عانى العرب خلال القرن العشرين من المحاولات المتغطرسة المستمرّة التي كانت تهدف إلى تقليد العلمانيّة الغربيّة، وخاصّةً في صيغتها الفرنسيّة. استندت الرؤية العلمانيّة الأوروبيّة على فكرة أنّ الحداثة من شأنها تحديد فصل كامل ما بين القدسيّات (الدين) والدنيويّات (المجتمع). لكنّ الغرب لم يقم أبدًا بهذا الفصل؛ بل استبدل الدين (المسيحيّة) بدين آخر (الحداثة)، والإيمان بالمسيح/الإله بالإيمان بالتقدّم/الإله أو بالدولة/الإله . لم تعنِ العلمانيّة القضاء على القدسيّات تجاه الحداثة بل استنساخ دور القدسيّات في سياقٍ جديد مناسب لظاهرة الحداثة. لقد كان مفهوم الفصل إذًا ملتبسًا ومبهمًا وجعل بالتالي الفرد محرومًا من مرجعيّة تجاه دولة تُمسك بسلطة مستقلّة مطلقة. وبالتالي، وجد المجتمع نفسه مُفكَّكًا ومُمزَّقًا ومحرومًا من مرجعيّات وعلّات وجوده. وهذا ما سهّل في أوروبا صعود الفاشية والنازية والشيوعية في صيغتها السوفياتية أي تلك الأنظمة المسماة توتالياتارية..
لكنّ الدين، بالنسبة إلينا، ليس مرحلةً من مراحل تطوّر الوعي أو العقل، ولا مثالاً اكتمل في التاريخ. فالشخصيّة العربيّة شخصيّةٌ معقّدة، لها نواة ومرشد هو الدين. ولا يمكن اختزال الفرد العربي إلى مستوى واحد، كما هو حال المواطن/الفرد أمام الدولة/الإله في الغرب. ولهذا فإن من واجبنا إعادة الدين إلى المكان المخصّص له، أي إيجاد الانسجام والتوازن في العلاقة ما بين الدين والدولة، وبخلاصة القول، إيجاد الصيغة الصحيحة لتحقيق التوازن بين المجتمع والدولة... وهذا لا يتم إلا باجتراح صيغة ملائمة للمواطنة المتساوية في بلادنا تسمح بتحصيل حقوق الفرد/المواطن وحمايتها، وبضمانات محددة للجماعات/الطوائف وخصوصاً الأقليات..
ولنا اليوم الحقّ وربّما حتّى الواجب أن نطلب من الاسلاميين في السلطة تطوير مبدأ المواطنة ومفهومها. فانطلاقًا من الافتراض بأنّ وجود غير المسلمين إلى جانب المسلمين في كيانٍ وطنيّ واحد يستتبع بُعدًا جديدًا لم يكن موجودًا في حقبة الدولة الإسلاميّة الأولى، فيما نأخذ بعين الاعتبار أنّ القانون الدوليّ قد تغيّر بمرور الوقت، وأنّ المسلمين يلعبون دورًا أساسيًّا في صياغة المواثيق الجديدة وعمليّة النظام العالميّ الجديد الذي يلتزمون به، يمكننا القول إنّ المسلمين مدعوّون إلى احترام جميع الالتزامات التي تعهّدوا بها من الناحية القانونيّة والشرعيّة. فالإطار القانونيّ التنظيميّ والإطار القانونيّ السياسيّ في الإسلام يمكنهما، لا بل يتوجب عليهما، توسيع نطاقهما لإفساح المجال لغير المسلمين في المجتمع والدولة، بوصفهم مواطنين أحرارًا ومتساوين. إنّ ما يُقترح هنا هو ابتكارٌ لصيغةٍ قانونيّة جديدة تعكس روح الحوار والتوافق والعيش المشترك. ولا شيء يمنعنا في الإسلام من القيام بهذا الاجتهاد، الذي يستند إلى الإنجاز التاريخيّ المتمثِّل بصحيفة المدينة المنوّرة والخبرة الغنيّة التي نضجت في غضون أربعة عشر قرنًا. ويجب علينا التركيز على تطوّر الإسلام وتجديده إنطلاقًا من الإسلام نفسه.
تتطلّب النهضة العربيّة المعاصرة إعادة بناء الهويّة المدنيّة، مع الأخذ في الاعتبار ما تعنيه هذه النهضة للعالم الخارجيّ وما يعنيه العالم الخارجيّ لها. وهذا يستتبع جهادًا نظريًّا وفكريًّا وتربويًّأ يُدعى المسيحيّون العرب للمشاركة فيه كرُوّاد. من ناحية أخرى، يتطلّب انتقاد الحداثة وأمراض تقليد الغرب وأثره مشروعًا مشتركًا إسلاميًّا مسيحيًّا علمانياً يهدف إلى وضع حدّ للاقتداء الأعمى وتجديد دور المسيحيّين والمسيحيّة العربيّة في نهضة بلادنا وحضارتنا. وهذا يعني أنّه لا ينبغي أن ننتقد أوهام حداثةٍ تنسخ وتكرِّر مراحل الخبرة الأوروبيّة فحسب، بل أيضًا أشكال الاغتراب العقليّ الذي يضرب النُخَب الإسلاميّة الحديثة. فهذه الأشكال من الاغتراب تُجدِّد وتُكرِّر الخبرة الشيوعيّة باسم الدين، الذي أصبح إيديولوجيا لوهم سلطةٍ مصدرُه مثالُ تفوّق فاسد. إنّما الحوار الحقيقيّ يكمن في إجراء مراجعة نقديّة عامّة لمفاهيمنا في الإلهيات والشريعة، ولأفكارنا وافتراضاتنا. هذا هو التحدّي الحقيقيّ، وهو تحدٍّ يتطلّب قدرًا كبيرًا من الشجاعة والخيال. إنّها مغامرة ضروريّة للتوصّل إلى مصالحة حقيقيّة وسلم أهليّ حقيقيّ دائم ومُثمر.