opportunities
provided by the GI Bill and the spread of affordable college
education that made upward mobility a truly plausible
American goal.
Every time I need to be reminded of what was done for my
generation in the way of generous government-funded
programs, I reread the part of Colin Powell's inspiring
autobiography where he writes about the educational
opportunities and vigorous community support programs that
postwar kids in the Bronx were afforded. Powell and I were
engineering students in the same class at the City College
of New York, though I didn't get to know him until he was
famous and I spoke with him as a journalist. But the great
opportunities available to us, as compared to what is
available to the poor today, is a recognition we share.
I thought back to those buoyantly optimistic times at CCNY,
the working-class Harvard as it was justifiably called, last
week when students protesting onerous tuition hikes at the
University of California got pepper-sprayed for their
efforts to keep hope alive. The once excellent and very
affordable UC system, like the publicly funded colleges of
New York and elsewhere across the country, was the proud
boast of moderate Republican and Democratic politicians who
believed as did the nation's Founders that equal opportunity
leading to a land of stakeholders was the essential bedrock
of America's experiment in democracy.
No more. On this Thanksgiving we have been cheated of the
bounty of that harvest as the stakes have been pulled up on
50 million Americans who have lost or soon will lose their
homes. The housing crisis haunts a majority of Americans,
even those who own their homes outright but have lost their
jobs and must now sell in a downward-swirling housing
market.
Good public education on every level, from preschool through
college, is now a matter of inherited privilege reserved for
those who can pick and choose affluent neighborhood settings
for their children's schools. And the prospect of affording
one of those settings is dim for most parents in a country
where securing a good job is beyond the reach of so many
highly motivated people.
How many folks from my generation are honestly sanguine
about the economic future of their children and
grandchildren? What I have heard constantly, and just this
week from a former top investment banker addressing a
college class I teach, is that our offspring probably will
face a decade of lost opportunity. I thought back to my
college days and how shocked any of us, even those from the
most impoverished of circumstances, would have been to hear
such a prediction.
As The New York Times editorialized this Thanksgiving, "One
in three Americans - 100 million people - is either poor or
perilously close to it."
A bummer of a message, I know, until I think of those
pepper-sprayed college students linking arms, and of all the
Americans, young, old and between, who have occupied their
minds with a challenge - that it doesn't have to be this
way. For their brave spirit of resistance we should be most
grateful this Thanksgiving.
[Robert Scheer, editor in chief of Truthdig, has built a
reputation for strong social and political writing over his
30 years as a journalist. His columns appear in newspapers
across the country, and his in-depth interviews have made
headlines. He conducted the famous Playboy magazine
interview in which Jimmy Carter confessed to the lust in his
heart and he went on to do many interviews for the Los
Angeles Times with Richard Nixon, Ronald Reagan, Bill
Clinton and many other prominent political and cultural
figures.
Between 1964 and 1969 he was Vietnam correspondent, managing
editor and editor in chief of Ramparts magazine. From 1976
to 1993 he served as a national correspondent for the Los
Angeles Times, writing on diverse topics such as the Soviet
Union, arms control, national politics and the military. In
1993 he launched a nationally syndicated column based at the
Los Angeles Times, where he was named a contributing editor.
That column ran weekly for the next 12 years and is now
based at Truthdig.]
November 24, 2011
http://www.truthdig.com/report/item/thanks_for_what_20111124/
I love Thanksgiving for its illusion of abundance. It brings
back early childhood memories of the one day each year
during the Depression when the food on my family's table was
not the leftover produce that my Uncle Leon could no longer
sell at his stall, or the nearly spoiled organ meats that
our local butcher offered at a steep discount.
But Thanksgiving day was quite the opposite, and while I
obviously can't recall what was served in 1936, the year I
was born, the holiday was soon seared into my childhood
memory as the day when the good times looked upon us in the
form of charity gift baskets from philanthropists of various
religious and political orders, much like the needy will be
served today in volunteer kitchens across America and just
as soon will be forgotten.
It did not take long before I was old enough to realize that
the largesse of Thanksgiving was the rare exception, and
that "just getting by," as my mother's brave optimism would
have it, was the norm. Getting by, thanks to Mom's piecework
in the downtown sweatshops and my mechanic father's signing
on to one of the New Deal's public jobs programs.
Then came the economic miracle of World War II, dismissed in
its day by some Republicans as Franklin Roosevelt's
treachery, and my parents and other relatives got their jobs
back. The relevance of the wartime jobs to Thanksgiving in
our family was that my Uncle Edward, the welder, was
rewarded every year at his plant with one enormous turkey or
two smaller ones.
The result was what I recall as an annual day of bloating,
as if my extended family was frantically storing calories in
preparation for a severe economic winter that was certain to
return. But for us it didn't return. Not with the good union
jobs that abounded in the postwar boom and the opportunities
provided by the GI Bill and the spread of affordable college
education that made upward mobility a truly plausible
American goal.
Every time I need to be reminded of what was done for my
generation in the way of generous government-funded
programs, I reread the part of Colin Powell's inspiring
autobiography where he writes about the educational
opportunities and vigorous community support programs that
postwar kids in the Bronx were afforded. Powell and I were
engineering students in the same class at the City College
of New York, though I didn't get to know him until he was
famous and I spoke with him as a journalist. But the great
opportunities available to us, as compared to what is
available to the poor today, is a recognition we share.
I thought back to those buoyantly optimistic times at CCNY,
the working-class Harvard as it was justifiably called, last
week when students protesting onerous tuition hikes at the
University of California got pepper-sprayed for their
efforts to keep hope alive. The once excellent and very
affordable UC system, like the publicly funded colleges of
New York and elsewhere across the country, was the proud
boast of moderate Republican and Democratic politicians who
believed as did the nation's Founders that equal opportunity
leading to a land of stakeholders was the essential bedrock
of America's experiment in democracy.
No more. On this Thanksgiving we have been cheated of the
bounty of that harvest as the stakes have been pulled up on
50 million Americans who have lost or soon will lose their
homes. The housing crisis haunts a majority of Americans,
even those who own their homes outright but have lost their
jobs and must now sell in a downward-swirling housing
market.
Good public education on every level, from preschool through
college, is now a matter of inherited privilege reserved for
those who can pick and choose affluent neighborhood settings
for their children's schools. And the prospect of affording
one of those settings is dim for most parents in a country
where securing a good job is beyond the reach of so many
highly motivated people.
How many folks from my generation are honestly sanguine
about the economic future of their children and
grandchildren? What I have heard constantly, and just this
week from a former top investment banker addressing a
college class I teach, is that our offspring probably will
face a decade of lost opportunity. I thought back to my
college days and how shocked any of us, even those from the
most impoverished of circumstances, would have been to hear
such a prediction.
As The New York Times editorialized this Thanksgiving, "One
in three Americans - 100 million people - is either poor or
perilously close to it."
A bummer of a message, I know, until I think of those
pepper-sprayed college students linking arms, and of all the
Americans, young, old and between, who have occupied their
minds with a challenge - that it doesn't have to be this
way. For their brave spirit of resistance we should be most
grateful this Thanksgiving.
[Robert Scheer, editor in chief of Truthdig, has built a
reputation for strong social and political writing over his
30 years as a journalist. His columns appear in newspapers
across the country, and his in-depth interviews have made
headlines. He conducted the famous Playboy magazine
interview in which Jimmy Carter confessed to the lust in his
heart and he went on to do many interviews for the Los
Angeles Times with Richard Nixon, Ronald Reagan, Bill
Clinton and many other prominent political and cultural
figures.
Between 1964 and 1969 he was Vietnam correspondent, managing
editor and editor in chief of Ramparts magazine. From 1976
to 1993 he served as a national correspondent for the Los
Angeles Times, writing on diverse topics such as the Soviet
Union, arms control, national politics and the military. In
1993 he launched a nationally syndicated column based at the
Los Angeles Times, where he was named a contributing editor.
That column ran weekly for the next 12 years and is now
based at Truthdig.]
Thanksgiving: The National Day of Mourning
Text of 1970 speech by Wampsutta -An Aquinnah Wampanoag Elder
November 24, 2011 - Issue 449
http://www.blackcommentator.com/449/449_cover_thanksgiving_national_day_of_mourning_share.html
[When Frank James (1923 - February 20, 2001), known to the
Wampanoag people as Wampsutta, was invited to speak by the
Commonwealth of Massachusetts at the 1970 annual
Thanksgiving feast at Plymouth. When the text of Mr. James'
speech, a powerful statement of anger at the history of
oppression of the Native people of America, became known
before the event, the Commonwealth "disinvited" him.
Wampsutta was not prepared to have his speech revised by the
Pilgrims. He left the dinner and the ceremonies and went to
the hill near the statue of the Massasoit, who as the leader
of the Wampanoags when the Pilgrims landed in their
territory. There overlooking Plymouth Harbor, he looked at
the replica of the Mayflower. It was there that he gave his
speech that was to be given to the Pilgrims and their
guests. There eight or ten Indians and their supporters
listened in indignation as Frank talked of the takeover of
the Wampanoag tradition, culture, religion, and land.
That silencing of a strong and honest Native voice led to
the convening of the National Day of Mourning. The following
is the text of 1970 speech by Wampsutta, an Aquinnah
Wampanoag elder and Native American activist.]
I speak to you as a man -- a Wampanoag Man. I am a proud
man, proud of my ancestry, my accomplishments won by a
strict parental direction ("You must succeed - your face is
a different color in this small Cape Cod community!"). I am
a product of poverty and discrimination from these two
social and economic diseases. I, and my brothers and
sisters, have painfully overcome, and to some extent we have
earned the respect of our community. We are Indians first -
but we are termed "good citizens." Sometimes we are arrogant
but only because society has pressured us to be so.
It is with mixed emotion that I stand here to share my
thoughts. This is a time of celebration for you -
celebrating an anniversary of a beginning for the white man
in America. A time of looking back, of reflection. It is
with a heavy heart that I look back upon what happened to my
People.
Even before the Pilgrims landed it was common practice for
explorers to capture Indians, take them to Europe and sell
them as slaves for 220 shillings apiece. The Pilgrims had
hardly explored the shores of Cape Cod for four days before
they had robbed the graves of my ancestors and stolen their
corn and beans. Mourt's Relation describes a searching party
of sixteen men. Mourt goes on to say that this party took as
much of the Indians' winter provisions as they were able to
carry.
Massasoit, the great Sachem of the Wampanoag, knew these
facts, yet he and his People welcomed and befriended the
settlers of the Plymouth Plantation. Perhaps he did this
because his Tribe had been depleted by an epidemic. Or his
knowledge of the harsh oncoming winter was the reason for
his peaceful acceptance of these acts. This action by
Massasoit was perhaps our biggest mistake. We, the
Wampanoag, welcomed you, the white man, with open arms,
little knowing that it was the beginning of the end; that
before 50 years were to pass, the Wampanoag would no longer
be a free people.
What happened in those short 50 years? What has happened in
the last 300 years? History gives us facts and there were
atrocities; there were broken promises - and most of these
centered around land ownership. Among ourselves we
understood that there were boundaries, but never before had
we had to deal with fences and stone walls. But the white
man had a need to prove his worth by the amount of land that
he owned. Only ten years later, when the Puritans came, they
treated the Wampanoag with even less kindness in converting
the souls of the so-called "savages." Although the Puritans
were harsh to members of their own society, the Indian was
pressed between stone slabs and hanged as quickly as any
other "witch."
And so down through the years there is record after record
of Indian lands taken and, in token, reservations set up for
him upon which to live. The Indian, having been stripped of
his power, could only stand by and watch while the white man
took his land and used it for his personal gain. This the
Indian could not understand; for to him, land was survival,
to farm, to hunt, to be enjoyed. It was not to be abused. We
see incident after incident, where the white man sought to
tame the "savage" and convert him to the Christian ways of
life. The early Pilgrim settlers led the Indian to believe
that if he did not behave, they would dig up the ground and
unleash the great epidemic again.
The white man used the Indian's nautical skills and
abilities. They let him be only a seaman -- but never a
captain. Time and time again, in the white man's society, we
Indians have been termed "low man on the totem pole."
Has the Wampanoag really disappeared? There is still an aura
of mystery. We know there was an epidemic that took many
Indian lives - some Wampanoags moved west and joined the
Cherokee and Cheyenne. They were forced to move. Some even
went north to Canada! Many Wampanoag put aside their Indian
heritage and accepted the white man's way for their own
survival. There are some Wampanoag who do not wish it known
they are Indian for social or economic reasons.
What happened to those Wampanoags who chose to remain and
live among the early settlers? What kind of existence did
they live as "civilized" people? True, living was not as
complex as life today, but they dealt with the confusion and
the change. Honesty, trust, concern, pride, and politics
wove themselves in and out of their [the Wampanoags'] daily
living. Hence, he was termed crafty, cunning, rapacious, and
dirty.
History wants us to believe that the Indian was a savage,
illiterate, uncivilized animal. A history that was written
by an organized, disciplined people, to expose us as an
unorganized and undisciplined entity. Two distinctly
different cultures met. One thought they must control life;
the other believed life was to be enjoyed, because nature
decreed it. Let us remember, the Indian is and was just as
human as the white man. The Indian feels pain, gets hurt,
and becomes defensive, has dreams, bears tragedy and
failure, suffers from loneliness, needs to cry as well as
laugh. He, too, is often misunderstood.
The white man in the presence of the Indian is still
mystified by his uncanny ability to make him feel
uncomfortable. This may be the image the white man has
created of the Indian; his "savageness" has boomeranged and
isn't a mystery; it is fear; fear of the Indian's
temperament!
High on a hill, overlooking the famed Plymouth Rock, stands
the statue of our great Sachem, Massasoit. Massasoit has
stood there many years in silence. We the descendants of
this great Sachem have been a silent people. The necessity
of making a living in this materialistic society of the
white man caused us to be silent. Today, I and many of my
people are choosing to face the truth. We ARE Indians!
Although time has drained our culture, and our language is
almost extinct, we the Wampanoags still walk the lands of
Massachusetts. We may be fragmented, we may be confused.
Many years have passed since we have been a people together.
Our lands were invaded. We fought as hard to keep our land
as you the whites did to take our land away from us. We were
conquered, we became the American prisoners of war in many
cases, and wards of the United States Government, until only
recently.
Our spirit refuses to die. Yesterday we walked the woodland
paths and sandy trails. Today we must walk the macadam
highways and roads. We are uniting We're standing not in our
wigwams but in your concrete tent. We stand tall and proud,
and before too many moons pass we'll right the wrongs we
have allowed to happen to us.
We forfeited our country. Our lands have fallen into the
hands of the aggressor. We have allowed the white man to
keep us on our knees. What has happened cannot be changed,
but today we must work towards a more humane America, a more
Indian America, where men and nature once again are
important; where the Indian values of honor, truth, and
brotherhood prevail.
You the white man are celebrating an anniversary. We the
Wampanoags will help you celebrate in the concept of a
beginning. It was the beginning of a new life for the
Pilgrims. Now, 350 years later it is a beginning of a new
determination for the original American: the American
Indian.
There are some factors concerning the Wampanoags and other
Indians across this vast nation. We now have 350 years of
experience living amongst the white man. We can now speak
his language. We can now think as a white man thinks. We can
now compete with him for the top jobs. We're being heard; we
are now being listened to. The important point is that along
with these necessities of everyday living, we still have the
spirit, we still have the unique culture, we still have the
will and, most important of all, the determination to remain
as Indians. We are determined, and our presence here this
evening is living testimony that this is only the beginning
of the American Indian, particularly the Wampanoag, to
regain the position in this country that is rightfully ours.
كيف تتراجع الامبراطورية الأقوى في العالم؟(2 من 2)
تحوّل استراتيجي أميركي إلى الشرق الأقصى والمحيط الهادئ
الثلاثاء 22 نوفمبر 2011
آمال مدللي
ليس مصادفة أن تستضيف الولايات المتحدة قمة دول آسيا – المحيط الهادئ (آبيك) للمرة الأولى منذ عشرين عاماً. فهذه القمة التي عقدت في هونولولو الأميركية في المحيط الهادئ تأتي في الوقت الذي تعلن فيه الولايات المتحدة عن تغيير استراتيجي في توجهها الخارجي في الحقلين الاقتصادي والسياسي. فالولايات المتحدة بعثت برسائل عدة خلال هذه القمة عبر الرئيس باراك أوباما ووزيرة الخارجية هيلاري كلينتون ووزير الدفاع ليون بانيتا مفادها أن هذه المنطقة تتصدر رأس أولويات الولايات المتحدة ولا ترى منطقة في العالم أكثر حيوية من منطقة آسيا – المحيط الهادئ، وأن أميركا تتطلع غرباً إلى المحيط الهادئ والى آسيا بعد توجه استراتيجي لأكثر من ستين عاماً جعل المحيط الأطلسي حجر الزاوية في استراتيجيتها الدولية. إن التوجه إلى الهادئ لا يعني التخلي عن الأطلسي لكنه يعني أن الهادئ هو المستقبل. ولهذا التغيير تأثير هام على الشرق الأوسط وعلى أولويات أميركا فيه ولكن، لن يكون من السهل على واشنطن خفض الشرق الأوسط إلى درجات دنيا في استراتيجيتها الدولية لأن تاريخ المنطقة يشير إلى أنها تعرف دائماً كيف تعيد الكبار إلى ملعبها المؤلم وإن أرادت غير ذلك.كان الرئيس أوباما واضحاً في مؤتمره الصحافي في قمة آبيك عن رغبته في الانتقال إلى مسرح فيه كل فرص النجاح، إن لجهة النمو الاقتصادي أو لجهة التجارة، وفوائده المباشرة على الاقتصاد الأميركي.قال: «أمضينا عقداً بعد 11 أيلول في التركيز على المسائل الأمنية، خصوصاً في منطقة الشرق الأوسط وهذا مفهوم ولا يزال مهماً، لكننا نوجه اهتمامنا مرة أخرى إلى منطقة آسيا – المحيط الهادئ وهذا يعطي ثماراً فورية لجهة تحسن العلاقات مع بلدان المنطقة وبدأت الشركات ترى فرصاً لذلك.وشدد أوباما على أن منطقة دول آبيك التي تضم 21 اقتصاداً و3 بلايين نسمة «منطقة حيوية بالتأكيد للنمو الاقتصادي الأميركي. إننا نعتبرها على رأس أولوياتنا، لأننا لن نستطيع أن نعيد مواطنينا إلى العمل وننمّي اقتصادنا وننمّي الفرص إلا إذا كانت منطقة آسيا – المحيط الهادئ ناجحة». والمنطقة هامة لأجندة أوباما. وهو قال للمؤتمر: «إن منطقة آسيا – المحيط الهادئ هي المفتاح لتحقيق هدفي في مضاعفة الصادرات الأميركية وإيجاد وظائف جديدة».وأكد أن منطقة آبيك، التي تضم نصف تجارة العالم ونصف الناتج المحلي العالمي (55 في المئة) وتشتري 58 في المئة من الصادرات الأميركية، أولوية لأميركا سواء في البنية الأمنية أو في التجارة.وأهمية هذه المنطقة عالمياً أنها مسرح نفوذ أقوى اقتصادين في العالم، الاقتصاد الأميركي الأول في العالم والاقتصاد الصيني. لهذا شدد أوباما في كلمته على أن التعاون بين البلدين «أمر حيوي للعالم أجمع».
الرئيس الصيني جان كاو هوو تحدث عن وضع دولي معقد يمر بتغييرات جوهرية مع ارتفاع عدم الاستقرار وتزايد المخاطر الإقليمية وقال إنه في ظل هذه الظروف من المهم مضاعفة التنسيق بين الولايات المتحدة والصين. وأضاف إن الصين تتطلع إلى «الحفاظ على تقوية الحوار والتعاون مع الولايات المتحدة واحترام مخاوف بعضنا بعضاً وأن ندير بشكل مناسب المسائل الحساسة».
واتفق هوو مع أوباما على أن منطقة آسيا – المحيط الهادئ هي أكثر المناطق حيوية في العالم وصاحبة أكبر قدرة على النمو وأمل أن يرسل اجتماع القمة رسالة إلى العالم فحواها أن دول آسيا – المحيط الهادئ سيمدون اليد لبعضهم بعضاً مثل ركاب على مركب واحد وسيعملون لضمان استمرار نمو اقتصادياتهم».
قبطان واحد
الولايات المتحدة تمدّ اليد إلى ركاب مركب المحيط الهادئ والآسيوي ولكنها تريد من الجميع ألا ينسى أن هناك قبطاناً واحداً هو أميركا، وقيادة واحدة في منطقة آسيا – المحيط الهادئ هي القيادة الأميركية. هذا واضح بجلاء في الاستراتيجية الأميركية لمنطقة آسيا – المحيط الهادئ التي أعلنت عنها هيلاري كلينتون في مقال كتبته في مجلة «سياسة خارجية» في عددها الأخير تحت عنوان «قرن أميركا الهادئ (المحيط)» وضعت كلينتون الخطوط العريضة للاستراتيجية الأميركية في المنطقة وماذا تعني للولايات المتحدة والعالم. وأكدت «أن المستقبل الجيو- سياسي سيجرى تقريره في آسيا وليس في العراق أو أفغانستان، وعلى الولايات المتحدة أن تكون في وسط الحدث».
نعرف من المقال أن هذا التحوّل في التوجه الاستراتيجي الذي يمكن وصفه بمبدأ أوباما لم يبدأ هذا الأسبوع بقمة آبيك في جزيرة هونولولو أو بمقال كلينتون. نعلم مثلاً أن الرئيس أوباما، الذي ولد وتربى في هونولولو في المحيط الهادئ، رسم هذا الطريق منذ وصوله إلى الحكم وقاد جهداً متعدد الجوانب والوجوه داخل الإدارة الأميركية كي يتم احتضان هذا الدور في المحيط الهادئ الذي «لا يمكن الاستغناء عنه» بحسب قول كلينتون. وهذا الجهد كما قالت كان جهداً هادئاً وليس على الصفحات الأولى للصحف. كسرت كلينتون التقاليد فكانت أول زيارة خارجية لها إلى آسيا، وهي زارت آسيا سبع مرات «ورأيت عن قرب التحولات السريعة في المنطقة والتي تؤكد مدى ترابط مستقبل الولايات المتحدة بمستقبل آسيا – المحيط الهادئ».
ووضعت كلينتون هذا التوجه في إطار الحفاظ على الدور العالمي للولايات المتحدة، قالت: «إن هذا التوجه الاستراتيجي إلى المنطقة يتناسب منطقياً مع جهدنا العالمي العام للضمان والحفاظ على الدور العالمي لأميركا». وشددت على أهمية آسيا لمستقبل أميركا «فالدور الأميركي حيوي لمستقبل آسيا». واعتبرت، في ما سيقابل بتشكيك لا محالة من قبل الصينيين وبعض حلفائهم في المنطقة، «إن آسيا بحاجة إلى قيادة أميركا وتجارتها أكثر من أي وقت مضى في التاريخ الحديث».
لكن الخبراء الآسيويين يرون أن مركز القوى تغيّر في العالم إلى آسيا وأن الولايات المتحدة تقوي موقعها الجديد وتضع أولويات سياستها ودفاعاتها. وهي بهذا تقوي حديقتها الخلفية لأنها دولة على المحيط الهادئ ولا تريد أن ترى نفوذها يضعف هناك. ووصف خبير آسيوي هذا التحوّل الاستراتيجي الأميركي بقوله: «إن أميركا تتراجع من الشرق الأوسط إلى آسيا».
لكن النظر إلى الاستراتيجية الجديدة التي قدمتها كلينتون لا يُظهر تراجعاً وإنما تأكيداً أميركياً على الاستعداد للقيادة. قالت كلينتون: «إن الناس في آسيا يسألون ما إذا كانت أميركا ستحافظ على التزاماتها الاقتصادية والاستراتيجية وما إذا كنا نستطيع دعم هذه الالتزامات بالفعل. الجواب إننا نستطيع وسنفعل ذلك».
ولا يترك المسؤولون الأميركيون أدنى شك حول ترابط هذا التحول الاستراتيجي بالوضع الداخلي الأميركي وبالجهود للخروج من الأزمة الاقتصادية عبر إيجاد فرص جديدة وأسواق جديدة للصادرات والمصالح الأميركية. كما انه بالدرجة الأولى يعكس قلقاً من نمو نفوذ الصين وقوتها في المنطقة اقتصادياً وسياسياً.
الأكثر مرونة
تقول نظرية التطور والنشوء إن من يبقى من المخلوقات ليس الأقوى أو الأكثر ذكاءً وإنما من لديه القدرة الأكبر على التأقلم. إن العقل الأميركي هو ربما من أكثر العقول مرونة في العالم وهو عملي ويركّز على «الآن» والـ «هنا» بحسب ملاحظة الكيسيس دو توكفيل في كتابه الشهير «الديموقراطية في أميركا». واليوم في مواجهة التحديين الاقتصادي والسياسي الداخلي والخارجي تطلعت الولايات المتحدة حول وضعها العالمي وخياراتها الموجودة. وجدت نفسها وسط أزمة اقتصاد يصعب الخروج منها بسهولة طالما بقيت أسباب وجودها لا تتغيّر. أحد أهم هذه الأسباب النزيف المالي والبشري الذي تفرضه عليها حربان في الشرق الأوسط وفي الشرق الأوسط الكبير أي العراق وأفغانستان. وجدت نزاعاً مستديماً هناك ينقل المنطقة من أزمة إلى حرب ومن حرب إلى أزمات متكررة. ووجدت حلفاءها الأوروبيين غارقين في أزمات مالية مميتة ومستقبل اقتصادي غامض.
في المقابل نظرت إلى آسيا والمحيط الهادئ ووجدت صورة مختلفة تماماً. فصادرات أميركا إلى منطقة المحيط الهادئ كانت السنة الماضية 320 بليون دولار ودعمت 850 ألف وظيفة أميركية وهناك 50 ألف جندي في اليابان وأميركا.
تقول وزيرة الخارجية في مقالها إن «أسواق آسيا المفتوحة توفر للولايات المتحدة فرصاً غير مسبوقة للاستثمار والتجارة والحصول على أحدث تكنولوجيا. «وتعافي أميركا الاقتصادي» يعتمد على قدرة الشركات الأميركية على الوصول إلى «القاعدة الاستهلاكية الهائلة التي تنمو في آسيا». والمنطقة تضم من وجهة النظر الأميركية «المفتاح للسياسة العالمية والعديد من المحركات الرئيسية للاقتصاد العالمي. كما إن أميركا لديها حلفاء قدماء وموقف في هذه المنطقة، إضافة إلى قوى صاعدة تمثل تحدياً لأميركا وإنما أيضاً فرصاً للعمل على بناء بنية استراتيجية لنظام سياسي – اقتصادي دفاعي لمنطقة تعتبرها أولويتها الأولى». والوزيرة الأميركية أكدت أن الولايات المتحدة ستساعد في بناء هذا البنيان الاستراتيجي كما فعلت في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية مثل الناتو وشبكة المؤسسات المالية والعسكرية والسياسية الأخرى. قالت: «حان الوقت لأن تستثمر أميركا استثماراً مماثلاً كقوة محيط هادئ».
فما هي الأهداف الاستراتيجية الأميركية في المحيط الهادئ – آسيا؟
تجيب كلينتون في مقالها إن «الحفاظ على السلم والأمن في آسيا – المحيط الهادئ يصبح حيوياً أكثر فأكثر للتقدم العالمي/ سواء من خلال الدفاع عن حرية الملاحة في بحر جنوب الصين ومواجهة جهود الانتشار النووي لكوريا الشمالية، وضمان الشفافية للنشاطات العسكرية للاعبين الرئيسيين في المنطقة».
أما هذه الاستراتيجية فستتقدم على 6 محاور عمل:
- تقوية التحالفات الثنائية الأمنية.
- تعميق علاقة العمل مع الدول الصادة بما فيها الصين.
- التواصل مع المؤسسات الإقليمية المتعددة الأطراف.
- توسيع نطاق التجارة والاستثمار.
- صوغ وجود عسكري واسع.
- دعم الديموقراطية وحقوق الإنسان.
كما تقول كلينتون إن اليابان هي حجر الأساس في السلام والاستقرار في المنطقة وإن البلدان اتفقا على ترتيبات جديدة «بما فيها مساهمة من طوكيو قيمتها 5 بلايين دولار لضمان استمرار وجود القوات الأميركية في اليابان. أما أستراليا فيجري توسيع العلاقة معها في جميع المجالات حيث مشورة أستراليا لا غنى عنها». أما الصين فتمثل «إحدى العلاقات الثنائية الأكثر تحدياً التي أدارتها الولايات المتحدة في تاريخها». وهذه تحتاج إلى سياسة متأنية وثابتة وحيوية من الولايات المتحدة، لهذا، أضافت كلينتون، «كانت الصين إحدى أبرز أولوياتي على مدى السنتين الماضيتين ولهذا بدأت مع وزير المال تيموثي غايشنر الحوار الاستراتيجي والاقتصادي معها». أما الهند فتذكّر كلينتون «أن أوباما أخبر البرلمان الهندي أن العلاقة بين الهند وأميركا ستكون واحدة من الشراكات التي ستحدد القرن الحادي والعشرين وأن أميركا تضع الرهان على مستقبل الهند وعلى الدور الأكبر الذي ستلعبه على المسرح الدولي والذي سيساهم في دعم السلام والأمن». ووسعت إدارة أوباما الشراكة الثنائية مع الهند في «الهند تتطلع إلى الشرق» بما فيها من خلال حوار ثلاثي جديد بين الهند واليابان وأميركا. كما توسع الولايات المتحدة علاقة شراكة جديدة مع أندونيسيا ثالث أكبر ديموقراطية وأكبر بلد مسلم بحسب قول الوزيرة الأميركية. وأشارت إلى أن الرئيس الأميركي سيحضر قمة شرق آسيا لأول مرة في أندونيسيا حيث عاش لفترة في صغره. إن هؤلاء هم شركاء أميركا الجدد وأسس بنيانها الاستراتيجي الجديد.
الشرق الأوسط ليس أولوية ولكن
أين هو الشرق الأوسط في استراتيجية أميركا الجديدة؟
بالتأكيد إنه ليس أولوية.
خصصت الوزيرة الأميركية فقرة من بضعة أسطر قصيرة عن الشعوب في المنطقة وليس عن الحكومات. قالت: «إن شعوب الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يخطون طريقاً جديداً له تبعات عالمية عميقة، والولايات المتحدة ملتزمة بشراكة نشطة ودائمة بينما المنطقة تشهد هذا التحول». من الواضح أن سياسة أميركا هي انتظار ما سيتمخض عنه هذا التحول. تاريخياً كان الالتزام يتركز على ثلاث قضايا أساسية للمصالح الأميركية في المنطقة وهي: النفط وإسرائيل وانتشار السلاح النووي (إيران).
هذه القضايا حيوية للولايات المتحدة ومترابطة ومن الصعب تخيّل ضعف اهتمام واشنطن بأي منها. حتى لو أرادت الولايات المتحدة أن تبتعد قليلاً وتحاول إخراج نفسها من رمال الشرق الأوسط فإن المنطقة لديها سجل تاريخي في إعادة اللاعبين الكبار إلى ساحتها وإغراقهم حتى أكثر مما كانوا فيه قبل أن يبتعدوا، فالرئيس جورج بوش مثلاً أمضى الأشهر التسعة الأولى من ولايته لا يريد أن يولي السياسة الخارجية عموماً والشرق الأوسط على وجه الخصوص أي اهتمام. كان يريد التركيز على الوضع الداخلي. بعد أحداث 11 أيلول دخلت أميركا في حربين في أفغانستان ثم في العراق ولا تزال تدفع ثمنهما يومياً من الدم والمال.
أما الآن والولايات المتحدة تحاول إيجاد طريق جديد لها لا يتخلى عن الشرق الأوسط ولكن يضع أميركا أولاً في الاعتبارات الاستراتيجية، يتجه الشرق الأوسط إلى فوهة بركان وهو بأمس الحاجة إلى استمرار قيادة أميركية ترى فيه مجالاً حيوياً، على رغم توجهاتها الجديدة.
ويدعو خبراء السياسة الخارجية الولايات المتحدة الى تحديد أولوياتها واستثمار قوتها بطريقة حكيمة بحسب قول ستيفن والت الذي كتب في مجلة «ذي ناشونال انتريست» مقالاً في عنوان: «انتهاء الحقبة الأميركية». قال فيه: «بدلاً من أن تكون الولايات المتحدة القوة التي لا يستغنى عنها في كل مكان تقريباً فهي بحاجة إلى اكتشاف كيف يمكن أن تكون قوة حاسمة في الأماكن التي لديها قيمة وتهمها أكثر من غيرها».
ويدعو للعودة إلى «الاستراتيجية الكبرى»، أي خلق توازن بعيداً عن الشطآن وهو يؤدي إلى الحفاظ على ميزان قوى بين الدول القوية في أوراسيا والدول الغنية نفطياً ويقول إن «هذه هي الوحيدة اليوم التي تستحق أن نرسل القوات الأميركية لتقاتل وتموت فيها».
ولكن بدلاً من السيطرة على هذه المناطق مباشرة يقترح والت أن يكون التوجه الأول «حمل الحلفاء المحليين على الحفاظ على ميزان القوى من أجل مصالحهم الذاتية».
بثمن رخيص
إن هذه الاستراتيجية الجديدة كما يصفها أطلق عليها بعضهم في النقاش الدائر حول الامبراطورية الأميركية اسم «امبراطورية بثمن رخيص». حيث يتحمل الحلفاء العبء على أكتافهم والولايات المتحدة تشجعهم من الخلف وتتدخل عند الحاجة. يقول والت: «بدلاً من أن نوفر لهم رحلة مجانية يجب أن نركب معهم مجاناً قدر المستطاع، ونتدخل فقط بقوات أرضية وجوية عندما تقوم قوة واحدة بالتهديد بالسيطرة على منطقة حيوية».
وهناك فريق آخر من الخبراء يتحدث عن «الحكمة في الانكماش» أي انه يجب على الولايات المتحدة أن تخفف من عبئها لكي تتحرك إلى الأمام (في مجلة «شؤون خارجية»). ويدعو هؤلاء إلى تقليص أكبر في الموازنة العسكرية وإعادة تحديد الأولويات في السياسة الخارجية الأميركية وإعادة توجيه هذه الموارد إلى حل مشاكل أميركا الداخلية.
ويرى كثيرون أن انكماش الدور الأميركي سيؤدي إلى نتائج سلبية سترتد على أميركا وأبرزها: طغيان قوى أخرى غير ديموقراطية، انخفاض التجارة، إيجاد عدم استقرار دولي، فقدان الولايات المتحدة قدرتها الردعية وحتى انقسام سياسي في واشنطن وإرسال رسالة خاطئة للحلفاء حول التزام أميركي ويقوي القوى الناشئة. لكن الذين يريدون من واشنطن ترتيب أوضاعها الاستراتيجية يستبعدون هذه النتائج ويرون على العكس أن سياسة الترشيد يمكن أن تؤدي إلى توفير متنفس للإصلاحات والتعافي الاقتصادي وزيادة المرونة الاستراتيجية.
أميركا إدارة أوباما ترتكز على استراتيجية أمن قومي تعكس توجهاً مختلفاً عن سابقاتها لجهة الرغبة في العمل مع الآخرين ومشاركة الأعباء. تقول الوثيقة الصادرة عام 2010 إن «أعباء القرن الجديد لا يمكن أن تقع على أكتاف أميركا وحدها»، «ولا يمكن لأي بلد وحده أن يواجه تحديات القرن الواحد والعشرين أو أن يملي شروطه على العالم».
إنها أميركا متواضعة تلك التي تسعى للعمل مع الآخرين، يقول الرئيس أوباما في مقدمة التقرير – الاستراتيجية: «إن الولايات المتحدة أقامت علاقات تجارية ودعمت بنياناً دولياً يتكوّن من قوانين ومؤسسات، وسال الدم الأميركي في بلاد أجنبية ليس من أجل بناء امبراطورية وإنما لكي نقوم بتشكيل عالم يقوم فيه أشخاص وأمم بتقرير مصيرهم والعيش بالسلام وبالكرامة التي يستحقون».
الرئيس أوباما يدير دفة أميركا نحو المحيط الهادئ آملاً بأن تحمل أمواجه خيرات آسيا عوضاً عن هموم الأطلسي والشرق الأوسط، فهل ينجح؟
شعاره «نعم نستطيع»، لكن تجربته في الحكم علمته أن الشعارات عبارات تمن في معظم الأحيان.
الثلاثاء 22 نوفمبر 2011
آمال مدللي
ليس مصادفة أن تستضيف الولايات المتحدة قمة دول آسيا – المحيط الهادئ (آبيك) للمرة الأولى منذ عشرين عاماً. فهذه القمة التي عقدت في هونولولو الأميركية في المحيط الهادئ تأتي في الوقت الذي تعلن فيه الولايات المتحدة عن تغيير استراتيجي في توجهها الخارجي في الحقلين الاقتصادي والسياسي. فالولايات المتحدة بعثت برسائل عدة خلال هذه القمة عبر الرئيس باراك أوباما ووزيرة الخارجية هيلاري كلينتون ووزير الدفاع ليون بانيتا مفادها أن هذه المنطقة تتصدر رأس أولويات الولايات المتحدة ولا ترى منطقة في العالم أكثر حيوية من منطقة آسيا – المحيط الهادئ، وأن أميركا تتطلع غرباً إلى المحيط الهادئ والى آسيا بعد توجه استراتيجي لأكثر من ستين عاماً جعل المحيط الأطلسي حجر الزاوية في استراتيجيتها الدولية. إن التوجه إلى الهادئ لا يعني التخلي عن الأطلسي لكنه يعني أن الهادئ هو المستقبل. ولهذا التغيير تأثير هام على الشرق الأوسط وعلى أولويات أميركا فيه ولكن، لن يكون من السهل على واشنطن خفض الشرق الأوسط إلى درجات دنيا في استراتيجيتها الدولية لأن تاريخ المنطقة يشير إلى أنها تعرف دائماً كيف تعيد الكبار إلى ملعبها المؤلم وإن أرادت غير ذلك.كان الرئيس أوباما واضحاً في مؤتمره الصحافي في قمة آبيك عن رغبته في الانتقال إلى مسرح فيه كل فرص النجاح، إن لجهة النمو الاقتصادي أو لجهة التجارة، وفوائده المباشرة على الاقتصاد الأميركي.قال: «أمضينا عقداً بعد 11 أيلول في التركيز على المسائل الأمنية، خصوصاً في منطقة الشرق الأوسط وهذا مفهوم ولا يزال مهماً، لكننا نوجه اهتمامنا مرة أخرى إلى منطقة آسيا – المحيط الهادئ وهذا يعطي ثماراً فورية لجهة تحسن العلاقات مع بلدان المنطقة وبدأت الشركات ترى فرصاً لذلك.وشدد أوباما على أن منطقة دول آبيك التي تضم 21 اقتصاداً و3 بلايين نسمة «منطقة حيوية بالتأكيد للنمو الاقتصادي الأميركي. إننا نعتبرها على رأس أولوياتنا، لأننا لن نستطيع أن نعيد مواطنينا إلى العمل وننمّي اقتصادنا وننمّي الفرص إلا إذا كانت منطقة آسيا – المحيط الهادئ ناجحة». والمنطقة هامة لأجندة أوباما. وهو قال للمؤتمر: «إن منطقة آسيا – المحيط الهادئ هي المفتاح لتحقيق هدفي في مضاعفة الصادرات الأميركية وإيجاد وظائف جديدة».وأكد أن منطقة آبيك، التي تضم نصف تجارة العالم ونصف الناتج المحلي العالمي (55 في المئة) وتشتري 58 في المئة من الصادرات الأميركية، أولوية لأميركا سواء في البنية الأمنية أو في التجارة.وأهمية هذه المنطقة عالمياً أنها مسرح نفوذ أقوى اقتصادين في العالم، الاقتصاد الأميركي الأول في العالم والاقتصاد الصيني. لهذا شدد أوباما في كلمته على أن التعاون بين البلدين «أمر حيوي للعالم أجمع».
الرئيس الصيني جان كاو هوو تحدث عن وضع دولي معقد يمر بتغييرات جوهرية مع ارتفاع عدم الاستقرار وتزايد المخاطر الإقليمية وقال إنه في ظل هذه الظروف من المهم مضاعفة التنسيق بين الولايات المتحدة والصين. وأضاف إن الصين تتطلع إلى «الحفاظ على تقوية الحوار والتعاون مع الولايات المتحدة واحترام مخاوف بعضنا بعضاً وأن ندير بشكل مناسب المسائل الحساسة».
واتفق هوو مع أوباما على أن منطقة آسيا – المحيط الهادئ هي أكثر المناطق حيوية في العالم وصاحبة أكبر قدرة على النمو وأمل أن يرسل اجتماع القمة رسالة إلى العالم فحواها أن دول آسيا – المحيط الهادئ سيمدون اليد لبعضهم بعضاً مثل ركاب على مركب واحد وسيعملون لضمان استمرار نمو اقتصادياتهم».
قبطان واحد
الولايات المتحدة تمدّ اليد إلى ركاب مركب المحيط الهادئ والآسيوي ولكنها تريد من الجميع ألا ينسى أن هناك قبطاناً واحداً هو أميركا، وقيادة واحدة في منطقة آسيا – المحيط الهادئ هي القيادة الأميركية. هذا واضح بجلاء في الاستراتيجية الأميركية لمنطقة آسيا – المحيط الهادئ التي أعلنت عنها هيلاري كلينتون في مقال كتبته في مجلة «سياسة خارجية» في عددها الأخير تحت عنوان «قرن أميركا الهادئ (المحيط)» وضعت كلينتون الخطوط العريضة للاستراتيجية الأميركية في المنطقة وماذا تعني للولايات المتحدة والعالم. وأكدت «أن المستقبل الجيو- سياسي سيجرى تقريره في آسيا وليس في العراق أو أفغانستان، وعلى الولايات المتحدة أن تكون في وسط الحدث».
نعرف من المقال أن هذا التحوّل في التوجه الاستراتيجي الذي يمكن وصفه بمبدأ أوباما لم يبدأ هذا الأسبوع بقمة آبيك في جزيرة هونولولو أو بمقال كلينتون. نعلم مثلاً أن الرئيس أوباما، الذي ولد وتربى في هونولولو في المحيط الهادئ، رسم هذا الطريق منذ وصوله إلى الحكم وقاد جهداً متعدد الجوانب والوجوه داخل الإدارة الأميركية كي يتم احتضان هذا الدور في المحيط الهادئ الذي «لا يمكن الاستغناء عنه» بحسب قول كلينتون. وهذا الجهد كما قالت كان جهداً هادئاً وليس على الصفحات الأولى للصحف. كسرت كلينتون التقاليد فكانت أول زيارة خارجية لها إلى آسيا، وهي زارت آسيا سبع مرات «ورأيت عن قرب التحولات السريعة في المنطقة والتي تؤكد مدى ترابط مستقبل الولايات المتحدة بمستقبل آسيا – المحيط الهادئ».
ووضعت كلينتون هذا التوجه في إطار الحفاظ على الدور العالمي للولايات المتحدة، قالت: «إن هذا التوجه الاستراتيجي إلى المنطقة يتناسب منطقياً مع جهدنا العالمي العام للضمان والحفاظ على الدور العالمي لأميركا». وشددت على أهمية آسيا لمستقبل أميركا «فالدور الأميركي حيوي لمستقبل آسيا». واعتبرت، في ما سيقابل بتشكيك لا محالة من قبل الصينيين وبعض حلفائهم في المنطقة، «إن آسيا بحاجة إلى قيادة أميركا وتجارتها أكثر من أي وقت مضى في التاريخ الحديث».
لكن الخبراء الآسيويين يرون أن مركز القوى تغيّر في العالم إلى آسيا وأن الولايات المتحدة تقوي موقعها الجديد وتضع أولويات سياستها ودفاعاتها. وهي بهذا تقوي حديقتها الخلفية لأنها دولة على المحيط الهادئ ولا تريد أن ترى نفوذها يضعف هناك. ووصف خبير آسيوي هذا التحوّل الاستراتيجي الأميركي بقوله: «إن أميركا تتراجع من الشرق الأوسط إلى آسيا».
لكن النظر إلى الاستراتيجية الجديدة التي قدمتها كلينتون لا يُظهر تراجعاً وإنما تأكيداً أميركياً على الاستعداد للقيادة. قالت كلينتون: «إن الناس في آسيا يسألون ما إذا كانت أميركا ستحافظ على التزاماتها الاقتصادية والاستراتيجية وما إذا كنا نستطيع دعم هذه الالتزامات بالفعل. الجواب إننا نستطيع وسنفعل ذلك».
ولا يترك المسؤولون الأميركيون أدنى شك حول ترابط هذا التحول الاستراتيجي بالوضع الداخلي الأميركي وبالجهود للخروج من الأزمة الاقتصادية عبر إيجاد فرص جديدة وأسواق جديدة للصادرات والمصالح الأميركية. كما انه بالدرجة الأولى يعكس قلقاً من نمو نفوذ الصين وقوتها في المنطقة اقتصادياً وسياسياً.
الأكثر مرونة
تقول نظرية التطور والنشوء إن من يبقى من المخلوقات ليس الأقوى أو الأكثر ذكاءً وإنما من لديه القدرة الأكبر على التأقلم. إن العقل الأميركي هو ربما من أكثر العقول مرونة في العالم وهو عملي ويركّز على «الآن» والـ «هنا» بحسب ملاحظة الكيسيس دو توكفيل في كتابه الشهير «الديموقراطية في أميركا». واليوم في مواجهة التحديين الاقتصادي والسياسي الداخلي والخارجي تطلعت الولايات المتحدة حول وضعها العالمي وخياراتها الموجودة. وجدت نفسها وسط أزمة اقتصاد يصعب الخروج منها بسهولة طالما بقيت أسباب وجودها لا تتغيّر. أحد أهم هذه الأسباب النزيف المالي والبشري الذي تفرضه عليها حربان في الشرق الأوسط وفي الشرق الأوسط الكبير أي العراق وأفغانستان. وجدت نزاعاً مستديماً هناك ينقل المنطقة من أزمة إلى حرب ومن حرب إلى أزمات متكررة. ووجدت حلفاءها الأوروبيين غارقين في أزمات مالية مميتة ومستقبل اقتصادي غامض.
في المقابل نظرت إلى آسيا والمحيط الهادئ ووجدت صورة مختلفة تماماً. فصادرات أميركا إلى منطقة المحيط الهادئ كانت السنة الماضية 320 بليون دولار ودعمت 850 ألف وظيفة أميركية وهناك 50 ألف جندي في اليابان وأميركا.
تقول وزيرة الخارجية في مقالها إن «أسواق آسيا المفتوحة توفر للولايات المتحدة فرصاً غير مسبوقة للاستثمار والتجارة والحصول على أحدث تكنولوجيا. «وتعافي أميركا الاقتصادي» يعتمد على قدرة الشركات الأميركية على الوصول إلى «القاعدة الاستهلاكية الهائلة التي تنمو في آسيا». والمنطقة تضم من وجهة النظر الأميركية «المفتاح للسياسة العالمية والعديد من المحركات الرئيسية للاقتصاد العالمي. كما إن أميركا لديها حلفاء قدماء وموقف في هذه المنطقة، إضافة إلى قوى صاعدة تمثل تحدياً لأميركا وإنما أيضاً فرصاً للعمل على بناء بنية استراتيجية لنظام سياسي – اقتصادي دفاعي لمنطقة تعتبرها أولويتها الأولى». والوزيرة الأميركية أكدت أن الولايات المتحدة ستساعد في بناء هذا البنيان الاستراتيجي كما فعلت في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية مثل الناتو وشبكة المؤسسات المالية والعسكرية والسياسية الأخرى. قالت: «حان الوقت لأن تستثمر أميركا استثماراً مماثلاً كقوة محيط هادئ».
فما هي الأهداف الاستراتيجية الأميركية في المحيط الهادئ – آسيا؟
تجيب كلينتون في مقالها إن «الحفاظ على السلم والأمن في آسيا – المحيط الهادئ يصبح حيوياً أكثر فأكثر للتقدم العالمي/ سواء من خلال الدفاع عن حرية الملاحة في بحر جنوب الصين ومواجهة جهود الانتشار النووي لكوريا الشمالية، وضمان الشفافية للنشاطات العسكرية للاعبين الرئيسيين في المنطقة».
أما هذه الاستراتيجية فستتقدم على 6 محاور عمل:
- تقوية التحالفات الثنائية الأمنية.
- تعميق علاقة العمل مع الدول الصادة بما فيها الصين.
- التواصل مع المؤسسات الإقليمية المتعددة الأطراف.
- توسيع نطاق التجارة والاستثمار.
- صوغ وجود عسكري واسع.
- دعم الديموقراطية وحقوق الإنسان.
كما تقول كلينتون إن اليابان هي حجر الأساس في السلام والاستقرار في المنطقة وإن البلدان اتفقا على ترتيبات جديدة «بما فيها مساهمة من طوكيو قيمتها 5 بلايين دولار لضمان استمرار وجود القوات الأميركية في اليابان. أما أستراليا فيجري توسيع العلاقة معها في جميع المجالات حيث مشورة أستراليا لا غنى عنها». أما الصين فتمثل «إحدى العلاقات الثنائية الأكثر تحدياً التي أدارتها الولايات المتحدة في تاريخها». وهذه تحتاج إلى سياسة متأنية وثابتة وحيوية من الولايات المتحدة، لهذا، أضافت كلينتون، «كانت الصين إحدى أبرز أولوياتي على مدى السنتين الماضيتين ولهذا بدأت مع وزير المال تيموثي غايشنر الحوار الاستراتيجي والاقتصادي معها». أما الهند فتذكّر كلينتون «أن أوباما أخبر البرلمان الهندي أن العلاقة بين الهند وأميركا ستكون واحدة من الشراكات التي ستحدد القرن الحادي والعشرين وأن أميركا تضع الرهان على مستقبل الهند وعلى الدور الأكبر الذي ستلعبه على المسرح الدولي والذي سيساهم في دعم السلام والأمن». ووسعت إدارة أوباما الشراكة الثنائية مع الهند في «الهند تتطلع إلى الشرق» بما فيها من خلال حوار ثلاثي جديد بين الهند واليابان وأميركا. كما توسع الولايات المتحدة علاقة شراكة جديدة مع أندونيسيا ثالث أكبر ديموقراطية وأكبر بلد مسلم بحسب قول الوزيرة الأميركية. وأشارت إلى أن الرئيس الأميركي سيحضر قمة شرق آسيا لأول مرة في أندونيسيا حيث عاش لفترة في صغره. إن هؤلاء هم شركاء أميركا الجدد وأسس بنيانها الاستراتيجي الجديد.
الشرق الأوسط ليس أولوية ولكن
أين هو الشرق الأوسط في استراتيجية أميركا الجديدة؟
بالتأكيد إنه ليس أولوية.
خصصت الوزيرة الأميركية فقرة من بضعة أسطر قصيرة عن الشعوب في المنطقة وليس عن الحكومات. قالت: «إن شعوب الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يخطون طريقاً جديداً له تبعات عالمية عميقة، والولايات المتحدة ملتزمة بشراكة نشطة ودائمة بينما المنطقة تشهد هذا التحول». من الواضح أن سياسة أميركا هي انتظار ما سيتمخض عنه هذا التحول. تاريخياً كان الالتزام يتركز على ثلاث قضايا أساسية للمصالح الأميركية في المنطقة وهي: النفط وإسرائيل وانتشار السلاح النووي (إيران).
هذه القضايا حيوية للولايات المتحدة ومترابطة ومن الصعب تخيّل ضعف اهتمام واشنطن بأي منها. حتى لو أرادت الولايات المتحدة أن تبتعد قليلاً وتحاول إخراج نفسها من رمال الشرق الأوسط فإن المنطقة لديها سجل تاريخي في إعادة اللاعبين الكبار إلى ساحتها وإغراقهم حتى أكثر مما كانوا فيه قبل أن يبتعدوا، فالرئيس جورج بوش مثلاً أمضى الأشهر التسعة الأولى من ولايته لا يريد أن يولي السياسة الخارجية عموماً والشرق الأوسط على وجه الخصوص أي اهتمام. كان يريد التركيز على الوضع الداخلي. بعد أحداث 11 أيلول دخلت أميركا في حربين في أفغانستان ثم في العراق ولا تزال تدفع ثمنهما يومياً من الدم والمال.
أما الآن والولايات المتحدة تحاول إيجاد طريق جديد لها لا يتخلى عن الشرق الأوسط ولكن يضع أميركا أولاً في الاعتبارات الاستراتيجية، يتجه الشرق الأوسط إلى فوهة بركان وهو بأمس الحاجة إلى استمرار قيادة أميركية ترى فيه مجالاً حيوياً، على رغم توجهاتها الجديدة.
ويدعو خبراء السياسة الخارجية الولايات المتحدة الى تحديد أولوياتها واستثمار قوتها بطريقة حكيمة بحسب قول ستيفن والت الذي كتب في مجلة «ذي ناشونال انتريست» مقالاً في عنوان: «انتهاء الحقبة الأميركية». قال فيه: «بدلاً من أن تكون الولايات المتحدة القوة التي لا يستغنى عنها في كل مكان تقريباً فهي بحاجة إلى اكتشاف كيف يمكن أن تكون قوة حاسمة في الأماكن التي لديها قيمة وتهمها أكثر من غيرها».
ويدعو للعودة إلى «الاستراتيجية الكبرى»، أي خلق توازن بعيداً عن الشطآن وهو يؤدي إلى الحفاظ على ميزان قوى بين الدول القوية في أوراسيا والدول الغنية نفطياً ويقول إن «هذه هي الوحيدة اليوم التي تستحق أن نرسل القوات الأميركية لتقاتل وتموت فيها».
ولكن بدلاً من السيطرة على هذه المناطق مباشرة يقترح والت أن يكون التوجه الأول «حمل الحلفاء المحليين على الحفاظ على ميزان القوى من أجل مصالحهم الذاتية».
بثمن رخيص
إن هذه الاستراتيجية الجديدة كما يصفها أطلق عليها بعضهم في النقاش الدائر حول الامبراطورية الأميركية اسم «امبراطورية بثمن رخيص». حيث يتحمل الحلفاء العبء على أكتافهم والولايات المتحدة تشجعهم من الخلف وتتدخل عند الحاجة. يقول والت: «بدلاً من أن نوفر لهم رحلة مجانية يجب أن نركب معهم مجاناً قدر المستطاع، ونتدخل فقط بقوات أرضية وجوية عندما تقوم قوة واحدة بالتهديد بالسيطرة على منطقة حيوية».
وهناك فريق آخر من الخبراء يتحدث عن «الحكمة في الانكماش» أي انه يجب على الولايات المتحدة أن تخفف من عبئها لكي تتحرك إلى الأمام (في مجلة «شؤون خارجية»). ويدعو هؤلاء إلى تقليص أكبر في الموازنة العسكرية وإعادة تحديد الأولويات في السياسة الخارجية الأميركية وإعادة توجيه هذه الموارد إلى حل مشاكل أميركا الداخلية.
ويرى كثيرون أن انكماش الدور الأميركي سيؤدي إلى نتائج سلبية سترتد على أميركا وأبرزها: طغيان قوى أخرى غير ديموقراطية، انخفاض التجارة، إيجاد عدم استقرار دولي، فقدان الولايات المتحدة قدرتها الردعية وحتى انقسام سياسي في واشنطن وإرسال رسالة خاطئة للحلفاء حول التزام أميركي ويقوي القوى الناشئة. لكن الذين يريدون من واشنطن ترتيب أوضاعها الاستراتيجية يستبعدون هذه النتائج ويرون على العكس أن سياسة الترشيد يمكن أن تؤدي إلى توفير متنفس للإصلاحات والتعافي الاقتصادي وزيادة المرونة الاستراتيجية.
أميركا إدارة أوباما ترتكز على استراتيجية أمن قومي تعكس توجهاً مختلفاً عن سابقاتها لجهة الرغبة في العمل مع الآخرين ومشاركة الأعباء. تقول الوثيقة الصادرة عام 2010 إن «أعباء القرن الجديد لا يمكن أن تقع على أكتاف أميركا وحدها»، «ولا يمكن لأي بلد وحده أن يواجه تحديات القرن الواحد والعشرين أو أن يملي شروطه على العالم».
إنها أميركا متواضعة تلك التي تسعى للعمل مع الآخرين، يقول الرئيس أوباما في مقدمة التقرير – الاستراتيجية: «إن الولايات المتحدة أقامت علاقات تجارية ودعمت بنياناً دولياً يتكوّن من قوانين ومؤسسات، وسال الدم الأميركي في بلاد أجنبية ليس من أجل بناء امبراطورية وإنما لكي نقوم بتشكيل عالم يقوم فيه أشخاص وأمم بتقرير مصيرهم والعيش بالسلام وبالكرامة التي يستحقون».
الرئيس أوباما يدير دفة أميركا نحو المحيط الهادئ آملاً بأن تحمل أمواجه خيرات آسيا عوضاً عن هموم الأطلسي والشرق الأوسط، فهل ينجح؟
شعاره «نعم نستطيع»، لكن تجربته في الحكم علمته أن الشعارات عبارات تمن في معظم الأحيان.
كيف تتراجع الامبراطورية الأقوى في العالم؟(1من2)..
علامتان للأزمة الأميركية: تبذير المال بعد 11 أيلول والتشدد في قوانين الهجرة
الإثنين 21 نوفمبر 2011
آمال مدللي
سألني شاب عربي خلال زيارتي المنطقة هذا الصيف أين تعيشين؟ قلت: في الولايات المتحدة. فأجاب: آه. بلاد الأحلام. فوجئت بجوابه لأنني لم أسمع عن الحلم الأميركي منذ فترة طويلة من الأميركيين. الكثيرون هنا (في واشنطن) لا يرون في أميركا بلاد الأحلام هذه الأيام. إنهم يتحدثون بحنين عن العصر الذهبي أي السبعينات والثمانينات. كما إنني لا أعتقد أن الشبان الأميركيين الذين يعيشون في مخيم نصبوه على بعد أمتار من البيت الأبيض في إطار حملة «احتلوا وول ستريت» يعتقدون أنهم يعيشون حلماً أميركياً. على العكس كل المؤشرات والكتابات التي تصدر عن الدوائر السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية بالدرجة الأولى تشير إلى أن هذا الحلم الأميركي في خطر لأول مرة في تاريخ البلاد.
أميركا تبحث عن نفسها وتسأل ماذا حدث؟ غلاف مجلة «شؤون خارجية» الرصينة يسأل: «هل انتهت أميركا؟» بينما ترى مجلة «ذي ناشيونال إنتريست» أن «الحقبة الأميركية انتهت». مجلة «السياسة الخارجية» تسأل باستغراب «ماذا أصاب أميركا؟». أما كتاب توماس فريدمان ومايكل ماندلبوم الجديد فقد اختار عنواناً فيه حسرة من فقد شيئاً عزيزاً: «هكذا كنا نحن: كيف تراجعت أميركا في العالم الذي اخترعته وكيف يمكن أن تعود».
كل النقاش والنظريات تتمحور حول تراجع الدور الأميركي في العالم وانخفاض نفوذها الاقتصادي والسياسي وتراجع قدرتها على التأثير في مجرى الأحداث الدولية. من هنا يمكن فهم ردّ الفعل الرئيسي في الإعلام الأميركي على قمة الدول العشرين في فرنسا الأسبوع الماضي. فبينما تقف أوروبا على حافة الهاوية مالياً، كان أكثر ما لفت الصحافة الأميركية أن الرئيس الأميركي باراك أوباما لم يكن في مركز الاهتمام الأول للحاضرين وللعالم.
إن الذين نظروا إلى أميركا دائماً على أنها مشروع إمبراطوري، يرون في تراجع دورها بداية لأفول هذا المشروع كما حدث مع جميع الإمبراطوريات التي سبقته. البعض يجد أوجه شبه بين وضع أميركا اليوم ووضع بريطانيا، الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، في أوائل القرن الماضي.
ولكن يشير هؤلاء إلى أن بينما كان التحدي لقوة بريطانيا اقتصادياً، فإن التحدي الأساسي للولايات المتحدة اليوم هو تحدٍّ سياسي، بالدرجة الأولى ومن ثم اقتصادي.
انقسام داخلي
فالولايات المتحدة تعيش أكبر انقسام داخلي منذ الحرب الأهلية، كما يرى البعض. ويظهر هذا الانقسام في الشلل السياسي الذي هدّد بإقفال الحكومة أكثر من مرة هذه السنة وفي جمود القرارات الكبرى بسبب الفشل في التوصل إلى تسوية ترضي الطرفين وتحافظ على العمل الحكومي بوضعه فوق الجدال السياسي. وأصبحت تسمع لأول مرة في هذه البلاد بلغة التخوين التي كنت أعتقد أنها فقط جزء من الفولكلور السياسي اللبناني. وأدى هذا الخلاف السياسي إلى نتائج مؤلمة للولايات المتحدة حيث قامت وكالة «ستاندرد آند بورز» بالتخفيض الائتماني للولايات المتحدة لأول مرة في التاريخ الأميركي. وكان لافتاً اعتبار الكثيرين قرار الوكالة الائتمانية اللجوء إلى التخفيض بعد معركة شرسة في الكونغرس بين الديموقراطيين والجمهوريين حول خفض المصروفات ورفع الضريبة لخفض عبء الدين ورفع مستوى الاستدانة، بأنه حكم على قادة البلاد، لأن الفجوة بين الأحزاب السياسية خففت من الثقة بقدرة الحكومة على إدارة ماليتها.
قالت الوكالة: إن التخفيض يعكس ضعف المؤسسات السياسية وضعف فاعليتها في اتخاذ القرار السياسي في وقت هناك تحديات مالية واقتصادية.
هذا الانقسام السياسي له تبعات أخطر على الولايات المتحدة لأنه يلقي بظلال تحجب الحلم الأميركي وتجعل إمكان الخروج من الوضع الاقتصادي الحالي أكثر صعوبة. فقدرة أي دولة عظمى أو إمبراطورية على لعب دور فاعل ومؤثر خارج حدودها يرتبط ارتباطاً مباشراً بقوتها الاقتصادية وعافية نظامها السياسي الداخلي. الولايات المتحدة اليوم لا تزال تحاول جاهدة الخروج من أزمتها الاقتصادية ولكن المؤشرات لا تطمئن الأميركي العادي ولا الرئيس باراك أوباما على وجه الخصوص، لأن الحملة الانتخابية الأميركية أصبحت على الأبواب وإعادة انتخابه لولاية ثانية تعتمد في شكل رئيسي على الوضع الاقتصادي الداخلي وليس على نجاحاته في السياسة الخارجية. وعلى رغم إشارة مساعدي الرئيس إلى نجاحات محددة مثل قتل بن لادن والعولقي وضعف تنظيم «القاعدة» خارجياً إلا أن الأميركي العادي سيصوّت بناء على لقمة عيشه وعلى مدى ثقته بالاقتصاد والسياسة الاقتصادية.
إن النظرة إلى هذا الوضع تظهر أن أميركا ليست نفسها في جميع المجالات. الوضع الاقتصادي جامد، بعض الولايات مفلس تماماً، البنية التحتية متآكلة وبحاجة إلى تجديد، ويبدو أن البلاد فقدت بوصلتها. فنسبة البطالة لا تزال تقف عند 9 في المئة أي أن هناك 13 مليون أميركي بلا عمل. وهناك 49.1 مليون أميركي تحت خط الفقر وفق آخر إحصاء أميركي أي نسبة 16 في المئة من الشعب الأميركي تعاني من الفقر.
وصل حجم الدين العام إلى 14.94 تريليون دولار أي بنسبة 99.6 في المئة من الناتج الإجمالي المحلي GDP أما قيمة الدين الذي يملكه أجانب فهو 4.45 تريليون، أي حوالى 47 في المئة من الدين الذي يملكه القطاع العام، و32 في المئة من الدين الذي يملكه الآخرون أي 9.49 تريليون.
وحتى شهر أيار (مايو) الماضي كانت الصين أكبر حامل للدين الأميركي بنسبة 36 في المئة من كل الدين الأجنبي.
ويرى جو باكر في مجلة «فورين أفيرز» (شؤون خارجية) أن عدم المساواة في أميركا أصل مشاكل أميركا. يقول إنه بين 1979 و2006 ارتفع مدخول الطبقة الوسطى بنسبة 21 في المئة سنوياً. وارتفع مدخول الفقراء الأميركيين 11 في المئة بينما ارتفع مدخول واحد في المئة وهي الطبقة الغنية الأميركية بنسبة 256 في المئة في الفترة نفسها. ورأى أن الحكومة لديها سياسة تفضيلية للأغنياء: «وأن عدم المساواة يحوّل المجتمع إلى نظام طبقي ويسجن الناس في الظروف التي ولدوا فيها وهذا منافٍ لفكرة الحلم الأميركي».
وأدت الأزمة الاقتصادية إلى خفض المصروفات في جميع الحقول ولكن التخفيض الأكثر إيذاء لأميركا وفكرة أميركا وتفوقها في العالم كان في مجال موازنة التكنولوجيا والأبحاث والفضاء. إن إلغاء برنامج المكوك الفضائي لأسباب مادية كان أهم رمز لهذا التراجع الأميركي. فالمكوك أقفل حقبة من تاريخ استكشاف الفضاء الذي كانت أميركا رائدته بلا منازع. كان المكوك الفضائي انعكاساً لعظمة أميركا ولصورتها الفضلى عندما كانت الأولى في العالم في كل شيء.
يقول توماس فريدمان في كتابه الجديد، إن أميركا تفكر بطريقة محدودة الآن. ففي الوقت الذي تزداد أهمية المعرفة ويصبح الاستثمار في الأبحاث والتطوير أولوية ملحّة تخفض أميركا دعمها وتمويلها لهذا القطاع. يذكر أن هذا التمويل انخفض 60 في المئة خلال 40 سنة كجزء من الناتج القومي المحلي. ويقارن بين ما صرفه المستهلك الأميركي عام 2009 على رقائق البطاطا (7.1 بليون دولار) وما صرفته الحكومة الأميركية على الأبحاث والتطوير (5.1 بليون).
إصلاح قطاع التربية
ويجمع المحللون هنا والسياسيون على أن المشكلة الأكبر هي في قطاع التربية الأميركي الذي هو بحاجة الى إصلاح شامل. وبعدما يقول فريدمان إن في هذا القرن «العلم هو أساس القوة الاقتصادية والقوة الاقتصادية هي أساس دور البلاد الحيوي الذي لا يمكن الاستغناء عنه في العالم»، يورد قولاً لدوق إلنغتون «إن معركة واترلو (1815) جرى تحقيق الانتصار فيها في ملاعب مدرسة إيتون» (المدرسة الخاصة الشهيرة في بريطانيا حيث تدرّس النخبة البريطانية)، ويسرد فريدمان بحزن كيف أن 51 في المئة من براءات الاختراع التي سُجلت في أميركا عام 2009 كانت لشركات غير أميركية، وثلثي المهندسين الذين ينالون شهادة الدكتوراه من الجامعات الأميركية ليسوا أميركيين.
لكن على رغم الاعتراف بأن هناك مشكلة في الولايات المتحدة اليوم، إلا أن الإجماع أيضاً هو أن التراجع قرار وليس مصيراً. إن المشكلة هي نحن، يقول فريدمان: «والحل هو نحن». المشكلة الداخلية تتعلق بثلاثة عقود من السياسات الاقتصادية ومن التحوّل السياسي التي أدت إلى الأزمة المالية عام 2008 وإلى انقسام سياسي حاد في المجتمع. ولكن خارجياً المشكلة بدأت وفق خبراء السياسة الخارجية عندما تمدّدت الولايات المتحدة في الخارج أكثر من قدرتها ففتحت جبهتين في أفغانستان والعراق، إضافة إلى فتح جبهة عالمية وداخلية على الإرهاب جففت الموارد الأميركية وأدت إلى سياسات داخلية خصوصاً في مجال الهجرة، أدت الى إقفال أبواب أميركا أمام الدم الجديد والمواهب الجديدة في المجتمع الأميركي. فعلى مدى مئتي عام كان الجسد الأميركي يتجدّد يومياً بوصول أفضل العقول والمواهب من حول العالم للعلم والدراسة والأبحاث والعمل.
في سيرة حياة ستيف جوبز صاحب شركة «آبل» انه كان يجلس إلى جانب الرئيس الأميركي في عشاء لأبرز رؤساء شركات سيليكون فالي (شركات تكنولوجيا المعلومات الأميركية) مثل «غوغل» و «سيسكو» و «أوركيل». أخبر جوبز الرئيس أن شركة «آبل» توظّف 700 ألف عامل في مصانعها في الصين لأنها لا تستطيع أن تجد 30 ألف مهندس في الولايات المتحدة تحتاج لهم في مصانعها. واقترح جوبز على الرئيس منح طلاب الهندسة الذين يأتون للدراسة في أميركا الجنسية الأميركية، وقال: «إذا استطعت أن تخرِّج هؤلاء المهندسين يمكن أن ننقل المزيد من أعمال التصنيع إلى أميركا. فوجئ جوبز، وفق المقال، بقول الرئيس إنه يجب الانتظار حتى التوصل إلى إصلاح أوسع لنظام الهجرة لأنه غير قادر على تحقيقه.
الواقع أن الخلاف الداخلي حول موضوع الهجرة والتشديد على إقفال الباب على سياسات الهجرة المرنة التي كانت موجودة في الولايات المتحدة وأدت إلى حيوية المجتمع الأميركي وعظمة أميركا هي أحد أبرز أسباب التراجع الأميركي.
النظر إلى لائحة الأميركيين الذين فازوا بجائزة نوبل هذه السنة هو أفضل مثال على ذلك. فقد نال ستة أميركيين جائزة نوبل في الطب والفيزياء، أربعة منهم ولدوا خارج أميركا وهاجروا إلى الولايات المتحدة.
المشكلة الأخرى والتي تتعلق في شكل عضوي بتضييق باب الهجرة هي ردّ فعل الولايات المتحدة القوي والمفرط، على أحداث 11 أيلول (سبتمبر).
يرى فريدمان أن الولايات المتحدة خصصت من الموارد ورأس المال السياسي أكثر من اللازم لمحاربة الإرهاب على رغم أهميته. وقامت بمهمة «بناء البلاد» في العراق وأفغانستان وهذا أدى إلى تراكم العجز والدين. وكان من الواضح أن العقلاء في الإدارات الأميركية المتعاقبة لاحظوا هذا الأمر. ونُقل عن وزير الدفاع السابق روبرت غيتس وهو يعلن التخفيض في موازنة الدفاع قبل تركه منصبَه: «أصبحت المؤسسات الدفاعية الأميركية معتادة على العقد الذي تلى 9/11 حيث لا أحد طرح أسئلة عن طلبات التمويل ما شجع ثقافة التبذير وعدم الفاعلية التي شبهها بنظام شبه إقطاعي. (في «شؤون خارجية»: حكمة الانكماش).
فترة ما بعد 11 أيلول جعلت من الصعب على كثيرين ليس فقط المجيء إلى أميركا للدراسة والهجرة بل حتى للزيارة وهذا أثّر أيضاً في قطاع السياحة والتبادل. فالهوس بالهمّ الأمني غيّر الشخصية الأميركية المنفتحة وخلق جواً من الخوف والريبة من الأجنبي وخصوصاً من أبناء الشرق الأوسط. إضافة إلى بلايين الدولارات التي صرفت على الأمن الداخلي والتي كان يمكن أن تصرف على التربية أو إعادة تأهيل الطرق والمطارات والجسور، والأهم على التكنولوجيا والعلوم التي كانت دائماً تداعب خيال العالم عندما يفكّر بأميركا.
هذه الصورة الداخلية أدت إلى نقاش سياسي في الدوائر الأميركية حول السياسة الخارجية ودور أميركا الحيوي في العالم وما إذا كان القرن الحادي والعشرون سيكون أميركياً كما كان القرن العشرون. وتظهر الإحصاءات أن عدد الأميركيين الذين يؤمنون بتراجع الدور الأميركي في العالم يتزايد. هناك تيارات عدة تشكّل هذا النقاش. وهي تصطّف اصطفافات سياسية. الجمهوريون يلومون الرئيس أوباما طبعاً على تراجع الدور الأميركي ويتهمونه بأنه لا يؤمن «باستثنائية» أميركا. ولكن هذا ليس جوهر النقاش. يتمحور هذا الجوهر في الدوائر السياسية والفكرية حول كيفية استعادة هذا الدور في العالم في ظل ضعف اقتصادي داخلي وانقسام سياسي.
يجمع طرفا النقاش على أن الولايات المتحدة في حاجة إلى إعادة التموضع الاستراتيجي، وتحديد الأولويات: الاقتصاد وترتيب البيت الداخلي وخفض المصروفات خصوصاً الدفاعية ونقل عبء الحمل العسكري حول العالم من أكتافها إلى أكتاف حلفائها.
نحو الانكماش
هذا التحوّل السياسي الخارجي الذي يسميه بعضهم «بضرورة الانكماش»، بينما يطلق عليه البعض الآخر «إعادة التوازن» كان يمكن أن تجد له الإدارة وصفاً استراتيجياً يدعم فلسفتها القائمة على مشاركة الأعباء مع الحلفاء ولكن مع الأسف أصبح استخدام مسؤول أميركي عبارة «القيادة من الخلف» نقطة ضعف في استراتيجية الإدارة الخارجية. والآن أصبحت هذه العبارة أكثر العبارات شعبية لدى منتقدي سياسة الرئيس أوباما الخارجية. لكن على أرض الواقع يشير المسؤولون الأميركيون إلى نجاح هذا التوجه خصوصاً في ليبيا حيث تركت الولايات المتحدة الساحة لفرنسا و الـ «ناتو» ليقودا العملية ودعمت الاثنين من الخلف.
الداعون إلى قيادة أميركية فاعلة يعتبرون أن هذا تخلٍّ عن القيادة الأميركية في العالم وله أخطار لأنه يشجع قوى إقليمية على تحدي أميركا ويضعف ثقة الحلفاء بواشنطن.
مستشار الأمن القومي الأميركي السابق زبغنيو بريجنسكي والذي يعتبر من أبرز المحللين الاستراتيجيين في أميركا قال إن الموقف الأميركي أصبح معزولاً في المنظمات الدولية، مشيراً إلى التصويت على عضوية فلسطين في منظمة «يونيسكو» وقال إن هذه شهادة سلبية على القيادة الأميركية.
وأشار إلى أن أميركا عندما أتت إدارة الرئيس جيمي كارتر، التي عمل فيها، إلى الحكم كانت لديها أربع دول حليفة قوية في منطقة الشرق الأوسط وهي: إيران والسعودية ومصر وتركيا، وقال: «انظروا إلى علاقاتنا بهذه الدول اليوم»!
ويرى آخرون أن فشل الإدارة الأميركية في حل النزاع العربي - الإسرائيلي وحتى إحراز تقدم، مؤشر آخر على تقلّص النفوذ الأميركي في المنطقة.
أما الواقعيون في مناقشة السياسة الخارجية الأميركية، فيشيرون إلى تغير العالم ويدعون الولايات المتحدة إلى اللجوء إلى سياسة تعدد الأطراف القائمة على العمل والتعاون مع أطراف إقليمية ودولية لحل الأزمات. قال لي مسؤول أميركي سابق بارز: «لا نستطيع اليوم أن نقوم بالكثير من دون تعاون البلدان الأخرى. إن قوتنا ضعفت نسبياً لأن طبيعة النظام العالمي تغيّرت. هناك انتشار أكثر للقوة. إن نفوذنا في الشرق الأوسط تغير ولكنه لم يتراجع». مشيراً إلى أن الذي أثّر في دور أميركا في الشرق الأوسط هو علاقتها بإسرائيل. ورأى أن النفوذ الأميركي في المنطقة يمكن أن يزداد بسبب الربيع العربي إذا تغيرت أنظمة الحكم في المنطقة وأصبحت أكثر ديموقراطية لأن ذلك يعني أنها ستجد المزيد من القيم المشتركة مع أميركا.
وهناك فريق آخر في هذا النقاش يقوده فريد زكريا يقول إن الأمر ليس أن نفوذ أميركا ضعف وإنما نفوذ دول أخرى وقوتها ازدادا. إن هذه القوى الصاعدة التي تتحدى النفوذ الأميركي اليوم هي الصين والهند والبرازيل الدول التي تتمتع باقتصاد قوي وقوى ذاتية واسعة. إن نشوء هذه القوى الجديدة ينهي العالم الأحادي ولحظته التاريخية التي بدأت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ونصبت الولايات المتحدة قائداً للعالم. وقوة هذه الدول الصاعدة هي في اتباعها سياسة «الاحتواء» للدور الأميركي عبر تحديه وفرض قواعد عمل جديدة في النظام العالمي. وإقفال مجلس الأمن في وجه أي قرار يدين النظام السوري بسبب العنف غير المسبوق الذي يمارسه ضد الشعب السوري، من قبل دول «بريكس» (روسيا، الصين، جنوب أفريقيا والهند) هو أفضل مثال على ذلك. ومن بين الدول الصاعدة تمثل الصين التحدي الأكبر للولايات المتحدة وسياستها الخارجية. فالصين قوة اقتصادية كبرى اليوم وتنافس الولايات المتحدة في جميع أنحاء العالم ومنها أفريقيا والشرق الأوسط.
صعود الصين أبرز التحديات الاستراتيجية لواشنطن وهناك شبه هوس في الولايات المتحدة بكيفية التعامل مع صعود نجم بكين، خصوصاً أنها الشريك التجاري الثالث لأميركا وتحتل المرتبة الأولى بين الدول التي تدين الولايات المتحدة لها. ولكن الكثيرين يقولون إن الصين ليست مشكلة أميركا. إن مشكلة أميركا داخلية. توم فريدمان مثلاً يقول إن «الصين مرآة. إننا في الحقيقة نتحدث عن أنفسنا وعن خسارتنا ثقتنا بأنفسنا. نرى في الصينيين بعض الصفات التي كنا نتمتع بها مرة وكانت تعرّف من نحن كأمة والتي يبدو أننا فقدناها».
ما الحل؟
الحل في أن تعيد أميركا صوغ بنيتها الداخلية بالتوصل إلى إجماع يذكِّر بما كان سبب قوة أميركا وتفوقها. وخارجياً عبر العمل لإعادة بناء استراتيجي عالمي يأخذ في الاعتبار التغيرات الجديدة في العالم ويبني على عوامل القوة الأميركية ويقوم نظام عالمي جديد يشبه القرن الحادي والعشرين وليس القرن الماضي.
هناك شبه إجماع على أن أميركا ستتعافى وستستعيد قوتها الاقتصادية ونفوذها السياسي في الخارج بعد أن تضمن وحدة داخلية حول فكرة أميركا «المدينة فوق الجبل» التي يتطلع إليها العالم بإعجاب واحترام كما فعل من قبل. خبراء السياسة الخارجية يرون أن أميركا لا تزال تتمتع بقوة بنيوية هائلة ولكنها تحتاج إلى قرار لكي تعيد تصويب وجهتها نحو مستقبل أفضل. يشير فريد زكريا في كتابه «عالم ما بعد أميركا»، إلى أن الاقتصاد الأميركي هو الأكبر في العالم باستمرار منذ 1880. وهذا الاقتصاد وفق التقديرات سيبقى حتى عام 2025 أكبر من الاقتصاد الصيني بمرتين من الناتج المحلي الاسمي، والقوات العسكرية الأميركية لا تزال تسيطر في جميع المجالات ولا تزال تصرف على أبحاث الدفاع والتطوير، على رغم التخفيض، أكثر من العالم مجتمعاً. ويرى هؤلاء أن دينامية أميركا والحرية الفردية والجامعات الأميركية التي لا تزال الأفضل في العالم والتكنولوجيا الأميركية من «آي فون» إلى «فايسبوك» والماركة الأميركية لا تزال وفق الاستفتاءات الأولى في العالم.
أميركا التي عرفها العالم لا تزال موجودة ولكنها بحاجة إلى إعادة اكتشاف نفسها كما يقول توم فريدمان أو إلى استراتيجية جديدة.
وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون شددت في مقال كتبته في «فورين بوليسي» عن مستقبل الدور الأميركي واستراتيجية الولايات المتحدة للقرن الحادي والعشرين»، على أن العالم ما زال يحتاج إلى قيادة أميركا. قالت: «أسمع في كل مكان أن العالم يتطلع إلى أميركا وقيادتها». وقدمت تحليلاً متفائلاً للقوة الأميركية. قالت إن «قواتنا المسلحة هي الأقوى واقتصادنا هو الأكبر في العالم، وعمالنا الأكثر إنتاجاً وسمعة جامعاتنا واسعة حول العالم». وأكدت أن لا يجب «أن يكون هناك أدنى شك في قدرة الولايات المتحدة على ضمان واستمرار قيادتنا العالمية في هذا القرن كما فعلنا في القرن الماضي».
ولكن، بينما كان القرن الماضي قرناً أميركياً - أطلسياً، يبدو أن الولايات المتحدة حسمت أمرها بجعل القرن الحادي والعشرين قرناً أميركياً باسيفيكياً (نسبة إلى المحيط الهادي). أميركا تتطلع هذه المرة نحو آسيا لتستشرف مستقبلها.
الإثنين 21 نوفمبر 2011
آمال مدللي
سألني شاب عربي خلال زيارتي المنطقة هذا الصيف أين تعيشين؟ قلت: في الولايات المتحدة. فأجاب: آه. بلاد الأحلام. فوجئت بجوابه لأنني لم أسمع عن الحلم الأميركي منذ فترة طويلة من الأميركيين. الكثيرون هنا (في واشنطن) لا يرون في أميركا بلاد الأحلام هذه الأيام. إنهم يتحدثون بحنين عن العصر الذهبي أي السبعينات والثمانينات. كما إنني لا أعتقد أن الشبان الأميركيين الذين يعيشون في مخيم نصبوه على بعد أمتار من البيت الأبيض في إطار حملة «احتلوا وول ستريت» يعتقدون أنهم يعيشون حلماً أميركياً. على العكس كل المؤشرات والكتابات التي تصدر عن الدوائر السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية بالدرجة الأولى تشير إلى أن هذا الحلم الأميركي في خطر لأول مرة في تاريخ البلاد.
أميركا تبحث عن نفسها وتسأل ماذا حدث؟ غلاف مجلة «شؤون خارجية» الرصينة يسأل: «هل انتهت أميركا؟» بينما ترى مجلة «ذي ناشيونال إنتريست» أن «الحقبة الأميركية انتهت». مجلة «السياسة الخارجية» تسأل باستغراب «ماذا أصاب أميركا؟». أما كتاب توماس فريدمان ومايكل ماندلبوم الجديد فقد اختار عنواناً فيه حسرة من فقد شيئاً عزيزاً: «هكذا كنا نحن: كيف تراجعت أميركا في العالم الذي اخترعته وكيف يمكن أن تعود».
كل النقاش والنظريات تتمحور حول تراجع الدور الأميركي في العالم وانخفاض نفوذها الاقتصادي والسياسي وتراجع قدرتها على التأثير في مجرى الأحداث الدولية. من هنا يمكن فهم ردّ الفعل الرئيسي في الإعلام الأميركي على قمة الدول العشرين في فرنسا الأسبوع الماضي. فبينما تقف أوروبا على حافة الهاوية مالياً، كان أكثر ما لفت الصحافة الأميركية أن الرئيس الأميركي باراك أوباما لم يكن في مركز الاهتمام الأول للحاضرين وللعالم.
إن الذين نظروا إلى أميركا دائماً على أنها مشروع إمبراطوري، يرون في تراجع دورها بداية لأفول هذا المشروع كما حدث مع جميع الإمبراطوريات التي سبقته. البعض يجد أوجه شبه بين وضع أميركا اليوم ووضع بريطانيا، الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، في أوائل القرن الماضي.
ولكن يشير هؤلاء إلى أن بينما كان التحدي لقوة بريطانيا اقتصادياً، فإن التحدي الأساسي للولايات المتحدة اليوم هو تحدٍّ سياسي، بالدرجة الأولى ومن ثم اقتصادي.
انقسام داخلي
فالولايات المتحدة تعيش أكبر انقسام داخلي منذ الحرب الأهلية، كما يرى البعض. ويظهر هذا الانقسام في الشلل السياسي الذي هدّد بإقفال الحكومة أكثر من مرة هذه السنة وفي جمود القرارات الكبرى بسبب الفشل في التوصل إلى تسوية ترضي الطرفين وتحافظ على العمل الحكومي بوضعه فوق الجدال السياسي. وأصبحت تسمع لأول مرة في هذه البلاد بلغة التخوين التي كنت أعتقد أنها فقط جزء من الفولكلور السياسي اللبناني. وأدى هذا الخلاف السياسي إلى نتائج مؤلمة للولايات المتحدة حيث قامت وكالة «ستاندرد آند بورز» بالتخفيض الائتماني للولايات المتحدة لأول مرة في التاريخ الأميركي. وكان لافتاً اعتبار الكثيرين قرار الوكالة الائتمانية اللجوء إلى التخفيض بعد معركة شرسة في الكونغرس بين الديموقراطيين والجمهوريين حول خفض المصروفات ورفع الضريبة لخفض عبء الدين ورفع مستوى الاستدانة، بأنه حكم على قادة البلاد، لأن الفجوة بين الأحزاب السياسية خففت من الثقة بقدرة الحكومة على إدارة ماليتها.
قالت الوكالة: إن التخفيض يعكس ضعف المؤسسات السياسية وضعف فاعليتها في اتخاذ القرار السياسي في وقت هناك تحديات مالية واقتصادية.
هذا الانقسام السياسي له تبعات أخطر على الولايات المتحدة لأنه يلقي بظلال تحجب الحلم الأميركي وتجعل إمكان الخروج من الوضع الاقتصادي الحالي أكثر صعوبة. فقدرة أي دولة عظمى أو إمبراطورية على لعب دور فاعل ومؤثر خارج حدودها يرتبط ارتباطاً مباشراً بقوتها الاقتصادية وعافية نظامها السياسي الداخلي. الولايات المتحدة اليوم لا تزال تحاول جاهدة الخروج من أزمتها الاقتصادية ولكن المؤشرات لا تطمئن الأميركي العادي ولا الرئيس باراك أوباما على وجه الخصوص، لأن الحملة الانتخابية الأميركية أصبحت على الأبواب وإعادة انتخابه لولاية ثانية تعتمد في شكل رئيسي على الوضع الاقتصادي الداخلي وليس على نجاحاته في السياسة الخارجية. وعلى رغم إشارة مساعدي الرئيس إلى نجاحات محددة مثل قتل بن لادن والعولقي وضعف تنظيم «القاعدة» خارجياً إلا أن الأميركي العادي سيصوّت بناء على لقمة عيشه وعلى مدى ثقته بالاقتصاد والسياسة الاقتصادية.
إن النظرة إلى هذا الوضع تظهر أن أميركا ليست نفسها في جميع المجالات. الوضع الاقتصادي جامد، بعض الولايات مفلس تماماً، البنية التحتية متآكلة وبحاجة إلى تجديد، ويبدو أن البلاد فقدت بوصلتها. فنسبة البطالة لا تزال تقف عند 9 في المئة أي أن هناك 13 مليون أميركي بلا عمل. وهناك 49.1 مليون أميركي تحت خط الفقر وفق آخر إحصاء أميركي أي نسبة 16 في المئة من الشعب الأميركي تعاني من الفقر.
وصل حجم الدين العام إلى 14.94 تريليون دولار أي بنسبة 99.6 في المئة من الناتج الإجمالي المحلي GDP أما قيمة الدين الذي يملكه أجانب فهو 4.45 تريليون، أي حوالى 47 في المئة من الدين الذي يملكه القطاع العام، و32 في المئة من الدين الذي يملكه الآخرون أي 9.49 تريليون.
وحتى شهر أيار (مايو) الماضي كانت الصين أكبر حامل للدين الأميركي بنسبة 36 في المئة من كل الدين الأجنبي.
ويرى جو باكر في مجلة «فورين أفيرز» (شؤون خارجية) أن عدم المساواة في أميركا أصل مشاكل أميركا. يقول إنه بين 1979 و2006 ارتفع مدخول الطبقة الوسطى بنسبة 21 في المئة سنوياً. وارتفع مدخول الفقراء الأميركيين 11 في المئة بينما ارتفع مدخول واحد في المئة وهي الطبقة الغنية الأميركية بنسبة 256 في المئة في الفترة نفسها. ورأى أن الحكومة لديها سياسة تفضيلية للأغنياء: «وأن عدم المساواة يحوّل المجتمع إلى نظام طبقي ويسجن الناس في الظروف التي ولدوا فيها وهذا منافٍ لفكرة الحلم الأميركي».
وأدت الأزمة الاقتصادية إلى خفض المصروفات في جميع الحقول ولكن التخفيض الأكثر إيذاء لأميركا وفكرة أميركا وتفوقها في العالم كان في مجال موازنة التكنولوجيا والأبحاث والفضاء. إن إلغاء برنامج المكوك الفضائي لأسباب مادية كان أهم رمز لهذا التراجع الأميركي. فالمكوك أقفل حقبة من تاريخ استكشاف الفضاء الذي كانت أميركا رائدته بلا منازع. كان المكوك الفضائي انعكاساً لعظمة أميركا ولصورتها الفضلى عندما كانت الأولى في العالم في كل شيء.
يقول توماس فريدمان في كتابه الجديد، إن أميركا تفكر بطريقة محدودة الآن. ففي الوقت الذي تزداد أهمية المعرفة ويصبح الاستثمار في الأبحاث والتطوير أولوية ملحّة تخفض أميركا دعمها وتمويلها لهذا القطاع. يذكر أن هذا التمويل انخفض 60 في المئة خلال 40 سنة كجزء من الناتج القومي المحلي. ويقارن بين ما صرفه المستهلك الأميركي عام 2009 على رقائق البطاطا (7.1 بليون دولار) وما صرفته الحكومة الأميركية على الأبحاث والتطوير (5.1 بليون).
إصلاح قطاع التربية
ويجمع المحللون هنا والسياسيون على أن المشكلة الأكبر هي في قطاع التربية الأميركي الذي هو بحاجة الى إصلاح شامل. وبعدما يقول فريدمان إن في هذا القرن «العلم هو أساس القوة الاقتصادية والقوة الاقتصادية هي أساس دور البلاد الحيوي الذي لا يمكن الاستغناء عنه في العالم»، يورد قولاً لدوق إلنغتون «إن معركة واترلو (1815) جرى تحقيق الانتصار فيها في ملاعب مدرسة إيتون» (المدرسة الخاصة الشهيرة في بريطانيا حيث تدرّس النخبة البريطانية)، ويسرد فريدمان بحزن كيف أن 51 في المئة من براءات الاختراع التي سُجلت في أميركا عام 2009 كانت لشركات غير أميركية، وثلثي المهندسين الذين ينالون شهادة الدكتوراه من الجامعات الأميركية ليسوا أميركيين.
لكن على رغم الاعتراف بأن هناك مشكلة في الولايات المتحدة اليوم، إلا أن الإجماع أيضاً هو أن التراجع قرار وليس مصيراً. إن المشكلة هي نحن، يقول فريدمان: «والحل هو نحن». المشكلة الداخلية تتعلق بثلاثة عقود من السياسات الاقتصادية ومن التحوّل السياسي التي أدت إلى الأزمة المالية عام 2008 وإلى انقسام سياسي حاد في المجتمع. ولكن خارجياً المشكلة بدأت وفق خبراء السياسة الخارجية عندما تمدّدت الولايات المتحدة في الخارج أكثر من قدرتها ففتحت جبهتين في أفغانستان والعراق، إضافة إلى فتح جبهة عالمية وداخلية على الإرهاب جففت الموارد الأميركية وأدت إلى سياسات داخلية خصوصاً في مجال الهجرة، أدت الى إقفال أبواب أميركا أمام الدم الجديد والمواهب الجديدة في المجتمع الأميركي. فعلى مدى مئتي عام كان الجسد الأميركي يتجدّد يومياً بوصول أفضل العقول والمواهب من حول العالم للعلم والدراسة والأبحاث والعمل.
في سيرة حياة ستيف جوبز صاحب شركة «آبل» انه كان يجلس إلى جانب الرئيس الأميركي في عشاء لأبرز رؤساء شركات سيليكون فالي (شركات تكنولوجيا المعلومات الأميركية) مثل «غوغل» و «سيسكو» و «أوركيل». أخبر جوبز الرئيس أن شركة «آبل» توظّف 700 ألف عامل في مصانعها في الصين لأنها لا تستطيع أن تجد 30 ألف مهندس في الولايات المتحدة تحتاج لهم في مصانعها. واقترح جوبز على الرئيس منح طلاب الهندسة الذين يأتون للدراسة في أميركا الجنسية الأميركية، وقال: «إذا استطعت أن تخرِّج هؤلاء المهندسين يمكن أن ننقل المزيد من أعمال التصنيع إلى أميركا. فوجئ جوبز، وفق المقال، بقول الرئيس إنه يجب الانتظار حتى التوصل إلى إصلاح أوسع لنظام الهجرة لأنه غير قادر على تحقيقه.
الواقع أن الخلاف الداخلي حول موضوع الهجرة والتشديد على إقفال الباب على سياسات الهجرة المرنة التي كانت موجودة في الولايات المتحدة وأدت إلى حيوية المجتمع الأميركي وعظمة أميركا هي أحد أبرز أسباب التراجع الأميركي.
النظر إلى لائحة الأميركيين الذين فازوا بجائزة نوبل هذه السنة هو أفضل مثال على ذلك. فقد نال ستة أميركيين جائزة نوبل في الطب والفيزياء، أربعة منهم ولدوا خارج أميركا وهاجروا إلى الولايات المتحدة.
المشكلة الأخرى والتي تتعلق في شكل عضوي بتضييق باب الهجرة هي ردّ فعل الولايات المتحدة القوي والمفرط، على أحداث 11 أيلول (سبتمبر).
يرى فريدمان أن الولايات المتحدة خصصت من الموارد ورأس المال السياسي أكثر من اللازم لمحاربة الإرهاب على رغم أهميته. وقامت بمهمة «بناء البلاد» في العراق وأفغانستان وهذا أدى إلى تراكم العجز والدين. وكان من الواضح أن العقلاء في الإدارات الأميركية المتعاقبة لاحظوا هذا الأمر. ونُقل عن وزير الدفاع السابق روبرت غيتس وهو يعلن التخفيض في موازنة الدفاع قبل تركه منصبَه: «أصبحت المؤسسات الدفاعية الأميركية معتادة على العقد الذي تلى 9/11 حيث لا أحد طرح أسئلة عن طلبات التمويل ما شجع ثقافة التبذير وعدم الفاعلية التي شبهها بنظام شبه إقطاعي. (في «شؤون خارجية»: حكمة الانكماش).
فترة ما بعد 11 أيلول جعلت من الصعب على كثيرين ليس فقط المجيء إلى أميركا للدراسة والهجرة بل حتى للزيارة وهذا أثّر أيضاً في قطاع السياحة والتبادل. فالهوس بالهمّ الأمني غيّر الشخصية الأميركية المنفتحة وخلق جواً من الخوف والريبة من الأجنبي وخصوصاً من أبناء الشرق الأوسط. إضافة إلى بلايين الدولارات التي صرفت على الأمن الداخلي والتي كان يمكن أن تصرف على التربية أو إعادة تأهيل الطرق والمطارات والجسور، والأهم على التكنولوجيا والعلوم التي كانت دائماً تداعب خيال العالم عندما يفكّر بأميركا.
هذه الصورة الداخلية أدت إلى نقاش سياسي في الدوائر الأميركية حول السياسة الخارجية ودور أميركا الحيوي في العالم وما إذا كان القرن الحادي والعشرون سيكون أميركياً كما كان القرن العشرون. وتظهر الإحصاءات أن عدد الأميركيين الذين يؤمنون بتراجع الدور الأميركي في العالم يتزايد. هناك تيارات عدة تشكّل هذا النقاش. وهي تصطّف اصطفافات سياسية. الجمهوريون يلومون الرئيس أوباما طبعاً على تراجع الدور الأميركي ويتهمونه بأنه لا يؤمن «باستثنائية» أميركا. ولكن هذا ليس جوهر النقاش. يتمحور هذا الجوهر في الدوائر السياسية والفكرية حول كيفية استعادة هذا الدور في العالم في ظل ضعف اقتصادي داخلي وانقسام سياسي.
يجمع طرفا النقاش على أن الولايات المتحدة في حاجة إلى إعادة التموضع الاستراتيجي، وتحديد الأولويات: الاقتصاد وترتيب البيت الداخلي وخفض المصروفات خصوصاً الدفاعية ونقل عبء الحمل العسكري حول العالم من أكتافها إلى أكتاف حلفائها.
نحو الانكماش
هذا التحوّل السياسي الخارجي الذي يسميه بعضهم «بضرورة الانكماش»، بينما يطلق عليه البعض الآخر «إعادة التوازن» كان يمكن أن تجد له الإدارة وصفاً استراتيجياً يدعم فلسفتها القائمة على مشاركة الأعباء مع الحلفاء ولكن مع الأسف أصبح استخدام مسؤول أميركي عبارة «القيادة من الخلف» نقطة ضعف في استراتيجية الإدارة الخارجية. والآن أصبحت هذه العبارة أكثر العبارات شعبية لدى منتقدي سياسة الرئيس أوباما الخارجية. لكن على أرض الواقع يشير المسؤولون الأميركيون إلى نجاح هذا التوجه خصوصاً في ليبيا حيث تركت الولايات المتحدة الساحة لفرنسا و الـ «ناتو» ليقودا العملية ودعمت الاثنين من الخلف.
الداعون إلى قيادة أميركية فاعلة يعتبرون أن هذا تخلٍّ عن القيادة الأميركية في العالم وله أخطار لأنه يشجع قوى إقليمية على تحدي أميركا ويضعف ثقة الحلفاء بواشنطن.
مستشار الأمن القومي الأميركي السابق زبغنيو بريجنسكي والذي يعتبر من أبرز المحللين الاستراتيجيين في أميركا قال إن الموقف الأميركي أصبح معزولاً في المنظمات الدولية، مشيراً إلى التصويت على عضوية فلسطين في منظمة «يونيسكو» وقال إن هذه شهادة سلبية على القيادة الأميركية.
وأشار إلى أن أميركا عندما أتت إدارة الرئيس جيمي كارتر، التي عمل فيها، إلى الحكم كانت لديها أربع دول حليفة قوية في منطقة الشرق الأوسط وهي: إيران والسعودية ومصر وتركيا، وقال: «انظروا إلى علاقاتنا بهذه الدول اليوم»!
ويرى آخرون أن فشل الإدارة الأميركية في حل النزاع العربي - الإسرائيلي وحتى إحراز تقدم، مؤشر آخر على تقلّص النفوذ الأميركي في المنطقة.
أما الواقعيون في مناقشة السياسة الخارجية الأميركية، فيشيرون إلى تغير العالم ويدعون الولايات المتحدة إلى اللجوء إلى سياسة تعدد الأطراف القائمة على العمل والتعاون مع أطراف إقليمية ودولية لحل الأزمات. قال لي مسؤول أميركي سابق بارز: «لا نستطيع اليوم أن نقوم بالكثير من دون تعاون البلدان الأخرى. إن قوتنا ضعفت نسبياً لأن طبيعة النظام العالمي تغيّرت. هناك انتشار أكثر للقوة. إن نفوذنا في الشرق الأوسط تغير ولكنه لم يتراجع». مشيراً إلى أن الذي أثّر في دور أميركا في الشرق الأوسط هو علاقتها بإسرائيل. ورأى أن النفوذ الأميركي في المنطقة يمكن أن يزداد بسبب الربيع العربي إذا تغيرت أنظمة الحكم في المنطقة وأصبحت أكثر ديموقراطية لأن ذلك يعني أنها ستجد المزيد من القيم المشتركة مع أميركا.
وهناك فريق آخر في هذا النقاش يقوده فريد زكريا يقول إن الأمر ليس أن نفوذ أميركا ضعف وإنما نفوذ دول أخرى وقوتها ازدادا. إن هذه القوى الصاعدة التي تتحدى النفوذ الأميركي اليوم هي الصين والهند والبرازيل الدول التي تتمتع باقتصاد قوي وقوى ذاتية واسعة. إن نشوء هذه القوى الجديدة ينهي العالم الأحادي ولحظته التاريخية التي بدأت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ونصبت الولايات المتحدة قائداً للعالم. وقوة هذه الدول الصاعدة هي في اتباعها سياسة «الاحتواء» للدور الأميركي عبر تحديه وفرض قواعد عمل جديدة في النظام العالمي. وإقفال مجلس الأمن في وجه أي قرار يدين النظام السوري بسبب العنف غير المسبوق الذي يمارسه ضد الشعب السوري، من قبل دول «بريكس» (روسيا، الصين، جنوب أفريقيا والهند) هو أفضل مثال على ذلك. ومن بين الدول الصاعدة تمثل الصين التحدي الأكبر للولايات المتحدة وسياستها الخارجية. فالصين قوة اقتصادية كبرى اليوم وتنافس الولايات المتحدة في جميع أنحاء العالم ومنها أفريقيا والشرق الأوسط.
صعود الصين أبرز التحديات الاستراتيجية لواشنطن وهناك شبه هوس في الولايات المتحدة بكيفية التعامل مع صعود نجم بكين، خصوصاً أنها الشريك التجاري الثالث لأميركا وتحتل المرتبة الأولى بين الدول التي تدين الولايات المتحدة لها. ولكن الكثيرين يقولون إن الصين ليست مشكلة أميركا. إن مشكلة أميركا داخلية. توم فريدمان مثلاً يقول إن «الصين مرآة. إننا في الحقيقة نتحدث عن أنفسنا وعن خسارتنا ثقتنا بأنفسنا. نرى في الصينيين بعض الصفات التي كنا نتمتع بها مرة وكانت تعرّف من نحن كأمة والتي يبدو أننا فقدناها».
ما الحل؟
الحل في أن تعيد أميركا صوغ بنيتها الداخلية بالتوصل إلى إجماع يذكِّر بما كان سبب قوة أميركا وتفوقها. وخارجياً عبر العمل لإعادة بناء استراتيجي عالمي يأخذ في الاعتبار التغيرات الجديدة في العالم ويبني على عوامل القوة الأميركية ويقوم نظام عالمي جديد يشبه القرن الحادي والعشرين وليس القرن الماضي.
هناك شبه إجماع على أن أميركا ستتعافى وستستعيد قوتها الاقتصادية ونفوذها السياسي في الخارج بعد أن تضمن وحدة داخلية حول فكرة أميركا «المدينة فوق الجبل» التي يتطلع إليها العالم بإعجاب واحترام كما فعل من قبل. خبراء السياسة الخارجية يرون أن أميركا لا تزال تتمتع بقوة بنيوية هائلة ولكنها تحتاج إلى قرار لكي تعيد تصويب وجهتها نحو مستقبل أفضل. يشير فريد زكريا في كتابه «عالم ما بعد أميركا»، إلى أن الاقتصاد الأميركي هو الأكبر في العالم باستمرار منذ 1880. وهذا الاقتصاد وفق التقديرات سيبقى حتى عام 2025 أكبر من الاقتصاد الصيني بمرتين من الناتج المحلي الاسمي، والقوات العسكرية الأميركية لا تزال تسيطر في جميع المجالات ولا تزال تصرف على أبحاث الدفاع والتطوير، على رغم التخفيض، أكثر من العالم مجتمعاً. ويرى هؤلاء أن دينامية أميركا والحرية الفردية والجامعات الأميركية التي لا تزال الأفضل في العالم والتكنولوجيا الأميركية من «آي فون» إلى «فايسبوك» والماركة الأميركية لا تزال وفق الاستفتاءات الأولى في العالم.
أميركا التي عرفها العالم لا تزال موجودة ولكنها بحاجة إلى إعادة اكتشاف نفسها كما يقول توم فريدمان أو إلى استراتيجية جديدة.
وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون شددت في مقال كتبته في «فورين بوليسي» عن مستقبل الدور الأميركي واستراتيجية الولايات المتحدة للقرن الحادي والعشرين»، على أن العالم ما زال يحتاج إلى قيادة أميركا. قالت: «أسمع في كل مكان أن العالم يتطلع إلى أميركا وقيادتها». وقدمت تحليلاً متفائلاً للقوة الأميركية. قالت إن «قواتنا المسلحة هي الأقوى واقتصادنا هو الأكبر في العالم، وعمالنا الأكثر إنتاجاً وسمعة جامعاتنا واسعة حول العالم». وأكدت أن لا يجب «أن يكون هناك أدنى شك في قدرة الولايات المتحدة على ضمان واستمرار قيادتنا العالمية في هذا القرن كما فعلنا في القرن الماضي».
ولكن، بينما كان القرن الماضي قرناً أميركياً - أطلسياً، يبدو أن الولايات المتحدة حسمت أمرها بجعل القرن الحادي والعشرين قرناً أميركياً باسيفيكياً (نسبة إلى المحيط الهادي). أميركا تتطلع هذه المرة نحو آسيا لتستشرف مستقبلها.
إعرف الحق تعرف أهله
سعود المولى
من أسوأ ما ابتليت به أمتنا (والمثقفون فيها على وجه أخص) تقديس الرجال وتحويل الفكر والأدب السياسي إلى طواطم محرمة على النقد والحوار والسجال.. وأبشع ما تبتلى به الأمم والشعوب هو السير وراء كل ناعق في غربال لمجرد أنه فلان أو أنه كان له دور ما أو موقع ما في سالف العصر والأوان... فإذا عرضت قضية تتعلق بخيارات الشعوب العربية وشبابها وربيع ثوارها على سبيل المثال تنطح من يقول لك "ولكن فلان يرى أن الجهة الفلانية لا يجوز أن تكون في الحكم أو حتى في البرلمان...أو أن فلان كان كتب كذا..أو أن فلان أفتى بكذا"!! ولكن لماذا يا أخوان؟؟ لأن "فلان هو من جماعتنا !! أي من العلمانيين الأقحاح أو من القوميين الصراح.. أو هو من اليساريين أو من الاسلاميين !! لا فرق.. تعددت الأسماء والظاهرة هي هي تصدر من بئر واحدة.. ثم يأتيك من يقول لك مثلاً أنه ممنوع أو محرم عليك مجرد مناقشة مرجعية فلان أو علان في أمور الوطنية والعلمانية والعصرية والحداثة...وقليلاً ما نجد في أيامنا هذه قلماً جريئاً ينتقد حزباً أو هيئة سياسية أو مرجعية ما، على أخطائها "التكتيكية"، أو على خطاياها "الاستراتيجية"...
مبرر الحديث أنني قرأت بالأمس فقط للراحل الكبير المفكر والمناضل والصديق الرائع الدكتور عفيف فراج بعض المقالات عن شخصية مصر وشخص عبدالناصر وعن علاقة عبد الناصر بكمال جنبلاط ؛ وهي مقالات جمعتها زوجته الفاضلة في كتاب صدر عام 2008 أي بعد وفاة عفيف بأربع سنوات؛ وعنوان الكتاب: في السياسة والأدب السياسي... فأعجبني (مجدداً ومجدداً: وعفيف نبع لا ينضب) تحرره الفكري واستقامته على الحق ومبدئية آرائه ومناقبية سلوكه.. في المقالات إشارة إلى مواقف طه حسين وسلامة موسى، وغيرهما، التي حاولت فصل مصر عن عروبتها وتحويلها إلى واحة يونانية (طه حسين) أو إلى أصل ودم غربيين (سلامة موسى).. وأعجبني فيها نبش عفيف فراج لرأي وضاح شرارة في "أفلاطونية" طه حسين، ولآراء كبار المفكرين المصريين أمثال أنور عبدالملك في المسألة الوطنية المصرية، وجمال حمدان في شخصية مصر الحضارية، وصولاً إلى كلام كمال جنبلاط في وصفه لعبد الناصر... المهم المهم في ما كتبه عفيف فراج وما أشار إليه من مواقف وكتابات هو تجاوزه بجرأة وموضوعية لتلك القداسة الزائفة وغير الواقعية التي تعطى لبعض الأسماء أو الأحزاب والتي تعطل كل تفكير نقدي وكل رأي حر فتلغي بالتالي كل حوار حق.. ولعفيف فراج تحطيم ثوري سابق لقداسة أنطون سعادة وحزبه القومي السوري وذلك في كتابه المبكر: دراسات يسارية في الفكر اليميني-1970، الذي استعاد فيه كتاب كمال جنبلاط الرائع والعميق: حقيقة القضية القومية الاجتماعية 1949.. كمال جنبلاط وعفيف فراج وأنور عبدالملك وجمال حمدان وغيرهم.. أولئك رجال لم يخافوا في الحق لومة لائم ولم يستأذنوا أي سلطان في قول ما يرونه حقاً وفي نقد ما يرونه باطلاً أو لغواً.. أولئك رجال مضوا ومضت معهم مرحلة جميلة من الكتابة السياسية والفكرية ... وذلك زمن كان فيه المناضل والمثقف يبحث عن الحقيقة حتى يجدها أو يكاد..ويكابد ويجاهد في سبيلها لا يخاف تشهيراً ولا عدواناً ولا عزلاً أو نبذاً أو قتلاً أو تدميراً أو تشويهاً لسمعته.. اليوم نحن نخاف من مجرد الاشارة الى هفوة أحد الزعماء أو غلطة أحد الأحزاب في قضايا تمس حياتنا ومصير بلادنا... ومعظمنا يسير على مبدأ الشاعر الجاهلي دريد ابن الصمة حين يقول:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد
وننسى المبدأ الإنساني الكبير الذي خلده الإمام علي بن أبي طالب في قوله: إعرف الحق تعرف أهله.
من أسوأ ما ابتليت به أمتنا (والمثقفون فيها على وجه أخص) تقديس الرجال وتحويل الفكر والأدب السياسي إلى طواطم محرمة على النقد والحوار والسجال.. وأبشع ما تبتلى به الأمم والشعوب هو السير وراء كل ناعق في غربال لمجرد أنه فلان أو أنه كان له دور ما أو موقع ما في سالف العصر والأوان... فإذا عرضت قضية تتعلق بخيارات الشعوب العربية وشبابها وربيع ثوارها على سبيل المثال تنطح من يقول لك "ولكن فلان يرى أن الجهة الفلانية لا يجوز أن تكون في الحكم أو حتى في البرلمان...أو أن فلان كان كتب كذا..أو أن فلان أفتى بكذا"!! ولكن لماذا يا أخوان؟؟ لأن "فلان هو من جماعتنا !! أي من العلمانيين الأقحاح أو من القوميين الصراح.. أو هو من اليساريين أو من الاسلاميين !! لا فرق.. تعددت الأسماء والظاهرة هي هي تصدر من بئر واحدة.. ثم يأتيك من يقول لك مثلاً أنه ممنوع أو محرم عليك مجرد مناقشة مرجعية فلان أو علان في أمور الوطنية والعلمانية والعصرية والحداثة...وقليلاً ما نجد في أيامنا هذه قلماً جريئاً ينتقد حزباً أو هيئة سياسية أو مرجعية ما، على أخطائها "التكتيكية"، أو على خطاياها "الاستراتيجية"...
مبرر الحديث أنني قرأت بالأمس فقط للراحل الكبير المفكر والمناضل والصديق الرائع الدكتور عفيف فراج بعض المقالات عن شخصية مصر وشخص عبدالناصر وعن علاقة عبد الناصر بكمال جنبلاط ؛ وهي مقالات جمعتها زوجته الفاضلة في كتاب صدر عام 2008 أي بعد وفاة عفيف بأربع سنوات؛ وعنوان الكتاب: في السياسة والأدب السياسي... فأعجبني (مجدداً ومجدداً: وعفيف نبع لا ينضب) تحرره الفكري واستقامته على الحق ومبدئية آرائه ومناقبية سلوكه.. في المقالات إشارة إلى مواقف طه حسين وسلامة موسى، وغيرهما، التي حاولت فصل مصر عن عروبتها وتحويلها إلى واحة يونانية (طه حسين) أو إلى أصل ودم غربيين (سلامة موسى).. وأعجبني فيها نبش عفيف فراج لرأي وضاح شرارة في "أفلاطونية" طه حسين، ولآراء كبار المفكرين المصريين أمثال أنور عبدالملك في المسألة الوطنية المصرية، وجمال حمدان في شخصية مصر الحضارية، وصولاً إلى كلام كمال جنبلاط في وصفه لعبد الناصر... المهم المهم في ما كتبه عفيف فراج وما أشار إليه من مواقف وكتابات هو تجاوزه بجرأة وموضوعية لتلك القداسة الزائفة وغير الواقعية التي تعطى لبعض الأسماء أو الأحزاب والتي تعطل كل تفكير نقدي وكل رأي حر فتلغي بالتالي كل حوار حق.. ولعفيف فراج تحطيم ثوري سابق لقداسة أنطون سعادة وحزبه القومي السوري وذلك في كتابه المبكر: دراسات يسارية في الفكر اليميني-1970، الذي استعاد فيه كتاب كمال جنبلاط الرائع والعميق: حقيقة القضية القومية الاجتماعية 1949.. كمال جنبلاط وعفيف فراج وأنور عبدالملك وجمال حمدان وغيرهم.. أولئك رجال لم يخافوا في الحق لومة لائم ولم يستأذنوا أي سلطان في قول ما يرونه حقاً وفي نقد ما يرونه باطلاً أو لغواً.. أولئك رجال مضوا ومضت معهم مرحلة جميلة من الكتابة السياسية والفكرية ... وذلك زمن كان فيه المناضل والمثقف يبحث عن الحقيقة حتى يجدها أو يكاد..ويكابد ويجاهد في سبيلها لا يخاف تشهيراً ولا عدواناً ولا عزلاً أو نبذاً أو قتلاً أو تدميراً أو تشويهاً لسمعته.. اليوم نحن نخاف من مجرد الاشارة الى هفوة أحد الزعماء أو غلطة أحد الأحزاب في قضايا تمس حياتنا ومصير بلادنا... ومعظمنا يسير على مبدأ الشاعر الجاهلي دريد ابن الصمة حين يقول:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد
وننسى المبدأ الإنساني الكبير الذي خلده الإمام علي بن أبي طالب في قوله: إعرف الحق تعرف أهله.
الفكر القومي يترنح في قلب العروبة النابض
الحياة- الأحد 20 نوفمبر 2011
أكرم البني
انتقل أهل الحكم في دمشق إلى شن هجمة محمومة من الاتهامات بالعمالة والخيانة ضد الجامعة العربية والدول التي ساندت القرار، واستحضروا ما راق لهم من مواقف «تعاب» على العرب ودورهم في نصرة قضاياهم الكبرى، في فلسطين ولبنان والعراق وغيرها.
صحيح أن الثورات العربية قامت في تزامن لافت وتجري وفق نسق كأنها حلقات من سلسلة واحدة، وصحيح أن نجاح الثورتين التونسية والمصرية ترك أثراً عميقاً في الشارع السوري وكان أحد أهم حوافز تحركه، لكن الصحيح أيضاً أن الهم القومي لم يكن حاضراً هذه المرة في الاحتجاجات، ولم يرفع المتظاهرون الشعارات الوطنية للتعبئة والتحشيد، بل إلى جانب غياب شعارات الوحدة العربية ومقاومة الاستعمار والصهيونية وتحرير فلسطين والأراضي المحتلة، كان واضحاً أن غرض المتظاهرين من إصرارهم على موقف حازم من الجامعة العربية ليس إلا تشديد عزلة النظام، وأن استنجادهم بالدور العربي كان كمحاولة لتقليد ما حصل في ليبيا ليكون موقف الجامعة معبراً لتدويل الأزمة السورية ووضع حماية المدنيين في يد المنظمة الأممية ومجلس أمنها.
والأوضح أن الهتافات المناهضة لإسرائيل والداعمة للجولان وفلسطين لم تصدح إلا بصفتها مفارقة لإحراج النظام الذي زج بالقوات العسكرية في مواجهة الشعب المنتفض وليس ضد المحتل الغاصب.
الأمر ليس غريباً أو مفاجئاً بل هو حصيلة طبيعية لانحسار الهم القومي لدى الناس، وتراجع إيمانها بدور هذا الفكر كحافز نضالي وتغييري، وقد لمسوا لمس اليد ما آلت إليه أوضاعهم والنتائج السلبية المثيرة للقلق التي حصدتها سنوات طويلة من تغليب هذا النضال وكيف استخدمت الأنظمة العقيدة القومية وفلسطين لتسويغ الاستبداد وتعزيز سلطانها واستئثارها بالامتيازات.
وليس صدفة أن لا تحظى فكرة المؤامرة والإثارة الرسمية عن مخطط خارجي، إمبريالي وصهيوني، يسعى للنيل من الموقف الممانع السوري، بأي حظ من الحياة في قلب العروبة النابض، وليس صدفة أن تكون القوى، حتى من صفوف المعارضة، والتي لا تزال تتعاطى مع الأزمة الراهنة وفق منظور الهم القومي وشعاراته، هي الطرف الأضعف حضوراً وتأثيراً في الحراك الشعبي، وأيضاً ليس صدفة إبعاد حزب البعث كحزب قائد عن المشهد، فغاب دوره وغابت شعاراته، ولم يسمع أي صوت مؤثر لقياداته في إدارة الأزمة، حتى المهام النمطية القديمة التي عرفناها تاريخياً عن البعثيين في دفاعهم عن الوضع القائم تحت عنوان مواجهة الهجمة الامبريالية، غابت هي أيضاً، والأهم أن الألوف المؤلفة من قواعد حزب البعث وكوادره، بخاصة في المناطق التي شكلت في ما مضى الخزان البشري للفكر القومي، في حماة وحمص ودرعا، هم اليوم من يشارك في الاحتجاجات والتظاهرات ويحملون الهم الديموقراطي ولواء الحرية والكرامة في مواجهة الحملة الأمنية والعسكرية المستمرة.
لكن، وبرغم ما سبق، ثمة بعد قومي للثورات العربية الراهنة يتضح ليس فقط في قوة وعمق المشتركات وتشابه أوجه المعاناة، وإنما أيضاً في تشابه الشعارات والمطالب والأحاسيس، وأيضاً في الألفاظ والوسائل وحتى المسميات التي أطلقت على أيام الجمعة، وفي مدى التلاحم والتضامن ونقل الخبرات الميدانية من ثورة إلى أخرى، بخاصة سبل التواصل بين النشطاء وفنون التصدي لأجهزة القمع، كما لو أن الجميع أعضاء في جسد واحد يتصدون لعدو واحد وينتابهم إحساس وأمل واحد، فتبدو ثورة مصر كأنما تستمر في الثورات الأخرى وتجد ثورة تونس نفسها مسؤولة عما يجري في مصر وليبيا، وبنفس القدر يتطلع المحتجون في اليمن وسورية إلى تطور الثورات الأخرى كأن مصيرهم يرتبط بها، وكأن ما يحصل يؤكد أن معركة الشعوب العربية من أجل نيل حريتها وكرامتها هي في النهاية معركة واحده.
المعروف أن أحد أهم مثالب الفكر القومي في المشرق العربي أنه نشأ كفكر إيماني وعفوي ولم يكن يمتلك أساساً في البنية التحتية، وأن القومية كرؤية فكرية للمثقفين العرب ولدت بالضد من مطامع الخلافة العثمانية ولم تحملها قوى وطبقات لها طموحات اقتصادية في تحرير سوقها الداخلي والاستقلال به وإنجاز مشروعها الاقتصادي والسياسي، لكن اليوم تبدو المعادلة مختلفة وقد نضجت شروط موضوعية جديدة لا تعود فقط الى التاريخ المشترك وروابط اللغة والأرض، وإنما أيضاً الى هزال التنمية في كل بلد على حدة وإلى المناخات الدولية الراهنة.
فما يشهده العالم من بناء التكتلات السياسية والاقتصادية الكبرى يؤكد استحالة نمو الكيانات الصغيرة بصورة صحية، الأمر الذي يتطلب بداهة تجميع كل الموارد العربية وتجاوز النظرة والحلول القطرية الضيقة كطريق لا غنى عنها للارتقاء بالمجتمعات العربية عموماً وتعزيز حضور كل مجتمع على حدة.
إن عودة الناس إلى السياسة وقيام أنظمة عربية ديموقراطية وتنامي العلاقة العضوية بين الثورات وترابط مآلاتها سينعكس بتضافر من طراز جديد بين الشعوب العربية معطياً معنى جديداً لنضالها القومي، بخاصة إذا اقترن بمراجعة نقدية تحرره من جملة التباسات أحاطت به، ومن أخطاء واندفاعات بالغة الخطورة ارتكبت باسمه، وأساساً لتحريره من نزعة إيديولوجية حولته الى عصبية شوفينية لا إنسانية، ومن الدأب على مقايضته بالديموقراطية والحرية، فهذه الأخيرة هي الضمانة الرئيسة لفتح أوسع الآفاق أمامه، ليس فقط لاتصال مسألة الحريات العامة والخاصة بتشابه معاناة الإنسان العربي، وليس لأن الديموقراطية بما توفره من مشاركة شعبية واحترام لكرامة البشر هي الصيغة الأسلم للعلاقة بين الحاكم والشعب، وإنما أيضاً لأن الديموقراطية أيضاً هي ضمانة الوحدة الوطنية المهددة داخل عدد من البلدان العربية، وهي التي تفسح المجال لإرادة الغالبية كي تقول كلمتها بحرية وتظهر ما يعتمل في صدرها من أحاسيس قومية ومواقف وحدوية.
فتبني الفكر القومي لمواقف جديدة تواكب ما يحصل من متغيرات وإغناء شعاراته بقيم الديموقراطية وحقوق الإنسان، يشجع على السؤال، هل أنقذت الثورات العربية الفكر القومي العربي من أزمة انحطاط وموات ووضعته في إرهاصات أزمة نمو وأمام لحظة انطلاق جديدة تعيد إلى الواجهة دوره الثوري وأفكاره الوحدوية والتحررية والتنموية.
أكرم البني
انتقل أهل الحكم في دمشق إلى شن هجمة محمومة من الاتهامات بالعمالة والخيانة ضد الجامعة العربية والدول التي ساندت القرار، واستحضروا ما راق لهم من مواقف «تعاب» على العرب ودورهم في نصرة قضاياهم الكبرى، في فلسطين ولبنان والعراق وغيرها.
صحيح أن الثورات العربية قامت في تزامن لافت وتجري وفق نسق كأنها حلقات من سلسلة واحدة، وصحيح أن نجاح الثورتين التونسية والمصرية ترك أثراً عميقاً في الشارع السوري وكان أحد أهم حوافز تحركه، لكن الصحيح أيضاً أن الهم القومي لم يكن حاضراً هذه المرة في الاحتجاجات، ولم يرفع المتظاهرون الشعارات الوطنية للتعبئة والتحشيد، بل إلى جانب غياب شعارات الوحدة العربية ومقاومة الاستعمار والصهيونية وتحرير فلسطين والأراضي المحتلة، كان واضحاً أن غرض المتظاهرين من إصرارهم على موقف حازم من الجامعة العربية ليس إلا تشديد عزلة النظام، وأن استنجادهم بالدور العربي كان كمحاولة لتقليد ما حصل في ليبيا ليكون موقف الجامعة معبراً لتدويل الأزمة السورية ووضع حماية المدنيين في يد المنظمة الأممية ومجلس أمنها.
والأوضح أن الهتافات المناهضة لإسرائيل والداعمة للجولان وفلسطين لم تصدح إلا بصفتها مفارقة لإحراج النظام الذي زج بالقوات العسكرية في مواجهة الشعب المنتفض وليس ضد المحتل الغاصب.
الأمر ليس غريباً أو مفاجئاً بل هو حصيلة طبيعية لانحسار الهم القومي لدى الناس، وتراجع إيمانها بدور هذا الفكر كحافز نضالي وتغييري، وقد لمسوا لمس اليد ما آلت إليه أوضاعهم والنتائج السلبية المثيرة للقلق التي حصدتها سنوات طويلة من تغليب هذا النضال وكيف استخدمت الأنظمة العقيدة القومية وفلسطين لتسويغ الاستبداد وتعزيز سلطانها واستئثارها بالامتيازات.
وليس صدفة أن لا تحظى فكرة المؤامرة والإثارة الرسمية عن مخطط خارجي، إمبريالي وصهيوني، يسعى للنيل من الموقف الممانع السوري، بأي حظ من الحياة في قلب العروبة النابض، وليس صدفة أن تكون القوى، حتى من صفوف المعارضة، والتي لا تزال تتعاطى مع الأزمة الراهنة وفق منظور الهم القومي وشعاراته، هي الطرف الأضعف حضوراً وتأثيراً في الحراك الشعبي، وأيضاً ليس صدفة إبعاد حزب البعث كحزب قائد عن المشهد، فغاب دوره وغابت شعاراته، ولم يسمع أي صوت مؤثر لقياداته في إدارة الأزمة، حتى المهام النمطية القديمة التي عرفناها تاريخياً عن البعثيين في دفاعهم عن الوضع القائم تحت عنوان مواجهة الهجمة الامبريالية، غابت هي أيضاً، والأهم أن الألوف المؤلفة من قواعد حزب البعث وكوادره، بخاصة في المناطق التي شكلت في ما مضى الخزان البشري للفكر القومي، في حماة وحمص ودرعا، هم اليوم من يشارك في الاحتجاجات والتظاهرات ويحملون الهم الديموقراطي ولواء الحرية والكرامة في مواجهة الحملة الأمنية والعسكرية المستمرة.
لكن، وبرغم ما سبق، ثمة بعد قومي للثورات العربية الراهنة يتضح ليس فقط في قوة وعمق المشتركات وتشابه أوجه المعاناة، وإنما أيضاً في تشابه الشعارات والمطالب والأحاسيس، وأيضاً في الألفاظ والوسائل وحتى المسميات التي أطلقت على أيام الجمعة، وفي مدى التلاحم والتضامن ونقل الخبرات الميدانية من ثورة إلى أخرى، بخاصة سبل التواصل بين النشطاء وفنون التصدي لأجهزة القمع، كما لو أن الجميع أعضاء في جسد واحد يتصدون لعدو واحد وينتابهم إحساس وأمل واحد، فتبدو ثورة مصر كأنما تستمر في الثورات الأخرى وتجد ثورة تونس نفسها مسؤولة عما يجري في مصر وليبيا، وبنفس القدر يتطلع المحتجون في اليمن وسورية إلى تطور الثورات الأخرى كأن مصيرهم يرتبط بها، وكأن ما يحصل يؤكد أن معركة الشعوب العربية من أجل نيل حريتها وكرامتها هي في النهاية معركة واحده.
المعروف أن أحد أهم مثالب الفكر القومي في المشرق العربي أنه نشأ كفكر إيماني وعفوي ولم يكن يمتلك أساساً في البنية التحتية، وأن القومية كرؤية فكرية للمثقفين العرب ولدت بالضد من مطامع الخلافة العثمانية ولم تحملها قوى وطبقات لها طموحات اقتصادية في تحرير سوقها الداخلي والاستقلال به وإنجاز مشروعها الاقتصادي والسياسي، لكن اليوم تبدو المعادلة مختلفة وقد نضجت شروط موضوعية جديدة لا تعود فقط الى التاريخ المشترك وروابط اللغة والأرض، وإنما أيضاً الى هزال التنمية في كل بلد على حدة وإلى المناخات الدولية الراهنة.
فما يشهده العالم من بناء التكتلات السياسية والاقتصادية الكبرى يؤكد استحالة نمو الكيانات الصغيرة بصورة صحية، الأمر الذي يتطلب بداهة تجميع كل الموارد العربية وتجاوز النظرة والحلول القطرية الضيقة كطريق لا غنى عنها للارتقاء بالمجتمعات العربية عموماً وتعزيز حضور كل مجتمع على حدة.
إن عودة الناس إلى السياسة وقيام أنظمة عربية ديموقراطية وتنامي العلاقة العضوية بين الثورات وترابط مآلاتها سينعكس بتضافر من طراز جديد بين الشعوب العربية معطياً معنى جديداً لنضالها القومي، بخاصة إذا اقترن بمراجعة نقدية تحرره من جملة التباسات أحاطت به، ومن أخطاء واندفاعات بالغة الخطورة ارتكبت باسمه، وأساساً لتحريره من نزعة إيديولوجية حولته الى عصبية شوفينية لا إنسانية، ومن الدأب على مقايضته بالديموقراطية والحرية، فهذه الأخيرة هي الضمانة الرئيسة لفتح أوسع الآفاق أمامه، ليس فقط لاتصال مسألة الحريات العامة والخاصة بتشابه معاناة الإنسان العربي، وليس لأن الديموقراطية بما توفره من مشاركة شعبية واحترام لكرامة البشر هي الصيغة الأسلم للعلاقة بين الحاكم والشعب، وإنما أيضاً لأن الديموقراطية أيضاً هي ضمانة الوحدة الوطنية المهددة داخل عدد من البلدان العربية، وهي التي تفسح المجال لإرادة الغالبية كي تقول كلمتها بحرية وتظهر ما يعتمل في صدرها من أحاسيس قومية ومواقف وحدوية.
فتبني الفكر القومي لمواقف جديدة تواكب ما يحصل من متغيرات وإغناء شعاراته بقيم الديموقراطية وحقوق الإنسان، يشجع على السؤال، هل أنقذت الثورات العربية الفكر القومي العربي من أزمة انحطاط وموات ووضعته في إرهاصات أزمة نمو وأمام لحظة انطلاق جديدة تعيد إلى الواجهة دوره الثوري وأفكاره الوحدوية والتحررية والتنموية.
ملامح طور جديد للثورة السورية
الحياة- الأحد 20 نوفمبر 2011
ياسين الحاج صالح
بعد ثمانية أشهر على انطلاقها يبدو أن الثورة السورية مقبلة على طور جديد، يغاير ما سارت عليه منذ انطلاقها في منتصف آذار (مارس) الماضي.
الملمح الأول في هذا الطور حضور متزايد لأنشطة عسكرية مضادة للنظام، يقوم بها «الجيش السوري الحر»، الجنود والضباط المنشقون عن الجيش. ليست أنشطة العسكريين المنشقين جديدة، عمرها من عمر انشقاقات الجيش بعد أسابيع من تفجر الثورة. ومن المؤكد أن غير قليل من قتلى الجيش عسكريون انشقوا أو قتلوا لإحباط انشقاقهم، وأن جميع قتلى الجيش تقريباً، حتى وقت قريب على الأقل، وقعوا في صراع بين عسكريين وعسكريين، وليس في مواجهة أية «عصابات مسلحة» أو «مجموعات إرهابية». لكن الشيء الجديد هو الطابع الهجومي المتزايد لأنشطة العسكريين المنشقين على نحو ما تمثل في الهجوم على مقر جهاز الأمن الجوي في بلدة حرستا قرب دمشق ليلة الثلثاء 15/11. ومن المحتمل أنه جرت عمليات أخرى مماثلة في مناطق دمشق الريفية، وكذلك في مناطق حمص وحماة.
ومن الوجوه الإشكالية لهذا التطور أنه لا يبدو مؤكداً أن انشقاقات الجيش كلها ترتبط بقيادة مركزية، أو تنضبط أنشطتها بوجهة سياسية محددة، توجهها في خدمة الثورة. تسير الأمور كما يبدو باتجاه يتجاوز «حماية الشعب» إلى العمل لإسقاط النظام بقوة السلاح، كما قال قائد الجيش الحر، العقيد رياض الأسعد، من دون أن يكون واضحاً في خصوص علاقته و «الجيش الحر» بالثورة، وبالنشاط السياسي المرتبط بها.
وبينما قد يمكن فهم المسار السياسي والنفسي الذي أفضى إلى هذا التطور (بالتحديد ما تعرض له الجيش السوري من ضغط مهول على بنيته الوطنية بتوجيهه ضد عموم السكان وتسليط المخابرات جهاراً عليه)، إلا أن بلداً عانى طويلاً وكثيراً من العسكر، يحتاج إلى إخضاعهم للقيادة السياسية للثورة وضبط عملهم بمقتضيات مصلحتها. الثورة وإسقاط النظام أهم من أن يتركا للعسكريين، إذا حاكينا قولاً شهيراً لكلاوزفتز. وسيكون مهماً العمل على توحيد المجموعات العسكرية المنشقة في إطار واحد، وأن ينضبط هذا الإطار بالقيادة السياسية، الممثلة اليوم في «المجلس الوطني السوري».
هذا ليس ضرورياً فقط لأن التوجه نحو «دولة مدنية ديموقراطية» يقتضي خضوع العسكر للقيادة السياسية، وإنما كذلك للحيلولة دون وقوع الجيش الجديد في نطاق جاذبية قوى إقليمية، تركيا أو غيرها.
وإلى العسكرة، من المحتمل أن يشارك مدنيون في عمليات مسلحة في نطاق «الجيش الحر» أو بصورة مستقلة عنه. يصعب الحصول على معلومات موثوقة في هذا الشأن أيضاً، أو قول شيء مؤكد بخصوص عدد المسلحين المدنيين ودورهم، لكن وجودهم مؤكد. ومن المحتمل أن بين هؤلاء المدنيين متشددين دينياً، ربما يتسببون في منازعات طائفية، أو لعلهم ممن يشاركون فيها الآن.
الملمح الثاني هو عمليات عنف طائفية، يبدو أن وقوعها يتواتر مجدداً في حمص في الأيام الأخيرة. هنا أيضاً لا تتوافر معلومات دقيقة يركن إليها، لكن الواقعة بذاتها محققة لا ريب فيها. ويبدو أنها بدأت قبل أسابيع بالخطف بغرض المقايضة: يعتقل النظام أناساً كيفما اتفق، فيُخطف أفراد محسوبون عليه، مقابل إفراج أجهزته عن بعض من اعتقلتهم. وقد تحقق ذلك في حالة واحدة على الأقل، وأفرج النظام عن قريبة للدكتور برهان غليون كانت معتقلة، وآخرين، مقابل مختطفين أمنيين ومن الطائفة العلوية، «مما أكسب عملية الاختطاف مشروعية ثورية» على قول أحد الناشطين الحماصنة. وجرت مثل هذه العمليات أحياناً بهدف الردع والتخويف، لكن يبدو أن الخطف المتبادل يتجه للانفلات من السيطرة. قبل أيام تظاهر السكان العلويون في بعض أحياء حمص، وطالبوا بإقالة المحافظ، لأنه لا تتوافر لهم الحماية في أحيائهم. وبينما تكتب هذه المقالة (مساء الأربعاء 16/11)، بين يديّ معلومات عن مختطفين من هنا وهناك، ووساطة تجري للإفراج عنهم.
وفي خلفية ذلك كله أن عنف النظام لم يكن يوماً، وليس هو اليوم، عنفاً عقابياً مجرداً، تقوم به «دولة» عامة بحق متمردين خواص، فلا تأخذ حيثياتهم الأهلية في الاعتبار، بل هو عنف ثأري مشخّص، مشحون بالكراهية والانتقام، من نوع العنف الطائفي. وهو ما فتح الباب منذ البداية لاحتدام الانفعالات الطائفية، وتسهيل الانزلاق نحو العنف الطائفي. كان لافتاً منذ بداية الثورة اختلاط إفراط عنف النظام (تعذيب بهدف القتل، بتر أعضاء، اقتلاع عيون...)، واختلاطه دوماً بالإذلال وفق روايات معتقلين أفرج عنهم، ومع إهانات طائفية أيضاً. هذا ليس قمع دولة، بل هو عنف عصبوي وعصابي، مختلط بقوة بالبغض والضغينة.
ووفق روايات متواترة، فإن جثث المختطفين والمقتولين في حمص، من الطرفين، مشوهة، ما يشير إلى أنهم قتلوا بتشفّ وحقد.
هذا تطور مشؤوم، وإن كان محصوراً لا يزال، تجب مواجهته بكل الوسائل المتاحة. وأولاها موقف قوي من المجلس الوطني السوري. هذا ليس لكونه الذراع السياسية الأبرز للثورة السورية فقط، ولكن أيضاً لمساهمة الإخوان المسلمين فيه. ولعله يلزم أن يجمع المجلس بين اعتراض حازم على الانزلاق الطائفي، وبين نداء إلى الثائرين وعموم السكان بمقاومة هذا المنزلق.
الملمح الثالث يتصل بتعريب الأزمة السورية، ومسارات التدويل المحتملة. لن نتوسع في هذه النقطة هنا. لعلها تستحق تناولاً خاصاً.
في خلفية كل هذه التطورات فاعل غير مسؤول هو «النظام» (أساساً، الرئيس والعائلة والمخابرات والمليارديرات المرتبطون بهم)، الذي لم يكف طوال 8 أشهر عن ممارسة عنف عدائي حيال محكوميه، وعن إثارة شتى ضروب الانقسام بينهم، من دون أن يفكر يوماً في فتح أفق سياسي مغاير.
غاية ما اهتدى إليه «النظام» هو إخراج مسيرات موالية في ساحات المدن السورية. ما يفترض أن يستخلص من ذلك أن للنظام قاعدة اجتماعية مهمة. بلى، والحق يقال. ولكن من وجهة نظر النظام ذاته، هذا يغري بالتساؤل: لم لا يجري خلال نصف سنة استفتاء شعبي على تنحي السيد بشار الأسد، أو بقائه رئيساً حتى نهاية ولايته الحالية؟ من أجل ذلك، لا بد من تجميد الأجهزة الأمنية كلها، وتأميم وسائل الإعلام الآن.
هذا من باب ما يقتضيه الشيء، وليس اشتراطاً مسبقاً. إذ ليس من العدل أو العقل إجراء استفتاء كهذا في ظل حاكمية المخابرات وتسخير الإعلام لعبادة الرئيس. لكن الثورة السورية لا تكاد تتطلع إلى ما يتجاوز هذه المقتضيات الأولية: أمن متساو لجميع السوريين، ونفاذ متكافئ إلى المعلومات وتوصيل متكافئ لها، ورئيس منتخب في انتخابات تنافسية حرة. هل هذا كثير؟
ياسين الحاج صالح
بعد ثمانية أشهر على انطلاقها يبدو أن الثورة السورية مقبلة على طور جديد، يغاير ما سارت عليه منذ انطلاقها في منتصف آذار (مارس) الماضي.
الملمح الأول في هذا الطور حضور متزايد لأنشطة عسكرية مضادة للنظام، يقوم بها «الجيش السوري الحر»، الجنود والضباط المنشقون عن الجيش. ليست أنشطة العسكريين المنشقين جديدة، عمرها من عمر انشقاقات الجيش بعد أسابيع من تفجر الثورة. ومن المؤكد أن غير قليل من قتلى الجيش عسكريون انشقوا أو قتلوا لإحباط انشقاقهم، وأن جميع قتلى الجيش تقريباً، حتى وقت قريب على الأقل، وقعوا في صراع بين عسكريين وعسكريين، وليس في مواجهة أية «عصابات مسلحة» أو «مجموعات إرهابية». لكن الشيء الجديد هو الطابع الهجومي المتزايد لأنشطة العسكريين المنشقين على نحو ما تمثل في الهجوم على مقر جهاز الأمن الجوي في بلدة حرستا قرب دمشق ليلة الثلثاء 15/11. ومن المحتمل أنه جرت عمليات أخرى مماثلة في مناطق دمشق الريفية، وكذلك في مناطق حمص وحماة.
ومن الوجوه الإشكالية لهذا التطور أنه لا يبدو مؤكداً أن انشقاقات الجيش كلها ترتبط بقيادة مركزية، أو تنضبط أنشطتها بوجهة سياسية محددة، توجهها في خدمة الثورة. تسير الأمور كما يبدو باتجاه يتجاوز «حماية الشعب» إلى العمل لإسقاط النظام بقوة السلاح، كما قال قائد الجيش الحر، العقيد رياض الأسعد، من دون أن يكون واضحاً في خصوص علاقته و «الجيش الحر» بالثورة، وبالنشاط السياسي المرتبط بها.
وبينما قد يمكن فهم المسار السياسي والنفسي الذي أفضى إلى هذا التطور (بالتحديد ما تعرض له الجيش السوري من ضغط مهول على بنيته الوطنية بتوجيهه ضد عموم السكان وتسليط المخابرات جهاراً عليه)، إلا أن بلداً عانى طويلاً وكثيراً من العسكر، يحتاج إلى إخضاعهم للقيادة السياسية للثورة وضبط عملهم بمقتضيات مصلحتها. الثورة وإسقاط النظام أهم من أن يتركا للعسكريين، إذا حاكينا قولاً شهيراً لكلاوزفتز. وسيكون مهماً العمل على توحيد المجموعات العسكرية المنشقة في إطار واحد، وأن ينضبط هذا الإطار بالقيادة السياسية، الممثلة اليوم في «المجلس الوطني السوري».
هذا ليس ضرورياً فقط لأن التوجه نحو «دولة مدنية ديموقراطية» يقتضي خضوع العسكر للقيادة السياسية، وإنما كذلك للحيلولة دون وقوع الجيش الجديد في نطاق جاذبية قوى إقليمية، تركيا أو غيرها.
وإلى العسكرة، من المحتمل أن يشارك مدنيون في عمليات مسلحة في نطاق «الجيش الحر» أو بصورة مستقلة عنه. يصعب الحصول على معلومات موثوقة في هذا الشأن أيضاً، أو قول شيء مؤكد بخصوص عدد المسلحين المدنيين ودورهم، لكن وجودهم مؤكد. ومن المحتمل أن بين هؤلاء المدنيين متشددين دينياً، ربما يتسببون في منازعات طائفية، أو لعلهم ممن يشاركون فيها الآن.
الملمح الثاني هو عمليات عنف طائفية، يبدو أن وقوعها يتواتر مجدداً في حمص في الأيام الأخيرة. هنا أيضاً لا تتوافر معلومات دقيقة يركن إليها، لكن الواقعة بذاتها محققة لا ريب فيها. ويبدو أنها بدأت قبل أسابيع بالخطف بغرض المقايضة: يعتقل النظام أناساً كيفما اتفق، فيُخطف أفراد محسوبون عليه، مقابل إفراج أجهزته عن بعض من اعتقلتهم. وقد تحقق ذلك في حالة واحدة على الأقل، وأفرج النظام عن قريبة للدكتور برهان غليون كانت معتقلة، وآخرين، مقابل مختطفين أمنيين ومن الطائفة العلوية، «مما أكسب عملية الاختطاف مشروعية ثورية» على قول أحد الناشطين الحماصنة. وجرت مثل هذه العمليات أحياناً بهدف الردع والتخويف، لكن يبدو أن الخطف المتبادل يتجه للانفلات من السيطرة. قبل أيام تظاهر السكان العلويون في بعض أحياء حمص، وطالبوا بإقالة المحافظ، لأنه لا تتوافر لهم الحماية في أحيائهم. وبينما تكتب هذه المقالة (مساء الأربعاء 16/11)، بين يديّ معلومات عن مختطفين من هنا وهناك، ووساطة تجري للإفراج عنهم.
وفي خلفية ذلك كله أن عنف النظام لم يكن يوماً، وليس هو اليوم، عنفاً عقابياً مجرداً، تقوم به «دولة» عامة بحق متمردين خواص، فلا تأخذ حيثياتهم الأهلية في الاعتبار، بل هو عنف ثأري مشخّص، مشحون بالكراهية والانتقام، من نوع العنف الطائفي. وهو ما فتح الباب منذ البداية لاحتدام الانفعالات الطائفية، وتسهيل الانزلاق نحو العنف الطائفي. كان لافتاً منذ بداية الثورة اختلاط إفراط عنف النظام (تعذيب بهدف القتل، بتر أعضاء، اقتلاع عيون...)، واختلاطه دوماً بالإذلال وفق روايات معتقلين أفرج عنهم، ومع إهانات طائفية أيضاً. هذا ليس قمع دولة، بل هو عنف عصبوي وعصابي، مختلط بقوة بالبغض والضغينة.
ووفق روايات متواترة، فإن جثث المختطفين والمقتولين في حمص، من الطرفين، مشوهة، ما يشير إلى أنهم قتلوا بتشفّ وحقد.
هذا تطور مشؤوم، وإن كان محصوراً لا يزال، تجب مواجهته بكل الوسائل المتاحة. وأولاها موقف قوي من المجلس الوطني السوري. هذا ليس لكونه الذراع السياسية الأبرز للثورة السورية فقط، ولكن أيضاً لمساهمة الإخوان المسلمين فيه. ولعله يلزم أن يجمع المجلس بين اعتراض حازم على الانزلاق الطائفي، وبين نداء إلى الثائرين وعموم السكان بمقاومة هذا المنزلق.
الملمح الثالث يتصل بتعريب الأزمة السورية، ومسارات التدويل المحتملة. لن نتوسع في هذه النقطة هنا. لعلها تستحق تناولاً خاصاً.
في خلفية كل هذه التطورات فاعل غير مسؤول هو «النظام» (أساساً، الرئيس والعائلة والمخابرات والمليارديرات المرتبطون بهم)، الذي لم يكف طوال 8 أشهر عن ممارسة عنف عدائي حيال محكوميه، وعن إثارة شتى ضروب الانقسام بينهم، من دون أن يفكر يوماً في فتح أفق سياسي مغاير.
غاية ما اهتدى إليه «النظام» هو إخراج مسيرات موالية في ساحات المدن السورية. ما يفترض أن يستخلص من ذلك أن للنظام قاعدة اجتماعية مهمة. بلى، والحق يقال. ولكن من وجهة نظر النظام ذاته، هذا يغري بالتساؤل: لم لا يجري خلال نصف سنة استفتاء شعبي على تنحي السيد بشار الأسد، أو بقائه رئيساً حتى نهاية ولايته الحالية؟ من أجل ذلك، لا بد من تجميد الأجهزة الأمنية كلها، وتأميم وسائل الإعلام الآن.
هذا من باب ما يقتضيه الشيء، وليس اشتراطاً مسبقاً. إذ ليس من العدل أو العقل إجراء استفتاء كهذا في ظل حاكمية المخابرات وتسخير الإعلام لعبادة الرئيس. لكن الثورة السورية لا تكاد تتطلع إلى ما يتجاوز هذه المقتضيات الأولية: أمن متساو لجميع السوريين، ونفاذ متكافئ إلى المعلومات وتوصيل متكافئ لها، ورئيس منتخب في انتخابات تنافسية حرة. هل هذا كثير؟
عاشوراء
محمد مهدي شمس الدين: من خطاب العاشر من محرم- 1417- الموافق 27 أيار 1996
الإمام الحسين هو إمام للمسلمين، كل المسلمين، وإمام للمستضعفين، مسلمين كانوا أم غير
مسلمين.. وثورة الحسين كانت إدانة كبرى للنهج الطائفي والفئوي في الحكم وفي المجتمع وفي علاقات الناس والجماعات داخل المجتمع السياسي..أقول هذا الكلام وقد قلته سابقاً، وسأظل أقوله لأقتلع الوهم الذي ربما يكون راسخاً في قلوب بعض الشيعة وربما يكون راسخاً في قلوب بعض المسلمين من غير الشيعة بأن هذا شأن شيعي خاص...أقول هذا الكلام أيضاً لأعيد تأكيد ما قلته في السنين الماضية من أنه ليس للشيعة في لبنان أو في العالم العربي مشروع خاص بهم..الشيعة في لبنان والعالم العربي هم جزء من المشروع الوطني العام لبلدانهم وأمتهم مشروع الدولة والمجتمع الواحد وليس لديهم أي وَهمٌ في مشروع خاص كما أنهم لا يتحملون مسؤولية أي مشروع خاص...هذا هو المعنى الأول والأساس لثورة الحسين الاسلامية-الانسانية...الإمام الحسين تحرك من أجل مشروع دولة للجميع لا تقوم على فئوية أو مذهبية أو طبقية ولا على غلبة واستقواء...هذا المشروع الوطني الاسلامي الانساني هو حلم البشر الدائم في مجتمعاتهم..فالبشر يبحثون عن اعتراف الآخر بهم، عن المساواة والعدالة والكرامة..,هذه تعني الاعتراف المتبادل..والعيش الواحد.. وذلك في مقابل دعوات التمايز والانفصال والغلبة والاستحواذ...
الامام الحسين حمل رسالة ومشروع الدولة العادلة الواحدة والذين قتلوا الحسين حملوا رسالة ومشروع الدولة الفئوية الظالمة المستكبرة..وبهذا المعنى فان خطاب عاشوراء هو خطاب الوحدة خارج الحزبية وفوق الحزبية...وحدة لبنان بجميع فئات شعبه: مسلمين ومسيحيين، وفي جميع مناطقه..خطاب عاشوراء هو خطاب المشروع الوطني الانساني الواحد لا المشاريع الخاصة...قالها الحسين بدمه الطاهر ونقولها نحن في السر والعلن..وفي العلن والسر..
خطاب عاشوراء والحسين هو خطاب العيش المشترك في لبنان... لا بلقلقة اللسان والشعارات الجوفاء..بل العيش الواحد الذي يقوم على ثوابت الكيان اللبناني وثوابت الدولة والمجتمع في لبنان..العيش الواحد الذي يعترف للآخرين بكرامتهم وبحريتهم وبثقافتهم وبكياناتهم الداخلية، لا يُهرِّج عليهم، ولا يُهيمن عليهم بشعار القداسة...لا تجعلوا الحسين حجراً تلقمون به أفواه الآخرين أو ترجمون به الآخرين أو تُخضعون به الآخرين أو تُحاربون به الآخرين...أكرموا هذا الكبير عن أن يكون صغيراً..أكرموا هذا العظيم عن أن يكون محدوداً...
العيش الواحد في خطاب عاشوراء يعمق من مسيحية المسيحي كما يعمق من إسلامية المسلم... كما يعمق من الوشائج التي تجمعهم على إيمان ابراهيم، وتجمعهم على محبة وولاء ومواطنية لبنان"...
الإمام الحسين هو إمام للمسلمين، كل المسلمين، وإمام للمستضعفين، مسلمين كانوا أم غير
مسلمين.. وثورة الحسين كانت إدانة كبرى للنهج الطائفي والفئوي في الحكم وفي المجتمع وفي علاقات الناس والجماعات داخل المجتمع السياسي..أقول هذا الكلام وقد قلته سابقاً، وسأظل أقوله لأقتلع الوهم الذي ربما يكون راسخاً في قلوب بعض الشيعة وربما يكون راسخاً في قلوب بعض المسلمين من غير الشيعة بأن هذا شأن شيعي خاص...أقول هذا الكلام أيضاً لأعيد تأكيد ما قلته في السنين الماضية من أنه ليس للشيعة في لبنان أو في العالم العربي مشروع خاص بهم..الشيعة في لبنان والعالم العربي هم جزء من المشروع الوطني العام لبلدانهم وأمتهم مشروع الدولة والمجتمع الواحد وليس لديهم أي وَهمٌ في مشروع خاص كما أنهم لا يتحملون مسؤولية أي مشروع خاص...هذا هو المعنى الأول والأساس لثورة الحسين الاسلامية-الانسانية...الإمام الحسين تحرك من أجل مشروع دولة للجميع لا تقوم على فئوية أو مذهبية أو طبقية ولا على غلبة واستقواء...هذا المشروع الوطني الاسلامي الانساني هو حلم البشر الدائم في مجتمعاتهم..فالبشر يبحثون عن اعتراف الآخر بهم، عن المساواة والعدالة والكرامة..,هذه تعني الاعتراف المتبادل..والعيش الواحد.. وذلك في مقابل دعوات التمايز والانفصال والغلبة والاستحواذ...
الامام الحسين حمل رسالة ومشروع الدولة العادلة الواحدة والذين قتلوا الحسين حملوا رسالة ومشروع الدولة الفئوية الظالمة المستكبرة..وبهذا المعنى فان خطاب عاشوراء هو خطاب الوحدة خارج الحزبية وفوق الحزبية...وحدة لبنان بجميع فئات شعبه: مسلمين ومسيحيين، وفي جميع مناطقه..خطاب عاشوراء هو خطاب المشروع الوطني الانساني الواحد لا المشاريع الخاصة...قالها الحسين بدمه الطاهر ونقولها نحن في السر والعلن..وفي العلن والسر..
خطاب عاشوراء والحسين هو خطاب العيش المشترك في لبنان... لا بلقلقة اللسان والشعارات الجوفاء..بل العيش الواحد الذي يقوم على ثوابت الكيان اللبناني وثوابت الدولة والمجتمع في لبنان..العيش الواحد الذي يعترف للآخرين بكرامتهم وبحريتهم وبثقافتهم وبكياناتهم الداخلية، لا يُهرِّج عليهم، ولا يُهيمن عليهم بشعار القداسة...لا تجعلوا الحسين حجراً تلقمون به أفواه الآخرين أو ترجمون به الآخرين أو تُخضعون به الآخرين أو تُحاربون به الآخرين...أكرموا هذا الكبير عن أن يكون صغيراً..أكرموا هذا العظيم عن أن يكون محدوداً...
العيش الواحد في خطاب عاشوراء يعمق من مسيحية المسيحي كما يعمق من إسلامية المسلم... كما يعمق من الوشائج التي تجمعهم على إيمان ابراهيم، وتجمعهم على محبة وولاء ومواطنية لبنان"...
فهمي هويدي: تقرير من تونس عن الائتلاف الاسلامي-العلماني الناجح
حين تعقد الجمعية التأسيسية التونسية أول اجتماع لها اليوم لبدء خطوات تسليم السلطة إلى قوى الثورة، فإنهم يعلنون نجاحهم في ما فشلت فيه الثورة المصرية، حتى الآن.
ــ1ــ
أتحدث عن الاجتماع الذي يفترض أن يتم فيه انتخاب رئيس المجلس التأسيسي، والاتفاق على ترتيب انتخاب رئيس الدولة وتعيين رئيس الحكومة، وتنظيم الإجراءات التي تنتهي بوضع دستور جديد للبلاد، خلال فترة يرجى لها ألا تتجاوز 18 شهرا.
حين قلت إنهم نجحوا في ما فشلنا فيه، فلم أكن أعنى فقط أنهم بدأوا خطوات إقامة نظامهم الجديد، المتعثر عندنا، وإنما عنيت أنهم دخلوا إلى تلك المرحلة من باب الوفاق والتفاهم الذي يفترض أن يفضي إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية. بعدما تفاهموا على أن يتولى رئاسة الدولة والجمعية التأسيسية اثنان من العلمانيين، وان يرأس الحكومة الأمين العام لحزب النهضة الإسلامي، الذي حاز اكبر نسبة من المقاعد.
التوافق الحاصل في الساحة التونسية ليس من ثمار ثورة 14 يناير، لكنه سابق عليها بعدة سنوات، ذلك أن القوى الوطنية التونسية قررت أن تتحدى ذلك النظام في عام 2005، حيث شكلت في ما بينها تجمعا باسم «18 أكتوبر للحقوق والحريات». وذلك هو التاريخ الذي أعلنت فيه ثماني شخصيات وطنية الإضراب عن الطعام احتجاجات على تدهور على حالة الحريات العامة ــ وقصد أولئك النشطاء أن يعلنوا عن إضرابهم الذي استمر لأكثر من شهر قبل انعقاد القمة العالمية لمجتمع المعلومات الذي تقرر عقده في 17 نوفمبر من العام ذاته. وأرادوا بذلك فضح النظام وإحراجه أمام الوفود القادمة من مختلف أنحاء العالم، آنذاك تشكلت لجنة وطنية للإضراب ضمت بعض الأحزاب التي كانت حركة النهضة من بينها. وحين لقيت اللجنة تأييدا واسعا من قطاعات مختلفة من المجتمع، قررت أن تقيم منتدى 18 أكتوبر، الذي دعيت مختلف التيارات إلى مناقشة خلافاتها الفكرية، وأعلن رسميا عن تأسيس ذلك المنتدى في 25 يناير من عام 2006.
طوال أربع سنوات ظلت هيئة منتدى 18 أكتوبر تدرس خلافاتها وتسعى إلى تحديد القواسم المشتركة التي يمكن الاتفاق حولها، وانتهت إلى إصدار ثلاثة أوراق شكلت أرضية الاتفاق، واحدة حول المساواة بين الجنسين والثانية خاصة بحرية المعتقد والضمير والثالثة تناولت علاقة الدين بالدولة في مجتمع مسلم ديموقراطي. وصدرت تلك الوثائق في عام 2010 ــ في العام السابق على الثورة ــ في كراسة بعنوان: طريقنا إلى الديمقراطية ــ وكان من نتيجة ذلك التوافق أنه حين قامت الثورة، فإن طريق العمل المشترك بين قوى الاعتدال الإسلامي والعلماني كان ممهدا.
لم يكن مستغربا أن تصاب شرائح الغلاه من الليبراليين والعلمانيين المتحكمة في المجال العام منذ الاستقلال في عام 1956 بصدمة شديدة حين حققت حركة النهضة تقدمها في الانتخابات. وكانت عملية التخويف ومحاولات الاصطياد والإيقاع من أهم الوسائل التي استخدمت في تلك المواجهة.
وكان رئيس اللجنة التي شكلت للحفاظ على الثورة ــ عياض بن عاشور ــ أحد الذين دعوا إلى حذف الإسلام من هوية الدولة (النص موجود في الدستور منذ الاستقلال) ــ وخرجت مجموعة باسم «النساء الديموقراطيات» طالبت بمساواة الرجل بالمرأة في الميراث، وطالبت إحدى السيدات في ندوة عقدها التلفزيون الفرنسي بتدخل فرنسا لإنقاذ السيدات من «براثن» النهضة. وأثارت أخرى ضجة لأن واحدة من نواب النهضة رفضت مشروعها لتقنين وضع الأمهات العازبات (اللاتي أنجبن بغير زواج) وعرضت إحدى القنوات شريطا صور الذات الإلهية وعرضت فتاة أخرى شريطا قبل الانتخابات أعلنت فيه البطلة أنها «كافرة». وكانت الضجة الكبرى حين دعا السيد حمادي الجبالي الأمين العام لحزب النهضة إلى تمثل الخلافة الراشدة السادسة (كان يقصد إشاعة العدل في البلاد كما فعل الخليفة عمر بن عبد العزيز). وقد أثار ذلك غضب غلاة العلمانيين الذين استفزهم استخدام مصطلح الخلافة الراشدة.
ومنذ عاد قادة النهضة من المنفى إلى بلادهم، خصوصا الشيخ راشد الغنوشي، وهو يواجه بأسئلة حول مصير الحانات وغير المحجبات والمايوهات البكيني والسينما والبنوك... إلخ، وفى الأسبوع الماضي اجتمع بعض الفنانين مع أحد المسؤولين عن الثقافة في النهضة (العجمي الوريمي) وكان الاجتماع مكرسا لبحث مصير الرقص الشرقي في ظل الحكومة الجديدة.
للدقة فإن هذا اللغط يثيره المثقفون والفرقاء السياسيون. في حين أنه لا يحتل حيزا يذكر في الشــارع التونـسي. ذلك أن المجتمع يعاني من مشكلة البطالة والكساد، نتيجة لتوقف السـياحة بصـورة نسبية بعد الثورة. الأمر الذي زاد من العاطلين الذين كان عددهم 500 ألف فوصل العدد بعد الثورة إلى 700 ألف، والعدد مرشح لأن يصل إلى مليون عاطل إذا استمر الحال كما هو عليه الآن (لاحظ أن سكان تونس عشرة ملايين).
في الوقت ذاته فإن الجميع لا يكفون عن الحديث عن فضائح النظام السابق التي باتت على كل لسان. وأكثر تلك الفضائح تدور حول علاقات الرئيس السابق وذمته المالية وأطماعه هو وزوجته وأهلها «الطرابلسية»، وما سمعته عن الرئيس السابق يفوق القدرة على التصديق، فعلاقاته مع الموساد الإسرائيلي ودوره في قتل بعض القادة الفلسطينيين محل تحقيق. ثم إن فساد ذمته المالية تجاوز حدود اكتنازه للأموال النقدية والمجوهرات في سراديب قصوره ووصل إلى درجة إتجاره في المخدرات الذي كان يتم بواسطة شقيقه (اتهم بقتله). وقد فوجئ الجميع بأن بعض قصوره احتوت على مخازن كدست فيها الثلاجات والبوتاغازات وأجهزة التلفزيون والغسالات. ويظل ذلك كله أمرا محدودا إلى جانب عمليات النهب العظيم التي طالت الأراضي والغابات والمشروعات الاقتصادية الكبرى التي كان ينتزع بعضها من أصحابها، وقد لجأ عدد منهم إلى الهجرة من البلاد فرارا من ذلك المصير، في حين أقدم آخرون على الانتحار حين اكتشفوا أن شقاء عمرهم اختطفت منهم.
استوقفني فيما سمعت عن فساد العهد السابق المعلومات التي اكتشفت في ملفات وكالة الإعلام الخارجي، حيث تبين مثلا أن الوكالة كانت تدفع شهريا 2 مليون دولار لشراء بعض وسائل الإعلام في لبنان، بينها قناتان تليفزيونيتان شهيرتان. كذلك كانت تدفع مبالغ أخرى لصحافيين عرب، منهم مصريون أشير إلى أحدهم بحرفي (م.ج). كما أشير إلى أن تقارير تلك الوكالة التي كان تمجد بن علي وعهده، كانت تنشر باعتبارها مقالات تحليلية في بعض الصحف المستقلة في مصر وبعض الأقطار العربية الأخرى.
كي استكمل الصورة ذهبت إلى الشيخ راشد الغنوشي في البيت الذي استأجره أخيرا في حي المنزه بعد غيبة استمرت 22 عاما، وكانت السلطة قد استولت على بيته الأصلي بعد اغترابه، وقد عثروا أخيرا على أوراق ملكية بيته المغتصب وردوه إليه. حين سألته عن الحملات التي تشن بصفة يومية على حركة النهضة، ضحك وقال: نحن معتادون على ذلك وأكثر منه، وما يهمنا الآن هو إنقاذ الوطن وليس الدفاع عن الحركة. سألت عن تصريحاته التي تحدث فيها عن عدم التدخل في حريات الناس والسائحين، قال إن لدينا أولوياتنا وهمنا الأول هو طمأنة الجميع وإنقاذ اقتصاد البلد من الكساد. ثم أن موضوع الحريات محسوم عندنا منذ وقت مبكر، سابق على وثائق منتدى 18 أكتوبر. قلت إن مجلة «جون أفريك» في عددها الأخير، وكذلك كتابات محللين غربيين وعرب كثيرين ذكروا أن حركة النهضة طوت أفكارها بسبب هجرة قادتها إلى فرنسا وإنكلترا. عندئذ عاد إلى ضحكته وقال، لو أنهم قرأوا أدبياتنا في الثمانينيات، لاكتشفوا أنهم كانوا يقرأوننا بنظارة سوداء. ولكنهم رأونا على حقيقتنا حين خلعوا النظارة بعد الانتخابات. والطريف أنهم تصوروا أننا تغيرنا، في حين أن المشكلة أنهم هم الذين فتحوا أعينهم على حقيقتنا.
سألته عن علاقة حركة النهضة بالأجهزة الأمنية التي ظلت تنكل بعناصرها طول الوقت. قال إنهم نكلوا بالشعب التونسي كله وكانت حصتنا أكبر. سجنوا وعذبوا 45 ألفاً. وقتلوا أكثر من مائة تحت التعذيب أطلقت أسماؤهم على قاعات مقرات الحركة التي افتتحت هذا العام. ونحن نعرف أسماء الذين عذبوا أخواتنا وعناوينهم. لكننا قلنا إن الحركة لن تدعى على أحد، وستترك كل واحد وشأنه. أما إذا أراد الأفراد أن يقاضوا معذبيهم من جهتهم فهذا شأنهم.
سألته عما إذا كانت الشرطة والأجهزة الأمنية ستبقى على حالها. فنفى ذلك وقال إن 45 من قيادات تلك الأجهزة انهيت خدماتهم وبعضهم تم اعتقالهم. وأنه تم تعين عشرات آلاف شرطي جديد، اخضعوا لدورات تثقيفية في احترام القانون وحقوق الإنسان. وتم استجلاب محاضرين لهذا الغرض من إنكلترا وبلجيكا والولايات المتحدة.
سألته عن الشائعات التي ترددت عن احتمال تدخل الجيش إذا ما فازت حركة النهضة في الانتخابات، فقال إن مصدر الشائعة كان أحد النافذين في عهد بن علي، وما ان وصلت إلى إسماع رئيس الأركان الجنرال رشيد بن عمار، حتى سارع إلى دعوتنا للقائه ونفى الشائعة، مؤكدا على أن الجيش ملتزم باحترام الإرادة الشعبية، علما بأن الرجل رفض طلبا بن على لإطلاق النار على المتظاهرين في الثورة.
سألــته عن زيارته للولايات المتـحدة الأمـيركية في شهر يناير القادم تلبية لدعوة من مجلة الشؤون الخارجية (فورين أفـيرز) فقال إنه كان ممنوعا من دخول أميركا منذ عام 94، ولكنه قبل الدعوة التي وجهت إليه بعد الثورة. وأضاف ان هناك دعوة مماثلة وجهت إلى السيد حمادي الجبالي سيقوم بها بعد تنصيبه رسميا رئيسا للوزراء.
الملاحظ انه منذ بداية الثورة اتخذت واشنطن سياسة أكثر رشدا وواقعية، في حين أن فرنسا أعلنت عن وقوفها إلى جانب بن على. وذكرت وزيرة الخارجية أمام الجمعية الوطنية في البداية أن فرنسا تضع إمكانياتها تحت تصرف الرئيس السابق، الذي فتح البلد على مصارعها أمام السياسيين الفرنسيين، فتملكوا على شواطئها وقضوا عطلاتهم على نفقته. لكنهم جميعا أداروا ظهورهم له، وأصبحوا يتطلعون إلى علاقة إيجابية مع النظام الجديد. وأجرى الان جوبيه وزير الخارجية اتصالا هاتفيا مع الشيخ راشد الغنوشي ليبدد السحابات التي لاحت في أفق علاقات البلدين.
في إحدى جلسات الحوار تطرق الحديث إلى المقارنة بين ثورتي تونس ومصر، وقلت إن الائتلاف بين قوى الاعتدال الإسلامي والعلماني فارق مهم لصالح الثورة التونسية. التي اعتبرها محظوظة لسببين آخرين، أولهما أنها ليست مجاورة لإسرائيل. لذلك فالديموقراطية فيها يمكن أن تحتمل، بعكس مصر التي يخاف الجميع من إقامة الديموقراطية على أرضها. حينئذ علق أحد التونسيين المطلعين قائلا، إن وفدا أميركيا من خمسة أشخاص جاء إلى تونس قبل عشرة أيام وأراد أن يجس نبض علاقة النظام الجديد بإسرائيل، عبر إشارته إلى أن بعض الأثرياء الإسرائيليين يريدون الاستثمار في تونس، وكان ردنا أن النظام الجديد متضامن مع الفلسطينيين، وأن اهتمامنا منصب على إنجاح التجربة الديموقراطية وتجاوز الأزمة الاقتصادية، وكل ما عدا ذلك مؤجل.
قلت لسامعي إن التونسيين محظوظون أيضا، لأن بن علي غادر البلاد وهرب تاركا فلوله، أما في مصر فمبارك موجود وكذلك فلوله. عندئذ قال مواسيا: الله معكم!
ــ1ــ
أتحدث عن الاجتماع الذي يفترض أن يتم فيه انتخاب رئيس المجلس التأسيسي، والاتفاق على ترتيب انتخاب رئيس الدولة وتعيين رئيس الحكومة، وتنظيم الإجراءات التي تنتهي بوضع دستور جديد للبلاد، خلال فترة يرجى لها ألا تتجاوز 18 شهرا.
حين قلت إنهم نجحوا في ما فشلنا فيه، فلم أكن أعنى فقط أنهم بدأوا خطوات إقامة نظامهم الجديد، المتعثر عندنا، وإنما عنيت أنهم دخلوا إلى تلك المرحلة من باب الوفاق والتفاهم الذي يفترض أن يفضي إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية. بعدما تفاهموا على أن يتولى رئاسة الدولة والجمعية التأسيسية اثنان من العلمانيين، وان يرأس الحكومة الأمين العام لحزب النهضة الإسلامي، الذي حاز اكبر نسبة من المقاعد.
التوافق الحاصل في الساحة التونسية ليس من ثمار ثورة 14 يناير، لكنه سابق عليها بعدة سنوات، ذلك أن القوى الوطنية التونسية قررت أن تتحدى ذلك النظام في عام 2005، حيث شكلت في ما بينها تجمعا باسم «18 أكتوبر للحقوق والحريات». وذلك هو التاريخ الذي أعلنت فيه ثماني شخصيات وطنية الإضراب عن الطعام احتجاجات على تدهور على حالة الحريات العامة ــ وقصد أولئك النشطاء أن يعلنوا عن إضرابهم الذي استمر لأكثر من شهر قبل انعقاد القمة العالمية لمجتمع المعلومات الذي تقرر عقده في 17 نوفمبر من العام ذاته. وأرادوا بذلك فضح النظام وإحراجه أمام الوفود القادمة من مختلف أنحاء العالم، آنذاك تشكلت لجنة وطنية للإضراب ضمت بعض الأحزاب التي كانت حركة النهضة من بينها. وحين لقيت اللجنة تأييدا واسعا من قطاعات مختلفة من المجتمع، قررت أن تقيم منتدى 18 أكتوبر، الذي دعيت مختلف التيارات إلى مناقشة خلافاتها الفكرية، وأعلن رسميا عن تأسيس ذلك المنتدى في 25 يناير من عام 2006.
طوال أربع سنوات ظلت هيئة منتدى 18 أكتوبر تدرس خلافاتها وتسعى إلى تحديد القواسم المشتركة التي يمكن الاتفاق حولها، وانتهت إلى إصدار ثلاثة أوراق شكلت أرضية الاتفاق، واحدة حول المساواة بين الجنسين والثانية خاصة بحرية المعتقد والضمير والثالثة تناولت علاقة الدين بالدولة في مجتمع مسلم ديموقراطي. وصدرت تلك الوثائق في عام 2010 ــ في العام السابق على الثورة ــ في كراسة بعنوان: طريقنا إلى الديمقراطية ــ وكان من نتيجة ذلك التوافق أنه حين قامت الثورة، فإن طريق العمل المشترك بين قوى الاعتدال الإسلامي والعلماني كان ممهدا.
لم يكن مستغربا أن تصاب شرائح الغلاه من الليبراليين والعلمانيين المتحكمة في المجال العام منذ الاستقلال في عام 1956 بصدمة شديدة حين حققت حركة النهضة تقدمها في الانتخابات. وكانت عملية التخويف ومحاولات الاصطياد والإيقاع من أهم الوسائل التي استخدمت في تلك المواجهة.
وكان رئيس اللجنة التي شكلت للحفاظ على الثورة ــ عياض بن عاشور ــ أحد الذين دعوا إلى حذف الإسلام من هوية الدولة (النص موجود في الدستور منذ الاستقلال) ــ وخرجت مجموعة باسم «النساء الديموقراطيات» طالبت بمساواة الرجل بالمرأة في الميراث، وطالبت إحدى السيدات في ندوة عقدها التلفزيون الفرنسي بتدخل فرنسا لإنقاذ السيدات من «براثن» النهضة. وأثارت أخرى ضجة لأن واحدة من نواب النهضة رفضت مشروعها لتقنين وضع الأمهات العازبات (اللاتي أنجبن بغير زواج) وعرضت إحدى القنوات شريطا صور الذات الإلهية وعرضت فتاة أخرى شريطا قبل الانتخابات أعلنت فيه البطلة أنها «كافرة». وكانت الضجة الكبرى حين دعا السيد حمادي الجبالي الأمين العام لحزب النهضة إلى تمثل الخلافة الراشدة السادسة (كان يقصد إشاعة العدل في البلاد كما فعل الخليفة عمر بن عبد العزيز). وقد أثار ذلك غضب غلاة العلمانيين الذين استفزهم استخدام مصطلح الخلافة الراشدة.
ومنذ عاد قادة النهضة من المنفى إلى بلادهم، خصوصا الشيخ راشد الغنوشي، وهو يواجه بأسئلة حول مصير الحانات وغير المحجبات والمايوهات البكيني والسينما والبنوك... إلخ، وفى الأسبوع الماضي اجتمع بعض الفنانين مع أحد المسؤولين عن الثقافة في النهضة (العجمي الوريمي) وكان الاجتماع مكرسا لبحث مصير الرقص الشرقي في ظل الحكومة الجديدة.
للدقة فإن هذا اللغط يثيره المثقفون والفرقاء السياسيون. في حين أنه لا يحتل حيزا يذكر في الشــارع التونـسي. ذلك أن المجتمع يعاني من مشكلة البطالة والكساد، نتيجة لتوقف السـياحة بصـورة نسبية بعد الثورة. الأمر الذي زاد من العاطلين الذين كان عددهم 500 ألف فوصل العدد بعد الثورة إلى 700 ألف، والعدد مرشح لأن يصل إلى مليون عاطل إذا استمر الحال كما هو عليه الآن (لاحظ أن سكان تونس عشرة ملايين).
في الوقت ذاته فإن الجميع لا يكفون عن الحديث عن فضائح النظام السابق التي باتت على كل لسان. وأكثر تلك الفضائح تدور حول علاقات الرئيس السابق وذمته المالية وأطماعه هو وزوجته وأهلها «الطرابلسية»، وما سمعته عن الرئيس السابق يفوق القدرة على التصديق، فعلاقاته مع الموساد الإسرائيلي ودوره في قتل بعض القادة الفلسطينيين محل تحقيق. ثم إن فساد ذمته المالية تجاوز حدود اكتنازه للأموال النقدية والمجوهرات في سراديب قصوره ووصل إلى درجة إتجاره في المخدرات الذي كان يتم بواسطة شقيقه (اتهم بقتله). وقد فوجئ الجميع بأن بعض قصوره احتوت على مخازن كدست فيها الثلاجات والبوتاغازات وأجهزة التلفزيون والغسالات. ويظل ذلك كله أمرا محدودا إلى جانب عمليات النهب العظيم التي طالت الأراضي والغابات والمشروعات الاقتصادية الكبرى التي كان ينتزع بعضها من أصحابها، وقد لجأ عدد منهم إلى الهجرة من البلاد فرارا من ذلك المصير، في حين أقدم آخرون على الانتحار حين اكتشفوا أن شقاء عمرهم اختطفت منهم.
استوقفني فيما سمعت عن فساد العهد السابق المعلومات التي اكتشفت في ملفات وكالة الإعلام الخارجي، حيث تبين مثلا أن الوكالة كانت تدفع شهريا 2 مليون دولار لشراء بعض وسائل الإعلام في لبنان، بينها قناتان تليفزيونيتان شهيرتان. كذلك كانت تدفع مبالغ أخرى لصحافيين عرب، منهم مصريون أشير إلى أحدهم بحرفي (م.ج). كما أشير إلى أن تقارير تلك الوكالة التي كان تمجد بن علي وعهده، كانت تنشر باعتبارها مقالات تحليلية في بعض الصحف المستقلة في مصر وبعض الأقطار العربية الأخرى.
كي استكمل الصورة ذهبت إلى الشيخ راشد الغنوشي في البيت الذي استأجره أخيرا في حي المنزه بعد غيبة استمرت 22 عاما، وكانت السلطة قد استولت على بيته الأصلي بعد اغترابه، وقد عثروا أخيرا على أوراق ملكية بيته المغتصب وردوه إليه. حين سألته عن الحملات التي تشن بصفة يومية على حركة النهضة، ضحك وقال: نحن معتادون على ذلك وأكثر منه، وما يهمنا الآن هو إنقاذ الوطن وليس الدفاع عن الحركة. سألت عن تصريحاته التي تحدث فيها عن عدم التدخل في حريات الناس والسائحين، قال إن لدينا أولوياتنا وهمنا الأول هو طمأنة الجميع وإنقاذ اقتصاد البلد من الكساد. ثم أن موضوع الحريات محسوم عندنا منذ وقت مبكر، سابق على وثائق منتدى 18 أكتوبر. قلت إن مجلة «جون أفريك» في عددها الأخير، وكذلك كتابات محللين غربيين وعرب كثيرين ذكروا أن حركة النهضة طوت أفكارها بسبب هجرة قادتها إلى فرنسا وإنكلترا. عندئذ عاد إلى ضحكته وقال، لو أنهم قرأوا أدبياتنا في الثمانينيات، لاكتشفوا أنهم كانوا يقرأوننا بنظارة سوداء. ولكنهم رأونا على حقيقتنا حين خلعوا النظارة بعد الانتخابات. والطريف أنهم تصوروا أننا تغيرنا، في حين أن المشكلة أنهم هم الذين فتحوا أعينهم على حقيقتنا.
سألته عن علاقة حركة النهضة بالأجهزة الأمنية التي ظلت تنكل بعناصرها طول الوقت. قال إنهم نكلوا بالشعب التونسي كله وكانت حصتنا أكبر. سجنوا وعذبوا 45 ألفاً. وقتلوا أكثر من مائة تحت التعذيب أطلقت أسماؤهم على قاعات مقرات الحركة التي افتتحت هذا العام. ونحن نعرف أسماء الذين عذبوا أخواتنا وعناوينهم. لكننا قلنا إن الحركة لن تدعى على أحد، وستترك كل واحد وشأنه. أما إذا أراد الأفراد أن يقاضوا معذبيهم من جهتهم فهذا شأنهم.
سألته عما إذا كانت الشرطة والأجهزة الأمنية ستبقى على حالها. فنفى ذلك وقال إن 45 من قيادات تلك الأجهزة انهيت خدماتهم وبعضهم تم اعتقالهم. وأنه تم تعين عشرات آلاف شرطي جديد، اخضعوا لدورات تثقيفية في احترام القانون وحقوق الإنسان. وتم استجلاب محاضرين لهذا الغرض من إنكلترا وبلجيكا والولايات المتحدة.
سألته عن الشائعات التي ترددت عن احتمال تدخل الجيش إذا ما فازت حركة النهضة في الانتخابات، فقال إن مصدر الشائعة كان أحد النافذين في عهد بن علي، وما ان وصلت إلى إسماع رئيس الأركان الجنرال رشيد بن عمار، حتى سارع إلى دعوتنا للقائه ونفى الشائعة، مؤكدا على أن الجيش ملتزم باحترام الإرادة الشعبية، علما بأن الرجل رفض طلبا بن على لإطلاق النار على المتظاهرين في الثورة.
سألــته عن زيارته للولايات المتـحدة الأمـيركية في شهر يناير القادم تلبية لدعوة من مجلة الشؤون الخارجية (فورين أفـيرز) فقال إنه كان ممنوعا من دخول أميركا منذ عام 94، ولكنه قبل الدعوة التي وجهت إليه بعد الثورة. وأضاف ان هناك دعوة مماثلة وجهت إلى السيد حمادي الجبالي سيقوم بها بعد تنصيبه رسميا رئيسا للوزراء.
الملاحظ انه منذ بداية الثورة اتخذت واشنطن سياسة أكثر رشدا وواقعية، في حين أن فرنسا أعلنت عن وقوفها إلى جانب بن على. وذكرت وزيرة الخارجية أمام الجمعية الوطنية في البداية أن فرنسا تضع إمكانياتها تحت تصرف الرئيس السابق، الذي فتح البلد على مصارعها أمام السياسيين الفرنسيين، فتملكوا على شواطئها وقضوا عطلاتهم على نفقته. لكنهم جميعا أداروا ظهورهم له، وأصبحوا يتطلعون إلى علاقة إيجابية مع النظام الجديد. وأجرى الان جوبيه وزير الخارجية اتصالا هاتفيا مع الشيخ راشد الغنوشي ليبدد السحابات التي لاحت في أفق علاقات البلدين.
في إحدى جلسات الحوار تطرق الحديث إلى المقارنة بين ثورتي تونس ومصر، وقلت إن الائتلاف بين قوى الاعتدال الإسلامي والعلماني فارق مهم لصالح الثورة التونسية. التي اعتبرها محظوظة لسببين آخرين، أولهما أنها ليست مجاورة لإسرائيل. لذلك فالديموقراطية فيها يمكن أن تحتمل، بعكس مصر التي يخاف الجميع من إقامة الديموقراطية على أرضها. حينئذ علق أحد التونسيين المطلعين قائلا، إن وفدا أميركيا من خمسة أشخاص جاء إلى تونس قبل عشرة أيام وأراد أن يجس نبض علاقة النظام الجديد بإسرائيل، عبر إشارته إلى أن بعض الأثرياء الإسرائيليين يريدون الاستثمار في تونس، وكان ردنا أن النظام الجديد متضامن مع الفلسطينيين، وأن اهتمامنا منصب على إنجاح التجربة الديموقراطية وتجاوز الأزمة الاقتصادية، وكل ما عدا ذلك مؤجل.
قلت لسامعي إن التونسيين محظوظون أيضا، لأن بن علي غادر البلاد وهرب تاركا فلوله، أما في مصر فمبارك موجود وكذلك فلوله. عندئذ قال مواسيا: الله معكم!
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)