الجمعة، 25 نوفمبر 2011

فهمي هويدي: تقرير من تونس عن الائتلاف الاسلامي-العلماني الناجح

حين تعقد الجمعية التأسيسية التونسية أول اجتماع لها اليوم لبدء خطوات تسليم السلطة إلى قوى الثورة، فإنهم يعلنون نجاحهم في ما فشلت فيه الثورة المصرية، حتى الآن.
ــ1ــ
أتحدث عن الاجتماع الذي يفترض أن يتم فيه انتخاب رئيس المجلس التأسيسي، والاتفاق على ترتيب انتخاب رئيس الدولة وتعيين رئيس الحكومة، وتنظيم الإجراءات التي تنتهي بوضع دستور جديد للبلاد، خلال فترة يرجى لها ألا تتجاوز 18 شهرا.
حين قلت إنهم نجحوا في ما فشلنا فيه، فلم أكن أعنى فقط أنهم بدأوا خطوات إقامة نظامهم الجديد، المتعثر عندنا، وإنما عنيت أنهم دخلوا إلى تلك المرحلة من باب الوفاق والتفاهم الذي يفترض أن يفضي إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية. بعدما تفاهموا على أن يتولى رئاسة الدولة والجمعية التأسيسية اثنان من العلمانيين، وان يرأس الحكومة الأمين العام لحزب النهضة الإسلامي، الذي حاز اكبر نسبة من المقاعد.
التوافق الحاصل في الساحة التونسية ليس من ثمار ثورة 14 يناير، لكنه سابق عليها بعدة سنوات، ذلك أن القوى الوطنية التونسية قررت أن تتحدى ذلك النظام في عام 2005، حيث شكلت في ما بينها تجمعا باسم «18 أكتوبر للحقوق والحريات». وذلك هو التاريخ الذي أعلنت فيه ثماني شخصيات وطنية الإضراب عن الطعام احتجاجات على تدهور على حالة الحريات العامة ــ وقصد أولئك النشطاء أن يعلنوا عن إضرابهم الذي استمر لأكثر من شهر قبل انعقاد القمة العالمية لمجتمع المعلومات الذي تقرر عقده في 17 نوفمبر من العام ذاته. وأرادوا بذلك فضح النظام وإحراجه أمام الوفود القادمة من مختلف أنحاء العالم، آنذاك تشكلت لجنة وطنية للإضراب ضمت بعض الأحزاب التي كانت حركة النهضة من بينها. وحين لقيت اللجنة تأييدا واسعا من قطاعات مختلفة من المجتمع، قررت أن تقيم منتدى 18 أكتوبر، الذي دعيت مختلف التيارات إلى مناقشة خلافاتها الفكرية، وأعلن رسميا عن تأسيس ذلك المنتدى في 25 يناير من عام 2006.
طوال أربع سنوات ظلت هيئة منتدى 18 أكتوبر تدرس خلافاتها وتسعى إلى تحديد القواسم المشتركة التي يمكن الاتفاق حولها، وانتهت إلى إصدار ثلاثة أوراق شكلت أرضية الاتفاق، واحدة حول المساواة بين الجنسين والثانية خاصة بحرية المعتقد والضمير والثالثة تناولت علاقة الدين بالدولة في مجتمع مسلم ديموقراطي. وصدرت تلك الوثائق في عام 2010 ــ في العام السابق على الثورة ــ في كراسة بعنوان: طريقنا إلى الديمقراطية ــ وكان من نتيجة ذلك التوافق أنه حين قامت الثورة، فإن طريق العمل المشترك بين قوى الاعتدال الإسلامي والعلماني كان ممهدا.

لم يكن مستغربا أن تصاب شرائح الغلاه من الليبراليين والعلمانيين المتحكمة في المجال العام منذ الاستقلال في عام 1956 بصدمة شديدة حين حققت حركة النهضة تقدمها في الانتخابات. وكانت عملية التخويف ومحاولات الاصطياد والإيقاع من أهم الوسائل التي استخدمت في تلك المواجهة.
وكان رئيس اللجنة التي شكلت للحفاظ على الثورة ــ عياض بن عاشور ــ أحد الذين دعوا إلى حذف الإسلام من هوية الدولة (النص موجود في الدستور منذ الاستقلال) ــ وخرجت مجموعة باسم «النساء الديموقراطيات» طالبت بمساواة الرجل بالمرأة في الميراث، وطالبت إحدى السيدات في ندوة عقدها التلفزيون الفرنسي بتدخل فرنسا لإنقاذ السيدات من «براثن» النهضة. وأثارت أخرى ضجة لأن واحدة من نواب النهضة رفضت مشروعها لتقنين وضع الأمهات العازبات (اللاتي أنجبن بغير زواج) وعرضت إحدى القنوات شريطا صور الذات الإلهية وعرضت فتاة أخرى شريطا قبل الانتخابات أعلنت فيه البطلة أنها «كافرة». وكانت الضجة الكبرى حين دعا السيد حمادي الجبالي الأمين العام لحزب النهضة إلى تمثل الخلافة الراشدة السادسة (كان يقصد إشاعة العدل في البلاد كما فعل الخليفة عمر بن عبد العزيز). وقد أثار ذلك غضب غلاة العلمانيين الذين استفزهم استخدام مصطلح الخلافة الراشدة.
ومنذ عاد قادة النهضة من المنفى إلى بلادهم، خصوصا الشيخ راشد الغنوشي، وهو يواجه بأسئلة حول مصير الحانات وغير المحجبات والمايوهات البكيني والسينما والبنوك... إلخ، وفى الأسبوع الماضي اجتمع بعض الفنانين مع أحد المسؤولين عن الثقافة في النهضة (العجمي الوريمي) وكان الاجتماع مكرسا لبحث مصير الرقص الشرقي في ظل الحكومة الجديدة.
للدقة فإن هذا اللغط يثيره المثقفون والفرقاء السياسيون. في حين أنه لا يحتل حيزا يذكر في الشــارع التونـسي. ذلك أن المجتمع يعاني من مشكلة البطالة والكساد، نتيجة لتوقف السـياحة بصـورة نسبية بعد الثورة. الأمر الذي زاد من العاطلين الذين كان عددهم 500 ألف فوصل العدد بعد الثورة إلى 700 ألف، والعدد مرشح لأن يصل إلى مليون عاطل إذا استمر الحال كما هو عليه الآن (لاحظ أن سكان تونس عشرة ملايين).
في الوقت ذاته فإن الجميع لا يكفون عن الحديث عن فضائح النظام السابق التي باتت على كل لسان. وأكثر تلك الفضائح تدور حول علاقات الرئيس السابق وذمته المالية وأطماعه هو وزوجته وأهلها «الطرابلسية»، وما سمعته عن الرئيس السابق يفوق القدرة على التصديق، فعلاقاته مع الموساد الإسرائيلي ودوره في قتل بعض القادة الفلسطينيين محل تحقيق. ثم إن فساد ذمته المالية تجاوز حدود اكتنازه للأموال النقدية والمجوهرات في سراديب قصوره ووصل إلى درجة إتجاره في المخدرات الذي كان يتم بواسطة شقيقه (اتهم بقتله). وقد فوجئ الجميع بأن بعض قصوره احتوت على مخازن كدست فيها الثلاجات والبوتاغازات وأجهزة التلفزيون والغسالات. ويظل ذلك كله أمرا محدودا إلى جانب عمليات النهب العظيم التي طالت الأراضي والغابات والمشروعات الاقتصادية الكبرى التي كان ينتزع بعضها من أصحابها، وقد لجأ عدد منهم إلى الهجرة من البلاد فرارا من ذلك المصير، في حين أقدم آخرون على الانتحار حين اكتشفوا أن شقاء عمرهم اختطفت منهم.
استوقفني فيما سمعت عن فساد العهد السابق المعلومات التي اكتشفت في ملفات وكالة الإعلام الخارجي، حيث تبين مثلا أن الوكالة كانت تدفع شهريا 2 مليون دولار لشراء بعض وسائل الإعلام في لبنان، بينها قناتان تليفزيونيتان شهيرتان. كذلك كانت تدفع مبالغ أخرى لصحافيين عرب، منهم مصريون أشير إلى أحدهم بحرفي (م.ج). كما أشير إلى أن تقارير تلك الوكالة التي كان تمجد بن علي وعهده، كانت تنشر باعتبارها مقالات تحليلية في بعض الصحف المستقلة في مصر وبعض الأقطار العربية الأخرى.

كي استكمل الصورة ذهبت إلى الشيخ راشد الغنوشي في البيت الذي استأجره أخيرا في حي المنزه بعد غيبة استمرت 22 عاما، وكانت السلطة قد استولت على بيته الأصلي بعد اغترابه، وقد عثروا أخيرا على أوراق ملكية بيته المغتصب وردوه إليه. حين سألته عن الحملات التي تشن بصفة يومية على حركة النهضة، ضحك وقال: نحن معتادون على ذلك وأكثر منه، وما يهمنا الآن هو إنقاذ الوطن وليس الدفاع عن الحركة. سألت عن تصريحاته التي تحدث فيها عن عدم التدخل في حريات الناس والسائحين، قال إن لدينا أولوياتنا وهمنا الأول هو طمأنة الجميع وإنقاذ اقتصاد البلد من الكساد. ثم أن موضوع الحريات محسوم عندنا منذ وقت مبكر، سابق على وثائق منتدى 18 أكتوبر. قلت إن مجلة «جون أفريك» في عددها الأخير، وكذلك كتابات محللين غربيين وعرب كثيرين ذكروا أن حركة النهضة طوت أفكارها بسبب هجرة قادتها إلى فرنسا وإنكلترا. عندئذ عاد إلى ضحكته وقال، لو أنهم قرأوا أدبياتنا في الثمانينيات، لاكتشفوا أنهم كانوا يقرأوننا بنظارة سوداء. ولكنهم رأونا على حقيقتنا حين خلعوا النظارة بعد الانتخابات. والطريف أنهم تصوروا أننا تغيرنا، في حين أن المشكلة أنهم هم الذين فتحوا أعينهم على حقيقتنا.
سألته عن علاقة حركة النهضة بالأجهزة الأمنية التي ظلت تنكل بعناصرها طول الوقت. قال إنهم نكلوا بالشعب التونسي كله وكانت حصتنا أكبر. سجنوا وعذبوا 45 ألفاً. وقتلوا أكثر من مائة تحت التعذيب أطلقت أسماؤهم على قاعات مقرات الحركة التي افتتحت هذا العام. ونحن نعرف أسماء الذين عذبوا أخواتنا وعناوينهم. لكننا قلنا إن الحركة لن تدعى على أحد، وستترك كل واحد وشأنه. أما إذا أراد الأفراد أن يقاضوا معذبيهم من جهتهم فهذا شأنهم.
سألته عما إذا كانت الشرطة والأجهزة الأمنية ستبقى على حالها. فنفى ذلك وقال إن 45 من قيادات تلك الأجهزة انهيت خدماتهم وبعضهم تم اعتقالهم. وأنه تم تعين عشرات آلاف شرطي جديد، اخضعوا لدورات تثقيفية في احترام القانون وحقوق الإنسان. وتم استجلاب محاضرين لهذا الغرض من إنكلترا وبلجيكا والولايات المتحدة.
سألته عن الشائعات التي ترددت عن احتمال تدخل الجيش إذا ما فازت حركة النهضة في الانتخابات، فقال إن مصدر الشائعة كان أحد النافذين في عهد بن علي، وما ان وصلت إلى إسماع رئيس الأركان الجنرال رشيد بن عمار، حتى سارع إلى دعوتنا للقائه ونفى الشائعة، مؤكدا على أن الجيش ملتزم باحترام الإرادة الشعبية، علما بأن الرجل رفض طلبا بن على لإطلاق النار على المتظاهرين في الثورة.
سألــته عن زيارته للولايات المتـحدة الأمـيركية في شهر يناير القادم تلبية لدعوة من مجلة الشؤون الخارجية (فورين أفـيرز) فقال إنه كان ممنوعا من دخول أميركا منذ عام 94، ولكنه قبل الدعوة التي وجهت إليه بعد الثورة. وأضاف ان هناك دعوة مماثلة وجهت إلى السيد حمادي الجبالي سيقوم بها بعد تنصيبه رسميا رئيسا للوزراء.
الملاحظ انه منذ بداية الثورة اتخذت واشنطن سياسة أكثر رشدا وواقعية، في حين أن فرنسا أعلنت عن وقوفها إلى جانب بن على. وذكرت وزيرة الخارجية أمام الجمعية الوطنية في البداية أن فرنسا تضع إمكانياتها تحت تصرف الرئيس السابق، الذي فتح البلد على مصارعها أمام السياسيين الفرنسيين، فتملكوا على شواطئها وقضوا عطلاتهم على نفقته. لكنهم جميعا أداروا ظهورهم له، وأصبحوا يتطلعون إلى علاقة إيجابية مع النظام الجديد. وأجرى الان جوبيه وزير الخارجية اتصالا هاتفيا مع الشيخ راشد الغنوشي ليبدد السحابات التي لاحت في أفق علاقات البلدين.
في إحدى جلسات الحوار تطرق الحديث إلى المقارنة بين ثورتي تونس ومصر، وقلت إن الائتلاف بين قوى الاعتدال الإسلامي والعلماني فارق مهم لصالح الثورة التونسية. التي اعتبرها محظوظة لسببين آخرين، أولهما أنها ليست مجاورة لإسرائيل. لذلك فالديموقراطية فيها يمكن أن تحتمل، بعكس مصر التي يخاف الجميع من إقامة الديموقراطية على أرضها. حينئذ علق أحد التونسيين المطلعين قائلا، إن وفدا أميركيا من خمسة أشخاص جاء إلى تونس قبل عشرة أيام وأراد أن يجس نبض علاقة النظام الجديد بإسرائيل، عبر إشارته إلى أن بعض الأثرياء الإسرائيليين يريدون الاستثمار في تونس، وكان ردنا أن النظام الجديد متضامن مع الفلسطينيين، وأن اهتمامنا منصب على إنجاح التجربة الديموقراطية وتجاوز الأزمة الاقتصادية، وكل ما عدا ذلك مؤجل.
قلت لسامعي إن التونسيين محظوظون أيضا، لأن بن علي غادر البلاد وهرب تاركا فلوله، أما في مصر فمبارك موجود وكذلك فلوله. عندئذ قال مواسيا: الله معكم!