سعود المولى
من أسوأ ما ابتليت به أمتنا (والمثقفون فيها على وجه أخص) تقديس الرجال وتحويل الفكر والأدب السياسي إلى طواطم محرمة على النقد والحوار والسجال.. وأبشع ما تبتلى به الأمم والشعوب هو السير وراء كل ناعق في غربال لمجرد أنه فلان أو أنه كان له دور ما أو موقع ما في سالف العصر والأوان... فإذا عرضت قضية تتعلق بخيارات الشعوب العربية وشبابها وربيع ثوارها على سبيل المثال تنطح من يقول لك "ولكن فلان يرى أن الجهة الفلانية لا يجوز أن تكون في الحكم أو حتى في البرلمان...أو أن فلان كان كتب كذا..أو أن فلان أفتى بكذا"!! ولكن لماذا يا أخوان؟؟ لأن "فلان هو من جماعتنا !! أي من العلمانيين الأقحاح أو من القوميين الصراح.. أو هو من اليساريين أو من الاسلاميين !! لا فرق.. تعددت الأسماء والظاهرة هي هي تصدر من بئر واحدة.. ثم يأتيك من يقول لك مثلاً أنه ممنوع أو محرم عليك مجرد مناقشة مرجعية فلان أو علان في أمور الوطنية والعلمانية والعصرية والحداثة...وقليلاً ما نجد في أيامنا هذه قلماً جريئاً ينتقد حزباً أو هيئة سياسية أو مرجعية ما، على أخطائها "التكتيكية"، أو على خطاياها "الاستراتيجية"...
مبرر الحديث أنني قرأت بالأمس فقط للراحل الكبير المفكر والمناضل والصديق الرائع الدكتور عفيف فراج بعض المقالات عن شخصية مصر وشخص عبدالناصر وعن علاقة عبد الناصر بكمال جنبلاط ؛ وهي مقالات جمعتها زوجته الفاضلة في كتاب صدر عام 2008 أي بعد وفاة عفيف بأربع سنوات؛ وعنوان الكتاب: في السياسة والأدب السياسي... فأعجبني (مجدداً ومجدداً: وعفيف نبع لا ينضب) تحرره الفكري واستقامته على الحق ومبدئية آرائه ومناقبية سلوكه.. في المقالات إشارة إلى مواقف طه حسين وسلامة موسى، وغيرهما، التي حاولت فصل مصر عن عروبتها وتحويلها إلى واحة يونانية (طه حسين) أو إلى أصل ودم غربيين (سلامة موسى).. وأعجبني فيها نبش عفيف فراج لرأي وضاح شرارة في "أفلاطونية" طه حسين، ولآراء كبار المفكرين المصريين أمثال أنور عبدالملك في المسألة الوطنية المصرية، وجمال حمدان في شخصية مصر الحضارية، وصولاً إلى كلام كمال جنبلاط في وصفه لعبد الناصر... المهم المهم في ما كتبه عفيف فراج وما أشار إليه من مواقف وكتابات هو تجاوزه بجرأة وموضوعية لتلك القداسة الزائفة وغير الواقعية التي تعطى لبعض الأسماء أو الأحزاب والتي تعطل كل تفكير نقدي وكل رأي حر فتلغي بالتالي كل حوار حق.. ولعفيف فراج تحطيم ثوري سابق لقداسة أنطون سعادة وحزبه القومي السوري وذلك في كتابه المبكر: دراسات يسارية في الفكر اليميني-1970، الذي استعاد فيه كتاب كمال جنبلاط الرائع والعميق: حقيقة القضية القومية الاجتماعية 1949.. كمال جنبلاط وعفيف فراج وأنور عبدالملك وجمال حمدان وغيرهم.. أولئك رجال لم يخافوا في الحق لومة لائم ولم يستأذنوا أي سلطان في قول ما يرونه حقاً وفي نقد ما يرونه باطلاً أو لغواً.. أولئك رجال مضوا ومضت معهم مرحلة جميلة من الكتابة السياسية والفكرية ... وذلك زمن كان فيه المناضل والمثقف يبحث عن الحقيقة حتى يجدها أو يكاد..ويكابد ويجاهد في سبيلها لا يخاف تشهيراً ولا عدواناً ولا عزلاً أو نبذاً أو قتلاً أو تدميراً أو تشويهاً لسمعته.. اليوم نحن نخاف من مجرد الاشارة الى هفوة أحد الزعماء أو غلطة أحد الأحزاب في قضايا تمس حياتنا ومصير بلادنا... ومعظمنا يسير على مبدأ الشاعر الجاهلي دريد ابن الصمة حين يقول:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد
وننسى المبدأ الإنساني الكبير الذي خلده الإمام علي بن أبي طالب في قوله: إعرف الحق تعرف أهله.