الجمعة، 25 نوفمبر 2011

ملامح طور جديد للثورة السورية

الحياة- الأحد 20 نوفمبر 2011
ياسين الحاج صالح
بعد ثمانية أشهر على انطلاقها يبدو أن الثورة السورية مقبلة على طور جديد، يغاير ما سارت عليه منذ انطلاقها في منتصف آذار (مارس) الماضي.
الملمح الأول في هذا الطور حضور متزايد لأنشطة عسكرية مضادة للنظام، يقوم بها «الجيش السوري الحر»، الجنود والضباط المنشقون عن الجيش. ليست أنشطة العسكريين المنشقين جديدة، عمرها من عمر انشقاقات الجيش بعد أسابيع من تفجر الثورة. ومن المؤكد أن غير قليل من قتلى الجيش عسكريون انشقوا أو قتلوا لإحباط انشقاقهم، وأن جميع قتلى الجيش تقريباً، حتى وقت قريب على الأقل، وقعوا في صراع بين عسكريين وعسكريين، وليس في مواجهة أية «عصابات مسلحة» أو «مجموعات إرهابية». لكن الشيء الجديد هو الطابع الهجومي المتزايد لأنشطة العسكريين المنشقين على نحو ما تمثل في الهجوم على مقر جهاز الأمن الجوي في بلدة حرستا قرب دمشق ليلة الثلثاء 15/11. ومن المحتمل أنه جرت عمليات أخرى مماثلة في مناطق دمشق الريفية، وكذلك في مناطق حمص وحماة.
ومن الوجوه الإشكالية لهذا التطور أنه لا يبدو مؤكداً أن انشقاقات الجيش كلها ترتبط بقيادة مركزية، أو تنضبط أنشطتها بوجهة سياسية محددة، توجهها في خدمة الثورة. تسير الأمور كما يبدو باتجاه يتجاوز «حماية الشعب» إلى العمل لإسقاط النظام بقوة السلاح، كما قال قائد الجيش الحر، العقيد رياض الأسعد، من دون أن يكون واضحاً في خصوص علاقته و «الجيش الحر» بالثورة، وبالنشاط السياسي المرتبط بها.
وبينما قد يمكن فهم المسار السياسي والنفسي الذي أفضى إلى هذا التطور (بالتحديد ما تعرض له الجيش السوري من ضغط مهول على بنيته الوطنية بتوجيهه ضد عموم السكان وتسليط المخابرات جهاراً عليه)، إلا أن بلداً عانى طويلاً وكثيراً من العسكر، يحتاج إلى إخضاعهم للقيادة السياسية للثورة وضبط عملهم بمقتضيات مصلحتها. الثورة وإسقاط النظام أهم من أن يتركا للعسكريين، إذا حاكينا قولاً شهيراً لكلاوزفتز. وسيكون مهماً العمل على توحيد المجموعات العسكرية المنشقة في إطار واحد، وأن ينضبط هذا الإطار بالقيادة السياسية، الممثلة اليوم في «المجلس الوطني السوري».
هذا ليس ضرورياً فقط لأن التوجه نحو «دولة مدنية ديموقراطية» يقتضي خضوع العسكر للقيادة السياسية، وإنما كذلك للحيلولة دون وقوع الجيش الجديد في نطاق جاذبية قوى إقليمية، تركيا أو غيرها.
وإلى العسكرة، من المحتمل أن يشارك مدنيون في عمليات مسلحة في نطاق «الجيش الحر» أو بصورة مستقلة عنه. يصعب الحصول على معلومات موثوقة في هذا الشأن أيضاً، أو قول شيء مؤكد بخصوص عدد المسلحين المدنيين ودورهم، لكن وجودهم مؤكد. ومن المحتمل أن بين هؤلاء المدنيين متشددين دينياً، ربما يتسببون في منازعات طائفية، أو لعلهم ممن يشاركون فيها الآن.
الملمح الثاني هو عمليات عنف طائفية، يبدو أن وقوعها يتواتر مجدداً في حمص في الأيام الأخيرة. هنا أيضاً لا تتوافر معلومات دقيقة يركن إليها، لكن الواقعة بذاتها محققة لا ريب فيها. ويبدو أنها بدأت قبل أسابيع بالخطف بغرض المقايضة: يعتقل النظام أناساً كيفما اتفق، فيُخطف أفراد محسوبون عليه، مقابل إفراج أجهزته عن بعض من اعتقلتهم. وقد تحقق ذلك في حالة واحدة على الأقل، وأفرج النظام عن قريبة للدكتور برهان غليون كانت معتقلة، وآخرين، مقابل مختطفين أمنيين ومن الطائفة العلوية، «مما أكسب عملية الاختطاف مشروعية ثورية» على قول أحد الناشطين الحماصنة. وجرت مثل هذه العمليات أحياناً بهدف الردع والتخويف، لكن يبدو أن الخطف المتبادل يتجه للانفلات من السيطرة. قبل أيام تظاهر السكان العلويون في بعض أحياء حمص، وطالبوا بإقالة المحافظ، لأنه لا تتوافر لهم الحماية في أحيائهم. وبينما تكتب هذه المقالة (مساء الأربعاء 16/11)، بين يديّ معلومات عن مختطفين من هنا وهناك، ووساطة تجري للإفراج عنهم.
وفي خلفية ذلك كله أن عنف النظام لم يكن يوماً، وليس هو اليوم، عنفاً عقابياً مجرداً، تقوم به «دولة» عامة بحق متمردين خواص، فلا تأخذ حيثياتهم الأهلية في الاعتبار، بل هو عنف ثأري مشخّص، مشحون بالكراهية والانتقام، من نوع العنف الطائفي. وهو ما فتح الباب منذ البداية لاحتدام الانفعالات الطائفية، وتسهيل الانزلاق نحو العنف الطائفي. كان لافتاً منذ بداية الثورة اختلاط إفراط عنف النظام (تعذيب بهدف القتل، بتر أعضاء، اقتلاع عيون...)، واختلاطه دوماً بالإذلال وفق روايات معتقلين أفرج عنهم، ومع إهانات طائفية أيضاً. هذا ليس قمع دولة، بل هو عنف عصبوي وعصابي، مختلط بقوة بالبغض والضغينة.
ووفق روايات متواترة، فإن جثث المختطفين والمقتولين في حمص، من الطرفين، مشوهة، ما يشير إلى أنهم قتلوا بتشفّ وحقد.
هذا تطور مشؤوم، وإن كان محصوراً لا يزال، تجب مواجهته بكل الوسائل المتاحة. وأولاها موقف قوي من المجلس الوطني السوري. هذا ليس لكونه الذراع السياسية الأبرز للثورة السورية فقط، ولكن أيضاً لمساهمة الإخوان المسلمين فيه. ولعله يلزم أن يجمع المجلس بين اعتراض حازم على الانزلاق الطائفي، وبين نداء إلى الثائرين وعموم السكان بمقاومة هذا المنزلق.
الملمح الثالث يتصل بتعريب الأزمة السورية، ومسارات التدويل المحتملة. لن نتوسع في هذه النقطة هنا. لعلها تستحق تناولاً خاصاً.
في خلفية كل هذه التطورات فاعل غير مسؤول هو «النظام» (أساساً، الرئيس والعائلة والمخابرات والمليارديرات المرتبطون بهم)، الذي لم يكف طوال 8 أشهر عن ممارسة عنف عدائي حيال محكوميه، وعن إثارة شتى ضروب الانقسام بينهم، من دون أن يفكر يوماً في فتح أفق سياسي مغاير.
غاية ما اهتدى إليه «النظام» هو إخراج مسيرات موالية في ساحات المدن السورية. ما يفترض أن يستخلص من ذلك أن للنظام قاعدة اجتماعية مهمة. بلى، والحق يقال. ولكن من وجهة نظر النظام ذاته، هذا يغري بالتساؤل: لم لا يجري خلال نصف سنة استفتاء شعبي على تنحي السيد بشار الأسد، أو بقائه رئيساً حتى نهاية ولايته الحالية؟ من أجل ذلك، لا بد من تجميد الأجهزة الأمنية كلها، وتأميم وسائل الإعلام الآن.
هذا من باب ما يقتضيه الشيء، وليس اشتراطاً مسبقاً. إذ ليس من العدل أو العقل إجراء استفتاء كهذا في ظل حاكمية المخابرات وتسخير الإعلام لعبادة الرئيس. لكن الثورة السورية لا تكاد تتطلع إلى ما يتجاوز هذه المقتضيات الأولية: أمن متساو لجميع السوريين، ونفاذ متكافئ إلى المعلومات وتوصيل متكافئ لها، ورئيس منتخب في انتخابات تنافسية حرة. هل هذا كثير؟