التقيت به في باريس في العام الجامعي 1981- 1982، وكنت أتابع تحضير الدكتوراه في صف أستاذنا المرحوم دومينيك شوفالييه. كان سمير قد جاء الى باريس ليكمل دراساته في السوربون.. لم أعرف إن كان قد جاء قبل ذلك التاريخ ودرس الإجازة في السوربون أم أنه كان قد حضر فقط لتحضير الماجستير في تلك السنة..ولم أسأله لاحقاً حول هذه المرحلة من حياته التي كانت بداية تشكل خياراته السياسية والأكاديمية. ولكن أحد اصدقائنا المشتركين قال لي مرة بأن سمير كان منخرطاً لا بل أحد قادة طلاب الحزب الشيوعي اللبناني خلال المرحلة الثانوية وبدايات الجامعة... وما أعرفه شخصياً عنه أنه كان يحضر صفوف الدكتوراه معنا من باب توسيع معارفه وخوض النقاشات.. وكان من رواد المحاضرات في صف شوفالييه غسان سلامة وأمين معلوف ومرة حضر أيضاً غسان تويني.. كان شوفالييه يحب أن يفتح حوارات فكرية وسياسية في صفه وكان مغرماً بلبنان واللبنانيين عموماً ناهيك عن تاييده للقضايا العربية ؛ فكان يدعو الى الصف خيرة أهل الفكر والسياسة العرب للنقاش والاستمتاع بخبرتهم وألمعيتهم.. في تلك السنة التقيت إذن بسمير وكان معنا من صاروا أحلى وأجمل أصدقائه: فاروق مردم بيه من سوريا، وإيلي صنبر من فلسطين، ثم مجموعتنا اللبنانية: أستاذنا وزميلنا المرحوم أنطوان عبد النور (استشهد أمام منزله في بحمدون برصاص الغزو الاسرائيلي حزيران 1982) وأحمد بيضون ونواف سلام، وغيرهم طبعاً، ناهيك عن الطلاب الفرنسيين وعلى رأسهم من صار باحثاً مميزاً مثل هنري لورنس...في تلك الفترة كان سمير ما يزال ملتزماً في إطار الفكر اليساري الماركسي التقليدي ولكنه وقد بدأ يكتب في مجلة لوموند ديبلوماتيك اليسارية الفرنسية العالمثالثية فإنه خرج عن شيوعيته اللبنانية الرسمية التي كان قد بدأ يصارع ضدها وضد جمود وتحريفية الأحزاب الشيوعية العربية منذ كان طالباً في اللليسيه الفرنسية ببيروت(بحسب ما روى لي لاحقاً)..لا أعرف الكثير عن مرحلة سمير كعضو ناقد ومشاكس في الحزب الشيوعي "التحريفي" ولكنني أعرف أنه اكتشف في باريس عالماً جديداً صار محبباً ومقرباً إليه: عالم الماركسية الماوية واليسارية الانسانية الممتزجة بنكهة باريسية مميزة من ربيع 1968، وبفتحاوية فلسطينية لبنانية ثورية صاحبة تجربة نضالية عميقة، ثم لاحقاً بتشيع ثوري فجرته الثورة الايرانية، وقد كان بعض رموزها يعيشون في باريس ونلتقي بهم ونتحاور معهم.. منذ أول لقاء لنا وكان قد سمع عن تجربة جيلنا ومجموعتنا في لبنان أخذ سمير يمطرني بعشرات الأسئلة عن تجربتنا في الكتيبة الطلابية وكيف جمعنا بين الماركسية الماوية والوطنية الفتحاوية والاسلام الخميني... كانت أسئلة سمير كما كتاباته تنم عن نضج ثوري مبكر وعن عمق تخال معه أنه شيخ كبير من شيوخ تجربة الحرب الأهلية ومرحلة السبعينيات النضالية اللبنانية... ومن الأمور التي أذكر نقاشها معه تفاصيل بدايات التجربة الايرانية الثورية (1977-1981) والتي كانت قد آذنت بنهايات مأساوية مع سقوط التيار الديموقراطي الثوري ممثلاً بمهدي بازركان وابراهيم يزدي وأبو الحسن بني صدر.. وأذكر أننا ناقشنا مرة تقييمنا المشترك لفشل وانهيار تجربة الاسلام الماركسي الماوي الذي مثلّه الخط القديم لمنظمة مجاهدي خلق الإيرانية التي تأسست عام 1965 على أيدي الشهداء محمد حنيف نجاد وسعيد محسن وعلي أصغر بديع زادكان، (أعدمهم الشاه يوم 25 أيار 1972) بوصفها "منظمة مسلمة ثورية وطنية وديمقراطية"... وكان حزيران 1981 قد شهد انتهاء النضال السلمي لتيار مجاهدي خلق وتيار بني صدر وانتقالهم الى خارج ايران والى المعارضة العنيفة لنظام الخميني... وفي نفس الفترة (1981-1982) كنا نحن اللبنانيين الماويين الفتحاويين نعيش أزمة عميقة ناتجة عن تمزق تيارنا مع صعود الإسلام المقاتل (حزب الله وحركة التوحيد وقد بدأ صعودهما بالارتباط بالصراع السوري الفلسطيني على لبنان قبل وبعد 1982) الأمر الذي أدى الى انهيار تجربتنا في المقاومة الشعبية المدنية والمسلحة (الكتيبة الطلابية) برغم محاولات الشهداء علي أبو طوق ومروان كيالي وأبو حسن إبحيص وسلطان التميمي (حمدي) انقاذ التجربة قبل استشهادهم جميعاً... وفي باريس كانت المجموعات العربية تلتقي وتناقش أزمة اليسار العربي والماركسية والثورة الفلسطينية والتجربة الايرانية كما تناقش دروس أيار 1968 الفرنسي ومجموعاته وتجارب اليسار الأوروبي القريب الشبه بيسارنا... ومن رحم هذه التساؤلات والاشكاليات الثورية تشكلت خيارات سمير قصير... ولكن الصاعق المفجر لخياراته (باعتقادي) كان غزو لبنان صيف 1982...
التقيت سمير بعد غزو 1982 وكنت أتردد ما بين باريس وتونس لانهاء أطروحتي.. وعملنا معاً على دعم مبادرة المناضل إيلان هاليفي في اللجنة الدولية للدفاع عن المعتقلين والأسرى اللبنانيين والفلسطينيين في معتقل أنصار... وخلال الأعوام 1982-1985 استمر سمير في متابعة سمينار شوفالييه للدكتوراه في حين كان ينهي مرحلة الماجستير.. وأذكر تماماً مشاركته الرفاق والأصدقاء في جلسة مناقشة أطروحتي في السوربون يوم 12 شباط 1984 وقد تابعنا النقاش في المقهى القريب رفقة صديقنا عبدالله حداد وبعض الأصدقاء المغاربة والمصريين... كان حماس سمير للمقاومة الوطنية والاسلامية، اللبنانية - الفلسطينية، يجد مبرراته في القيادة المشتركة التي أقامها الشهيدان أبو جهاد (اغتاله الاسرائيليون في 16 نيسان 1988) وأبو الوليد (سعد صايل اغتاله السوريون صباح عيد الأضحى 29 أيلول 1982) والشهيد أبو أنيس (جورج حاوي اغتاله السوريون في 21 حزيران 2005) والمناضل أبو خالد (محسن ابراهيم أطال الله بعمره)... وقد ساعدني سمير على جمع مواد كتاب توثيقي تأريخي للمقاومة في سنوات 1982-1985 (تاريخ الانسحاب الاسرائيلي الأول والكبير وتأسيس حزب الله في 12 شباط) ولكننا لم ننشر الكتاب للأسف وما زالت مخطوطته بحوزتي... نعم انخرط سمير في الدعم الكامل للمقاومة كتابة وتحريضاً وتنظيراً...واقترب أكثر فأكثر من فلسطينيته الفتحاوية التي كان يفتخر بها كلما التقينا أنا وهو والياس خوري أو كلما صار هو يلتقي محمود درويش والياس خوري في إطار نشاطات باريسية أو عربية أو في إصدار مجلة الكرمل... وشارك في الكتابة والتحرير في مجلة اليوم السابع التي أسسها بلال الحسن في باريس (1984) إلى جانب جوزيف سماحة وثلة من الشبان اللبنانيين ومنهم نصير الأسعد.. وترك سمير ونصير اليوم السابع عام 1985 وعاد نصير الى بيروت ليعمل في مجلة منظمة العمل الشيوعي (بيروت المساء) في حين تابع سمير صراعه مع الصهاينة واقترب أكثر فأكثر من رفاق حياته المثقفين فاروق مردم بيه وايلي صنبر ما جعله يشاركهما لاحقاً تحرير مجلة الدراسات الفلسطينية التي تقرر صدورها بالفرنسية في باريس...ولم أعد أراه بعد العام 1985 حيث أنني عدت واستقريت نهائياً في بيروت.. واستمر سمير يقوم بكل ما هو ممكن لنشر الثقافة الفلسطينية الثورية ولنشر المقاومة الوطنية اللبنانية ضد الاحتلال الصهيوني...وتشهد الأعوام 1985-1990 قمة نشاط سمير أولاً في الدراسة لانهاء الدكتوراه في السوربون، وثانياً في مجلة الدراسات الفلسطينية التي كرس لها المزيد من الوقت والجهد كعضو في مجلس ادارتها وتحريرها (1986-1994)، ثم في مجلة لوموند ديبلوماتيك اليسارية التي صار أحد أبرز كتابها ومحرريها (1981-2000) الى حد تسليمه مهمة اصدار وتحرير الطبعة العربية للمجلة في بيروت لاحقاً (1998-2000)...هذا ناهيك عن بدايات كتابته في النهار البيروتية والحياة اللندنية (1988)..
عاد سمير الى بيروت في العام 1990 أستاذاً للعلوم السياسية في جامعة القديس يوسف وكان ذلك في أجواء اتفاق الطائف الذي لم ير النور في التطبيق...ومنذ العام 1993 صار مديراً عاماً لمنشورات النهار وكاتباً لعمود أسبوعي (يوم الجمعة) إلى جانب عمودي غسان تويني وجورج خضر التاريخيين، وكان ذلك في حد ذاته تكريساً له مثقفاً عضوياً وكاتباً وصحفياً مبدعاً وناشراً متميزاً.. وكرس سمير وقته لعمله الصحفي والنشري وأيضاً لاصدار بعض كتبه بالفرنسية... كتب مع فاروق مردم بيه «الطريق من باريس الى القدس»، «فرنسا والصراع العربي الاسرائيلي» الجزء الاول 1917- 1958 (منشورات مجلة الدراسات الفلسطينية-باريس 1992) الجزء الثاني: 1958- 1991 (باريس 1993). وكتب «مساحة أزمات»، وهي مقالة ضمن مجموعة دومينيك شوفالييه واندريه ميكال، «العرب من الرسالة الى التاريخ» (باريس، فايار 1995)...
في العام 1992 أطلقت منظمة العمل الشيوعي نقداً ذاتياً غير مسبوق، صدر جزء منه في كراس صغير بعنوان "في الاشتراكية: نص نقدي تحليلي" (صدر في منتصف نيسان 1993).. وكان الحزب الشيوعي هو الآخر يشهد حالة تململ ثوري وانتقادات ودعوات لمراجعة تجربة اليسار اللبناني والحرب الأهلية... في نفس تلك السنة أطلقنا (سمير فرنجيه وفارس سعيد وهاني فحص وسعود المولى ومحمد حسين شمس الدين وشوقي داغر وجان حرب وسمير عبد الملك ورشيد الجمالي وخالد لطفي وغيرهم) المؤتمر الدائم للحوار اللبناني وعقدنا عدة خلوات وندوات ناقشنا فيها تجربة الحرب الأهلية وضرورات المكاشفة والمراجعة والمصالحة لبناء سلم أهلي راسخ... وأصدرنا نشرة أسبوعية (قضايا الأسبوع) ثم مجلة شهرية (أوراق الحوار) ودراسات موسمية (قضايا لبنانية) شكلت كلها رافعة حوار فكري ثري وعمل وطني جدي انخرط فيه سمير قصير ونصير الأسعد وغيرهما من التيار اليساري المستقل الباحث عن الحقيقة والعدالة في حياة البشر... كان الحوار بيننا وبين سمير يدور حول معنى اليسار في الوضع اللبناني الباحث أولاً عن تحقيق سلم أهلي ووقف الحروب الأهلية وتوحيد المجتمع وحفظ التعددية والديموقراطية والحرية فيه وعن بناء دولة ونظام سياسي يناسبان هذا الواقع وعن شروط فتح آفاق تطور وتقدم حقيقةً وليس لفظاً... وكان حوارنا يدور أيضاً حول معنى المقاومة وشروطها وآفاقها في فلسطين ولبنان، وحول الوضع الدولي والعربي، خصوصاً بعد سقوط الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية وبروز نظريات نهاية التاريخ وصدام الحضارات... وكان سمير يتجاوب مع حواراتنا في ما كان يكتبه على صفحات النهار ومجلة الأوريان أكسبرس التي رئس تحريرها (1995-1998).. ولكن سمير تميز بحفاظه على موقعه اليساري المميز ضمن الحالة الحوارية الوطنية ولعل ذلك هيأه ليشارك في تأسيس المنبر الديموقراطي (2001) الى جانب حبيب صادق وسمير فرنجية وحكمت العيد ونصير الأسعد ومحمد علي مقلد وعبدالله رزق وأنطوان حداد ومئات الأصدقاء والرفاق في حركة يسارية ديموقراطية ضمت المئات ولم يشهد لبنان لها مثيلاً (لا من قبل ولا من بعد للأسف) ثم في تأسيس حركة اليسار الديموقراطي (2004) مع رفاقه الياس خوري وزياد ماجد والياس عطاالله ونديم عبد الصمد وحكمت العيد وحنا صالح ووديع حمدان ومارك ضو ووليد فخر الدين وفاروق يعقوب إضافة إلى المنظمات الشبابية اليسارية ومنظمة طلاب شيوعيون المنشقة عن الحزب الشيوعي... كان سمير متحمساً لكل تيارات الاعتراض والممانعة داخل اليسار عموماً والحزب الشيوعي خصوصاً وكان يستمتع بالحوار مع جورج حاوي وسمير فرنجيه وحبيب صادق ومحسن ابراهيم وكريم مروة وجورج بطل ونديم عبدالصمد وغسان الرفاعي ونسيم ضاهر وحكمت العيد ونصير الأسعد ويدعوهم الى كتابة تجربتهم اليسارية القيادية خدمة للجيل الجديد وللحقيقة والتاريخ، مطالباً إياهم في نفس الوقت بتقديم كشف حساب صارم مع العقل التآمري والاستبدادي داخل اليسار ومن أجل بلورة رؤية يسارية وطنية تحمل هموم الناس وخلاصات تجاربها ودروس حروبها الأهلية كافة... ومنذ التمديد للرئيس لحود (2004) ابتدأ صراع سمير الكبير والخطير مع أنظمة العسكر والاستبداد ومع الوصاية السورية ومن أجل الحرية والكرامة.. ولا ننسى هنا أن نذكر مؤلفاته الأشهر والتي تقول لنا عناوينها عن ماهية خيارات سمير الحقيقية وتوجهاته النضالية والانسانية: «عسكر على مين؟ لبنان الجمهورية المفقودة» (دار النهار-2004)، «ديموقراطية سوريا واستقلال لبنان: البحث عن ربيع دمشق» (دار النهار- (2004)، «تأملات في شقاء العرب» (دار النهار -2005)، «تاريخ بيروت»، (منشورات فايار، باريس 2003) (بالعربية عن دار النهار-2006)، «حرب لبنان من الشقاق الوطني الى النزاع الاقليمي 1975- 1982» (منشورات كارتالا سيرموك 1994) (وبالعربية عن دار النهار-2007)..
وبعد... فهذا هو سمير قصير كما عرفته...كان في أول ربيعنا العربي ومن أول شهدائه...