الجمعة، 25 نوفمبر 2011

ربيع الثورات يعيد العراق إلى خريطة العالم العربي

سعد سلوم-- بغداد
مقطع من كتاب للباحث سعد سلّوم حول الاحتجاجات الشعبية في العراق، يصدر قريبا عن مؤسسة مسارات لدعم الثقافة
خلال اسابيع، تابع الشباب في العراق بشغف ما فعله اقرانهم في أكثر من بلد عربي وخرجوا باحتجاجات تضامنية معهم، قبل أن يقرروا ان يبدأوا جمعتهم المفصلية في يوم 25 شباط (فبراير) الماضي.ومع أن العراق يعيش في عزلة عن أشقائه العرب منذ غزوه للكويت 1990 وفرض الحصار الاقتصادي عليه لمدة 13 عاما، ولم يتحرر من طوق عزلته منذ التغيير الذي حصل في 2003 بإرادة أميركية، لكن ربيع الثورات جاء ليعيد وضعه على الخريطة العربية مجددا.... المفارقة أن الشباب العفوي حقق ما عجزت عنه الدبلوماسية العراقية والحكومات المتعاقبة على السلطة منذ 2004. لقد كسرت هتافاتهم جليد العزلة عن المحيط العربي ورسمت شعاراتهم وأغانيهم رغبة جديدة عابرة للحدود وحدت العالم العربي تحت راية التغيير. وبدلا من الخطب العاطفية التي تعود القادة العرب اطلاقها عن الوحدة العربية منذ خمسينيات القرن الماضي انطلق الشباب من ساحات التغيير العربية وهم يحلمون بعالم يتشكل تحت سماء جديدة.
"الديمقراطية من تحت"
لم يمنع اشتداد القمع الحكومي لاحتجاجهم السلمي رسائلهم من ان تتوالى للعالم الخارجي: نعم، كان التغيير بعد 2003 مشروطا بإرادة خارجية، ومن ثم فإنه تغيير من الخارج، إلا إننا الآن نبدأ ثورتنا الخاصة: تدشين التغيير من الداخل. "إنه تغيير على طريقتنا وليس وفقا لمقاسات ومصالح الدول الكبرى"، كما يقول بسام جمعة احد شبّان مظاهرات شباط، ويضيف وهو يعدل من قبعته التي اكسبته لقب السينمائي: "نحن نمتلك الآن من القوة والأدوات ما يجعلنا قادرين على رفع شعار الإصلاح دون مساعدة من قوة خارجية". هكذا بدأ الشباب فلسفتهم للتغيير من نبض الشارع، في نوع من "الديمقراطية من تحت"، إزاء "ديمقراطية من فوق" فرضت من قبل قوة عظمى، ومن ثم طرحوا شرعية حركتهم الاحتجاجية على مستوى تمثيل الإرادة الشعبية الحقيقية ازاء آليات ديمقراطية فشلت في الانتقال بالبلاد إلى مرحلة ما بعد الصراع. وبهذا الصدد يبرر مشتاق فرج (أستاذ جامعي 38 عاما) عدم مشاركته في التصويت في الانتخابات الأخيرة بقوله "ما الفائدة من الانتخابات اذا جاءت بهتلر أو صدام جديد أو ما هو أسوء من ذلك... أي أعداء الديمقراطية من أحزاب الإسلام السياسي".
غير أن شعار "إصلاح النظام" الذي رفعه شباب شباط بدا أقل حدة من مثيله العربي الذي تمحور حول "اسقاط النظام" وهو بهذا يلخص رؤية مغايرة ملخصها أن اسقاط النظام الدكتاتوري تم في العام 2003 ولكن المهمة لم تنجز بعد، إذ فشلت سياسة القوة الصلبة باستخدام الدبابات والصواريخ في تأسيس الديمقراطية. وبعبارة أخرى فشلت "الديمقراطية من فوق" في بلورة بديل ينقل العراقيين لبرّ الأمان.

"التغيير من الداخل" يحمل رسالة اصلاحية تطرح شعارات محاربة الفساد وتحقيق العدالة الاجتماعية وتغيير المعادلة السياسية القائمة على المحاصصة الطائفية، وهو ما يتضمن تغييرا لبنية النظام السياسي الحالي يصل الى مستوى الثورة عليه. إنها ثورة جديدة للقوة الناعمة على وسائل وأدوات القوة الصلبة، تستخدم أسلحة الشعارات الساخنة التي تطلقها ساحات التغيير لتحاصر برود طرق التفكير السائدة... لكن الربيع العربي جاء بفرصة أخرى: أن يفهم العرب أخيرا ويعيشوا ما عاشه العراقيون من مخاوف وآمال طوال عقودهم الاخيرة. إذ فتحت التحولات والمخاوف التي رافقت الاحتجاجات العربية لائحة من الامكانيات والخيارات والمخاوف والسيناريوهات كانت دوما مرتسمة في أفق التحولات العراقية: الخوف من اندلاع حرب أهلية بعد سقوط الدكتاتورية، اشتداد القمع الحكومي للثورة والذي يرقى في بعض الحالات الى إبادة جماعية، عدم اليقين حول عالم ما بعد الثورة والشعور بدوار التغيير، المخاوف من وصول الإسلاميين الى السلطة، وأخيرا الاستعانة بالتدخل الخارجي لحسم المعركة مع الأنظمة الدكتاتورية. جميع تلك التحولات اختبرها العراقيون في العقدين الماضيين وإن استغرقت مدة أقصر بكثير في الحالة العربية.
هذا ما اختبره العراقيون
التفاؤل بالتغيير والذي حمل الشباب العربي في مصر وتونس، على جناح الحلم بعالم جديد، لم يمنع مخاوف عودة النظام القديم بأشكال جديدة بارزة، فالاب الحاكم الذي تم اسقاطه أو رحيله الى الابد سيعيد الأبناء تمثيل دوره للفوز والاحتفاظ بالسلطة، فهذا منطق السلطة الذي سرعان ما يزيح منطق الحريات بمجرد القبض على كرسي الحكم.مثل هذه المخاوف اختبرها شباب عراق ما بعد 2003 في مرض الحنين للدكتاتور، "اسقطنا صدام ولكن لدينا الآن أكثر من نسخة عنه" كما تقول هناء حسين 32 عاما وهي تصف الزعماء السياسيين المتصارعين على السلطة في عراق ما بعد صدام.
كما أن فزاعة الحرب الأهلية التي استخدمها الدكتاتوريون العرب اختبرها العراقيون في عالم ما بعد الدكتاتور في حرب طاحنة 2006 بين السنة والشيعة رفض السياسيون الاعتراف بتورطهم بها، أو حتى الاعتراف بها كحرب طائفية، ومن دون تقديم الاعتذار للشعب عن الجرائم التي ارتكبوها باسم تمثيل الطائفة او الجماعة او الدين.. بل إن الصورة المظلمة لواقع الأقليات في العراق جعلت من التلويح بورقة الاقليات ممكنا لأكثر من نظام عربي، لتخويف الشعوب من نتائج الثورات.
أكثر مشاهد العراق العراقية استحضارا تلك التي كانت في ليبيا. فحين راقب العراقيون القمع الذي استخدمه العقيد القذافي تجاه الثائرين كانوا يحملون في ذاكرتهم ما فعله صدام في العام 1991 وقمعه الوحشي للجنوب والشمال آنذاك قبل أن يقرر التحالف الدولي تقديم حماية للمدنيين طبقا لقرر مجلس الامن 688 وفرض ما عرف أنذاك بـ"مناطق الحظر الجوي"، ولكن برغم ذلك لم يمنع التدخل الدولي من انتشار المقابر الجماعية على طول وعرض بلاد ما بين الرافدين.
التدخل الدولي في ليبيا أعاد العراقيين إلى جدل قديم: لماذا يصبح حلالا استعانة الليبيين بقوات دولية لحسم الصراع مع القذافي، وكان هذا حراما بالنسبة لنا؟
لم كان الإعلاميون والكتاب والسياسيون العرب- وبفصاحة قل نظيرها- متحمسين للتدخل الدولي في ليبيا ولكنهم كانوا حساسيين تجاه التدخل الأميركي في العراق؟
لذا يعتقد العراقيون حسبما يقول أثير ناظم الجاسور وهو تدريسي في كلية العلوم السياسية الجامعة المستنصرية "إن العرب عليهم أن يعيدوا حساباتهم وأن لا يتصرفوا على نحو ازدواجي" أو وفق سياسة "التصرف بوجهين".
إمكانية أن يتحول ربيع الحريات سريعا إلى خريف الفوضى، جعل مخاوف التغيير في العالم العربي مرهونة بتحقيق إجماع وطني. وهو ما أثبتت التجربة العراقية استحالة تحقيقه دون مخاضات مؤلمة. ولكن من سيكتب هذا العقد الاجتماعي الجديد وبأي كيفية؟ هذا تحد جديد تعين على الشعوب العربية خوضه في ظل عدم وضوح رؤية.
فحين شرع المصريون بالاستفتاء على دستور جديد والاستعداد لخوض معركة انتخابية محمومة، اراد العراقيون ان يخففوا من حماسة زملائهم، فالتجربة العراقية تقول أن تبني الآليات الديمقراطية كالانتخابات وكتابة دساتير جديدة ليست ضمانة لبناء دولة مدنية يتساوى فيها الجميع على قدم المساواة، فها هم العراقيون قد كتبوا دستورا وخاضوا دورتين انتخابيتين، ولكن قاطرة الديمقراطية انحرفت عن مسارها وأتجهت الى طريق أخر.
وكانت نتيجة التجربة دستورا زرع من ألغام الخلاف ما يهدد بتفكيك البلاد، وجاءت الانتخابات بأحزاب الإسلام السياسي للسلطة مع برامجها لتحويل العراق الى دولة دينية. أليست هذه مفارقة ان الآليات الديمقراطية كانت سببا في وصول اعداء الديمقراطية الى السلطة؟!.
"العرب متفاءلون بالتغيير أكثر من اللازم، انظروا إلى حالنا بعد سبعة سنوات من التغيير وسترون مستقبلكم"، هكذا تقول سرى غضبان 21 عاما وهي طالبة جامعية لم تفارق عيناها مشاهد الاحتجاجات العربية على شاشة التلفاز.
فهل أصبح حاضر العراق هو مستقبل المنطقة؟ هذا تساؤل قد يضع تقييم التحول الذي تشهده المنطقة من منظور جديد، ويجعل من نظريات المؤامرة المكرورة التي تتحدث عن تقسيم المنطقة أو الدعوة لشرق أوسط جديد أمر ممكنا وحقيقيا أكثر من أي وقت مضى.
بغداد عادت تدريجيا إلى الخارطة العربية الآخذة بالتبدل. يبقى على الديمقراطيات العربية الوليدة ألا تعيد وتكرر أخطاء بغداد.