ثلاثة لم أكن أستحي بمناداتهم يا بيك: وليد جنبلاط وسمير فرنجية ونصير الأسعد...
ثلاثة بكوات "حمر" تركوا كل شيء من أجل النضال في سبيل الحقيقة والعدالة في حياة البشر...
عرفت نصير الأسعد منذ عام 1969.. كنت قد انتقلت حديثاً من طرابلس الى بيروت ودخلت ثانوية البر والاحسان الرسمية في الطريق الجديدة..وكان هو في الليسيه الفرنسية.. أسسنا معاً ومع رفاقنا في منظمة الاشتراكيين اللبنانيين- لبنان الاشتراكي (التنظيم الموحد الذي صار لاحقاً منظمة العمل الشيوعي 1971) ما صار أهم منظمة طلابية جماهيرية لسنوات السبعينيات: لجان العمل الطلابي.. وفيها برزت ثلة من الشبان الحالمين بلبنان أفضل: حكمت العيد ونصير الأسعد ومختار حيدر وحسان يحيى وعلي يوسف وبسام عكاوي وفتحي اليافي وحسن منيمنه ووديع حمدان من الجيل الأول... وبرز لاحقاً الكثيرون ممن صاروا قادة حقيقيين للنضال الطالبي.. كان نصير أحد ابرز قيادات الاتحاد الوطني لطلاب الجامعة اللبنانية لسنوات 1973-1975...وكان أحد أبرز قيادات منظمة العمل الشيوعي خلال أصعب سنوات ومراحل النضال الى جانب محسن ابراهيم... وحين استقل هو وغيره عن المنظمة لم يتحول نصير الى شتام هدام بل كان مثالاً للأخلاق السياسية الرفيعة وقدوة في السلوك الانساني، لا يعرف غير لغة الحوار والعقل والحب العميق لقضايا الناس المستضعفين.. لم يكن التحول الذي جرى في حياته، كما في حياة جيلنا هذا، تحولاً نحو رغد العيش في أحضان السلطات وانما نحو استمرار النضال بأشكال أكثر ملاءمة لمتطلبات وضعنا اللبناني والعربي.. كان الهم الذي دفع بنا في أول مراحل الصبا والشباب نحو الانخراط في كل معارك النضال اليساري، هو نفس الهم الذي حركنا وما يزال يحركنا في كل موقع نحتله أو نعمل فيه: البحث عن الحقيقة والعدالة من أجل سعادة الانسان... نعم الحقيقة التي هي ضالة المؤمن يأخذها أنى وجدها... والعدالة التي هي شوق الإنسانية العظيم في كل الأمكنة والأزمنة... نصير الأسعد لم يغادر موقعاً نضالياً إلا ليحتل موقعاً أصعب وأكثر قابلية لتطوير طاقات وقدرات الناس نحو الفعل السياسي الثوري التغييري الحقيقي... كان يؤمن بالناس وبأنها هي صانعة التغيير ولكن من خلال الوعي الصحيح والتنظيم السليم..وقد آمن مثلنا بأننا نعيش مرحلة ديموقراطية وطنية بحسب تعبير الشهيد كمال جنبلاط، أو ديموقراطية جديدة بحسب تعبير ماوتسي تونغ، ما يعني العمل على تحقيق أوسع جبهة للنضال المشترك في سبيل وقف الحرب الأهلية وتحقيق السلم الداخلي واعادة بناء الدولة على أسس أكثر عدالة وديموقراطية.. لم يحمل نصير أي وهم يسرواي خبيث ولا اعتبر يوماً أن النضال وقف على ألمعية هذا أو ذاك من الكتبة المرتزقة الذين يعيشون في حضن أجهزة المخابرات ويقتاتون من دم الناس الشرفاء... وحين صار نصير صديقاً للرئيس الشهيد رفيق الحريري فإنما كان ذلك بسبب استقلاليته الفكرية والنضالية واستقامته المعنوية على الحق وتمسكه بالعدل في كل الأمور... ولم يكن ذلك طلباً لموقع أو جاه أو مناسبة لاستخدام النفوذ والسطوة... كان نصير/الرجل هو الذي يصنع الموقع لا العكس كما نرى للأسف في الكثير من حالات المثقفين والصحفيين... كان الموقع بالنسبة اليه هو القرب من نبض الناس وحقوقها وقضاياها لا البرج العاجي البعيد عن الناس االقريب من الأجهزة.
شارك نصير في تأسيس اللقاء الشيعي اللبناني وحمل منذ ذلك الوقت همّ البحث عن مخرج تاريخي للأزمة الشيعية من خلال الاندراج في العمل الوطني المتكامل عبر مسيرة 14 آذار... نعم رأى نصير أن حركة 14 آذار هي خلاص لبنان وبالتالي فهي خلاص الشيعة أنفسهم من كل ما عانوه ويعانونه من خوف وتهميش ومن مصادرة واستئثار... ولكنه كان يعرف أيضاً مواطن ضعف حركة 14 آذار وخصوصاً في الموقع الشيعي... أما تميزه هنا فهو أنه لم يكن من نوع النقاقين العاجزين عن رؤية المسار التاريخي الذي شقته حركة 14 آذار والتحديات الكبيرة التي تنوء من ثقلها الجبال...عرف نصير بقوة بصيرته وحاسته السياسية واستقامته الفكرية والمبدئية أن حركة 14 آذار ليست ملكاً لشخص أو لحزب وأن ما تواجهه ليس رحلة صيفية وإنما أشرس معركة حضارية في وجه أعتى أمبراطوريات مافيا الحقد والإجرام والظلام.. ولذلك فإنه لم يتخل يوماً عن أهداف حركة 14 آذار ولا انخرط كغيره من الصحفيين السريعي العطب في عملية جلد الذات والبكاء على الأطلال.. ظل نصير يكافح في موقعه لتصحيح كل خطأ ولتأكيد كل صح في مسيرة الناس نحو الحقيقة والعدالة... تميز كصحفي جريء واضح شفاف وتميز كمناضل شجاع حاسم قائد في الملمات لا يهتز أمام النكسات ولا يضعف أمام المغريات وما أكثرها.. فكان ينتقل من موقع الى موقع أصعب وليس العكس...
اليوم يغيب نصير وتغيب معه قامة وطنية كبيرة وقلم حر مستنير وفكر متوهج وقاد ووثاب... وتغيب معه سطور من ملحمة نضالية تاريخية شارك هو في بنائها وكانت مرحلة جميلة من تاريخنا عبرناها معاً بكل الآمال والآلام... مرحلة سيقول التاريخ عنها يوماً أنها مرحلة أمثال نصير الأسعد وسمير قصير وجورج حاوي من اليسار الحقيقي لا اليسار المزيف، اليسار المناضل في أشرس المعارك لا اليسار الثرثار في صالونات باريس ولاس فيغاس وصحافة وتلفزيونات الحقد واللؤم والقتل... وكما وقف نصير دائماً مع الناس وفي صف المستضعفين وفي موقع الحقيقة والعدالة، نقول له: نم هنيئاً يا رفيق... هذا هو طريقنا الوحيد نحو فجر جديد..