تونس ـ فادي شامية
في الأصل؛ لم يكن ثمة دافع قوي لإجراء مقارنة بين أوضاع تونس ما بعد الثورة والأوضاع في لبنان؛ لولا أن بعض السياسيين اللبنانيين -غير المنصفين- ما فتئوا يسألون عن النموذج التونسي، في طليعة أسئلتهم عن نماذج الربيع العربي المجيد. ليس في ذهن هؤلاء "المرجفين" إجراء مقارنة علمية، ولا تمتين العلاقات الأخوية، ولكن في ذهنهم تخويف اللبنانيين عموماً، والمسيحيين خصوصاً، من نتائج الثورات على أنظمة الاستبداد، بهدف دعم نظام بشار الأسد القمعي، إضافة إلى حصد النتائج السياسية لتخويف المسيحيين من كل إسلامي يصل إلى الحكم، بوصفه "تكفيرياً، رجعياً، لا يراعي حقوق الإنسان".
ثورة لم تأكل أبناءها
في واقع الحال؛ فإن النموذج التونسي ناصع إلى درجة أنه كسر القاعدة السياسية المعروفة: "الثورة تأكل أبناءها". ولعله من قبيح التجني طرح الشكوك حول الثورة التونسية المجيدة؛ فقد عانى التونسيون جراء قمع نظام زين العابدين بن علي ومن قبله نظام الحبيب بورقيبة- (اعتباراً من العام 1957). بن علي حكَم طيلة 23 سنة، فحوّل البلد إلى سجن كبير، وابتكر صنوفاً من القمع دُونت باسمه في سجل الطغاة. لا داعي للإطالة في تفصيل فساد وطغيان بن علي، فما وُجد في بيته من كنوز مسروقة ومخدرات مخبوءة، وما صوّرته وسائل الإعلام عن أقبية ووسائل التعذيب يغني عن الشرح.
البوعزيزي كان الشرارة التي فجّرت بركان الاحتقان. اندلعت الثورة، واستشهد العشرات، وتدخل الجيش (الذي تعرّض خلال حكم بن علي لإذلال ممنهج وتقييد شديد مخافة أن يقوم انقلاب) فحسم الموقف وأجبر بن علي على الفرار في 14/1/2011. وفي اليوم التالي تولى رئيس مجلس النواب محمد المبزع منصب رئيس الجمهورية بشكل مؤقت، وأصبح الباجي قائد السبسي في 27/2/2011 رئيساً للحكومة المؤقتة، ثم جرت انتخابات المجلس التأسيسي في 23/10/2011.
خلال هذه المدة، ورغم الفراغ الأمني والسياسي فإنه لم تحصل انتقامات، ولا إعدامات، خلافاً لأهم الثورات في العالم. لم يقع اقتتال داخلي، ولم تأكل الثورة أبناءها، ولم يحصل فلتان أمني بالمعنى الواسع، بل سادت روح من التسامح، كان أكثر من دعا إليها ضحايا القمع السياسي، ومعظمهم إسلاميون. الجميع في تونس احتكموا إلى صناديق الاقتراع، التي رفعت تمثيل حزب "النهضة" الإسلامي (إخوان مسلمون) من صفر % تمثيل برلماني إلى 41%. فماذا فعل الحزب الذي حل أولاً ونال ثلاثة أضعاف مقاعد أقرب منافسيه؟
ما فعله هو صناعة "النموذج التونسي" في "عصر الربيع العربي"، فبدل أن يشكّل الحكومة منفرداً أو ينال رئاسة البرلمان أو الجمهورية، كما هي العادة في الأنظمة الديمقراطية؛ فضّل حزب "النهضة" أن يشكّل حكومة ائتلافية برئاسته، وأن يتفاهم مع حزب "المؤتمر من أجل الجمهورية" العلماني، بزعامة منصف المرزوقي (حصل على 30 مقعداً)، فتكون رئاسة البلاد للمرزوقي، وأن يتفاهم مع حزب "التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات" اليساري بزعامة مصطفى بن جعفر (حصل على 21 مقعداً)، ليكون بن جعفر رئيساًَ لمجلس النواب. وفوق ذلك أعلن زعيم "النهضة" راشد الغنوشي عزوفه عن تولي أي منصب رسمي، فاتحاً المجال للمناضل السياسي حمادي الجبالي (15 سنة في سجون بن علي بينها 10 سنوات من السجن الانفرادي!) ليكون رئيساً للوزراء.
في النموذج التونسي أيضاً
النموذج التونسي -الذي يخوّف منه من لم يسمع أو يرَ ماهيته- يحفل بما هو أكثر غرابة من ذلك؛ فقد حاول منافسو حزب "النهضة" إحراجه بطرح ترشيح نسبة عالية من النساء في القوائم الانتخابية. "النهضة" كان أول الموافقين، والمفاجأة أن مرشحات "النهضة" كن فائزات في غالبية الدوائر- خلافاً لبقية الأحزاب- بحيث أدخل "النهضة" إلى البرلمان التونسي 42 من أصل 49 امرأة ممن انتخبن أعضاءً في المجلس التأسيسي!
لم يغرّ هذا الفوز المبهر قيادة "النهضة"، فما التزمت به مع باقي المعارضين (هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات عام 2005) أيام المحنة، حافظت عليه في زمن المنحة؛ فأعادت الالتزام بالديمقراطية، بما هي "قيم ومبادئ وآليات ومؤسسات"، وأكدت "احترام حقوق وحريات المواطنين الفردية والعامة"، و"قيام دولة مدنية قائمة على مبادئ الجمهورية وحقوق الإنسان وتستمد مشروعيتها من إرادة الشعب".
في أدبيات النهضة اليوم؛ تأصيل مكثف لمنهجية العرض دون الفرض، وللتغيير بالإقناع لا الإجبار. درجة الالتزام بهذه المنهجية مذهلة، لدرجة أن الحركة الفائزة في الانتخابات تجد صعوبة اليوم في تغيير موظف حكومي، لئلا يتهمها المنافسون بأنها تفرض لونها على الدولة، مع أن تغيير الإدارات بعد الثورة، وجعلها أكثر قرباً من الحكم الجديد أمر متعارف عليه في أعرق الديمقراطيات الغربية!
من يزر تونس اليوم لا يجد أي دليل على أن الإسلاميين يسعون الى فرض قناعاتهم على الناس. لم يفرضوا الحجاب، ولم يقيّدوا حرية المأكل أو المشرب... جل ما فعلوه أنهم نظفوا بلادهم من الفساد السياسي والاقتصادي، وسمحوا للناس أن تعبر عن نفسها، فنشأت آلاف الجمعيات وعشرات الأحزاب ووسائل الإعلام في عام واحد.
أكثر من ذلك، فعلى الرغم من أن تونس بلد مسلم 100% تقريباً إلا أن قانون الأحوال الشخصية فيه (صادر عام 1956) يتضمن نصوصاً تخالف الشريعة الإسلامية صراحة، كتغيير أحكام الميراث، وأحكام التبني، والسماح بزواج المسلمة من غير المسلم، وإعطاء أبناء الزنا الحق في حمل اسم الأب والحق في ميراثه كالأبناء الشرعيين، وحظر تعدد الزوجات ولو لأسباب واضحة... ومع ذلك فإن هذا القانون ما زال معمولاً به في ظل حكم الإسلاميين!
في تونس أيضاً مثال على احترام الأقليات، إذ يعيش في جربة نحو 2000 يهودي قدموا من إسبانيا قبل قرون خوفاً من الاضطهاد، واندمجوا في المجتمع التونسي؛ لم يتعرض لهم أحد في الماضي، ولم يسئ إليهم أحد بعد صعود نجم الإسلاميين. والأهم أن "النهضة"، هو من يتولى اليوم مكافحة التطرف، عن طريق نشر الوسطية في الفكر والدعوة، وعن طريق القانون، دون إفراط أو تفريط، وذلك عندما يحصل ما يخل بالانتظام العام، وما عدا ذلك فللجميع ان يعبر عن رأيه مهما كان متطرفاً.
في تونس اليوم أيضاً اقتصاد ينتعش (من 2-% إلى +2%)، وسياحة تزدهر من جديد، ووزراء ينتظرون نهاية الشهر ليقبضوا رواتبهم، ونواب يركبون في وسائل النقل العامة، ونظافة كف لدى وزراء الحكومة الجديدة، من الإسلاميين وغير الإسلاميين... وخطط واعدة للمستقبل.
هذا هو النموذج التونسي، فأين منه خطاب الأحقاد والتحريض في لبنان؟ والسرقات والفساد والتراجع الاقتصادي والوقوف على حافة الحرب الأهلية كل يوم؟!