سعود المولى
في واقعنا الإسلامي المعاصر أمور خطيرة تحتاج إلى مصارحة ومكاشفة وإلى حوار صادق مخلص شفاف قبل أن يجرفنا الطوفان وكي لا نكون كمن يبكي على شيء كان بالإمكان تجنبه.... فخلال العقد المنصرم (أي منذ حادثة 11 أيلول 2001 فاحتلال أفغانستان ثم العراق) غرقت البلاد العربية والاسلامية في بحر الظلمات وكان سهلاً إذكاء روح العصبية المذهبية العشائرية المقيتة وبث السموم الطائفية واستخدام لغة التخوين والتكفير وصولاً حتى الى تشريع سفك الدم وقتل المخالف أو المعترض..
ولقد عشنا عقداً طائفياً مذهبياً دموياً بامتياز جرى فيه نبش وتوتير كل الأحقاد الدفينة وكل العصبيات الجاهلية وكل العنعنات الضيقة والتحزبات الغرضية... وذلك باسم الإسلام وباسم الانتماء الى مذهب معين أو الدفاع عن تاريخ مضى ومضت معه ظروفه وشعاراته ورجاله..ودفع الأفغان والعراقيون والباكستانيون ثمن هذه الطائفية المقيتة...كما بدأ اللبنانيون والسوريون يعيشون على حافة السقوط فيها بما ينذر بأشد الأخطار وبأفدح الأثمان...ما يستدعي وقفة حق وجرأة كلام...
إن الاختلاف في المنطلقات والرؤى وفي القناعات والآراء والمواقف بين أهل المذاهب الإسلامية ،هو حقيقة تاريخية موضوعية وهو حقيقة واقعية ما تزال قائمة ، ولا يمكن نكرانها أو القفز فوقها.. ولكن هذا الإختلاف التاريخي لم يعد اليوم إختلافاً في مناهج النظر العقلي والفقهي ولا في الآراء الكلامية والفلسفية بقدر ما أنه صار إختلافاً بين عصبيات وعشائر وأقاليم وطوائف... والاختلاف بذاته ليس مشكلة ، لأنه من لوازم الحياة التي أرادها الخالق لنا هكذا (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا) (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك، ولذلك خلقهم)..إنما المشكلة تكمن في عدم مراعاة حقوق الإختلاف وموجباته وعدم معرفة كيفية إدارته حفظاً للتنوع والتعدد واحتراماً للحقوق ودرءاً للانقسام وصيانة للوجود وإعماراً للدنيا.
المشكلة الحقيقية تبدأ حينما يعمل أحد أطراف الاختلاف أو كلاهما معاً ، لحسم قضايا الاختلاف ، واعتبار كل واحد منهما أن رأيه هو رأي الإسلام ، وأن رأي الطرف الآخر هو خارج دائرة الإسلام .. وفي عملية الحسم هذه يجري استحضار التاريخ أو بالأحرى الذاكرة الجماعية لطرف ما وقد صارت هي التاريخ...وهذا بطبيعة الحال يقود إلى التعصب الأعمى الذي يفضي إلى ممارسة الظلم والافتئات على الطرف الآخر .. مما يفاقم من التوتير والحقد ومن اشتعال المعارك الوهمية يخوضها الناس تحت رايات التاريخ وذكرياته وقداسة بعض محطاته أو تحت عنوان الدفاع عن الهوية الخاصة لجماعة طائفية..
الاختلاف حالة طبيعية ، هو سنّة إلهية لمن كان مؤمناً، وسنّة تاريخية كونية لمن كان ملحداً، ولكنه لا يسوغ لأحد ممارسة الظلم بحق الآخرين أو إمتهان كراماتهم وحقوقهم ..
وآيات القرآن الكريم كما التوراة والأنجيل وكتب الحكمة، وعلى مر التاريخ، تؤكد على حقيقة الاختلاف بين الناس.. وفي القرآن أن بعض هذه الاختلافات،لا يحسمها إلا الله، وأن أي جهد إنساني لحسمها ، سيكون على حساب حقوق وكرامات الآخرين ( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب ) ( الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون )..
والمعنى الدنيوي المباشر لهذه الآيات أننا جميعاً سواسية أمام القانون والحق والحقيقة ، فلا يجوز مهما تباينت أقوالنا ومواقفنا أن نفتئت على حقوق الآخرين ، أو نهين مقدساتهم أو نمتهن كراماتهم ..
والمطلوب دائما الإقرار بحق الاختلاف مع ضرورة المساواة في الفرص والواجبات والحقوق، وسيادة قيم الإحترام المتبادل والعدل في القول والعمل ولو على النفس أو ذي قربى ( ولا يجرمنّكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا ، إعدلوا هو أقرب للتقوى ) ..