الخميس، 23 أغسطس 2012
قصتان من الماضي القريب
محمد السماك
سأروي قصتين قصيرتين.
القصة الأولى بين الرئيس الشهيد رفيق الحريري والإمام الراحل محمد مهدي شمس الدين يرحمهما الله.
اقترح الإمام على الرئيس إنشاء مركز للدراسات والأبحاث الإسلامية. تبنّى الرئيس الفكرة. وعلى عادته طلب إعداد مشروع تنفيذي لها.
وُضع المشروع وحُددت أهدافه، وفي مقدمتها أن يكون المركز منبراً للدراسات الإسلامية الحديثة والمتنورة. للإسلام الشامل لكل مدارسه الفقهية، وليس الشمولي الإلغائي لمن يختلف معه والتكفيري لمن يعارضه.
الإسلام الذي يقول بأن للمجتهد أجراً ولو أخطأ.
الإسلام الذي يؤكد على أن المذاهب وجهات نظر، وأن وجهة النظر أياً كان صاحبها لا ترقى الى الحقيقة المطلقة، وأنها، كأي عمل فكري أو اجتهاد إنساني، مفتوحة على الخطأ والصواب.
الإسلام الذي يدعو الى الاعتصام بحبل الله وعدم التفرق. وليس الى عدم الاختلاف، لأن الاختلاف قائم ومستمر بإرادة الله وحكمته، ولأنه لا يؤدي بالضرورة، بل يجب أن لا يؤدي، الى التفرق. إن الذي يؤدي الى التفرق، هو ثقافة عدم قبول الاختلاف وعدم احترام المختلف معه، وتالياً الزعم باحتكار الحقيقة والطريق اليها.
ثم لأن لبنان مجتمع متنوع، ولأننا نؤمن بالتنوع تعبيراً عن هذه الإرادة الإلهية، فإن من أهداف المشروع أن يكون المركز منبراً للدراسات الوطنية الإسلامية المسيحية أيضاً بحيث ينمي ثقافة العيش الوطني في لبنان ويرفد هذه الثقافة في الدول العربية الأخرى بمزيد من المساهمات الحية ويعكس تالياً رسالة لبنان التي تتجاوز حدوده السياسية.
ولكن مرض الإمام شمس الدين ثم وفاته، جمّد المشروع. وجاء بعد ذلك اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، اغتيالاً للمشروع أيضاً.
القصة الثانية بين القيادات السياسية والروحية اللبنانية الإسلامية: الرئيس نبيه بري، والرئيس فؤاد السنيورة، وسماحة المفتي الشيخ محمد رشيد قباني، وسماحة الإمام عبد الأمير قبلان.
في تموز من عام 2006 تمّ التوافق على عقد لقاء للقادة الأربعة في دار الفتوى. وكان الموضوع الوحيد على جدول الأعمال هو إطلاق مبادرة إسلامية لبنانية للمساعدة على وأد الفتنة المذهبية في العراق. أُعدّ مشروع البيان الذي كان سيصدر عن هذا اللقاء وفيه دعوة موجهة الى قيادات عراقية سياسية ودينية، سنية وشيعية، لعقد مؤتمر مفتوح في بيروت للاتفاق على معالجة الاختلافات الطائفية التي تعصف بالمجتمع العراقي والتي نفخ في رمادها الاجتياح الأميركي.
كان الوقت المحدد لاجتماع القادة الأربعة هو الساعة 12 ظهراً من يوم 13 تموز 2006. ولكن العدوان الإسرائيلي على لبنان الذي بدأ صباح ذلك اليوم، سرعان ما اشتد عنفاً مع ساعات النهار الى أن أصبح عدواناً شاملاً وحرباً مفتوحة.
أصبح الانتقال الى دار الفتوى خطراً. فتقرر تأجيل اللقاء بانتظار انتهاء العدوان. غير أن التطورات السياسية التي فجرتها القراءات المختلفة لكيفية وقف هذا العدوان الذي استمر 33 يوماً ووضع حد لتداعياته التدميرية الخطيرة، باعدت بين أصحاب المبادرة التقريبية والتوفيقية. وبالنتيجة استشهد مع الألف وأربعمائة لبناني من جراء العدوان الإسرائيلي شهيد لم تُقرأ عن روحه الفاتحة، وهو مشروع لقاء القيادات العراقية السنية والشيعية بدعوة من القيادات اللبنانية السنية والشيعية.
بالأمس كنا هناك، محلقين عالياً في طموحات توحيدية. واليوم أصبحنا هنا، غارقين في وحول ترهات الاختلافات المذهبية. نرى الشرّ ونسكت عنه، ونحن نعرف أن السكوت عن الشرّ، شرّ مثله. وأن عدم المبادرة، مبادرة.
لقد كانت الصعوبة دائماً هي في إيجاد علاج يكون أقل سوءاً من الداء، ولكن من سخرية القدر أننا أحياناً نبحث عن الرجل الأمين في ضوء مصباح مسروق.
بالأمس كانت الطائفية واقعاً نخجل منه ونرفع الصوت خجلاً منه.. واليوم أصبحنا، في معظمنا، نفكر طائفياً. ونتصرف طائفياً.. ننظم طائفياً. وننتظم طائفياً.. نبتهج طائفياً. ونحزن طائفياً.. ثم نشتم الطائفية وأهلها.
نعرف أننا مجتمع متنوع، ولكننا غالباً ما نتجاهل الحقيقة، وهي أن كل مجتمع متنوع معرّض لخطر التصدع. وأن هذا الخطر هو جزء أساس في بنية التنوع. ولذلك يمكن القول إن التنوع من دون خطر التصدع هو كالدين من دون الخطيئة أو المعصية. فالدين لا يدعو فقط الى تجنب ارتكاب الخطيئة، ولكنه يساعد مرتكبها على التخلص من معاناة ما بعد ارتكابها بحيث يتمكن من المصالحة مع نفسه، ومع مجتمعه من جديد. وكذلك ثقافة التنوع، فإنها لا تدعو فقط الى تجنب التشرذم والانقسام، ولكنها تساعد النرجسيين المغالين في حب الذات الى التصالح مع أنفسهم ومع مجتمعهم. وما العيش الوطني إلا مصالحة يومية مع الذات ومع الآخر.
إن أهم من قراءة المواثيق هو قراءة الناس. وأهم من إعداد سيارات الإسعاف في قعر الوادي، هو بناء الحواجز التي تمنع السقوط. ومن أولى متطلبات تأصيل ثقافة بناء الحواجز هذه، الانقلاب على ثقافة التبعية والاستتباع. ولعل من تباشير ذلك، هذا التحرك ممثلاً بالاتحاد العلمائي اللبناني وبالمركز العربي للحوار. ويبدو لي أن مؤسسي الحركتين يشاركوننا الإيمان بصحة المثل الصيني الذي يقول: "أنت لا تستطيع أن تمنع الطيور السوداء من أن تحلق فوق رأسك، ولكنك تستطيع أن تمنعها من أن تعشعش في رأسك".
في القرن الماضي كتب أندريه جيد رسالة الى توفيق الحكيم قال له فيها: "ان العقل العربي يحمل قدراً كبيراً من الإجابات أكثر مما يمتلك من الأسئلة".
وفي ظني أن إنشاء الحركتين وتعاونهما يطرح من الأسئلة.. أكثر مما يقدم من الإجابات. وهذا موضع أهميتهما. وهو في الوقت ذاته منطلق تفاؤلنا وإيماننا بالقدرة على صناعة غدٍ أفضل.