دعوة الى الرشد والصلاح—سعود المولى
يذكر المدراش (التفسير التقليدي للتوراة) قصة عن الحاخام مائير زعيم المدرسة الاصولية اليهودية واحد كبار واضعي المدراش نفسه... تقول القصة ان استاذه في درس اللاهوت كان الملحد اليشع بن ابيوه..وكان اليهود يلقبونه بالغريب او الآخر (ولا غريب الا الشيطان كما يقول المثل العامي عندنا وعندهم).. ذات يوم سبت كان مائير مع معلمه مستغرقين في نقاش عميق وكان المعلم الملحد يركب حماره فيما مائير يسير جنبه وينصت الى الحكمة تخرج من شفتي الملحد (والحكمة ضالة المؤمن يأخذها حتى من عند كافر او منافق)، ولانه ممنوع على الحاخام ركب الحمير في السبت وهناك حدودا للسير حتى فلم ينتبه هو ومعلمه الا وقد وصلا الى الحد الذي تمنع الطقوس اليهودية من تجاوزه يوم السبت...فاستدار الملحد العظيم الى تلميذه الاصولي: انظر لقد وصلنا الى الحد..ويجب ان نفترق..فليس لك ان ترافقني بعد ذلك..عد أدراجك..وعاد الحاخام الى طائفته اليهودية بينما واصل الملحد طريقه الى ما وراء حدود الديانة اليهودية...وظلا صديقين ورفيقين.. وظلا إنسانين.. أستاذ وتلميذه.. يعرفان حدود الاتفاق وحدود الافتراق..
ذكر المفكر اليهودي الماركسي الكبير اسحق دويتشر هذه القصة في كتابه "اليهودي اللايهودي"the non-Jewish Jew (جامعة اوكسفورد-1968) ليعطي امثلة عن مفكرين وفلاسفة يهود عظام كانوا ملحدين وثوريين وظلوا مع ذلك يهوداً: من سبينوزا وهاينه وماركس وفرويد الى روزا لوكسمبورغ وتروتسكي...
ترى أليس في تراثنا ما يشبه ذلك؟؟ ألا نذكر على الأقل أن العدل أساس الدين والدنيا؛ به قامت السماوات والأرض، وعليه ارتكزت الرسالات والنبوات وكل مشاريع الامامة والخلافة والاصلاح؟؟ وبحسب كل الشرائع الدينية والفلسفية فإن العدل هو أساس الملك (أي الحكم) وهو الفيصل في كل الأمور ولو على الأهل وذي القربى؟؟ ألا نذكر على الأقل قول علي: إعرف الحق تعرف أهله.. وإعرف الرجال بالحق لا الحق بالرجال.. ألا نذكر حوارات الامام جعفر الصادق مع الملاحدة والزنادقة... فمن أين جاءنا اذن ضيق الأفق هذا بشقيه العلماني والديني والذي نقرأه صبح ومساء وهو يكاد يهدد ربيعنا العربي وثورات شبابنا بالانتحار او النحر الذاتي؟... ترى متى نقر ونعترف بالآخر فعلاً وبحقه، ومتى نحترم هذا الآخر ونحترم حقه بالاختلاف؟؟ ومتى ندرك اننا جميعاً متساوون لا فضل لواحدنا على الآخر الا بالعمل الصالح والقدوة الحسنة وبتقديم البرامج النافعة لمصلحة البلاد والعباد؟؟؟
بلاد العرب تعيش حالة انتقالية خطيرة حافلة بالآمال كما بالأخطار.. وعلى كيفية ادارتنا جميعا لهذه المرحلة الانتقالية يتوقف مصير بلادنا ومستقبل الأجيال القادمة..
من حق العلمانيين التشكيك بالاسلاميين وبممارستهم للسلطة واتجاههم الى فرض النمط الديني على شكل الحكم.. ولكن من واجب العلمانيين بالمقابل الانصات الى لغة العقل والى متطلبات الديموقراطية فلا نكيل بمكيالين ولا نتحدث بلغتين ولا نسمح بصيف وشتاء تحت سقف واحد: الديموقراطية هي الديموقراطية... وصناديق الاقتراع والعمل المدني الديموقراطي السلمي هما الوسيلة الوحيدة لتداول السلطة..ولو كلف ذلك السجن والعودة الى النضال ضد الحكم الجديد.. المهم حفظ السلم الأهلي ومصالح الناس..
ومن حق الاسلاميين استلام الحكم ان اوصلهتهم صناديق الاقتراع..ومن حقهم تقديم الحجج المضادة واظهار موقفهم بكل الاشكال الديموقراطية.. ولكن من واجبهم بالمقابل الممارسة العملية لشعاراتهم بحيث يظهرون فعليا ان جماعاتهم لا تتفرد بالرأي ولا وتقصي أي طرف ولا تنبذ أي مكون من مكونات المجتمع التعددي، ولا تتعصب أو تتحجر في منقولات السلف الصالح أو ممارسات الخلافة الراشدة.( رغم شرعية وحضارية وتقدمية هذه المنقولات والممارسات الا انها تنتمي لزمان ليس كزماننا على حد قول الامام علي). والاسلاميون أدرى الناس بضرورات العصر وبالمصالح والمفاسد وعليهم بالتالي واجب تقديم المشروع الحضاري الانساني التاريخي الذي يوحد البلاد ويحقق مصلحة العباد.. وفي هذا فليتنافس المتنافسون...