ميدان التحرير.. مرآة لتحولات الوطن.. ومرتكزاً للوعي والذكريات
د. هبة رؤوف عزت
• أسكن في مكان، ويسكنني..أسكن في هذا الميدان الفسيح الذي تطل عليه شقتنا منذ ولدت، تجولت عيني منذ أيامي الأولى في أنحائه لترى من الشرفة العريضة البنايات الرابضة في جنباته وتلمح النيل عن بعد يجري كما الدم في وريدي ..
وفي الأفق صافح بصري منذ الطفولة مشهد الأهرامات عن بعد واضحاً كل صباح..لا يحجبه إلا الضباب أو رمال الخماسين. ميدان التحرير..قلب القاهرة..وقلبي.
أين تسكنين في ميدان التحرير؟!! في منطقة معروف؟ في ناحية باب اللوق؟ في اتجاه طلعت حرب؟ عند مجلس الشعب؟ في جاردن سيتي؟ ربما أكون قد سمعت هذا السؤال في عمري آلاف المرات. أسمع مجدداً صوتي يرد: "في الميدان".
باستغراب يأتي السؤال التالي:"وهل يسكن في ميدان التحرير "نفسه" أحد؟ أو ليست كلها مكاتب وعيادات وشركات؟" بل يوجد سكان أصليين..أسرتنا وعشرات غيرها، عاشت قبل زحف المكاتب والعيادات والشركات.
ملتقى الحضارات
كان والدي الذي ولد في العشرينات يسكن في بيت تملكه أسرة والدته في العباسية، وتنوعت أماكن عمله إلى أن استقر به الحال كضابط شرطة في إدارة الجوازات بمجمع التحرير بنهاية الخمسينات.. فقرر أن يسكن في أقرب مكان من عمله، ووجد شقة في واحدة من عمارتي سرباكيس التي تطل على الميدان والتي تقع في صف البنايات الذي يربط بين مدخل شارع طلعت حرب ومخرج شارع البستان.
صوري وأنا صغيرة تظهرني وأنا واقفة وخلفي المتحف المصري يبدو من بعيد وفي يمين الصورة فندق هيلتون النيل..وجزء من حديقة جامعة الدول العربية. لم تلتقط عدسة الكاميرا مبنى وزارة الخارجية الكلاسيكي القديم ومسجد عمر مكرم و المجمع ثم مبنى الجامعة الأمريكية ثم عمارة أسترا التي كان تحتها المقهى الشهير وكافيتريا زد والبناية العتيدة الأقدم ذات الطابقين على ناصية شارع التحرير، ثم مدخل شارع طلعت حرب.
من الحضارة الفرعونية القديمة التي يمثلها المتحف المصري ومشهد الأهرامات، والحضارة العربية التي ترمز لها جامعة الدول العربية، والإسلام الذي يؤذن في رحابه للصلاة خمس مرات من مسجد عمر مكرم ، وهوية النيل الذي يجري حراً ، وانتماء الدولة المصرية التي تمثلها وزارة الخارجية وبيروقراطية مبنى المجمع الضخم ، إلى خريطة العالم الذي يمثله فندق الهيلتون (والذي يقوم الآن مكان معسكرات الجيش الإنجليزي أيام كان الميدان في ظل الاحتلال يسمى ميدان الإسماعيلية ومن هنا جاءت التسمية بعد رحيل الاستعمار)، كما تمثله الجامعة الأمريكية...تشكل وعيي بالدنيا، من هذه الشرفة أطلت عيني على العالم، وتشكل أفقي تفكيري.
كنا صغاراً نعبر كوبري قصر النيل مشياً إلى نادي الشرطة أو النادي الأهلي أو نادي الجزيرة، في النادي الأول كنت وأخي خالد الذي يكبرني بعامين نمارس الرياضة من سباحة وتنس ، وفي الناديين الأهلي والجزيرة نشاهد والدي يدرب فريق الهوكي حيث كان كابتن الفريق في الخمسينات ثم مدربه في الستينات وحتى مطلع السبعينات..وهو ما أتاح له السفر لبلدان كثيرة في إطار البطولات الدولية معظمها من دول "عدم الانحياز" من الهند وباكستان حيث تنتشر اللعبة أكثر من البلدان العربية، إلى دول جنوب الصحراء في أفريقيا، فكانت معرفتي بهذا العالم وأسماء المدن وأحوال الناس مبكرة، بمثلما تعرفت على العالم الغربي من خلال عين أبي في زياراته الأخرى لأوروبا الغربية والشرقية والولايات المتحدة...
مدرستي الألمانية التي كانت تبعد عن بيتنا سبع دقائق مشياً على الأقدام أيضاً كانت مشهداً متنوع الوجوه، الراهبات اللاتي يمثلن الوجه المسيحي للحضارة الغربية، والمدرسين الذين يغلب على شبابهم الطابع الليبرالي وعلى الأكبر سناً منهم الطابع الصارم لجيل الحرب العالمية الثانية.
كانت تلك أطياف من الثقافة الألمانية لكنها كانت أيضاً أماكن، الراهبات يسكن في دار الراهبات الملحقة بالمدرسة حيث مساحة الرهبنة والعبادة في الكنيسة الصغيرة .
والمدرسون يسكن عقلهم مساحات الحداثة والنظرة العقلانية والفردية، والأكبر ذاكرتهم أسيرة مساحات الحرب ومعاناة ما بعدها. لكن بالمدرسة تجلت أيضاً مساحة الإسلام كهوية في أبلة كوثر التي أصرت على أن تشترك المدرسة في مسابقة المنطقة التعليمية للقرآن الكريم للمرة الأولى (وربما الأخيرة) في تاريخ المدرسة ، واختارتني لأن أمي كانت المرأة المحجبة الوحيدة التي تحضر مجلس الآباء في مطلع السبعينات، فحفظت الجزئين الأخيرين من القرآن وأنا ابنة سبع سنين وفزت بالمركز الثالث ، كما كانت مدرساتي من أبلة ماتيلدا إلى أبلة إيفون إلى مدام سوزان وغيرهن يفضن بروح مسيحية قبطية سمحة تخفف من وحشتي من مضايقات الراهبات الألمانيات والإدارة بعد أن ارتديت الحجاب في المرحلة الإعدادية .
الفقر المستور
كنت أذهب للمدرسة في صحبة مربيتي التي تسكن في قلعة الكبش بالسيدة زينب والتي تعرفت من خلالها على حواديت تلك المساحات من الفقر المستور الذي طغت عليه بعدها بعقود مظاهر الفقر العشوائي ، وكنا نقطع الطريق عبورا للميدان وانعطافا بجوار مقهى أسترا وسيرا أمام الجامعة الأمريكية ثم مدرسة الليسيه ثم بجوار محطة مترو حلوان ثم بجوار سوق باب اللوق المفتوح ثم المدرسة.
عندما بلغت التاسعة تحررت من صحبة مربيتي فأصبحت أسير في اتجاه إيزائيفتش وأعبر شارع طلعت حرب من ناحية الميدان إلى شارع التحرير من أمام محلات الخردوات والفول والطعمية والأدوات الكهربية ثم أمر من أمام محل "الصيرفي" الذي كان يبيع اللب والسوداني ويقابله على الجهة الأخرى محل تصليح الأحذية الذي كنا نتعامل معه ويملكه جورج وأخيه ، ثم أدلف إلى شارع يوسف الجندي لأصحب زميلة لي في الفصل تسكن في مواجهة باب "المبنى اليوناني" للجامعة الأمريكية، والذي يقع فيه في الشارع محل خردوات "يني" الذي اعتادت أمي أن تشتري منه الخيط والأزرار ، ثم يصب مسارنا في شارع محمد محمود في مقابل مدرسة الليسيه حيث كانت لجان مدرستنا لامتحانات الشهادات (الابتدائية والإعدادية والثانوية).ثم يسارا لطريقنا للمدرسة.
في المرحلة الإعدادية قرر والدي أنه بجانب القراءة يجب أن أتعلم مهارة ما ، فاشترك لي في أحد الأجازات الصيفية في دورة لتعليم الآلة الكاتبة (كان هذا عصر ما قبل ظهور الكومبيوتر الشخصي ثم المحمول) فدخلت مبكراً مساحة الجامعة الأمريكية بكل هيبة الأكاديميا في نفس طالبة الإعدادي، ثم ما لبث أن أرسلني وحدي في الأجازة التي تليها لزيارة أسرة نمساوية صديقة تعيش في فيينا لمدة أسبوع ، فعرفت أن العالم الذي أرى زواره من السائحين الذين يترددون على الميدان لزيارة المتحف المصري عالم واسع لكنه لا يعرف عن عالمنا شيئاً، وفي الصيف التالي استضفنا الإبنتين ردا للضيافة وتجولت معهما فاستكشفت مساحات جديدة من القاهرة القبطية ومواقع لم أزرها لآثار فرعونية وأماكن ومعالم في محافظات خارج القاهرة.
كانت عمارتنا أيضاً بذاتها تعبيراً عن جوار متنوع الثقافات والأديان، فقد كانت الشرفة المقابلة لنافذة غرفتي لجارتنا اليونانية التي تتحدث العربية بلكنة "جريجية" قوية جداً ، وفي الدور الرابع ثلاث أسر لها صلة بثقافات شتى ، فتسكن طنط "ليا" اللبنانية الأصل، وفي الجهة المواجهة لها شقة طنط روز التي كانت تمت بصلة قرابة لبديعة مصابني وكانت إمرأة كبيرة في السن ودودة، ثم في أقصى الطرف شقة محمد بك زكي الذي كان متزوجاً من طنط مارت الفرنسية التي أسلمت وأسمت نفسها ليلى وكانا يعيشان بمفردهما بعد أن ماتت ابنتهما الوحيدة في سن الشباب فكنت أزورهما بين الحين والآخر في وحدتهما ولما بدأت في تعلم الفرنسية في الصف السادس كانت تلك مناسبة للحديث بالفرنسية معهما والتي كان يجيدها "جدو زكي" منذ منحته الدراسية في فرنسا والتي تعرف خلالها على زوجته الرقيقة التي بقيت تهتم بشعرها وتصففه بطريقة كلاسيكية إلى أن مرضت وماتت بعد وفاته هو بقرابة العشرة أعوام، وكنت أسعد حين يطلق يرحمه الله عصفور الكناري من قفصه ويتركه يطير بين الحجرات بعد أن يغلق النوافذ وأبواب الشرفات .
كان اسمه نونوس وكان جدو زكي يناديه بصفير خافت فيحط على رأسه الكبير ذو الشعر الأبيض الكثيف الناعم فيضحك، ثم ما يلبث أن يعود لقفصه وهو يغرد.
في الطابق الثالث كانت تسكن طنط علية التي أسلمت لكن بقيت في كنف أخيها المسيحي لم تتزوج. باقي الجيران لكل منهم قصة سواء من السكان أو من الأطباء، قصص كثيرة ومساحات متراكمة.
مصر الحقيقية
خارج جدران العمارة كانت كل مساحة وسط البلد لي بمثابة الامتداد والمجال الحيوي لمنزلنا، كانت أمي تصطحبني منذ الصغر لشراء الأحذية من محل بامبينو بشارع قصر النيل والذي كان الطابق الأرضي فيه للملابس أما الأحذية ففي الطابق تحت الأرضي فكنا ننزل له بسلم صغير ما زالت أذكره، ولأن أمي كانت تجيد الحياكة، والتي تعلمتها منها، فقد كانت تشتري الأقمشة لكسوة الصيف أو الشتاء من محل سيدتي الجميلة أو محل الشانزيليزيه، وربما من الصالون الأخضر أو نسير حتى نهاية الشارع لمحمد محمود وربما امتد بنا البحث إلى شارع 26 يوليو.
في طريق العودة كنا عادة نقطع شارع عدلي لنمر على المعبد اليهودي ، ويقابله محل بابل في ممر كوداك الذي كان يبيع الأحذية المصنوعة بالطريقة القديمة باليد ذات النعل الجلد الطبيعي وليس أحذية المصانع ، من هناك كان والدي يشتري أحذيته (وكان حين يشتري من الخارج يفضل الأحذية الأسبانية)، ثم نقف عند منفذ بيع فيليبس ، وقد ندلف لشارع شريف لنقف في دار المعارف على ناصية شارع عبد الخالق ثروت نشتري كتب، ونستمر في الشارع نعبر التقاطعات إما نتوجه يسارا لنقف في قصر النيل عند " شالون" نشتري لأخي ملابسه أو لأبي بيجاماته، أو نستمر في شارع شريف حتى مبنى جريدة الأهرام القديم لنشتريها من " ملابس الأهرام
حين كبرنا وصرنا نتجول في وسط البلد أنا وأخي وأبناء عمي -الذي كان يسكن في عمارة أنور وجدي بشارع هدى شعراوي- في شوارع وسط البلد نشرب الـ"شوكولا جلاسيه" في محل البن البرازيلي أمام سينما مترو ونشاهد الأفلام في سينما وسط البلد، وقد نأكل السندوتشات من " ومبي" في طريق العودة.
لم يكن والدي يصحبني للتجوال في وسط البلد، فلم يكن لديه وقت، إذ كان بعد العمل يعود للغذاء ثم يذهب ليمارس هوايته للتدريب في النادي. المرة الوحيدة التي أذكرها هو يوم اصطحبني وأنا أرتدي فستان أحمر من الكروشيه ليتم تصويري فوتوغرافبا لتقديم أوراق المدرسة.
لم أكن معتادة على الخروج معه دون أمي، وحين ارتديت أجمل فساتيني وعلمت أن والدي هو من سيصحبني أخذتني الرهبة، وأمسكت بيده وأنا وجلة لنسير فقط لآخر الرصيف ، ندلف لشارع طلعت حرب وندخل بعد أن نتجاوز عمر أفندي بعدة محلات إلى " أكتينا" الفوتوغرافي الذي كان يبيع الكاميرات وكذا يقدم خدمة التصوير الأبيض والأسود.
أجلسني والدي على المقعد وقال لي من وراء الكاميرا:" أنظري للعدسة كي نصورك صورة دخول المدرسة". أحسست أن الأمر خطير فجاءت النظرة جادة وصارمة في عين العدسة، وهي الصورة التي حملتها شهادة المدرسة في مرحلة الروضة.
حين استقال والدي من خدمة الشرطة حتى لا يضطر للسفر متنقلاً بين المحافظات كما هي القواعد بعد أن انتهت مهمته في الجوازات- والتي طالت لظروف العدوان ثم الوحدة مع سوريا و حملته لدمشق ضابطاً للجوازات للتدريب لأسابيع، والتي من أجلها استقر نسبياً في وظيفة الجوازات، انتقل إلى العمل الجديد في وزارة السياحة، وكان مكتبه في ميدان الأوبرا.
كنت في أيام الأجازة تحملني قدماي وأنا أتجول في وسط البلد لأشتري أغراضاً أو كتاباً أو أزور زميلاتي اللاتي يسكن في المنطقة أمر عليه في مكتبه، ثم يحلو لي أن أمر بممر الكونتيننتال المغطى الذي كنت أجده فريدا في وسط البلد، ومع مرور الأعوام صرت أذهب أبعد في التجوال إلى ميدان العتبة ثم شارع الأزهر وصولاً للغورية ولجامع الأزهر ومسجد الحسين وخان الخليلي.
حين دخلت الجامعة كانت تلك مسيرتي المفضلة على الأقدام، من التحرير لخان الخليلي صباح الجمعة، أشم رائحة التوابل عند وكالة الغوري تملأ الهواء متسللة من جهة اليسار حيث الشوارع الضيقة تمتلئ بتجار التوابل ، ورائحة البخور أمام المسجد وعند مدخل الصنادقية قبل أن أتجه يميناً للخان وأسير فيه وقد أشتري شيئاً من الحلي الفضية ، وأسمع تلاوة قرآن الجمعة قبل الأذان.
الميدان كان موقعاً هاماً لأنه الأقرب لأرض المعارض، كنا في أجازة نصف السنة نزور معرض الكتاب يومياً، إلى أن تم نقله لمدينة نصر وبناء الأوبرا الجديدة، التي لم نعد نسير لها مشياً بل نركب المترو الذي بدأ مشروع الحفر فيه في عام حصولي على الثانوية العامة 1983 وحرمتنا أعمال الحفر من النوم شهوراً طويلة وأطارت عقل مربيتي التي كلت من تنظيف المنزل آنذاك
تحولات وطن
لكن الذكريات لا تقتصر على ميدان التحرير وحده ،بل لميدان عابدين مكان في الذاكرة، في العيد كنا نقصد في السبعينات الميدان لصلاة العيد، مشهد جليل كان يدير تفاصيله الإخوان، ثم ذات عيد في مطلع الثمانينات أغرقت وزارة الداخلية الميدان بالمياه تماماً ومنعت إقامة الصلاة به وحددت للناس أين يحتفلون وأين يصلون أو لا يصلون..فانتقلنا للصلاة أنا و"أخواتي" من الجيران لمسجد مصطفى محمود، وما زلنا.
مع تقدم العمر وازدحام القاهرة صار التجوال لمسافات في وسط البلد أصعب، لكنني ما زلت أشتري حاجاتي منها، الخردوات من بواباجيان لأن دكان "يني" أغلق أبوابه ، والأحذية أي من المحلات العديدة، فقد كبرت قدمي الصغيرة وحل مكان محل بامبينو متجر أحذية ضخم حديث للكبار، ومكان "سيدتي الجميلة" والشانزيليزيه متجرين لبيع نوع شهير من الملابس الجاهزة غالية الثمن واحد للنساء على اليمين والآخر للرجال على اليسار، ومكان محمد محمود كذلك محل ملابس حريمي له سمعته.
إيزائيفتش حل محله شركة سياحة ومطعم للوجبات الأمريكية، "أسترا" الذي كنت أمر أمامه متعوذة لأنه كان يبيع البيرة صار محلاً للوجبات السريعة الأمريكية (وما زلت أتعوذ)، و "زد" صار محلا لبيع البيتزا، والصيرفي صار محل ملابس وجورج غير نشاطه ليصبح محلاً لبيع الأحذية.
شهدت عبر السنوات تحول الميدان من العالمية للعولمة، اختفى مشهد الأهرامات التي كنا نراها بزاوية في الأفق أيام كان فندق سميراميس القديم قائماً، حجب المشهد عنا بناء سميراميس إنتركوننتنتال الحديث ، وبعد أن كان المشهد هو ميدان به نافورة ومساحات خضراء تم إزالة النافورة بدعوى تجديد الميدان ثم تمت محاصرة المساحة الممتدة أمام الجامعة العربية والهيلتون والمتحف بسور ومنع المشاة من الدخول من جهة شارع ميريت باشا وتحول المربع المغلق لمكان مهمل أجرد قبيح بعد الحادث الإرهابي أمام المتحف منذ سنوات ، تقف بأحد جهاته عربات الأمن المركزي تحسباً لأي خطر..أو مظاهرة .
وسط البلد لم تعد أيضاً مكان التسوق المركزي للطبقة الوسطى كما في الماضي، مع اتساع القاهرة نشأت أمكنة التسوق والتي بدأت بسور نادي الزمالك وتوسع ميدان روكسي ثم تغولت بظهور المولات كمساحات مغلقة لا ترى الشمس، ولكن ذلك لم يفقدها الجمهور المتنوع الذي ما زال يتجول في شوارع المنطقة ولا نقاطها المركزية: مكتبتي الشروق ومدبولي والمكتبات المتناثرة الأخرى، البنوك المركزي والأهلي وبنك مصر، السينمات التي يقصدها الشباب في وسط البلد، مقهى ريش والنادي اليوناني (مساحات أصدقاءنا من اليسار)، دار القضاء العالي وحديقة الأزبكية، والأرصفة الطويلة المتقاطعة التي تجعل للتسكع مذاقاً خاصاً ، ناهيك عن مركزية وسط البلد للحركة الاحتجاجية من" كفاية" لجبهات التحالف الأخرى في ميدان طلعت حرب وأمام نقابتي الصحفيين والمحامين، بل صار من معالم وسط البلد عربات الأمن المركزي بجوار جروبي تحسباً لمظاهرات حزب التجمع وحزب الغد.
ما زال يحلو لي أن أجلس في شرفة منزلنا ليلاً أو فجراً، تلمع أضواء القاهرة أمامي، وأنظر للميدان الخالي من زحام وضجيج النهار، أذكر أبي الذي كان يحب الشرفة ويجلس ليتأمل فيها مساءاً حركة الناس، وأسترجع ذكريات الطفولة والصبا والشباب، بقي الميدان بمعالمه الرئيسية، لكن مات الكبار وتحولت الكثير من الشقق لشركات سياحة ومكاتب مقاولات حتى لم يبق في العمارة سوى عشر شقق سكنية من أصل 39، والباقي أغلبه تتغير نشاطاتها كل عدة أعوام بحسب المستأجر للمكان، يذهب الناس ويجيئون، تتغير الوجوه وتتحول طبيعة المكان.. وما يغيب عن العين تحفظه الذاكرة فتتقاطع مشاهد الطفولة مع مشاهد الواقع، وتتماهى، فأتواصل مع المكان بمستويات وعي متعددة.
من هذه الشرفة المطلة على الميدان سمعت صفارات حرب الاستنزاف وأنا ابنة الأعوام الثلاث، وشاهدت الناس في مجموعات تعبر الميدان تبكي في طريقها لجنازة عبد الناصر بعدها بعامين وطالعت الميدان أيام حظر التجول يعد انتفاضة الخبز في السبعينات، ثم راقبته خالياً يعد أحداث الأمن المركزي في الثمانينات، ومزدحماً يوم ضرب العراق في مظاهرة لم يشهد الميدان مثلها، ومن بعدها صار ميدان التحرير محتلاً بالأمن لمنع المظاهرات والاحتجاجات.
كان الزمن يغير مساراته والقاهرة تستبدل أثوابها ..وكان هذا الميدان الفسيح مساحة.. وأفق ..ومرآة لتحولات الوطن.. والذات، ومرتكزاً للوعي ..والذكريات .. ثم صار اليوم مشهدا فارقا في تاريخ وطن..وأمة.
السبت، 19 فبراير 2011
الأحد، 13 فبراير 2011
ثورتا تونس ومصر هزمتا اللعنة العربية
محمود حسين-مصر
بالنسبة لمحمود حسين، وهو اسم واحد لكاتبين هما بهجت الندي وعادل رفعت، استطاع التونسيون والمصريون ان يخرجوا من الفخ التاريخي القائل "إما ديكتاتورية وإما اصولية". صحيفة "ليبراسيون" (2 شباط 2011) التقت الثنائي محمود حسين وأجرت حوارا حول الحدث، هنا أهم مقتطفاته:
- من طهران وحتى الرباط مرورا بعمان ودمشق، الجميع عينه على مصر بعد تونس. لماذا؟
- هاتان الثورتان تعلنان للعالم العربي نبأ سارا: هناك مخرج للخلاص من الفخ الذي وجدت فيه هذه الشعوب منذ عقود. كان الخيار الوحيد المتاح امام هذه الشعوب، إما تكبّد الديكتاتورية الفاسدة والفاقدة للشرعية، وإما القبول بمجيء أحزاب اصولية هي وحدها القادرة، كما كنا نعتقد، على اسقاط هذه الديكتاتوريات. تونس قطعت مع هذه اللعنة، ومصر نسفتها من اساسها، بفضل ثقلها السياسي والديموغرافي. كلاهما بيّنتا ان هذه اللعنة انما هي خدعة، وان خيار الحرية والكرامة والقانون متوفر، واننا لسنا امام سراب من صنع مثقفين مهلوسين، بل اننا على العكس، امام رغبة عميقة ومشتركة. ان شجاعة ودأب ونضج الشعب التونسي، سمحت له بأن يؤكد على هذه الرغبة ومواصلة المناداة بتحقيقها على الرغم من القمع الوحشي، وذلك حتى بلوغ النصر الحاسم، اي سقوط بن علي. من هنا تحول الحدث التونسي إلى مثال ونموذج؛ فهو وضع حدا نهائيا لنغمة "العجز". هنا الشعب ربح، خلافا لما حصل في ايران اثر الانتخابات الاخيرة حيث خسر الشعب. وفي الخيال العربي... هذا يغير كل شيء... الآن الكلمة هي للشعب المصري. حتى هذه اللحظة اعترف الجيش بشرعية مطالب الشعب وأكد على انه هنا لحمايته وحماية الحرية.
- هل هناك فروقات بين مختلف حركات الاحتجاج هذه؟
- طبعا هناك فروقات. ولكن مصر بيّنت انه بصرف النظر عن هذه الاختلافات، فان هناك جانب من الوضعية مشترك بين كل الانظمة العربية غير الدينية. وهذا المشترك هو درجة الخطورة الذي بلغوها: أزمة سياسية واخلاقية بقدر ما هي أزمة سوسيولوجية واقتصادية. انهم يكرهون قادتهم الذين فقدوا الاحترام ولا يحكمون الا بالخوف. وجاء الشعب التونسي ليقول بأنه يكفي التغلب على هذا الخوف... ومصر اليوم تبذل جهدها لتعيد تأكيد انتصارها هي ايضا على الخوف.
- كيف تخلق الثورة؟
- منذ شهر لم يكن احد ليراهن على سقوط بن علي أو حسني مبارك. لا يكفي ان تلاحظ بأن في هذا البلد او ذاك، هناك عوامل لإشعال ثورة. هناك كيمياء خاصة، مرتبطة جوهريا بمجريات الاحداث؛ وهذه الكيمياء هي التي تحول كل عوامل الثورة إلى مجرى واحد، يفجر الثورة. لا يكفي ان يكون عندك يورانيوم مخصّب لتفجر قنبلة ذرية؛ بل عليك ايضا ان تجد الصيغة التي تسمح باطلاق انفجارات متسلسلة. في السياسة هذه الصيغة غامضة، لا تستطيع توقعها. تونس اكتشفتها في طريقها، وها هي مصر تلتقطها. ويمكننا الاشارة إلى أمر، فيه شيء من العمومية: ان شعبا بأسره لا يواجه المخاطر الرهيبة لأية ثورة فقط لأن المجتمع ظالم. بل عليه ان يصل إلى قناعة بأن هذا الظلم غير شرعي، غير مسموح به. بورقيبة وعبد الناصر كانا بالنسبة لشعبيهما آباء الاستقلال. اما بن علي ومبارك فليسا سوى عرابين محاطين بزمر مافياوية.
- هل هناك أيضا عوامل سوسيولوجية؟
- التعبير عن الحاجة إلى الفردية يقترن بولادة الوجه الحديث للفرد. الفرد، من هو؟ انه الموظف والاستاذ الجامعي والطبيب والمهندس. انه ايضا، شيئا فشيئا، العامل في المصنع. انه فاعل اجتماعي جديد، ولد بمبضع الجراح، وتحت الضغط الكولونيالي، وانطلاقا من تفجّر البنى التقليدية، القبلية منها والمدينية والقروية على حدّ سواء. قبل بزوغ هذا الفرد، لا معنى للمطالبة بالحرية الفردية، فالزعيم التقليدي يتكلم من أجل اهله ويقول كل شيء. ومع بزوغ الفرد، بدأت تظهر تطلعات جديدة، وتعبر عن نفسها. في العالم العربي، هذه التطلعات خرقت الأوساط الدينية، وقد أدت بدءا من نهاية القرن التاسع عشر، إلى قيادة العالم العربي نحو الاصلاح الديني، الذي بدوره سوف يلهم القادة الأول للحركة الوطنية في بداية القرن العشرين. آنذاك ساد السؤال: كيف يمكننا طرد المحتل؟ فكان الجواب: بسرقة سرّ تفوقه، أي بالانفتاح على فكر التنوير، أو برفض هذا السر والتقوقع على الأصولية الدينية. الحركة الوطنية هل ستكون على قاعدة علمانية ام اصولية دينية؟ التاريخ حسم الأمر وربح الوطنيون العلمانيون الجولة. في تلك الفترة، قام المثقف المصري الكبير عبد الله النديم بصياغة هذه الجملة الشهيرة: "المستعمِر هو في الآن عينه عدونا واستاذنا". واثناءها ايضا ولد حزب "الوفد" في مصر، وحزب الدستوري الجديد في تونس، وحزب الاستقلال في المغرب، وحزب البعث في سوريا والعراق، وجميعهم دعوا إلى فصل الدين عن السياسة، وفصل المجال العام عن المجال الخاص، والمساواة بين المواطنين، مهما كان دينهم، والتقدم الحثيث لوضع المرأة.
- ان آباء الاستقلال نشأوا كلهم وسط هذا المناخ. فهل عزّزوا الفرد أم حجروا عليه؟
- خلال فترة صعود الدولة الوطنية كانت التطلعات الفردية للحرية والتطلعات الجماعية نحو الاستقلال تتشابك في ما بينها. كان الفرد فيها يكتسب شعورا اضافيا بالكينونة، نوعا من الكرامة الباعثة على الغبطة، وهو يتقاسمها مع مجمل مواطنيه. ولكنه، بالمقابل، يقوم بذلك باسم الوحدة الوطنية، ووصاية الزعيم، البطل الكاريزماتي. اما الخطأ التاريخي الذي لا يغتفر، والذي ارتكبه مجمل هؤلاء القادة، فهو مصادرتهم هذا السند الشعبي لصالحهم، واحتكارهم لكل المبادرات السياسية وقمع النوايا الديموقراطية الصاعدة للطبقات المتوسطة والشعبية. هكذا تمكنت جدلية الفساد والبؤس من الاستقرار، لتجرّ من بعدها خيبات متلاحقة. ومع رحيل الآباء المؤسسين، أدت هذه الجدلية إلى نزع الشرعية عن ورثتهم. لحق ذلك مرحلة طويلة من اليأس والعجز، ازدهرت اثناءها الاحزاب الاصولية الداعية إلى عودة الدولة الدينية. الثورتان التونسية والمصرية أنهتا هذا العهد بالتحديد (...)
بالنسبة لمحمود حسين، وهو اسم واحد لكاتبين هما بهجت الندي وعادل رفعت، استطاع التونسيون والمصريون ان يخرجوا من الفخ التاريخي القائل "إما ديكتاتورية وإما اصولية". صحيفة "ليبراسيون" (2 شباط 2011) التقت الثنائي محمود حسين وأجرت حوارا حول الحدث، هنا أهم مقتطفاته:
- من طهران وحتى الرباط مرورا بعمان ودمشق، الجميع عينه على مصر بعد تونس. لماذا؟
- هاتان الثورتان تعلنان للعالم العربي نبأ سارا: هناك مخرج للخلاص من الفخ الذي وجدت فيه هذه الشعوب منذ عقود. كان الخيار الوحيد المتاح امام هذه الشعوب، إما تكبّد الديكتاتورية الفاسدة والفاقدة للشرعية، وإما القبول بمجيء أحزاب اصولية هي وحدها القادرة، كما كنا نعتقد، على اسقاط هذه الديكتاتوريات. تونس قطعت مع هذه اللعنة، ومصر نسفتها من اساسها، بفضل ثقلها السياسي والديموغرافي. كلاهما بيّنتا ان هذه اللعنة انما هي خدعة، وان خيار الحرية والكرامة والقانون متوفر، واننا لسنا امام سراب من صنع مثقفين مهلوسين، بل اننا على العكس، امام رغبة عميقة ومشتركة. ان شجاعة ودأب ونضج الشعب التونسي، سمحت له بأن يؤكد على هذه الرغبة ومواصلة المناداة بتحقيقها على الرغم من القمع الوحشي، وذلك حتى بلوغ النصر الحاسم، اي سقوط بن علي. من هنا تحول الحدث التونسي إلى مثال ونموذج؛ فهو وضع حدا نهائيا لنغمة "العجز". هنا الشعب ربح، خلافا لما حصل في ايران اثر الانتخابات الاخيرة حيث خسر الشعب. وفي الخيال العربي... هذا يغير كل شيء... الآن الكلمة هي للشعب المصري. حتى هذه اللحظة اعترف الجيش بشرعية مطالب الشعب وأكد على انه هنا لحمايته وحماية الحرية.
- هل هناك فروقات بين مختلف حركات الاحتجاج هذه؟
- طبعا هناك فروقات. ولكن مصر بيّنت انه بصرف النظر عن هذه الاختلافات، فان هناك جانب من الوضعية مشترك بين كل الانظمة العربية غير الدينية. وهذا المشترك هو درجة الخطورة الذي بلغوها: أزمة سياسية واخلاقية بقدر ما هي أزمة سوسيولوجية واقتصادية. انهم يكرهون قادتهم الذين فقدوا الاحترام ولا يحكمون الا بالخوف. وجاء الشعب التونسي ليقول بأنه يكفي التغلب على هذا الخوف... ومصر اليوم تبذل جهدها لتعيد تأكيد انتصارها هي ايضا على الخوف.
- كيف تخلق الثورة؟
- منذ شهر لم يكن احد ليراهن على سقوط بن علي أو حسني مبارك. لا يكفي ان تلاحظ بأن في هذا البلد او ذاك، هناك عوامل لإشعال ثورة. هناك كيمياء خاصة، مرتبطة جوهريا بمجريات الاحداث؛ وهذه الكيمياء هي التي تحول كل عوامل الثورة إلى مجرى واحد، يفجر الثورة. لا يكفي ان يكون عندك يورانيوم مخصّب لتفجر قنبلة ذرية؛ بل عليك ايضا ان تجد الصيغة التي تسمح باطلاق انفجارات متسلسلة. في السياسة هذه الصيغة غامضة، لا تستطيع توقعها. تونس اكتشفتها في طريقها، وها هي مصر تلتقطها. ويمكننا الاشارة إلى أمر، فيه شيء من العمومية: ان شعبا بأسره لا يواجه المخاطر الرهيبة لأية ثورة فقط لأن المجتمع ظالم. بل عليه ان يصل إلى قناعة بأن هذا الظلم غير شرعي، غير مسموح به. بورقيبة وعبد الناصر كانا بالنسبة لشعبيهما آباء الاستقلال. اما بن علي ومبارك فليسا سوى عرابين محاطين بزمر مافياوية.
- هل هناك أيضا عوامل سوسيولوجية؟
- التعبير عن الحاجة إلى الفردية يقترن بولادة الوجه الحديث للفرد. الفرد، من هو؟ انه الموظف والاستاذ الجامعي والطبيب والمهندس. انه ايضا، شيئا فشيئا، العامل في المصنع. انه فاعل اجتماعي جديد، ولد بمبضع الجراح، وتحت الضغط الكولونيالي، وانطلاقا من تفجّر البنى التقليدية، القبلية منها والمدينية والقروية على حدّ سواء. قبل بزوغ هذا الفرد، لا معنى للمطالبة بالحرية الفردية، فالزعيم التقليدي يتكلم من أجل اهله ويقول كل شيء. ومع بزوغ الفرد، بدأت تظهر تطلعات جديدة، وتعبر عن نفسها. في العالم العربي، هذه التطلعات خرقت الأوساط الدينية، وقد أدت بدءا من نهاية القرن التاسع عشر، إلى قيادة العالم العربي نحو الاصلاح الديني، الذي بدوره سوف يلهم القادة الأول للحركة الوطنية في بداية القرن العشرين. آنذاك ساد السؤال: كيف يمكننا طرد المحتل؟ فكان الجواب: بسرقة سرّ تفوقه، أي بالانفتاح على فكر التنوير، أو برفض هذا السر والتقوقع على الأصولية الدينية. الحركة الوطنية هل ستكون على قاعدة علمانية ام اصولية دينية؟ التاريخ حسم الأمر وربح الوطنيون العلمانيون الجولة. في تلك الفترة، قام المثقف المصري الكبير عبد الله النديم بصياغة هذه الجملة الشهيرة: "المستعمِر هو في الآن عينه عدونا واستاذنا". واثناءها ايضا ولد حزب "الوفد" في مصر، وحزب الدستوري الجديد في تونس، وحزب الاستقلال في المغرب، وحزب البعث في سوريا والعراق، وجميعهم دعوا إلى فصل الدين عن السياسة، وفصل المجال العام عن المجال الخاص، والمساواة بين المواطنين، مهما كان دينهم، والتقدم الحثيث لوضع المرأة.
- ان آباء الاستقلال نشأوا كلهم وسط هذا المناخ. فهل عزّزوا الفرد أم حجروا عليه؟
- خلال فترة صعود الدولة الوطنية كانت التطلعات الفردية للحرية والتطلعات الجماعية نحو الاستقلال تتشابك في ما بينها. كان الفرد فيها يكتسب شعورا اضافيا بالكينونة، نوعا من الكرامة الباعثة على الغبطة، وهو يتقاسمها مع مجمل مواطنيه. ولكنه، بالمقابل، يقوم بذلك باسم الوحدة الوطنية، ووصاية الزعيم، البطل الكاريزماتي. اما الخطأ التاريخي الذي لا يغتفر، والذي ارتكبه مجمل هؤلاء القادة، فهو مصادرتهم هذا السند الشعبي لصالحهم، واحتكارهم لكل المبادرات السياسية وقمع النوايا الديموقراطية الصاعدة للطبقات المتوسطة والشعبية. هكذا تمكنت جدلية الفساد والبؤس من الاستقرار، لتجرّ من بعدها خيبات متلاحقة. ومع رحيل الآباء المؤسسين، أدت هذه الجدلية إلى نزع الشرعية عن ورثتهم. لحق ذلك مرحلة طويلة من اليأس والعجز، ازدهرت اثناءها الاحزاب الاصولية الداعية إلى عودة الدولة الدينية. الثورتان التونسية والمصرية أنهتا هذا العهد بالتحديد (...)
أيها المتضامنون... ضدكم
محمد علي مقلد - صيدا
ما يجري في تونس ومصر كان ينبغي، حسب منطق التاريخ الحديث، أن يحصل قبل ذلك، في مرحلة الاستقلالات أو قبل ذلك (مع مجيئ نابليون إلى مصر مثلا). فما طرحه التاريخ على الأمة العربية وعلى سواها من دول العالم هو أن الحضارة الرأسمالية الزاحفة للتمدد على كل الكرة الأرضية، وبعد ذلك نحو أعماق البحار وإلى أعالي السماوات، هذه الحضارة عرضت علينا، نحن العرب كما على سوانا، الدخول إلى رحابها، بالقوة والاحتلال المباشر كما في الهند أو في الصين، أو بالسلم والحذو حذوها كما في اليابان.
العالم العربي اختار أن يرد سلبا على هذا العرض، رافضا الدخول في التاريخ الحديث، وكانت له مبرراته وذرائعه، وعلى رأسها الاستعمار والصهيونية، الذريعتان اللتان باسمهما مارس الحكام العرب كل صنوف القهر والاستبداد في حق شعوبهم. ثم جاء ما يتناغم مع الذرائع حين قامت الثورة البلشفية الاشتراكية التي دعت إلى محاربة الرأسمالية وإلى بناء النظام الاشتراكي على أنقاضها، ثم حين قامت الخمينية لتعلن الحرب على الشيطان الأكبر.
ما يجري اليوم في مصر وتونس، وما سيحصل في سواهما بقوة التاريخ، هو نقد ذاتي قاس لمرحلة عدت ناصعة في تاريخنا، لكنه ليس نقدا انقلابيا على طريقة أصحاب القبعات العسكرية ولا على طريقة العمائم، إنه نقد يحفظ لعبد الناصر مجد نهوض عربي عارم، ولليسار مجد تضحيات من أجل القيم الكبرى، وللحركة القومية العربية بناصرييها وبعثييها وشيوعييها وإسلامييها مجد مواجهات كبرى مع "الاستعمار والصهيونية والرجعية".
النقد التونسي المصري لا ينقلب على هذه الأمجاد، بل على الاستبداد الذي مورس بحق الشعوب العربية باسم هذه الأمجاد. ذلك أن باب الدخول في الحضارة الحديثة، إن جاز اختصاره في كلمة، هو نهاية عصر التوريث السياسي، نهاية عصر الممالك والأمبراطوريات والسلاطين، وبداية عصر الحريات والديموقراطية وحقوق الإنسان، ومن المؤسف أن تكون مرحلة الأمجاد الناصرية القومية اليسارية قد تأسست على حكم التوريث والقضاء على بذور الديموقراطية الفتية في حينها.
العالم العربي ظل وحده على الكرة الأرضية محكوما بالوراثة. حتى في الأنظمة التي كانت تعتمد الانتخابات كان يتم اختيار الحاكم فيها بالوراثة أو بالتمديد أو بالتجديد، أو بانقلاب الشقيق على الشقيق والضابط على الضابط والمعمم على المعمم، أسماء مختلفة لمسمى واحد هو التمسك بسلطة "إلى الأبد"، سلطة كتبت أبديتها بأحرف من نار وحبرها من دماء الشعوب وعرقها. انظروا إلى الأمة من المحيط إلى الخليج، فيها أكبر المعمرين من الحكام، فيها عميد الحكام في العالم، وحكامها يخيرون شعوبهم بين اثنين : إما حكمهم الأبدي وإما الحروب الأهلية.
ذريعتنا، نحن شعوب الطوق، إسرائيل. لنقل جدلا، نعم. إسرائيل التي تتجسد فيها كل قبائح التاريخ السياسي، العنصرية والتوسعية والعدوانية والشوفينية والإجرام، الخ. لكن ما علاقة إسرائيل بإمعان حاكم السودان في تفتيت بلده أو في إمعان الصومال في التقهقر نحو القرون الوسطى، أو في اليمن حيث الرغبة جامحة في التمسك بالبداوة والقبيلة والعشيرة على حساب القانون، أو في الجزائر والصومال والسودان والعراق حيث الحروب الأهلية هي الخيارات الوحيدة المتاحة أمام الشعوب، إذا لم يبق الحاكم حاكما. حتى الحرب الأهلية في لبنان هي بنت هذا العقل ذاته، عقل الاستبداد الأبدي الذي يمارسه علينا سياسيون خارجون على كل قانون، عقل الاستبداد العربي الذي لم يرضه أن تقوم ديموقراطية في هذا الشرق وتهدد عروشهم الموروثة.
في مصر، كما في تونس، لم ترتفع راية من تلك التي كانت ترتفع في التظاهرات اليسارية أو القومية أو تظاهرات الإسلام السياسي، لا الاشتراكية هي الحل ولا الإسلام هو الحل ولم نسمع تنديدا بأحد أو بدولة خارجية. مسألة واحدة جمعت الثوار : الحرية ودولة القانون والمؤسسات.
في مصر، كما في تونس، لم نلحظ تنافسا على مسرح الأحداث، بل قيادة مستترة تشبه تلك التي وجهت الثورة الفرنسية، قيادة قد تكون مغمورة وقد تكون مخضرمة وقد تكون متعددة المنبت، لكنها طالعة بالتأكيد من شعور عارم بالوحدة الوطنية، أي بالانتماء إلى وطن هو تونس، وهو مصر، وفي غمرة هذا الانتماء تذوب الفوارق والاختلافات كلها من أجل هم واحد أوحد : دولة عصرية تعلن نهاية عصر التوريث السياسي.
في مصر، كما في تونس، تجمّع وعي سياسي جديد، بالفايسبوك والنضال الإلكتروني وليس بمكبرات الصوت والسبابات والخطابات الحماسية والشحن العاطفي الشوفيني ضد عدو خارجي. بل إن الثورتين عزمتا، لأول مرة في تاريخ الأمة العربية، أن تصوبا على عدو، بل على خصم داخلي، ولأول مرة في تاريخنا تعلن جماهير بمئات الآلاف سأمها من الخطاب الأجوف الذي يقوم عصبه على نظرية المؤامرة، وإصرارها على أن الأزمات ذات أسباب داخلية بالدرجة الأولى وأن حلولها ينبغي أن تبدأ من الداخل.
إنها إذن ثورة من أجل الديموقراطية، غابت عنها الشعارات الكبرى المتعلقة بالقضية الفلسطينية والصراع مع الاستعمار والإمبريالية. إنها ثورة بسيطة تختصر مطالبها بتأسيس دولة عصرية تقوم على تداول السلطة: دولة القانون والمؤسسات والعدالة والكفاءة وتكافؤ الفرص، الخ.
الذين يتضامنون مع الثورتين التونسية والمصرية، خارج تونس ومصر، يسقطون عليهما مفاهيم وأهدافا من خارج سياقهما، وأحيانا يقيسونهما بعكس ما يريده أهل الثورتين، وقد ظهر ذلك التضامن خجولا أحيانا وسافرا أحيانا، لكنه تضامن لم يعبأ به اهل الثورتين، بل لعل من غير المبالغة القول إن بعض هذا التضامن كان مسيئا للثورة وعده الثوار مساسا بالسيادة الوطنية وتدخلا في الشؤون الداخلية (التضامن الإيراني والتصريحات الأميركية وبعض التضامن اللبناني مثلا).
هي ثورة جديدة حقا، بل هي الثورة الوحيدة الحديثة التي قامت في كل أنحاء الأمة العربية. كل ما عداها وما سبقها من "ثورات" لم يكن سوى انقلابات عسكرية أو عمائمية كما حصل في إيران الخمينية، ذلك لأن الثورة تعني أول ما تعني، ليس فقط تغيير الطقم الحاكم، بل تغيير في النظام الاقتصادي الاجتماعي، ومن باب أولى تغيير في بنية النظام السياسي، وقد تكون هذه الانقلابات قد قامت بتغييرات كثيرة لكنها جددت أنظمة الاستبداد وضرب الديمقراطية.
إنها ثورة جديدة حقا لأنها تفتح الآفاق واسعة أمام انتقال بلدان الأمة كلها من أنظمة الوراثة إلى أنظمة ديموقراطية. ذلك يعني أن هذا المجد لا يستحقه إلا الديموقراطيون، أفرادا وأحزابا وأنظمة. أما الأحزاب الشمولية المعادية للديموقراطية، وأنظمة الحزب الواحد، وأنظمة قمع الحريات فلا يحق لها حتى التضامن مع الثورتين، لأنهما ثورتان ضد الاستبداد، ضد كل أنواع الاستبداد السياسي والديني والعسكري الخارجي والداخلي، أي ضد من يتضامن معها من هؤلاء المستبدين.
وحده جيل الشباب هو صاحب الثورة، ولن يسمح بأن ينضم إليه إلا من عمل على تنظيف سجله الاستبدادي بالنقد الذاتي الشجاع للمرحلة القومية الشوفينية البعثية والناصرية والشيوعية والإسلاموية.
ما يجري في تونس ومصر كان ينبغي، حسب منطق التاريخ الحديث، أن يحصل قبل ذلك، في مرحلة الاستقلالات أو قبل ذلك (مع مجيئ نابليون إلى مصر مثلا). فما طرحه التاريخ على الأمة العربية وعلى سواها من دول العالم هو أن الحضارة الرأسمالية الزاحفة للتمدد على كل الكرة الأرضية، وبعد ذلك نحو أعماق البحار وإلى أعالي السماوات، هذه الحضارة عرضت علينا، نحن العرب كما على سوانا، الدخول إلى رحابها، بالقوة والاحتلال المباشر كما في الهند أو في الصين، أو بالسلم والحذو حذوها كما في اليابان.
العالم العربي اختار أن يرد سلبا على هذا العرض، رافضا الدخول في التاريخ الحديث، وكانت له مبرراته وذرائعه، وعلى رأسها الاستعمار والصهيونية، الذريعتان اللتان باسمهما مارس الحكام العرب كل صنوف القهر والاستبداد في حق شعوبهم. ثم جاء ما يتناغم مع الذرائع حين قامت الثورة البلشفية الاشتراكية التي دعت إلى محاربة الرأسمالية وإلى بناء النظام الاشتراكي على أنقاضها، ثم حين قامت الخمينية لتعلن الحرب على الشيطان الأكبر.
ما يجري اليوم في مصر وتونس، وما سيحصل في سواهما بقوة التاريخ، هو نقد ذاتي قاس لمرحلة عدت ناصعة في تاريخنا، لكنه ليس نقدا انقلابيا على طريقة أصحاب القبعات العسكرية ولا على طريقة العمائم، إنه نقد يحفظ لعبد الناصر مجد نهوض عربي عارم، ولليسار مجد تضحيات من أجل القيم الكبرى، وللحركة القومية العربية بناصرييها وبعثييها وشيوعييها وإسلامييها مجد مواجهات كبرى مع "الاستعمار والصهيونية والرجعية".
النقد التونسي المصري لا ينقلب على هذه الأمجاد، بل على الاستبداد الذي مورس بحق الشعوب العربية باسم هذه الأمجاد. ذلك أن باب الدخول في الحضارة الحديثة، إن جاز اختصاره في كلمة، هو نهاية عصر التوريث السياسي، نهاية عصر الممالك والأمبراطوريات والسلاطين، وبداية عصر الحريات والديموقراطية وحقوق الإنسان، ومن المؤسف أن تكون مرحلة الأمجاد الناصرية القومية اليسارية قد تأسست على حكم التوريث والقضاء على بذور الديموقراطية الفتية في حينها.
العالم العربي ظل وحده على الكرة الأرضية محكوما بالوراثة. حتى في الأنظمة التي كانت تعتمد الانتخابات كان يتم اختيار الحاكم فيها بالوراثة أو بالتمديد أو بالتجديد، أو بانقلاب الشقيق على الشقيق والضابط على الضابط والمعمم على المعمم، أسماء مختلفة لمسمى واحد هو التمسك بسلطة "إلى الأبد"، سلطة كتبت أبديتها بأحرف من نار وحبرها من دماء الشعوب وعرقها. انظروا إلى الأمة من المحيط إلى الخليج، فيها أكبر المعمرين من الحكام، فيها عميد الحكام في العالم، وحكامها يخيرون شعوبهم بين اثنين : إما حكمهم الأبدي وإما الحروب الأهلية.
ذريعتنا، نحن شعوب الطوق، إسرائيل. لنقل جدلا، نعم. إسرائيل التي تتجسد فيها كل قبائح التاريخ السياسي، العنصرية والتوسعية والعدوانية والشوفينية والإجرام، الخ. لكن ما علاقة إسرائيل بإمعان حاكم السودان في تفتيت بلده أو في إمعان الصومال في التقهقر نحو القرون الوسطى، أو في اليمن حيث الرغبة جامحة في التمسك بالبداوة والقبيلة والعشيرة على حساب القانون، أو في الجزائر والصومال والسودان والعراق حيث الحروب الأهلية هي الخيارات الوحيدة المتاحة أمام الشعوب، إذا لم يبق الحاكم حاكما. حتى الحرب الأهلية في لبنان هي بنت هذا العقل ذاته، عقل الاستبداد الأبدي الذي يمارسه علينا سياسيون خارجون على كل قانون، عقل الاستبداد العربي الذي لم يرضه أن تقوم ديموقراطية في هذا الشرق وتهدد عروشهم الموروثة.
في مصر، كما في تونس، لم ترتفع راية من تلك التي كانت ترتفع في التظاهرات اليسارية أو القومية أو تظاهرات الإسلام السياسي، لا الاشتراكية هي الحل ولا الإسلام هو الحل ولم نسمع تنديدا بأحد أو بدولة خارجية. مسألة واحدة جمعت الثوار : الحرية ودولة القانون والمؤسسات.
في مصر، كما في تونس، لم نلحظ تنافسا على مسرح الأحداث، بل قيادة مستترة تشبه تلك التي وجهت الثورة الفرنسية، قيادة قد تكون مغمورة وقد تكون مخضرمة وقد تكون متعددة المنبت، لكنها طالعة بالتأكيد من شعور عارم بالوحدة الوطنية، أي بالانتماء إلى وطن هو تونس، وهو مصر، وفي غمرة هذا الانتماء تذوب الفوارق والاختلافات كلها من أجل هم واحد أوحد : دولة عصرية تعلن نهاية عصر التوريث السياسي.
في مصر، كما في تونس، تجمّع وعي سياسي جديد، بالفايسبوك والنضال الإلكتروني وليس بمكبرات الصوت والسبابات والخطابات الحماسية والشحن العاطفي الشوفيني ضد عدو خارجي. بل إن الثورتين عزمتا، لأول مرة في تاريخ الأمة العربية، أن تصوبا على عدو، بل على خصم داخلي، ولأول مرة في تاريخنا تعلن جماهير بمئات الآلاف سأمها من الخطاب الأجوف الذي يقوم عصبه على نظرية المؤامرة، وإصرارها على أن الأزمات ذات أسباب داخلية بالدرجة الأولى وأن حلولها ينبغي أن تبدأ من الداخل.
إنها إذن ثورة من أجل الديموقراطية، غابت عنها الشعارات الكبرى المتعلقة بالقضية الفلسطينية والصراع مع الاستعمار والإمبريالية. إنها ثورة بسيطة تختصر مطالبها بتأسيس دولة عصرية تقوم على تداول السلطة: دولة القانون والمؤسسات والعدالة والكفاءة وتكافؤ الفرص، الخ.
الذين يتضامنون مع الثورتين التونسية والمصرية، خارج تونس ومصر، يسقطون عليهما مفاهيم وأهدافا من خارج سياقهما، وأحيانا يقيسونهما بعكس ما يريده أهل الثورتين، وقد ظهر ذلك التضامن خجولا أحيانا وسافرا أحيانا، لكنه تضامن لم يعبأ به اهل الثورتين، بل لعل من غير المبالغة القول إن بعض هذا التضامن كان مسيئا للثورة وعده الثوار مساسا بالسيادة الوطنية وتدخلا في الشؤون الداخلية (التضامن الإيراني والتصريحات الأميركية وبعض التضامن اللبناني مثلا).
هي ثورة جديدة حقا، بل هي الثورة الوحيدة الحديثة التي قامت في كل أنحاء الأمة العربية. كل ما عداها وما سبقها من "ثورات" لم يكن سوى انقلابات عسكرية أو عمائمية كما حصل في إيران الخمينية، ذلك لأن الثورة تعني أول ما تعني، ليس فقط تغيير الطقم الحاكم، بل تغيير في النظام الاقتصادي الاجتماعي، ومن باب أولى تغيير في بنية النظام السياسي، وقد تكون هذه الانقلابات قد قامت بتغييرات كثيرة لكنها جددت أنظمة الاستبداد وضرب الديمقراطية.
إنها ثورة جديدة حقا لأنها تفتح الآفاق واسعة أمام انتقال بلدان الأمة كلها من أنظمة الوراثة إلى أنظمة ديموقراطية. ذلك يعني أن هذا المجد لا يستحقه إلا الديموقراطيون، أفرادا وأحزابا وأنظمة. أما الأحزاب الشمولية المعادية للديموقراطية، وأنظمة الحزب الواحد، وأنظمة قمع الحريات فلا يحق لها حتى التضامن مع الثورتين، لأنهما ثورتان ضد الاستبداد، ضد كل أنواع الاستبداد السياسي والديني والعسكري الخارجي والداخلي، أي ضد من يتضامن معها من هؤلاء المستبدين.
وحده جيل الشباب هو صاحب الثورة، ولن يسمح بأن ينضم إليه إلا من عمل على تنظيف سجله الاستبدادي بالنقد الذاتي الشجاع للمرحلة القومية الشوفينية البعثية والناصرية والشيوعية والإسلاموية.
الجمعة، 11 فبراير 2011
The Egyptian Uprising Is a Direct Response to Ruthless Global Capitalism
By Nomi Prins
http://www.alternet.org/story/149793/
The revolution in Egypt is as much a rebellion against the painful deterioration of economic conditions as it is about opposing a dictator, though they are linked. That's why President Hosni Mubarak's announcement that he intends to stick around until September was met with an outpouring of rage.
When people are facing a dim future, in a country hijacked by a corrupt regime that destabilized its economy through what the CIA termed, "aggressively pursuing economic reforms to attract foreign investment" (in other words, the privatization and sale of its country's financial system to international sharks), waiting doesn't cut it.
Mohamed Bouazizi, the 26-year-old Tunisian who catalyzed this revolution, didn't set himself on fire in protest of his inability to vote, but because of anguish over his job status in a country with 15.7 percent unemployment. The six other men in Algeria, Egypt and Mauritania who followed suit were also unemployed.
Tunisia's dismal economic environment was a direct result of its increasingly "liberal" policy toward foreign speculators. Of the five countries covered by the World Bank's, Investment Across Sectors Indicator, Tunisia had the fewest limits on foreign investment. It had opened all areas of its economy to foreign equity ownership, except the electricity sector.
Egypt adopted a similar come-and-get-it policy, on steroids. From 2004 to 2008, as the world economic crisis was being stoked by the U.S. banking system and its rapacious toxic asset machine, Mubarak's regime was participating in a different way. Mubarak wasn't pushing subprime loans onto Egyptians; instead, he was embarking on an economic strategy that entailed selling large pieces of Egypt's banks to the highest international bidder.
The result was a veritable grab-fest of foreign bank takeovers in the heart of Cairo. The raid began with Greek bank, Piraeus, taking a 70 percent stake in the Egyptian Commercial Bank in 2005, and included the sale of Bank of Alexandria, one of the four largest state-run banks, to the Italian bank, Gruppo Sanpaolo IMI in 2006. For the next two years, "hot" money poured into Egypt, as international banks muscled into Egypt and its financial system, before the intensity leveled off in 2008.
While foreign banks were setting up shop, Egypt also eliminated the red tape that came with foreign property investment, through decree number 583. This transformed the country, already a tourist hotspot, into a magnet for global real estate speculation. (Something that worked out really well for Ireland.) Even one of Goldman Sachs' funds got in on the game, buying a $70 million chunk of Palm Hills Development SAE, a luxury real estate developer.
Other countries in the region, such as Jordan, where the unemployment rate is 13.4 percent, and the poverty rate 14.2 percent (as in the U.S.), tried to mimic Egypt's "open" policies, in varying degrees. That's why eight of the 21 banks operating in Jordan are now foreign-owned, and its insurance market is dominated by U.S.-based, MetLife American Life Insurance Company. But it was Egypt that did it best.
From 2004 to 2009, Egypt attracted $42 billion worth of foreign capital into its borders, as one of the top investment "destinations" in the Middle East and Africa. "Hot" money entry was made easy, with no restrictions on foreign investment or repatriation of profits, and no taxes on dividends, capital gains or corporate bond interest. As a result, volume on the Egyptian stock market swelled more than twelve-fold between 2004 and the first half of 2009.
Egypt and the United Arab Emirates even eliminated minimum capital requirements for investment, meaning that speculators could buy whatever they wanted, with no money down, a practice that didn't exactly impel them to stick around for long.
But, as we learned in the U.S., what goes up with artificial helium plummets under real gravity. Starting in the second half of 2009, oil prices fell and foreign banks slashed their capital holdings in Arabic nations. The hot money was cooling off. Even in the oil-rich UAE, the speed of capital outflow set foreign capital levels back to where they were in 2004, demonstrating how temporal, deceptive, fickle and irresponsible international speculative capital is. When hot money gets cold, it moves on, leaving vast economic devastation in its wake.
Not surprisingly, those foreign speculation strategies didn't bring less poverty or more jobs either. Indeed, the insatiable hunt for great deals, whether by banks, hedge funds, or private equity funds, as it inevitably does, had the opposite effect.
Whenever hot money hones in on a geographical location or financial product, it creates the appearance of economic enhancement (such as with our GDP growth based on financial services, for instance). But, on its way out the door, that mirage is replaced with harsh decline.
In March 2010, in an effort to keep foreign capital coming in, Egypt's Ministry of Investment presented the country's virtues to investors in a glossy "Invest in Egypt" brochure. The document proudly cited Egypt as being one of the world's top 10 "Reformers," as reported by the World Bank and International Finance Corporation's (IFC). The World Bank's definition of "reformer" has nothing to do with conditions for citizens, and everything to do with the degree and speed to which "hot" international money can zoom in and out of a country. Egypt had made the top 10 "Reformers" list for four out of the past five years (a distinction shared with Colombia, where urban unemployment has risen to over 13 percent).
Ironically, the Ministry's brochure touted the large college graduate population entering the job market each year -- 325,000. The same graduates are the core of the current revolution. They failed to find adequate jobs and are faced with an official unemployment rate of just below 10 percent (though, similar to the U.S., that figure doesn't account for underemployment, poor job quality or long-term prospects). Meanwhile, 20 percent of Egypt lives in poverty (compared to 14 percent and growing in the U.S.) and 10 percent of the population controls 28 percent of household income (compared to 30 percent in the U.S.).
When a country relinquishes its financial system and population's economic well-being to everyone else's pursuit of "good deals," the fallout will be substantial. Sub-prime lending may not have been one of Egypt's problems as it was in the United States, but soured foreign real estate investment was. Also, foreign banks persuaded Egypt to issue complex securities with crazy derivatives in them (shades of Greece). Those securities plummeted in value as foreign speculators shunned them. Today, credit default swap spreads on Egyptian debt (and that of other Arabic countries) have substantially dropped in value, as international speculators are betting on further upheaval, targeting Egypt like just another number on a dartboard.
Citizens protesting in the streets from Greece to England, and more demonstrably, from Tunisia to Egypt, may be revolting for national reasons and against individual governments, but they share a common bond. They are revolting against a world that lines the pockets of rich deal-makers while sticking the tab to ordinary people. That bond is global. Related protests could reach Colombia and Ghana -- and maybe someday, the United States.
For in the United States, economic statistics are no better. By certain measures, like income inequality, they are worse than in Egypt. But we have no evil dictator to be a common focus for, say, an American economic revolution. Here, we freely elect the politicians who campaign with corporate funds and deregulate our financial system, who bail out entire banks instead of individual mortgage holders, and who keep corporate tax receipts low while increasing audits on small businesses and struggling individuals. Here, we elect the leaders who govern our growing income inequality, and wonder how Wall Street can pay itself another round of record bonuses.
In that respect, as difficult as conditions are in the Middle East, there may be more hope for economic change to rise from those revolting populations. It may not come from simply overthrowing the current regime, given the entrenched "liberalization" strategies, but it is certainly an excellent start.
http://www.alternet.org/story/149793/
The revolution in Egypt is as much a rebellion against the painful deterioration of economic conditions as it is about opposing a dictator, though they are linked. That's why President Hosni Mubarak's announcement that he intends to stick around until September was met with an outpouring of rage.
When people are facing a dim future, in a country hijacked by a corrupt regime that destabilized its economy through what the CIA termed, "aggressively pursuing economic reforms to attract foreign investment" (in other words, the privatization and sale of its country's financial system to international sharks), waiting doesn't cut it.
Mohamed Bouazizi, the 26-year-old Tunisian who catalyzed this revolution, didn't set himself on fire in protest of his inability to vote, but because of anguish over his job status in a country with 15.7 percent unemployment. The six other men in Algeria, Egypt and Mauritania who followed suit were also unemployed.
Tunisia's dismal economic environment was a direct result of its increasingly "liberal" policy toward foreign speculators. Of the five countries covered by the World Bank's, Investment Across Sectors Indicator, Tunisia had the fewest limits on foreign investment. It had opened all areas of its economy to foreign equity ownership, except the electricity sector.
Egypt adopted a similar come-and-get-it policy, on steroids. From 2004 to 2008, as the world economic crisis was being stoked by the U.S. banking system and its rapacious toxic asset machine, Mubarak's regime was participating in a different way. Mubarak wasn't pushing subprime loans onto Egyptians; instead, he was embarking on an economic strategy that entailed selling large pieces of Egypt's banks to the highest international bidder.
The result was a veritable grab-fest of foreign bank takeovers in the heart of Cairo. The raid began with Greek bank, Piraeus, taking a 70 percent stake in the Egyptian Commercial Bank in 2005, and included the sale of Bank of Alexandria, one of the four largest state-run banks, to the Italian bank, Gruppo Sanpaolo IMI in 2006. For the next two years, "hot" money poured into Egypt, as international banks muscled into Egypt and its financial system, before the intensity leveled off in 2008.
While foreign banks were setting up shop, Egypt also eliminated the red tape that came with foreign property investment, through decree number 583. This transformed the country, already a tourist hotspot, into a magnet for global real estate speculation. (Something that worked out really well for Ireland.) Even one of Goldman Sachs' funds got in on the game, buying a $70 million chunk of Palm Hills Development SAE, a luxury real estate developer.
Other countries in the region, such as Jordan, where the unemployment rate is 13.4 percent, and the poverty rate 14.2 percent (as in the U.S.), tried to mimic Egypt's "open" policies, in varying degrees. That's why eight of the 21 banks operating in Jordan are now foreign-owned, and its insurance market is dominated by U.S.-based, MetLife American Life Insurance Company. But it was Egypt that did it best.
From 2004 to 2009, Egypt attracted $42 billion worth of foreign capital into its borders, as one of the top investment "destinations" in the Middle East and Africa. "Hot" money entry was made easy, with no restrictions on foreign investment or repatriation of profits, and no taxes on dividends, capital gains or corporate bond interest. As a result, volume on the Egyptian stock market swelled more than twelve-fold between 2004 and the first half of 2009.
Egypt and the United Arab Emirates even eliminated minimum capital requirements for investment, meaning that speculators could buy whatever they wanted, with no money down, a practice that didn't exactly impel them to stick around for long.
But, as we learned in the U.S., what goes up with artificial helium plummets under real gravity. Starting in the second half of 2009, oil prices fell and foreign banks slashed their capital holdings in Arabic nations. The hot money was cooling off. Even in the oil-rich UAE, the speed of capital outflow set foreign capital levels back to where they were in 2004, demonstrating how temporal, deceptive, fickle and irresponsible international speculative capital is. When hot money gets cold, it moves on, leaving vast economic devastation in its wake.
Not surprisingly, those foreign speculation strategies didn't bring less poverty or more jobs either. Indeed, the insatiable hunt for great deals, whether by banks, hedge funds, or private equity funds, as it inevitably does, had the opposite effect.
Whenever hot money hones in on a geographical location or financial product, it creates the appearance of economic enhancement (such as with our GDP growth based on financial services, for instance). But, on its way out the door, that mirage is replaced with harsh decline.
In March 2010, in an effort to keep foreign capital coming in, Egypt's Ministry of Investment presented the country's virtues to investors in a glossy "Invest in Egypt" brochure. The document proudly cited Egypt as being one of the world's top 10 "Reformers," as reported by the World Bank and International Finance Corporation's (IFC). The World Bank's definition of "reformer" has nothing to do with conditions for citizens, and everything to do with the degree and speed to which "hot" international money can zoom in and out of a country. Egypt had made the top 10 "Reformers" list for four out of the past five years (a distinction shared with Colombia, where urban unemployment has risen to over 13 percent).
Ironically, the Ministry's brochure touted the large college graduate population entering the job market each year -- 325,000. The same graduates are the core of the current revolution. They failed to find adequate jobs and are faced with an official unemployment rate of just below 10 percent (though, similar to the U.S., that figure doesn't account for underemployment, poor job quality or long-term prospects). Meanwhile, 20 percent of Egypt lives in poverty (compared to 14 percent and growing in the U.S.) and 10 percent of the population controls 28 percent of household income (compared to 30 percent in the U.S.).
When a country relinquishes its financial system and population's economic well-being to everyone else's pursuit of "good deals," the fallout will be substantial. Sub-prime lending may not have been one of Egypt's problems as it was in the United States, but soured foreign real estate investment was. Also, foreign banks persuaded Egypt to issue complex securities with crazy derivatives in them (shades of Greece). Those securities plummeted in value as foreign speculators shunned them. Today, credit default swap spreads on Egyptian debt (and that of other Arabic countries) have substantially dropped in value, as international speculators are betting on further upheaval, targeting Egypt like just another number on a dartboard.
Citizens protesting in the streets from Greece to England, and more demonstrably, from Tunisia to Egypt, may be revolting for national reasons and against individual governments, but they share a common bond. They are revolting against a world that lines the pockets of rich deal-makers while sticking the tab to ordinary people. That bond is global. Related protests could reach Colombia and Ghana -- and maybe someday, the United States.
For in the United States, economic statistics are no better. By certain measures, like income inequality, they are worse than in Egypt. But we have no evil dictator to be a common focus for, say, an American economic revolution. Here, we freely elect the politicians who campaign with corporate funds and deregulate our financial system, who bail out entire banks instead of individual mortgage holders, and who keep corporate tax receipts low while increasing audits on small businesses and struggling individuals. Here, we elect the leaders who govern our growing income inequality, and wonder how Wall Street can pay itself another round of record bonuses.
In that respect, as difficult as conditions are in the Middle East, there may be more hope for economic change to rise from those revolting populations. It may not come from simply overthrowing the current regime, given the entrenched "liberalization" strategies, but it is certainly an excellent start.
الرجوع إلى الوطن
د. نبيل مرقس
كلمة ألقبت في ميدان التحرير مساء الأربعاء الموافق 9 فبراير في سياق احتفال شباب 25 يناير بذكرى الأربعين لشهداء حادث كنيسة القديسين
.
عندما عاد أمير الشعراء أحمد شوقي من المنفى عام 1920 إلى أرض الوطن بعد انتهاء إحداث ثورة 1919 ، خاطب مصر الثورة التي أضناه الشوق إليها بهذه الأبيات :
ويا وطني لقيتك بعد يأس كأني قد لقيت بك الشبابا
ولو أنى دعيت لكنت ديني عليه أقابل الحتم المجابا
أدير إليك قبل البيت وجهي إذا فهت الشهادة والمتابا
أظن أننا جميعا شبابا وكهولا نلتقي من جديد بوطننا الحبيب ذا الوجه المضيء الممتلئ حماسا ونضرة وحيوية بعد أن أضنانا جميعا اليأس والركود والانتظار الطويل في غياب لأي بارقة أمل أو رجاء. ميدان التحرير الذي جعلتم منه ميدانا للحرية أضحى اليوم بعد انتفاضتكم المجيدة وجها مضيئا للوطن وقلعة للحرية في مواجهة الطغيان ، وشبابنا الزاهر الذي اختطف مخلصا وهج العصر وجذوة الحداثة من براثن الاستبداد وأضاء بهما حياتنا اليومية المعتمة ، لا بد وأن نعترف به جيلا جديدا مفرحا ولد عملاقا على أياديكم الطاهرة يوم أيقظتم مصر من سباتها العميق يوم طرقتم بغير وجل أبواب العصر وأضأتم بفعلكم المخلص لنا جميعا شعلة الأمل بعد أن انعدم منا كل رجاء. لقد وحدتنا في الأيام الأخيرة شدائد كثيرة وجمع الموت بيننا، فتجاور شهداء ليلة رأس السنة في كنيسة القديسين بالإسكندرية مع شهداء أسبوع الغضب من شباب الانتفاضة مسددين عنّا جميعا ضريبة الحياة الحرة الكريمة. لقد حاولوا بغير جدوى أن يسرقوا منّا روح الوطن ، وضربونا معا مرة بالمتفجرات التي دسّوها في ساحة كنيسة القديسين ومرات بالعصي وقنابل الغاز والرصاص المطاطي والرصاص الحي الذي أصاب صدوركم العارية عندما نطقتم بالحق في وجه حكام الوطن.
لكننا تعلمنا منكم ألا ننحني لسارقي الوطن، وأن نصدح بالحق في وجه كل سلطة غاشمة. تعلمنا منكم أن ندخل التاريخ من جديد بعد أن تخلينا عن دعة حياتنا الخانعة. لقد آن للخوف أن يغادر قلوبنا إلى الأبد ، وآن للطغيان أن يترجل راحلا عن وطننا الأبي ، وآن لشباب 25 يناير أن يعبر بنا إلى مصاف الدول الناهضة بعد أن أعاد الى شعبنا المصري كرامته المسلوبة وحقه الضائع وروحه المطفأة .
تحيا مصر دائما عزيزة أبية ، منيعة عصية ، تجاه كل شر وطغيان . والسلام لكم وبكم وعليكم ورحمة من ألله على كل شهدائنا الأبرار .
كلمة ألقبت في ميدان التحرير مساء الأربعاء الموافق 9 فبراير في سياق احتفال شباب 25 يناير بذكرى الأربعين لشهداء حادث كنيسة القديسين
.
عندما عاد أمير الشعراء أحمد شوقي من المنفى عام 1920 إلى أرض الوطن بعد انتهاء إحداث ثورة 1919 ، خاطب مصر الثورة التي أضناه الشوق إليها بهذه الأبيات :
ويا وطني لقيتك بعد يأس كأني قد لقيت بك الشبابا
ولو أنى دعيت لكنت ديني عليه أقابل الحتم المجابا
أدير إليك قبل البيت وجهي إذا فهت الشهادة والمتابا
أظن أننا جميعا شبابا وكهولا نلتقي من جديد بوطننا الحبيب ذا الوجه المضيء الممتلئ حماسا ونضرة وحيوية بعد أن أضنانا جميعا اليأس والركود والانتظار الطويل في غياب لأي بارقة أمل أو رجاء. ميدان التحرير الذي جعلتم منه ميدانا للحرية أضحى اليوم بعد انتفاضتكم المجيدة وجها مضيئا للوطن وقلعة للحرية في مواجهة الطغيان ، وشبابنا الزاهر الذي اختطف مخلصا وهج العصر وجذوة الحداثة من براثن الاستبداد وأضاء بهما حياتنا اليومية المعتمة ، لا بد وأن نعترف به جيلا جديدا مفرحا ولد عملاقا على أياديكم الطاهرة يوم أيقظتم مصر من سباتها العميق يوم طرقتم بغير وجل أبواب العصر وأضأتم بفعلكم المخلص لنا جميعا شعلة الأمل بعد أن انعدم منا كل رجاء. لقد وحدتنا في الأيام الأخيرة شدائد كثيرة وجمع الموت بيننا، فتجاور شهداء ليلة رأس السنة في كنيسة القديسين بالإسكندرية مع شهداء أسبوع الغضب من شباب الانتفاضة مسددين عنّا جميعا ضريبة الحياة الحرة الكريمة. لقد حاولوا بغير جدوى أن يسرقوا منّا روح الوطن ، وضربونا معا مرة بالمتفجرات التي دسّوها في ساحة كنيسة القديسين ومرات بالعصي وقنابل الغاز والرصاص المطاطي والرصاص الحي الذي أصاب صدوركم العارية عندما نطقتم بالحق في وجه حكام الوطن.
لكننا تعلمنا منكم ألا ننحني لسارقي الوطن، وأن نصدح بالحق في وجه كل سلطة غاشمة. تعلمنا منكم أن ندخل التاريخ من جديد بعد أن تخلينا عن دعة حياتنا الخانعة. لقد آن للخوف أن يغادر قلوبنا إلى الأبد ، وآن للطغيان أن يترجل راحلا عن وطننا الأبي ، وآن لشباب 25 يناير أن يعبر بنا إلى مصاف الدول الناهضة بعد أن أعاد الى شعبنا المصري كرامته المسلوبة وحقه الضائع وروحه المطفأة .
تحيا مصر دائما عزيزة أبية ، منيعة عصية ، تجاه كل شر وطغيان . والسلام لكم وبكم وعليكم ورحمة من ألله على كل شهدائنا الأبرار .
ما بعد الانتفاضة المصرية والنموذج التركي الخارجي
د. ناصيف حتّي
هل يكون عام 2011 عام بداية التغيير في العالم العربي: انتفاضة تونس والانهيار السريع للنظام كانا عنصرا المفاجأة والصدمة الإيجابية للتغيير، لكن مع انتفاضة مصر وردود الفعل على مستوى النظام الرسمي العربي من قلق ومحاولات احتواء استباقية لأي انفجار قادم عبر خطوات غير كافية ومتأخرة ولكنها دالة على "عودة الوعي" بالحاجة للتغيير من جهة وردود الفعل الشعبية الفرحة بالانتفاضة التونسية والمتضامنة مع شقيقتها المصرية من جهة أخرى، هذه عناصر أدت إلى أن يستقر عنوان التغيير كعنوان أساسي وضاغط في المشهد السياسي العربي سواء كان الناظر إلى هذا المشهد من داخل النظام العربي أو من خارجه.
في هذا المشهد وفي خضم الانتفاضة المصرية، تكثر الأسئلة من نوع حجم التغيير واتجاهه وسرعته وكيفية حسمه في مصر. فهل سيكون تغييراً للنظام ام تغييراً في النظام، وفي الحالة الثانية ما هي ابعاد هذا التغيير، ثم بالطبع من هي الدولة أو الدول "المرشحة" للاثر التظاهري التونسي ثم المصري؟
جملة من الملاحظات تكشف المواقف والسلوكيات والنظرة المختلفة لمشهد التغيير العربي يمكن ايجازها كما يلي:
أولاً، ان المدرسة التآمرية في تفسير الأحداث تبقى ناشطة من خلال التساؤلات التي تثيرها حول هوية "محرك" الحدث والمستفيد منه وتوقيته وهي مدرسة تمثل نوعاً من الكسل الذهني والتسطيح السياسي رغم تراجع اربابها في مشهد التغيير العربي، لكن المفارقة انه حتى بعض المتحمسين للتغيير ولأهله يطرحون بعفوية وبساطة هذا السؤال ما يعكس إلى جانب ما ذكر سابقاً عدم فهمهم لطبيعة المجتمعات العربية وللعناصر الموضوعية المحركة لها. انها بأي حال مدرسة تعكس بؤس السياسة والتصحر السياسي التي فرضته بعض السلطات العربية في مجتمعاتها بحيث صار التفسير السهل هو السائد خاصة عندما يسهل ربطه بالولايات المتحدة وإسرائيل نظراً للارث العدائي ولو المختلف حدة وطبيعة عند الطرفين تجاه القضايا العربية.
ثانياً، ارتباك في عواصم صنع القرار الغربي ولو بدرجات متفاوتة، ارتباك بين التمسك بالمصلحة التي وفرتها العديد من السلطات العربية من جهة والقيم التي تنادي بها الدول الغربية وتدعو لها وتحاول التدخل باسمها من جهة أخرى. ويعود الارتباك لعدم التأكد من قدرة بعض "الأصدقاء العرب" على استيعاب هذه الخضات، ومن المجهول الذي قد يحصل بعد ذلك في ما يتعلق بالاستقرار المطلوب والمصالح التي يجب الحفاظ عليها فتجري محاولات لإحداث توازن بين الموقف والعنوان القيمي الأخلاقي السياسي ومحاولة تركيز الجهود متى أمكن ذلك على مواكبة التغيير فيما يتعلق بادارته ومنحاه وأهدافه عبر قوى يمكن الوثوق بها ولو بدرجات متفاوتة. وتبرز المقارنة بين موجة التغيير عام 1989 مع انهيار المعسكر الشرقي وما يبدو انه موجة التغيير في مطلع 2011 في العالم العربي. ففي الحالة الأولى جاءت الانتفاضات ومعها التغيير ضد أنظمة معادية استراتيجياً وعقائدياً للغرب في ما يأتي هذه المرة ضد أنظمة صديقة للغرب.
ثالثاً، هنالك مخاوف من منحى التغيير خاصة في ظل نظرة تقوم على ثنائية حادة فكأنما الخيار هو بين نظم شديدة السلطوية توفر الاستقرار من جهة، وبين تيارات شعبية اسلاموية متصادمة ولو بدرجات متفاوتة مع الغرب ومجهولة عند هذا الغرب في سلوكياتها المستقبلية لدرجة كبيرة وبالتالي مخيفة من جهة أخرى. ولا يكفي التسطيح الذي يصل الى حدود العنصرية والذي يقوم على نظرة ثقافوية قوانها ان المجتمعات العربية والاسلامية غير قابلة لاسباب ثقافية وقيمية للديموقراطية بل يأتي التبسيط السياسي، رغم ان الانتفاضة في الحالتين التونسية والمصرية لم تأت تحت عنوان اسلاموي ولم تقدوها تيارات الاسلاموية، لتزيد من المخاوف والارتباك، ليتجاهل وجود قوى مدنية مختلفة قادرة ان تشكل بديلا ثالثا من نظم سلطوية وتيارات اسلاموية. ولا بد من التذكير ان الانتفاضة في الحالتين لم تحمل اي عنوان سياسي او عقائدي او تنظيمي او قطاعي معين بل كانت الأكثر ديموقراطية من حيث تعبيرها عن مطالب الجميع ومن حيث القوى التي شاركت بها. وكثيراً ما يبرز الاختزال في التحليل الذي يعبر عن سوء الفهم وعدم الادراك من خلال المقارنة بالثورة الايرانية عام 1979 رغم الفرق الشاسع بين الحالتين في ما يتعلق بطبيعة الثورة في ايران وتنظيمها وهويتها وعنوانها العقائدي الديني ووجود زعيم كريزماتيكي لها.
رابعاً، أياً كانت نتائج الانتفاضة المصرية فما يجمع عليه المراقبون انه لن تكون هنالك عودة الى ما قبل 25 ينارير/كانون الثاني 2011، وان الانتفاضة ستحقق ضمن امور أخرى استعادة المكانة لمصر ايا كانت نسبة هذه الاستعادة، وفقدان المكانة ومعها فقدان الدور كانا من عناصر لغضب الشعبي المصري. فلذلك سيكون هناك تغير في السلوكية الخارجية المصرية وفي ثقل الدور المصري. وبالتالي ستكون هنالك تداعيات ولو اختلفت اوزانها وأحجامها حسب التغيير الذي سيحصل على التوازنات في المنطقة وعلى الصراع العربي الاسرائيلي وعلى العلاقات مع واشنطن ضمن منطق تباين المصالح احيانا وما ينتج عن ذلك في اطار علاقة استراتيجية قائمة. لكن أبرز ما قد يحمله أيضاً التغيير هو اعادة التوازن المفقود ولو بدرجات مختلفة الى دبلوماسية الصراع العربي الاسرائيلي. هذه التداعيات ستبقى في منأى وما يحمله المنطق التبسيطي العقائدي والسياسي من اصطفافات محتملة اذ ان التاريخ والجغرافيا الاستراتيجية والمصالح ستحكم دائماً علاقات مصر العربية والاقليمية والدولية مع التأكيد دائماً على التحولات التي قد يحملها هذا التغيير، وربما يبرز النموذج التركي الخارجي في العلاقات مع واشنطن كاحد النماذج التي يمكن الاستدلال بها بشكل عام لاستشراف مصر ما بعد الانتفاضة على الصعيد الخارجي.
خامساً، ان عملية التغيير او عملية التحول الديموقراطي لا تأتي عبر القطيعة الكلية واسقاط نماذج جاهزة قد تكون عناوين للتحرك حالياً، بل هي نتيجة تراكم سلسلة من التغييرات منها اقامة دولة القانون والمؤسسات عبر الفصل بين السلطات، واقامة قضاء مستقل ونظام مساءلة واعطاء الحريات في مجال التنظيم السياسي والاجتماعي لخلق مجتمع مدني ديناميكي. فالديموقراطية ليست مجرد آلية تداول للسلطة بل هي منظومة قيم تجري تأسيسها وتعميقها عبر الوقت. مشهد التغيير العربي الذي قام بضغط الديموغرافيا وتسهيل التكنولوجيا واستفزاز الاقتصاد وعمى او غياب السياسة، سيحمل في اي حال نهاية الرئاسات التوريثية ورئاسات مدى الحياة وسيطرح موضوع التحول نحو الملكيات الدستورية عبر تقييد السلطة. عام 2011 الذي قد يشهد مزيداً من الخضات المختلفة هنا وهناك سيكون عام فتح صفحة جديدة في حياة العالم العربي.
هل يكون عام 2011 عام بداية التغيير في العالم العربي: انتفاضة تونس والانهيار السريع للنظام كانا عنصرا المفاجأة والصدمة الإيجابية للتغيير، لكن مع انتفاضة مصر وردود الفعل على مستوى النظام الرسمي العربي من قلق ومحاولات احتواء استباقية لأي انفجار قادم عبر خطوات غير كافية ومتأخرة ولكنها دالة على "عودة الوعي" بالحاجة للتغيير من جهة وردود الفعل الشعبية الفرحة بالانتفاضة التونسية والمتضامنة مع شقيقتها المصرية من جهة أخرى، هذه عناصر أدت إلى أن يستقر عنوان التغيير كعنوان أساسي وضاغط في المشهد السياسي العربي سواء كان الناظر إلى هذا المشهد من داخل النظام العربي أو من خارجه.
في هذا المشهد وفي خضم الانتفاضة المصرية، تكثر الأسئلة من نوع حجم التغيير واتجاهه وسرعته وكيفية حسمه في مصر. فهل سيكون تغييراً للنظام ام تغييراً في النظام، وفي الحالة الثانية ما هي ابعاد هذا التغيير، ثم بالطبع من هي الدولة أو الدول "المرشحة" للاثر التظاهري التونسي ثم المصري؟
جملة من الملاحظات تكشف المواقف والسلوكيات والنظرة المختلفة لمشهد التغيير العربي يمكن ايجازها كما يلي:
أولاً، ان المدرسة التآمرية في تفسير الأحداث تبقى ناشطة من خلال التساؤلات التي تثيرها حول هوية "محرك" الحدث والمستفيد منه وتوقيته وهي مدرسة تمثل نوعاً من الكسل الذهني والتسطيح السياسي رغم تراجع اربابها في مشهد التغيير العربي، لكن المفارقة انه حتى بعض المتحمسين للتغيير ولأهله يطرحون بعفوية وبساطة هذا السؤال ما يعكس إلى جانب ما ذكر سابقاً عدم فهمهم لطبيعة المجتمعات العربية وللعناصر الموضوعية المحركة لها. انها بأي حال مدرسة تعكس بؤس السياسة والتصحر السياسي التي فرضته بعض السلطات العربية في مجتمعاتها بحيث صار التفسير السهل هو السائد خاصة عندما يسهل ربطه بالولايات المتحدة وإسرائيل نظراً للارث العدائي ولو المختلف حدة وطبيعة عند الطرفين تجاه القضايا العربية.
ثانياً، ارتباك في عواصم صنع القرار الغربي ولو بدرجات متفاوتة، ارتباك بين التمسك بالمصلحة التي وفرتها العديد من السلطات العربية من جهة والقيم التي تنادي بها الدول الغربية وتدعو لها وتحاول التدخل باسمها من جهة أخرى. ويعود الارتباك لعدم التأكد من قدرة بعض "الأصدقاء العرب" على استيعاب هذه الخضات، ومن المجهول الذي قد يحصل بعد ذلك في ما يتعلق بالاستقرار المطلوب والمصالح التي يجب الحفاظ عليها فتجري محاولات لإحداث توازن بين الموقف والعنوان القيمي الأخلاقي السياسي ومحاولة تركيز الجهود متى أمكن ذلك على مواكبة التغيير فيما يتعلق بادارته ومنحاه وأهدافه عبر قوى يمكن الوثوق بها ولو بدرجات متفاوتة. وتبرز المقارنة بين موجة التغيير عام 1989 مع انهيار المعسكر الشرقي وما يبدو انه موجة التغيير في مطلع 2011 في العالم العربي. ففي الحالة الأولى جاءت الانتفاضات ومعها التغيير ضد أنظمة معادية استراتيجياً وعقائدياً للغرب في ما يأتي هذه المرة ضد أنظمة صديقة للغرب.
ثالثاً، هنالك مخاوف من منحى التغيير خاصة في ظل نظرة تقوم على ثنائية حادة فكأنما الخيار هو بين نظم شديدة السلطوية توفر الاستقرار من جهة، وبين تيارات شعبية اسلاموية متصادمة ولو بدرجات متفاوتة مع الغرب ومجهولة عند هذا الغرب في سلوكياتها المستقبلية لدرجة كبيرة وبالتالي مخيفة من جهة أخرى. ولا يكفي التسطيح الذي يصل الى حدود العنصرية والذي يقوم على نظرة ثقافوية قوانها ان المجتمعات العربية والاسلامية غير قابلة لاسباب ثقافية وقيمية للديموقراطية بل يأتي التبسيط السياسي، رغم ان الانتفاضة في الحالتين التونسية والمصرية لم تأت تحت عنوان اسلاموي ولم تقدوها تيارات الاسلاموية، لتزيد من المخاوف والارتباك، ليتجاهل وجود قوى مدنية مختلفة قادرة ان تشكل بديلا ثالثا من نظم سلطوية وتيارات اسلاموية. ولا بد من التذكير ان الانتفاضة في الحالتين لم تحمل اي عنوان سياسي او عقائدي او تنظيمي او قطاعي معين بل كانت الأكثر ديموقراطية من حيث تعبيرها عن مطالب الجميع ومن حيث القوى التي شاركت بها. وكثيراً ما يبرز الاختزال في التحليل الذي يعبر عن سوء الفهم وعدم الادراك من خلال المقارنة بالثورة الايرانية عام 1979 رغم الفرق الشاسع بين الحالتين في ما يتعلق بطبيعة الثورة في ايران وتنظيمها وهويتها وعنوانها العقائدي الديني ووجود زعيم كريزماتيكي لها.
رابعاً، أياً كانت نتائج الانتفاضة المصرية فما يجمع عليه المراقبون انه لن تكون هنالك عودة الى ما قبل 25 ينارير/كانون الثاني 2011، وان الانتفاضة ستحقق ضمن امور أخرى استعادة المكانة لمصر ايا كانت نسبة هذه الاستعادة، وفقدان المكانة ومعها فقدان الدور كانا من عناصر لغضب الشعبي المصري. فلذلك سيكون هناك تغير في السلوكية الخارجية المصرية وفي ثقل الدور المصري. وبالتالي ستكون هنالك تداعيات ولو اختلفت اوزانها وأحجامها حسب التغيير الذي سيحصل على التوازنات في المنطقة وعلى الصراع العربي الاسرائيلي وعلى العلاقات مع واشنطن ضمن منطق تباين المصالح احيانا وما ينتج عن ذلك في اطار علاقة استراتيجية قائمة. لكن أبرز ما قد يحمله أيضاً التغيير هو اعادة التوازن المفقود ولو بدرجات مختلفة الى دبلوماسية الصراع العربي الاسرائيلي. هذه التداعيات ستبقى في منأى وما يحمله المنطق التبسيطي العقائدي والسياسي من اصطفافات محتملة اذ ان التاريخ والجغرافيا الاستراتيجية والمصالح ستحكم دائماً علاقات مصر العربية والاقليمية والدولية مع التأكيد دائماً على التحولات التي قد يحملها هذا التغيير، وربما يبرز النموذج التركي الخارجي في العلاقات مع واشنطن كاحد النماذج التي يمكن الاستدلال بها بشكل عام لاستشراف مصر ما بعد الانتفاضة على الصعيد الخارجي.
خامساً، ان عملية التغيير او عملية التحول الديموقراطي لا تأتي عبر القطيعة الكلية واسقاط نماذج جاهزة قد تكون عناوين للتحرك حالياً، بل هي نتيجة تراكم سلسلة من التغييرات منها اقامة دولة القانون والمؤسسات عبر الفصل بين السلطات، واقامة قضاء مستقل ونظام مساءلة واعطاء الحريات في مجال التنظيم السياسي والاجتماعي لخلق مجتمع مدني ديناميكي. فالديموقراطية ليست مجرد آلية تداول للسلطة بل هي منظومة قيم تجري تأسيسها وتعميقها عبر الوقت. مشهد التغيير العربي الذي قام بضغط الديموغرافيا وتسهيل التكنولوجيا واستفزاز الاقتصاد وعمى او غياب السياسة، سيحمل في اي حال نهاية الرئاسات التوريثية ورئاسات مدى الحياة وسيطرح موضوع التحول نحو الملكيات الدستورية عبر تقييد السلطة. عام 2011 الذي قد يشهد مزيداً من الخضات المختلفة هنا وهناك سيكون عام فتح صفحة جديدة في حياة العالم العربي.
الأربعاء، 9 فبراير 2011
بيان البديل الحضاري-المغرب حول ربيع الشعوب العربية
مصر وتونس والدروس المطلوبة
تابعنا في حزب البديل الحضاري باهتمام بالغ مجريات الأحداث المفصلية في تاريخ منطقتنا العربية منذ انتصار ثورة الياسمين واندلاع ثورة الشباب بالقطرين الشقيقين "تونس و مصر"، مستحضرين بيقظة تداعياتهما المصيرية على تاريخ المنطقة، باعتبارها منعطفا في سيرورة معركة الانتقال نحو الديموقراطية و القطع مع كل أشكال القمع و الاستبداد و التحكم.
ونحن اذ نؤكد على مركزية هذه التحولات الجماهيرية الكبيرة يهمنا أن نسجل خلاصات جوهرية منها مايلي:
- فشل مسرحية الاستقواء بالخطر الإسلامي من أجل التغطية على انحسار مساحات التعبير الديموقراطي.
- فشل المقاربات التكنوقراطية التي تولي الأولوية للمشاريع الاقتصادية و الاستثمارات الأجنبية دون الالتفات للسؤال السياسي و الاجتماعي و المؤدية لهيمنة مافيات الفساد و الريع الاقتصادي.
- فشل الاختيارات القائمة على تحكم الأمني في السياسة و الاجتماع و الاقتصاد.
- فشل التحكم في الحياة السياسية من خلال الحزب الأغلبي الذي يترجم فعلا أو ادعاءا اختيارات رأس السلطة.
- فشل تهميش الفكر و الثقافة من مشاريع الحداثة المدعاة لصالح البهرجة و الفلكرة و المهرجنة بغاية إلهاء الشباب عن معانقة قضاياهم المصيرية.
و لكن بالمقابل كشفت الثورتان عن قصور أحزاب المعارضة و اكتفائها باللعب في المساحات المرسومة لها سلفا،فضلا عن الهوة التي ما فتئت تتعمق بينها و بين الأجيال الشابة الصاعدة باهتماماتها الجديدة و مسلكياتها المستجدة و وسائل تواصلها: لغة و أداة و خطابا.
إننا في حزب البديل الحضاري إذ نقف إجلالا لثورة الشباب و ننحني تهيبا أمام أرواح الشهداء و كلنا يقين ببداية النهاية لزمن الاستبداد و انطلاق زمن الشعوب،فإننا نتوجه لمن يهمهم الأمر في مغربنا العزيز لاستخلاص العبر و الدروس و العودة إلى روح مغرب هيئة الإنصاف و المصالحة و مدونة الأسرة و المفهوم الجديد للسلطة،و القطع مع التراجعات التي همت المجالات الحقوقية و السياسية و الاجتماعية،كما ننبه إلى خطورة الخطابات المطمئنة و المستترة خلف الخصوصية المزعومة،إذ إن التراجعات المومئ إليها سلفا مرفوقة بعدم قدرة الدولة بإمكانياتها المحدودة على تلبية المطالب الاجتماعية في التعليم الناجح و السكن اللائق و الشغل الكريم و القضاء العادل لكفيلة بانبثاق جيل جديد من الاحتجاجات غير المسبوقة، خصوصا مع تفشي التفاوتات الطبقية و المحسوبية و اقتصاد الريع، في الوقت الذي تكاد تنعدم فيه المؤسسات الوسيطة الفاعلة من أحزاب مستقلة القرار و نقابات غير مرتهنة لأجندات خفية،مع بروز تيار هيمني يكاد يعيد البنعلة في تجلياتها البئيسة.
لذا و انطلاقا من واجبنا السياسي و حبا في هذا الوطن ، ندعو الحاكمين لاغتنام هذه اللحظة التاريخية من أجل تصحيح المسار و تقويم الاعوجاجات عبر:
- إصلاح سياسي و دستوري عاجل في أفق ملكية برلمانية ديموقراطية مواطنة.
- مصالحة وطنية آنية تبدأ بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين و الحقوقيين و الطلبة.
- الانكباب الجدي و المسؤول على حل معضلات الشباب و بالأخص معضلة التشغيل.
- رفع اليد المتحكمة في المشهد السياسي من أجل منافسة شريفة لا يحتكر فيها أحد الحديث باسم الإسلام أو الوطنية أو الملك، و يسمح للجميع بحق التعبير و التنظيم.
- القطع مع اقتصاد الريع و مستتبعاته من رشوة و عائلات نافذة و محسوبية... فقد بينت أحداث تونس و مصر خطر الأوليغارشيات المتنفذة، و بالتالي فزواج المال و السلطة لن يفضي إلا إلى الاستبداد و تراكم الإحباطات لدى الفئات المحرومة.
- تغيير جذري لمنظومة الإعلام العمومي و جعلها في خدمة المجتمع و معبرا أمينا عن التعددية السياسية و الثقافية و اللغوية،مع رفع كل أشكال التضييق على الإعلام المستقل.
إننا في حزب البديل الحضاري لا يفوتنا ختاما التنديد باستمرار اعتقال الأخ الأمين العام المصطفى المعتصم و الناطق الرسمي باسم الحزب الدكتور محمد الأمين الركالة و تلكؤ القضاء في البث بخصوص الطعن الذي تقدمنا به ضد مقرر حل حزبنا غير المسند لتعليلات قانونية مقنعة.و في الآن نفسه نجدد إصرارنا على إكمال مسيرتنا النضالية من أجل مغرب ديموقراطي تعددي تحفظ فيه الكرامة و يعلى من شأن الحرية
تابعنا في حزب البديل الحضاري باهتمام بالغ مجريات الأحداث المفصلية في تاريخ منطقتنا العربية منذ انتصار ثورة الياسمين واندلاع ثورة الشباب بالقطرين الشقيقين "تونس و مصر"، مستحضرين بيقظة تداعياتهما المصيرية على تاريخ المنطقة، باعتبارها منعطفا في سيرورة معركة الانتقال نحو الديموقراطية و القطع مع كل أشكال القمع و الاستبداد و التحكم.
ونحن اذ نؤكد على مركزية هذه التحولات الجماهيرية الكبيرة يهمنا أن نسجل خلاصات جوهرية منها مايلي:
- فشل مسرحية الاستقواء بالخطر الإسلامي من أجل التغطية على انحسار مساحات التعبير الديموقراطي.
- فشل المقاربات التكنوقراطية التي تولي الأولوية للمشاريع الاقتصادية و الاستثمارات الأجنبية دون الالتفات للسؤال السياسي و الاجتماعي و المؤدية لهيمنة مافيات الفساد و الريع الاقتصادي.
- فشل الاختيارات القائمة على تحكم الأمني في السياسة و الاجتماع و الاقتصاد.
- فشل التحكم في الحياة السياسية من خلال الحزب الأغلبي الذي يترجم فعلا أو ادعاءا اختيارات رأس السلطة.
- فشل تهميش الفكر و الثقافة من مشاريع الحداثة المدعاة لصالح البهرجة و الفلكرة و المهرجنة بغاية إلهاء الشباب عن معانقة قضاياهم المصيرية.
و لكن بالمقابل كشفت الثورتان عن قصور أحزاب المعارضة و اكتفائها باللعب في المساحات المرسومة لها سلفا،فضلا عن الهوة التي ما فتئت تتعمق بينها و بين الأجيال الشابة الصاعدة باهتماماتها الجديدة و مسلكياتها المستجدة و وسائل تواصلها: لغة و أداة و خطابا.
إننا في حزب البديل الحضاري إذ نقف إجلالا لثورة الشباب و ننحني تهيبا أمام أرواح الشهداء و كلنا يقين ببداية النهاية لزمن الاستبداد و انطلاق زمن الشعوب،فإننا نتوجه لمن يهمهم الأمر في مغربنا العزيز لاستخلاص العبر و الدروس و العودة إلى روح مغرب هيئة الإنصاف و المصالحة و مدونة الأسرة و المفهوم الجديد للسلطة،و القطع مع التراجعات التي همت المجالات الحقوقية و السياسية و الاجتماعية،كما ننبه إلى خطورة الخطابات المطمئنة و المستترة خلف الخصوصية المزعومة،إذ إن التراجعات المومئ إليها سلفا مرفوقة بعدم قدرة الدولة بإمكانياتها المحدودة على تلبية المطالب الاجتماعية في التعليم الناجح و السكن اللائق و الشغل الكريم و القضاء العادل لكفيلة بانبثاق جيل جديد من الاحتجاجات غير المسبوقة، خصوصا مع تفشي التفاوتات الطبقية و المحسوبية و اقتصاد الريع، في الوقت الذي تكاد تنعدم فيه المؤسسات الوسيطة الفاعلة من أحزاب مستقلة القرار و نقابات غير مرتهنة لأجندات خفية،مع بروز تيار هيمني يكاد يعيد البنعلة في تجلياتها البئيسة.
لذا و انطلاقا من واجبنا السياسي و حبا في هذا الوطن ، ندعو الحاكمين لاغتنام هذه اللحظة التاريخية من أجل تصحيح المسار و تقويم الاعوجاجات عبر:
- إصلاح سياسي و دستوري عاجل في أفق ملكية برلمانية ديموقراطية مواطنة.
- مصالحة وطنية آنية تبدأ بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين و الحقوقيين و الطلبة.
- الانكباب الجدي و المسؤول على حل معضلات الشباب و بالأخص معضلة التشغيل.
- رفع اليد المتحكمة في المشهد السياسي من أجل منافسة شريفة لا يحتكر فيها أحد الحديث باسم الإسلام أو الوطنية أو الملك، و يسمح للجميع بحق التعبير و التنظيم.
- القطع مع اقتصاد الريع و مستتبعاته من رشوة و عائلات نافذة و محسوبية... فقد بينت أحداث تونس و مصر خطر الأوليغارشيات المتنفذة، و بالتالي فزواج المال و السلطة لن يفضي إلا إلى الاستبداد و تراكم الإحباطات لدى الفئات المحرومة.
- تغيير جذري لمنظومة الإعلام العمومي و جعلها في خدمة المجتمع و معبرا أمينا عن التعددية السياسية و الثقافية و اللغوية،مع رفع كل أشكال التضييق على الإعلام المستقل.
إننا في حزب البديل الحضاري لا يفوتنا ختاما التنديد باستمرار اعتقال الأخ الأمين العام المصطفى المعتصم و الناطق الرسمي باسم الحزب الدكتور محمد الأمين الركالة و تلكؤ القضاء في البث بخصوص الطعن الذي تقدمنا به ضد مقرر حل حزبنا غير المسند لتعليلات قانونية مقنعة.و في الآن نفسه نجدد إصرارنا على إكمال مسيرتنا النضالية من أجل مغرب ديموقراطي تعددي تحفظ فيه الكرامة و يعلى من شأن الحرية
الثلاثاء، 8 فبراير 2011
من أوراق ثورة 25 يناير
تقدير موقف
طارق البشري
(1)
نحن نبحث الآن في الأوضاع السياسية والدستورية للأحداث التي نعيشها، ولما نحن فيه من حراك شعبي ثوري عميق، نرجو البقاء له والاستمرار.
وإن الوضع السياسي هو أساس النظر في الوضع الدستوري والقانوني، وإن الوضع السياسي الذي استجد حتى الآن ويستجد في الأيام التالية ــ إن شاء الله ــ يكون هو أساس النظر في التشكيل الدستوري المطلوب والاختيار بين البدائل القانونية المتاحة والتي تظهر، وإن الوضع السياسي الجديد لا يزال يستخرج طاقته وقوته.
الوضع السياسي الحاضر الذي استجد، هو اننا في حالة ثورية شعبية عميقة، وهي أشمل وأعمق مما مر بنا في عشرات السنين الماضية، من حيث الانتشار الشعبي والحماسة واستخدام أكثر أساليب العصيان المدني شمولا وتحضرا، ونرجو لها طول النفس وأن يوسع الله لها شمولا شعبيا وانتشارا في أقاليم مصر ومدة طويلة متتابعة الحلقات والأيام حتى تؤتي كل ثمارها لشعب ما أروعه وما أكثر ما يستحق من خير.
وهذا الحراك الشعبي لا يزال يضغط على أجهزة الدولة وأدواتها، ولم يتمكن بعد من بلوغ غايته في تعديل أركانها وقوائمها، وهو حراك لا شك يجد صدى تعاطف في داخل أجهزة الدولة وبين شرائح العاملين فيها وعند أجنحة من القائمين عليها، وهذا التعاطف على أسس من التوجهات الوطنية والرشيدة هو مما قد ييسر السبل لتشارك حميد، وأن أجهزة الدولة المصرية كانت دائما مكونة من مصريين لا ينفصلون عن عامة المصريين في أوضاعهم الثقافية والحياتية والاقتصادية، وما أكثر من يستجيبون لتيارات الشعب المصري من بينهم لولا الخضوع الرئاسي للأجهزة الإدارية.
وهذا الحراك الشعبي الثوري العميق يشيع أثره الحميد بين عامة المشتغلين لأجهزة الدولة العسكرية والمدنية في انجذابهم لحركة الشعب في مواجهة القلة التي سيطرت ولا تزال بقاياها مسيطرة على أجهزة مهمة في الدولة في عهد الرئيس حسني مبارك، خاصة هذه الجماعة التي اقتحمت جهاز إدارة الدولة في السنوات العشر الأخيرة، وعاثت فيه فسادا وإفسادا وهدما وتفكيكا، وهم على التحديد ممن سموا انفسهم رجال أعمال وقيادات في الحزب الوطني ولجنة السياسات به وغيرهم.
والحاصل ان ما حدث حتى الآن ــ أي حتى كتابة هذه السطور ــ أن الحركة الثورية قد انتجت الاطاحة العقلية بعدد من رجال هذه الشريحة من رجال الأعمال ولجنة السياسات وقيادات بالحزب الوطني وانصار لجمال مبارك، وهم من كانوا سيطروا على رأس الدولة المصرية بمباركة ودعم من رئيس الجمهورية وحماية منه، خاصة خلال السنوات العشر الأخيرة، حيث خلت لهم الأجواء تماما بغير مقاومة من القيادات الأخرى بجهاز الدولة.
كما أن هذه الحركة الشعبية انتجت الإضعاف الظاهر للنفوذ السياسي لجهاز الشرطة، وتكاد تكون قد أبعدت أثره، لا من حيث وظيفته في حماية الأمن، ولكنها أضعفته وقلصت دوره السياسي الذي كان نما واستفحل بين أجهزة الدولة المصرية خلال السنوات العشرين أو الثلاثين الأخيرة. كما ان هذه الحركة أعادت للقوات المسلحة المصرية مكانتها السياسية التي كانت لها قبل عصر مبارك.
وإن ما حدث حتى الآن عند كتابة هذه السطور لم يصل بعد أثره شبه المتحقق إلى أكثر مما أشرت إليه، وهذا قدر من الانجاز لا بأس به ويستحق التقدير الكبير، لأن ما تعرضت له مصر في السنوات الأخيرة كان اشبه بمرض عضال، وكان من شأن بقائه أن يميت من يبتلى به، ولكن هذا الانجاز غير كاف لانقاذ مصر والخروج بها من حالة الوهن التي لحقتها، وهو انجاز لا يكفي لتحصين المجتمع المصري من مخاطر ان تلحقه نكسة هذا المرض العضال. ونحن بحاجة ماسة وملحة إلى مزيد من المنجزات الشعبية لبناء نظام جديد يحصن مصر من أمراض حكم الفرد المطلق وشخصنة الدولة والعزلة والبيروقراطية عن المجتمع، ويعيد إلى جهاز الدولة المصري وإلى المجتمع القدرة على النهوض الحر واسترداد الإرادة الوطنية.
ويكفى دليلا على أهمية تحصين جهاز الدولة والمجتمع ضد أمراض الاستبداد والشخصنة التي فتحت الطريق لسرقة الدولة المصرية لعشر سنوات أو أكثر من رجال هم أشبه بالعصابات التي تتسمى باسم رجال الأعمال وبمن سموا انفسهم من الساسة بأصحاب «الفكر الجديد» الذين يمثلهم جمال مبارك، يكفي دليلا على أهمية هذا الهدف، ان العصابة التي سمت رجال أعمال وأصحاب فكر جديد (لجنة السياسات في الحزب الوطني) بلغ فجورها في الدفاع عن مكانتهم في أجهزة الدولة ضد الحركة الثورية القائمة الآن، انهم سحبوا الشرطة من مدن مصر الكبيرة وفتحوا السجون لإخراج الأشقياء منها بما يشمل ذلك من احتمالات تخريب وتدمير وإشاعة للفوضى الكاملة الشاملة. وهذا أمر لم نعرف له مثيلا لا في تاريخ بلدنا ولا في تواريخ البلاد الأخرى، وهو ان تتخلى دولة عن وظيفة حماية المجتمع وتطلق المجرمين على الأهالي جميعا، كما حدث في يوم الجمعة 28 كانون الثاني/ يناير سنة 2011، وهي كذلك بعد ان سحبت الشرطة وجمدت قوات الجيش في المدن اطلقت في 2 فبراير «بلطجية» يقتلون المتظاهرين في ميدان التحرير. وأنا اسأل أي قارئ وكل قارئ، هل عرف جماعة حاكمة تملك زمام دولة سحبت الشرطة وجمدت الجيش وأطلقت عصابات بلطجية ضد شعبها؟ انها حكومة ودولة ما كانتا تعبران عن طبقة اجتماعية ذات مصالح اقتصادية مستقرة وثابتة، بل كانتا تحت سيطرة ما يشبه العصابة من النهابين السلابين. فلا عجب ان يفهموا في دفاعهم عن ذواتهم ما معنى دولة وما معنى شرطة وما معنى قوات مسلحة، وأن يعتمدوا في الدفاع عن انفسهم ومراكزهم بعصابات البلطجية. وأن العبرة التي يتعين ان نخرج بها من هذه التجربة، هي أن هذه الميكروبات التي حلت بالدولة وأجهزتها هي من نتاج سلطة الفرد المطلقة وشخصنة مناصب الدولة، وهى من المضاعفات المرضية لهذا الأمر.
(2)
والظاهر حتى لحظة كتابة هذه السطور، أن قيادة أجهزة الدولة التي انفردت بالقيادة بفعل الحركة الشعبية الجارية، تحاول ان تكتفي بما أفضت إليه الحركة الثورية الحالية من استعادة القيادات التقليدية لأجهزة الدولة لسلطانها ونفوذها وتخلصها من سيطرة الفئة التي طرأت عليهم في السنوات العشر الأخيرة تحت قيادة جمال مبارك وبمباركة أبيه وحمايته، وهي تكاد تقول للحركة الشعبية، شكرا لكم لما أنجزتم ويكفي هذا. ولكن على هذه القيادات ــ مع التقدير لها ولدورها ــ ان تعرف ان ما استعادت به نفوذها المتفرد في الحكم وما اعاد إليها سلطاتها التي كانت مسلوبة، هي هذه الحركة الثورية الشعبية التي قدمت خلال عشرة أيام ثلاثمئة شهيد وخمسة آلاف جريح من أطيب شباب شعب مصر.
وعلى هذه القيادات أن تدرك ان هذه الحركة الشبابية هي نتاج تراكم لثقافة الخروج إلى الشارع في حركات احتجاجية جزئية جرت على مدى السنوات الست الماضية من سنة 2005. وانها ذات أساليب مستحدثة، وانها ان لم تنجز ما يطمح إليه المصريون من احتياجات سياسية حيوية، فإنها يمكن ان تكرر ما عملت بعد فترة أو فترات وان تستحدث أساليب أخرى بما أظهرت من ذكاء وحيوية، ومما فاجأ أمثالي من ذوى الخبرات القديمة عن الثورات والحركات الشعبية، وان هذه الحركة قادرة ــ إن شاء الله ــ على البقاء كقوة سياسية مؤثرة في موازين السياسة المصرية وذات تشكيلات تستحدثها، وسيبقى أثرها في الساحة المصرية السياسية، وقد أوجدت جيلا جديدا من ساسة مصر وقادتها المستقبليين، وممن ليست لهم ملفات بالشرطة ولن يكونوا مجالا للملاحقة الأمنية إلا بعد جهد بوليسي يستغرق أوقاتا وأوقاتا في جمع المعلومات وتكوين الملفات والتفكير في امكانات الملاحقة، لكل فرد ولكل مجموعة، ومتابعة للأنشطة مما قد يستغرق سنوات وسنوات. ذلك ان الشعب المصري رمى إلى الشاطئ بموجة جديدة من شبابه الطيب، وهى موجة ما أعلاها وما أطيبها. وهي يمكنها قبل التمكن الأمني منها عبر شهور وسنوات ان تؤثر تأثيرات عديدة، وأظن ان قيادات أجهزة الدولة جديرة بأن تدخل كل ذلك في الحساب، وان تتيح لهذا العنصر الجديد امكان المساهمة البناءة الديموقراطية والوطنية في مستقبل مصر.
وفى هذا الصدد، ثمة نقطة أود الإشارة إليها وبيانها، وهي أن هناك حرصا من قادة أجهزة الدولة الآن ــ من بين العسكريين ــ على استبقاء الرئيس حسني مبارك بغير تنح، وثمة تردد واضح من جانبهم بالنسبة لتفويض الرئيس سلطاته إلى نائبه الذي اختاره، وأظن أن ليس سبب ذلك فقط هو انهم يعترفون للرئيس بفضل نشاطه السياسي السابق وأدائه في الجيش ورئاسة الدولة، فإن استبداد الرئيس وقسوته وفرديته الشديدة وخصاله المعروفة، لا تنشئ له مع من يتعاملون معه علاقة تعاطف ومودة، ولكن سبب الاستبقاء في ظني، هو انه بعد ضعف مركز الرئيس بحكم الهبة الشعبية الحاصلة، فإن من تعاملوا معه من قبل وكانوا تحت رئاسته هم اقران متساوون في مراكزهم تجاهه وتجاه بعضهم البعض، وان ترجح اسهم أحدهم على غيره من اقرانه لا يكاد يصادف قبولا فوريا، ولا يملك أحد فرض رئاسته على غيره من الاقران في المدى القصير المحدود. لذلك فهم يبقونه على مرضه وانتهاء نفوذه السياسي تماما حتى تستقر أوضاع علاقاتهم مع بعضهم البعض على نحو جديد من التعاون والتشارك.
(3)
مسألة أخرى أريد اثارتها وهي تتعلق بانعكاس الصورة السابقة على الأوضاع الدستورية وأساليب التحقق لما تراه الحركة الشعبية من طلبات بالنسبة لتخلي رئيس الجمهورية عن سلطاته في الحكم.
والدستور في تقديري باق ما دامت لم تسيطر على السلطة جماعة جديدة غير من هم موجودون فيها، وان ازاحة اجنحة من السلطة واسترداد اجنحة أخرى منها لكامل الأوضاع في الحكم لا يفيد في تقديري انتهاء العمل بالدستور. وإذا أعلنت الجماهير في كل شوارع مصر سقوط الدستور، فلا يكون ذلك اسقاطا ما دامت الفئة الحاكمة كلها أو بعضها لا تزال قابضة على ناصية الأمور، وهنا أيضا يجب أن نتذكر أن السياسة أولا والوضع السياسي هو الأساس ثم يأتي بعد ذلك التعبير الدستوري عن هذا الوضع، فما دامت الجماعة الحاكمة في مركز السيطرة على الدولة فإن الدستور المعبر عن الوضع القائم بها يبقى قائما.
وان مجرد القيام بالثورة لا يسقط الدستور إلا بعد ان تتولى القوة الثائرة السلطة فعلا. والقول بأن الدستور القائم سقط بالعملية الثورية التي بدأت في 25 يناير، هو قول غير سديد في ظني من الناحيتين السياسية والدستورية، لأن قوة جديدة لم تصل إلى الحكم من الناحية السياسية بعد، ولان من قال بسقوط الدستور من الناحية القانونية انما استند في زعمه إلى المادة 3 من الدستور وهي تنص على ان «السيادة للشعب وحده، وهو مصدر السلطات، ويمارس الشعب هذه السيادة ويحميها ويصون الوحدة الوطنية على الوجه المبين بالدستور». والنص بذلك يفيد ان الممارسة للسيادة الشعبية يكون «على الوجه المبين بالدستور»، فهذه الممارسة طبقا للدستور لا تكون في منطقة إلغاء له ولا تكون ممارسة يعتد بها الدستور، إلا إن جرت على الوجه المبين به، وهى لا تفيد امكان إلغاء الدستور، وليس من نظام دستورى يكفل لاحد ولا لجماعة ولا لفترة أن تلغيه، انما هو ينظم طريقة تعديل احكامه، لا إلغائه كليا، ولا تقرير اسقاطه جملة. ولا يوجد دستور يلغي نفسه في ما نعلم، والدستور لا يلغي جملة أبدا الا من خارجه وبفعل سياسى تسيطر به قوة سياسية جديدة على السلطة، أو تلغيه السلطة القائمة ان وجدت انه لم يعد يعبر عن أوضاع جديدة تراها أو تنشئها أو تكون آلت إليها. أما ان يسقط ذاتيا ومن تلقاء ذاته بفعل ثوري لم يتول السلطة به أحد بعد، فهذا ما لا أظنه صوابا.
ونحن عندما ننظر في الوضع السياسي الحاضر من حيث مؤسسات الدولة بعد التعديلات التي جرت أخيرا بفعل الحركة الثورية القائمة، نلحظ أن رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزارة صارت في أيدي من يعبر عنهم الأستاذ ضياء رشوان «بالقلب الصلب» في أجهزة الدولة السيادية، ونلحظ ان السلطة التشريعية، رئاسة وأعضاء، هي في أيدي الحزب الوطني ولجنة السياسات وان الحزب الوطني ولجنة السياسات كانا هما الدعامة الرئيسية السياسية لتلك الجماعة المالية التي سيطرت على الدولة، خاصة في السنوات العشر الأخيرة عندما انفردت تماما بالسلطة عليها تحت حماية رئيس الجمهورية وولده.
ولا بد أن ندرك يقينا أن أجهزة الدولة المصرية عسكرية ومدنية هي ما كان عليه المعول في إدارة المجتمع المصري والنظر إليه في عمومه وإدراك توازناته وفقا لادراك لا بأس به، وأيا كان حجم النقص في ذلك وأيا كانت عيوبه، إلا أنه لا يقارن في ايجابياته بما آل إليه الوضع المتدني جدا بعد سيطرة «لجنة السياسات»، «بفكرها الجديد»، وان الحزب الوطني ولجنة سياساته هما ما عملا على هدم أجهزة الدولة المصرية وتفكيكها، وأضرا بالأوضاع السياسية والاقتصادية والمعيشية للمجتمع المصري اضرارا خطيرة جدا. ووفقا لهذا النظر السياسي ننظر في مسألة نقل السلطة من الرئيس حسني مبارك تحقيقا لمطلب الحركة الثورية القائمة الآن، في اطار أحكام الدستور القائم وكيفية تخلي الرئيس عن سلطته. وهذا الأمر بأحد طريقين دستوريين، إما التنحي بالاستقالة أو بالتفويض في سلطته إلى نائبه.
في حال التنحي بالاستقالة يجرى إعمال حكم المادة 84 من الدستور، وهى تنص على انه «في حالة خلو منصب رئيس الجمهورية أو عجزه الدائم عن العمل يتولى الرئاسة مؤقتا رئيس مجلس الشعب، وإذا كان المجلس منحلا حل محله رئيس المحكمة الدستورية العليا، وذلك بشرط ألا يرشح أيهما للرئاسة مع التقيد بأحكام الفقرة 82».
«ويعلن مجلس الشعب خلو منصب رئيس الجمهورية»..
«ويتم اختيار رئيس الجمهورية خلال مدة لا تتجاوز ستين يوما من تاريخ خلو منصب الرئاسة».
ويقتضي هذا النص ان السلطة في حالة التنحي بالاستقالة، ستؤول إلى رئيس مجلس الشعب، وإلى مجلس الشعب الذي يسيطر عليه الحزب الوطني ذو الأغلبية الكاسحة في مجلس الشعب، وذلك خلال الفترة الانتقالية. أي يؤول أمر الدولة في هذه الفترة الحرجة الحساسة، إلى القوة المؤسسية ذاتها التي أقصيت إلى حد ما عن السلطة في الأيام الأخيرة، وهى لا شك في هذه الفترة المؤقتة ستحاول العمل على استرداد ما فقدت. وان التعديلات الأخيرة التي جرت يوم السبت 5 شباط/ فبراير بإقصاء عدد من قيادات الحزب الوطني من مراكزهم القيادية، لا يعتبر ان نفوذهم قد زال عن الحزب وهم لا يزالون في هيئاته العليا، كما ان تشكيلات الحزب كلها جرت وانبنت على أيديهم.
والطريق الثاني لنقل السلطة والتخلي عنها هو طريق انابة رئيس الجمهورية لنائبه نائب رئيس الجمهورية طبقا للمادة 82 من الدستور بما اضيف إليها من أحكام في سنة 2007، وهى تنص على أنه «إذا قام مانع مؤقت يحول دون مباشرة رئيس الجمهورية لاختصاصاته اناب عنه نائب رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء عند عدم وجود نائب لرئيس الجمهورية أو تعذر نيابته عنه».
ولا يجوز لمن ينوب عن رئيس الجمهورية طلب تعديل الدستور أو حل مجلس الشعب أو مجلس الشورى أو إقالة الوزارة».
وبمقتضى هذا النص انه في حالة التفويض تنتقل سلطة رئيس الجمهورية إلى نائبه في جميع ما يملك من سلطات وردت بالدستور إلا ما استثني في هذا النص بالنسبة للمسائل الثلاث السابقة. وان سلطاته التي تؤول للنائب تعني أنها آلت لأجهزة إدارة الدولة ممثلة عسكريا ومدنيا في نائب الرئيس.
وإذا كان نائب رئيس الجمهورية عند التفوض لا يملك طلب تعديل الدستور، فإنه يمكن ان يتحقق هذا الطلب بقرار مستقل من رئيس الجمهورية قبل تنحيه. وعلى أي حال فإن خطاب رئيس الجمهورية الذي ألقاه في يوم الثلاثاء أول شباط/ فبراير والذي أقر فيه بعدم ترشحه للرئاسة بعد انتهاء مدته في خريف سنة 2011، هذا الخطاب تضمن طلبا منه إلى مجلس الشعب لتعديل المادتين 76 و77 من الدستور، ونحن نعرف في علم القانون ان القرارات الإدارية لا شكل لها إلا إذا شرط القانون لها شكلا معينا يبينه. لذلك فإن ما تضمنه هذا الخطاب بشأن المادتين المذكورتين يعتبر طلبا منه لتعديلهما، وهو في خطابه وجه هذا الطلب إلى مجلس الشعب. ومن ثم يعتبر قرارا مستوفيا لاركانه صادرا منه شخصيا بوصفه رئيسا للجمهورية.
ومن جهة ثانية، بالنسبة لعدم احقية نائب رئيس الجمهورية المفوض بسلطات الرئيس في إقالة الوزارة، فإن ذلك لا يشمل امكان اعفاء أي من الوزراء من مسؤوليته الوزارية واستبدال غيره به. لان اعفاء أي وزير بذاته لا يعتبر اقالة الوزارة. أي يمكنه ان يغير في الوزارة بالتجزئة.
أما حل مجلس الشعب أو مجلس الشورى، فإنه يمكن ان يستصدر القرار بذلك من رئيس الجمهورية مع إصداره قرار التفويض.
وفي هذا الصدد، وبالنسبة للطلب السياسي الخاص لحل مجلس الشعب، وهو المجلس الذي لم يجف مداد ما ارتكب في انتخاباته من تزوير فاحش، فإني اتصور ان هذا المطلب وان كانت الشرعية السياسية الكاملة لحركة ثورية نبيلة، إلا اني اشفق على الاجماع الوطني العام المتحقق الآن في المطالب الثورية المطروحة من تغيير عن النظام وتخلى الرئيس عن سلطته، اشفق على هذا الاجماع المطلوب استبقاؤه أطول مدة زمنية ممكنة، أن يتأثر بفعل ما ستمليه عملية انتخاب مجلس جديد من صراعات بين الأحزاب والجماعات السياسية المختلفة والأسر الريفية والمصالح الذاتية. لذلك اطرح على أصحاب هذا الطلب رجاء، بالنظر إلى تأخير تحقيقه إلى ما بعد تحقق المطالب الأخرى السريعة، وهي تخلي الرئاسة واستبدالها وإنهاء حالة الطوارئ وتحقيق ضمانات الحريات الشعبية وحق تكوين الأحزاب والجماعات السياسية بغير العوائق الواردة بالقانون الحالي طبقا للمادة 82.
نقطة أخرى أود إثارتها، وهي ان الدستور يتضمن حكما اعتمدنا دائما على المطالبة بإلغائه، لانه يدعم السلطة الفردية الاستبدادية لمن يتولى منصب رئيس الجمهورية، ولانه يخول الرئيس القفز على سلطات الدولة كلها لدعم قراراته الفردية. وقد استخدم الرئيس أنور السادات هذا الحكم الدستوري عددا من المرات لدعم سلطته الفردية، ومنها المرة التي استخدمت فيها ليدعم موقفه عندما وقع مع الإسرائيليين اتفاقية الصلح، المسماة باتفاقية كامب ديفيد، وليدعم موقفه ضد المعارضة التي تصاعدت ضده. هذا الحكم ورد بالمادة 47 من الدستور وتنص على أنه: «لرئيس الجمهورية إذا قام خطر يهدد الوحدة الوطنية أو سلامة الوطن أو يعوق مؤسسات الدولة عن أداء دورها الدستوري، ان يتخذ الإجراءات السريعة لمواجهة هذا الخطر، ويوجه بيانا إلى الشعب ويجري الاستفتاء على ما اتخذ من إجراءات خلال ستين يوما من اتخاذها».
وهذه السلطة ليست مما يمتنع ان يشملها قرار الإنابة الذي يصدره رئيس الجمهورية إلى نائبه في شأن تفويضه بسلطاته. ويمكن للنائب المفوض ان يستخدمها استجابة لمطالب الحركة الشعبية الثورية الوطنية إزاء ما تراه من تعديلات يراد اجراؤها في المرحلة المؤقتة القائمة، وحتى يوضع دستور جديد ديموقراطي كامل ــ إن شاء الله ــ بعد المرحلة الانتقالية.
(4)
وبعد فهذا «تقدير موقف» للحال الحاضر في هذه الأيام في هذه الساعات، ونحن في قلب حراك ثوري مبارك ــ إن شاء الله ــ وان على القائمين بأمر الدولة المصرية الآن ان يدركوا بعد ان خلصت لهم آلة الحكم من النهابين والبلطجية، لتعود دولة ذات إدارة ورشد، ان الشعب المصري هو من يدينون له بانفرادهم بالسلطة في مواجهة من اقتحموها في السنوات الماضية، وان عليهم ان يفسحوا لهذا الشعب وهيئاته الأهلية، وهو في النهاية الحامي لدولته بشرط ان يشارك فيها، إشرافا وتشكيلا للمؤسسات وتداولا للسلطة، وهو الشعب الذي يستند إليه ويعتمد عليه ويشرف أي قائم بالأمر أن يكون ممثلا له وخادما.
ونحن نريد من الحركة الثورية القائمة ان تبقى سيطرتها على الرأي العام المصري ووجودها بالشارع المصري في مدنه وأقاليمه، وأن تعمل على ان تتمأسس في تشكيلات تنظيمية قادرة على إبقاء هذه الحالة الثورية والتعبير عن تصميم الشعب المصري على التحرر من الاستبداد الداخلي وحكم الفرد المطلق أو حكم الأفراد القلائل، وتصميمه على مساندة حكومته في توجهها المطلوب لاسترداد الإرادة الوطنية المصرية وتحريرها من ضغوط الدولة الخارجية عليها، بخاصة الضغوط الأميركية والإسرائيلية.
ونحن نرنو إلى:
ــ إنهاء حالة الطوارئ.
ــ حرية تشكيل الأحزاب.
ــ إعادة بناء جهاز إدارة الدولة المصرية على أسس رشيدة وتشكيل مؤسسي صالح لأداء وظائف إدارة المجتمع المصري ومرافقه وسد حاجياته.
ــ إعادة الضمانات الوظيفية لرجال الدولة المصرية في هذا الجهاز، بحيث يمكنهم ممارسة نشاطهم في خدمة مرافق المجتمع وسد حاجياته برشد وكفاءة.
ــ ضمان حرية الانتخاب لرئاسة الجمهورية ولمجلسي البرلمان بعد حل مجلس الشعب.
ــ اتخاذ السياسات التي تسترد بها مصر ارادتها المستقلة عن الاملاءات الأميركية والإسرائيلية، واتخاذ السياسات الاقتصادية التي ترعى صالح الجماعة الوطنية المصرية بعيدا عن املاءات المنظمات المالية الدولية.
وان ما اذكره في «تقدير الموقف» هذا لا يعني الرضا بالاكتفاء بما ذكرت من بدائل، بل هو يعني ان يكون مساهمة في التعرف على حقيقة الأوضاع في اللحظة التاريخية التي نحياها هذه الأيام. والتي نريد أن نحقق بتجاوزها ما نستطيع من حرية واستقلالية.
حفظ الله مصر وألهمها الرشاد
والحمد لله.
طارق البشري
(1)
نحن نبحث الآن في الأوضاع السياسية والدستورية للأحداث التي نعيشها، ولما نحن فيه من حراك شعبي ثوري عميق، نرجو البقاء له والاستمرار.
وإن الوضع السياسي هو أساس النظر في الوضع الدستوري والقانوني، وإن الوضع السياسي الذي استجد حتى الآن ويستجد في الأيام التالية ــ إن شاء الله ــ يكون هو أساس النظر في التشكيل الدستوري المطلوب والاختيار بين البدائل القانونية المتاحة والتي تظهر، وإن الوضع السياسي الجديد لا يزال يستخرج طاقته وقوته.
الوضع السياسي الحاضر الذي استجد، هو اننا في حالة ثورية شعبية عميقة، وهي أشمل وأعمق مما مر بنا في عشرات السنين الماضية، من حيث الانتشار الشعبي والحماسة واستخدام أكثر أساليب العصيان المدني شمولا وتحضرا، ونرجو لها طول النفس وأن يوسع الله لها شمولا شعبيا وانتشارا في أقاليم مصر ومدة طويلة متتابعة الحلقات والأيام حتى تؤتي كل ثمارها لشعب ما أروعه وما أكثر ما يستحق من خير.
وهذا الحراك الشعبي لا يزال يضغط على أجهزة الدولة وأدواتها، ولم يتمكن بعد من بلوغ غايته في تعديل أركانها وقوائمها، وهو حراك لا شك يجد صدى تعاطف في داخل أجهزة الدولة وبين شرائح العاملين فيها وعند أجنحة من القائمين عليها، وهذا التعاطف على أسس من التوجهات الوطنية والرشيدة هو مما قد ييسر السبل لتشارك حميد، وأن أجهزة الدولة المصرية كانت دائما مكونة من مصريين لا ينفصلون عن عامة المصريين في أوضاعهم الثقافية والحياتية والاقتصادية، وما أكثر من يستجيبون لتيارات الشعب المصري من بينهم لولا الخضوع الرئاسي للأجهزة الإدارية.
وهذا الحراك الشعبي الثوري العميق يشيع أثره الحميد بين عامة المشتغلين لأجهزة الدولة العسكرية والمدنية في انجذابهم لحركة الشعب في مواجهة القلة التي سيطرت ولا تزال بقاياها مسيطرة على أجهزة مهمة في الدولة في عهد الرئيس حسني مبارك، خاصة هذه الجماعة التي اقتحمت جهاز إدارة الدولة في السنوات العشر الأخيرة، وعاثت فيه فسادا وإفسادا وهدما وتفكيكا، وهم على التحديد ممن سموا انفسهم رجال أعمال وقيادات في الحزب الوطني ولجنة السياسات به وغيرهم.
والحاصل ان ما حدث حتى الآن ــ أي حتى كتابة هذه السطور ــ أن الحركة الثورية قد انتجت الاطاحة العقلية بعدد من رجال هذه الشريحة من رجال الأعمال ولجنة السياسات وقيادات بالحزب الوطني وانصار لجمال مبارك، وهم من كانوا سيطروا على رأس الدولة المصرية بمباركة ودعم من رئيس الجمهورية وحماية منه، خاصة خلال السنوات العشر الأخيرة، حيث خلت لهم الأجواء تماما بغير مقاومة من القيادات الأخرى بجهاز الدولة.
كما أن هذه الحركة الشعبية انتجت الإضعاف الظاهر للنفوذ السياسي لجهاز الشرطة، وتكاد تكون قد أبعدت أثره، لا من حيث وظيفته في حماية الأمن، ولكنها أضعفته وقلصت دوره السياسي الذي كان نما واستفحل بين أجهزة الدولة المصرية خلال السنوات العشرين أو الثلاثين الأخيرة. كما ان هذه الحركة أعادت للقوات المسلحة المصرية مكانتها السياسية التي كانت لها قبل عصر مبارك.
وإن ما حدث حتى الآن عند كتابة هذه السطور لم يصل بعد أثره شبه المتحقق إلى أكثر مما أشرت إليه، وهذا قدر من الانجاز لا بأس به ويستحق التقدير الكبير، لأن ما تعرضت له مصر في السنوات الأخيرة كان اشبه بمرض عضال، وكان من شأن بقائه أن يميت من يبتلى به، ولكن هذا الانجاز غير كاف لانقاذ مصر والخروج بها من حالة الوهن التي لحقتها، وهو انجاز لا يكفي لتحصين المجتمع المصري من مخاطر ان تلحقه نكسة هذا المرض العضال. ونحن بحاجة ماسة وملحة إلى مزيد من المنجزات الشعبية لبناء نظام جديد يحصن مصر من أمراض حكم الفرد المطلق وشخصنة الدولة والعزلة والبيروقراطية عن المجتمع، ويعيد إلى جهاز الدولة المصري وإلى المجتمع القدرة على النهوض الحر واسترداد الإرادة الوطنية.
ويكفى دليلا على أهمية تحصين جهاز الدولة والمجتمع ضد أمراض الاستبداد والشخصنة التي فتحت الطريق لسرقة الدولة المصرية لعشر سنوات أو أكثر من رجال هم أشبه بالعصابات التي تتسمى باسم رجال الأعمال وبمن سموا انفسهم من الساسة بأصحاب «الفكر الجديد» الذين يمثلهم جمال مبارك، يكفي دليلا على أهمية هذا الهدف، ان العصابة التي سمت رجال أعمال وأصحاب فكر جديد (لجنة السياسات في الحزب الوطني) بلغ فجورها في الدفاع عن مكانتهم في أجهزة الدولة ضد الحركة الثورية القائمة الآن، انهم سحبوا الشرطة من مدن مصر الكبيرة وفتحوا السجون لإخراج الأشقياء منها بما يشمل ذلك من احتمالات تخريب وتدمير وإشاعة للفوضى الكاملة الشاملة. وهذا أمر لم نعرف له مثيلا لا في تاريخ بلدنا ولا في تواريخ البلاد الأخرى، وهو ان تتخلى دولة عن وظيفة حماية المجتمع وتطلق المجرمين على الأهالي جميعا، كما حدث في يوم الجمعة 28 كانون الثاني/ يناير سنة 2011، وهي كذلك بعد ان سحبت الشرطة وجمدت قوات الجيش في المدن اطلقت في 2 فبراير «بلطجية» يقتلون المتظاهرين في ميدان التحرير. وأنا اسأل أي قارئ وكل قارئ، هل عرف جماعة حاكمة تملك زمام دولة سحبت الشرطة وجمدت الجيش وأطلقت عصابات بلطجية ضد شعبها؟ انها حكومة ودولة ما كانتا تعبران عن طبقة اجتماعية ذات مصالح اقتصادية مستقرة وثابتة، بل كانتا تحت سيطرة ما يشبه العصابة من النهابين السلابين. فلا عجب ان يفهموا في دفاعهم عن ذواتهم ما معنى دولة وما معنى شرطة وما معنى قوات مسلحة، وأن يعتمدوا في الدفاع عن انفسهم ومراكزهم بعصابات البلطجية. وأن العبرة التي يتعين ان نخرج بها من هذه التجربة، هي أن هذه الميكروبات التي حلت بالدولة وأجهزتها هي من نتاج سلطة الفرد المطلقة وشخصنة مناصب الدولة، وهى من المضاعفات المرضية لهذا الأمر.
(2)
والظاهر حتى لحظة كتابة هذه السطور، أن قيادة أجهزة الدولة التي انفردت بالقيادة بفعل الحركة الشعبية الجارية، تحاول ان تكتفي بما أفضت إليه الحركة الثورية الحالية من استعادة القيادات التقليدية لأجهزة الدولة لسلطانها ونفوذها وتخلصها من سيطرة الفئة التي طرأت عليهم في السنوات العشر الأخيرة تحت قيادة جمال مبارك وبمباركة أبيه وحمايته، وهي تكاد تقول للحركة الشعبية، شكرا لكم لما أنجزتم ويكفي هذا. ولكن على هذه القيادات ــ مع التقدير لها ولدورها ــ ان تعرف ان ما استعادت به نفوذها المتفرد في الحكم وما اعاد إليها سلطاتها التي كانت مسلوبة، هي هذه الحركة الثورية الشعبية التي قدمت خلال عشرة أيام ثلاثمئة شهيد وخمسة آلاف جريح من أطيب شباب شعب مصر.
وعلى هذه القيادات أن تدرك ان هذه الحركة الشبابية هي نتاج تراكم لثقافة الخروج إلى الشارع في حركات احتجاجية جزئية جرت على مدى السنوات الست الماضية من سنة 2005. وانها ذات أساليب مستحدثة، وانها ان لم تنجز ما يطمح إليه المصريون من احتياجات سياسية حيوية، فإنها يمكن ان تكرر ما عملت بعد فترة أو فترات وان تستحدث أساليب أخرى بما أظهرت من ذكاء وحيوية، ومما فاجأ أمثالي من ذوى الخبرات القديمة عن الثورات والحركات الشعبية، وان هذه الحركة قادرة ــ إن شاء الله ــ على البقاء كقوة سياسية مؤثرة في موازين السياسة المصرية وذات تشكيلات تستحدثها، وسيبقى أثرها في الساحة المصرية السياسية، وقد أوجدت جيلا جديدا من ساسة مصر وقادتها المستقبليين، وممن ليست لهم ملفات بالشرطة ولن يكونوا مجالا للملاحقة الأمنية إلا بعد جهد بوليسي يستغرق أوقاتا وأوقاتا في جمع المعلومات وتكوين الملفات والتفكير في امكانات الملاحقة، لكل فرد ولكل مجموعة، ومتابعة للأنشطة مما قد يستغرق سنوات وسنوات. ذلك ان الشعب المصري رمى إلى الشاطئ بموجة جديدة من شبابه الطيب، وهى موجة ما أعلاها وما أطيبها. وهي يمكنها قبل التمكن الأمني منها عبر شهور وسنوات ان تؤثر تأثيرات عديدة، وأظن ان قيادات أجهزة الدولة جديرة بأن تدخل كل ذلك في الحساب، وان تتيح لهذا العنصر الجديد امكان المساهمة البناءة الديموقراطية والوطنية في مستقبل مصر.
وفى هذا الصدد، ثمة نقطة أود الإشارة إليها وبيانها، وهي أن هناك حرصا من قادة أجهزة الدولة الآن ــ من بين العسكريين ــ على استبقاء الرئيس حسني مبارك بغير تنح، وثمة تردد واضح من جانبهم بالنسبة لتفويض الرئيس سلطاته إلى نائبه الذي اختاره، وأظن أن ليس سبب ذلك فقط هو انهم يعترفون للرئيس بفضل نشاطه السياسي السابق وأدائه في الجيش ورئاسة الدولة، فإن استبداد الرئيس وقسوته وفرديته الشديدة وخصاله المعروفة، لا تنشئ له مع من يتعاملون معه علاقة تعاطف ومودة، ولكن سبب الاستبقاء في ظني، هو انه بعد ضعف مركز الرئيس بحكم الهبة الشعبية الحاصلة، فإن من تعاملوا معه من قبل وكانوا تحت رئاسته هم اقران متساوون في مراكزهم تجاهه وتجاه بعضهم البعض، وان ترجح اسهم أحدهم على غيره من اقرانه لا يكاد يصادف قبولا فوريا، ولا يملك أحد فرض رئاسته على غيره من الاقران في المدى القصير المحدود. لذلك فهم يبقونه على مرضه وانتهاء نفوذه السياسي تماما حتى تستقر أوضاع علاقاتهم مع بعضهم البعض على نحو جديد من التعاون والتشارك.
(3)
مسألة أخرى أريد اثارتها وهي تتعلق بانعكاس الصورة السابقة على الأوضاع الدستورية وأساليب التحقق لما تراه الحركة الشعبية من طلبات بالنسبة لتخلي رئيس الجمهورية عن سلطاته في الحكم.
والدستور في تقديري باق ما دامت لم تسيطر على السلطة جماعة جديدة غير من هم موجودون فيها، وان ازاحة اجنحة من السلطة واسترداد اجنحة أخرى منها لكامل الأوضاع في الحكم لا يفيد في تقديري انتهاء العمل بالدستور. وإذا أعلنت الجماهير في كل شوارع مصر سقوط الدستور، فلا يكون ذلك اسقاطا ما دامت الفئة الحاكمة كلها أو بعضها لا تزال قابضة على ناصية الأمور، وهنا أيضا يجب أن نتذكر أن السياسة أولا والوضع السياسي هو الأساس ثم يأتي بعد ذلك التعبير الدستوري عن هذا الوضع، فما دامت الجماعة الحاكمة في مركز السيطرة على الدولة فإن الدستور المعبر عن الوضع القائم بها يبقى قائما.
وان مجرد القيام بالثورة لا يسقط الدستور إلا بعد ان تتولى القوة الثائرة السلطة فعلا. والقول بأن الدستور القائم سقط بالعملية الثورية التي بدأت في 25 يناير، هو قول غير سديد في ظني من الناحيتين السياسية والدستورية، لأن قوة جديدة لم تصل إلى الحكم من الناحية السياسية بعد، ولان من قال بسقوط الدستور من الناحية القانونية انما استند في زعمه إلى المادة 3 من الدستور وهي تنص على ان «السيادة للشعب وحده، وهو مصدر السلطات، ويمارس الشعب هذه السيادة ويحميها ويصون الوحدة الوطنية على الوجه المبين بالدستور». والنص بذلك يفيد ان الممارسة للسيادة الشعبية يكون «على الوجه المبين بالدستور»، فهذه الممارسة طبقا للدستور لا تكون في منطقة إلغاء له ولا تكون ممارسة يعتد بها الدستور، إلا إن جرت على الوجه المبين به، وهى لا تفيد امكان إلغاء الدستور، وليس من نظام دستورى يكفل لاحد ولا لجماعة ولا لفترة أن تلغيه، انما هو ينظم طريقة تعديل احكامه، لا إلغائه كليا، ولا تقرير اسقاطه جملة. ولا يوجد دستور يلغي نفسه في ما نعلم، والدستور لا يلغي جملة أبدا الا من خارجه وبفعل سياسى تسيطر به قوة سياسية جديدة على السلطة، أو تلغيه السلطة القائمة ان وجدت انه لم يعد يعبر عن أوضاع جديدة تراها أو تنشئها أو تكون آلت إليها. أما ان يسقط ذاتيا ومن تلقاء ذاته بفعل ثوري لم يتول السلطة به أحد بعد، فهذا ما لا أظنه صوابا.
ونحن عندما ننظر في الوضع السياسي الحاضر من حيث مؤسسات الدولة بعد التعديلات التي جرت أخيرا بفعل الحركة الثورية القائمة، نلحظ أن رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزارة صارت في أيدي من يعبر عنهم الأستاذ ضياء رشوان «بالقلب الصلب» في أجهزة الدولة السيادية، ونلحظ ان السلطة التشريعية، رئاسة وأعضاء، هي في أيدي الحزب الوطني ولجنة السياسات وان الحزب الوطني ولجنة السياسات كانا هما الدعامة الرئيسية السياسية لتلك الجماعة المالية التي سيطرت على الدولة، خاصة في السنوات العشر الأخيرة عندما انفردت تماما بالسلطة عليها تحت حماية رئيس الجمهورية وولده.
ولا بد أن ندرك يقينا أن أجهزة الدولة المصرية عسكرية ومدنية هي ما كان عليه المعول في إدارة المجتمع المصري والنظر إليه في عمومه وإدراك توازناته وفقا لادراك لا بأس به، وأيا كان حجم النقص في ذلك وأيا كانت عيوبه، إلا أنه لا يقارن في ايجابياته بما آل إليه الوضع المتدني جدا بعد سيطرة «لجنة السياسات»، «بفكرها الجديد»، وان الحزب الوطني ولجنة سياساته هما ما عملا على هدم أجهزة الدولة المصرية وتفكيكها، وأضرا بالأوضاع السياسية والاقتصادية والمعيشية للمجتمع المصري اضرارا خطيرة جدا. ووفقا لهذا النظر السياسي ننظر في مسألة نقل السلطة من الرئيس حسني مبارك تحقيقا لمطلب الحركة الثورية القائمة الآن، في اطار أحكام الدستور القائم وكيفية تخلي الرئيس عن سلطته. وهذا الأمر بأحد طريقين دستوريين، إما التنحي بالاستقالة أو بالتفويض في سلطته إلى نائبه.
في حال التنحي بالاستقالة يجرى إعمال حكم المادة 84 من الدستور، وهى تنص على انه «في حالة خلو منصب رئيس الجمهورية أو عجزه الدائم عن العمل يتولى الرئاسة مؤقتا رئيس مجلس الشعب، وإذا كان المجلس منحلا حل محله رئيس المحكمة الدستورية العليا، وذلك بشرط ألا يرشح أيهما للرئاسة مع التقيد بأحكام الفقرة 82».
«ويعلن مجلس الشعب خلو منصب رئيس الجمهورية»..
«ويتم اختيار رئيس الجمهورية خلال مدة لا تتجاوز ستين يوما من تاريخ خلو منصب الرئاسة».
ويقتضي هذا النص ان السلطة في حالة التنحي بالاستقالة، ستؤول إلى رئيس مجلس الشعب، وإلى مجلس الشعب الذي يسيطر عليه الحزب الوطني ذو الأغلبية الكاسحة في مجلس الشعب، وذلك خلال الفترة الانتقالية. أي يؤول أمر الدولة في هذه الفترة الحرجة الحساسة، إلى القوة المؤسسية ذاتها التي أقصيت إلى حد ما عن السلطة في الأيام الأخيرة، وهى لا شك في هذه الفترة المؤقتة ستحاول العمل على استرداد ما فقدت. وان التعديلات الأخيرة التي جرت يوم السبت 5 شباط/ فبراير بإقصاء عدد من قيادات الحزب الوطني من مراكزهم القيادية، لا يعتبر ان نفوذهم قد زال عن الحزب وهم لا يزالون في هيئاته العليا، كما ان تشكيلات الحزب كلها جرت وانبنت على أيديهم.
والطريق الثاني لنقل السلطة والتخلي عنها هو طريق انابة رئيس الجمهورية لنائبه نائب رئيس الجمهورية طبقا للمادة 82 من الدستور بما اضيف إليها من أحكام في سنة 2007، وهى تنص على أنه «إذا قام مانع مؤقت يحول دون مباشرة رئيس الجمهورية لاختصاصاته اناب عنه نائب رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء عند عدم وجود نائب لرئيس الجمهورية أو تعذر نيابته عنه».
ولا يجوز لمن ينوب عن رئيس الجمهورية طلب تعديل الدستور أو حل مجلس الشعب أو مجلس الشورى أو إقالة الوزارة».
وبمقتضى هذا النص انه في حالة التفويض تنتقل سلطة رئيس الجمهورية إلى نائبه في جميع ما يملك من سلطات وردت بالدستور إلا ما استثني في هذا النص بالنسبة للمسائل الثلاث السابقة. وان سلطاته التي تؤول للنائب تعني أنها آلت لأجهزة إدارة الدولة ممثلة عسكريا ومدنيا في نائب الرئيس.
وإذا كان نائب رئيس الجمهورية عند التفوض لا يملك طلب تعديل الدستور، فإنه يمكن ان يتحقق هذا الطلب بقرار مستقل من رئيس الجمهورية قبل تنحيه. وعلى أي حال فإن خطاب رئيس الجمهورية الذي ألقاه في يوم الثلاثاء أول شباط/ فبراير والذي أقر فيه بعدم ترشحه للرئاسة بعد انتهاء مدته في خريف سنة 2011، هذا الخطاب تضمن طلبا منه إلى مجلس الشعب لتعديل المادتين 76 و77 من الدستور، ونحن نعرف في علم القانون ان القرارات الإدارية لا شكل لها إلا إذا شرط القانون لها شكلا معينا يبينه. لذلك فإن ما تضمنه هذا الخطاب بشأن المادتين المذكورتين يعتبر طلبا منه لتعديلهما، وهو في خطابه وجه هذا الطلب إلى مجلس الشعب. ومن ثم يعتبر قرارا مستوفيا لاركانه صادرا منه شخصيا بوصفه رئيسا للجمهورية.
ومن جهة ثانية، بالنسبة لعدم احقية نائب رئيس الجمهورية المفوض بسلطات الرئيس في إقالة الوزارة، فإن ذلك لا يشمل امكان اعفاء أي من الوزراء من مسؤوليته الوزارية واستبدال غيره به. لان اعفاء أي وزير بذاته لا يعتبر اقالة الوزارة. أي يمكنه ان يغير في الوزارة بالتجزئة.
أما حل مجلس الشعب أو مجلس الشورى، فإنه يمكن ان يستصدر القرار بذلك من رئيس الجمهورية مع إصداره قرار التفويض.
وفي هذا الصدد، وبالنسبة للطلب السياسي الخاص لحل مجلس الشعب، وهو المجلس الذي لم يجف مداد ما ارتكب في انتخاباته من تزوير فاحش، فإني اتصور ان هذا المطلب وان كانت الشرعية السياسية الكاملة لحركة ثورية نبيلة، إلا اني اشفق على الاجماع الوطني العام المتحقق الآن في المطالب الثورية المطروحة من تغيير عن النظام وتخلى الرئيس عن سلطته، اشفق على هذا الاجماع المطلوب استبقاؤه أطول مدة زمنية ممكنة، أن يتأثر بفعل ما ستمليه عملية انتخاب مجلس جديد من صراعات بين الأحزاب والجماعات السياسية المختلفة والأسر الريفية والمصالح الذاتية. لذلك اطرح على أصحاب هذا الطلب رجاء، بالنظر إلى تأخير تحقيقه إلى ما بعد تحقق المطالب الأخرى السريعة، وهي تخلي الرئاسة واستبدالها وإنهاء حالة الطوارئ وتحقيق ضمانات الحريات الشعبية وحق تكوين الأحزاب والجماعات السياسية بغير العوائق الواردة بالقانون الحالي طبقا للمادة 82.
نقطة أخرى أود إثارتها، وهي ان الدستور يتضمن حكما اعتمدنا دائما على المطالبة بإلغائه، لانه يدعم السلطة الفردية الاستبدادية لمن يتولى منصب رئيس الجمهورية، ولانه يخول الرئيس القفز على سلطات الدولة كلها لدعم قراراته الفردية. وقد استخدم الرئيس أنور السادات هذا الحكم الدستوري عددا من المرات لدعم سلطته الفردية، ومنها المرة التي استخدمت فيها ليدعم موقفه عندما وقع مع الإسرائيليين اتفاقية الصلح، المسماة باتفاقية كامب ديفيد، وليدعم موقفه ضد المعارضة التي تصاعدت ضده. هذا الحكم ورد بالمادة 47 من الدستور وتنص على أنه: «لرئيس الجمهورية إذا قام خطر يهدد الوحدة الوطنية أو سلامة الوطن أو يعوق مؤسسات الدولة عن أداء دورها الدستوري، ان يتخذ الإجراءات السريعة لمواجهة هذا الخطر، ويوجه بيانا إلى الشعب ويجري الاستفتاء على ما اتخذ من إجراءات خلال ستين يوما من اتخاذها».
وهذه السلطة ليست مما يمتنع ان يشملها قرار الإنابة الذي يصدره رئيس الجمهورية إلى نائبه في شأن تفويضه بسلطاته. ويمكن للنائب المفوض ان يستخدمها استجابة لمطالب الحركة الشعبية الثورية الوطنية إزاء ما تراه من تعديلات يراد اجراؤها في المرحلة المؤقتة القائمة، وحتى يوضع دستور جديد ديموقراطي كامل ــ إن شاء الله ــ بعد المرحلة الانتقالية.
(4)
وبعد فهذا «تقدير موقف» للحال الحاضر في هذه الأيام في هذه الساعات، ونحن في قلب حراك ثوري مبارك ــ إن شاء الله ــ وان على القائمين بأمر الدولة المصرية الآن ان يدركوا بعد ان خلصت لهم آلة الحكم من النهابين والبلطجية، لتعود دولة ذات إدارة ورشد، ان الشعب المصري هو من يدينون له بانفرادهم بالسلطة في مواجهة من اقتحموها في السنوات الماضية، وان عليهم ان يفسحوا لهذا الشعب وهيئاته الأهلية، وهو في النهاية الحامي لدولته بشرط ان يشارك فيها، إشرافا وتشكيلا للمؤسسات وتداولا للسلطة، وهو الشعب الذي يستند إليه ويعتمد عليه ويشرف أي قائم بالأمر أن يكون ممثلا له وخادما.
ونحن نريد من الحركة الثورية القائمة ان تبقى سيطرتها على الرأي العام المصري ووجودها بالشارع المصري في مدنه وأقاليمه، وأن تعمل على ان تتمأسس في تشكيلات تنظيمية قادرة على إبقاء هذه الحالة الثورية والتعبير عن تصميم الشعب المصري على التحرر من الاستبداد الداخلي وحكم الفرد المطلق أو حكم الأفراد القلائل، وتصميمه على مساندة حكومته في توجهها المطلوب لاسترداد الإرادة الوطنية المصرية وتحريرها من ضغوط الدولة الخارجية عليها، بخاصة الضغوط الأميركية والإسرائيلية.
ونحن نرنو إلى:
ــ إنهاء حالة الطوارئ.
ــ حرية تشكيل الأحزاب.
ــ إعادة بناء جهاز إدارة الدولة المصرية على أسس رشيدة وتشكيل مؤسسي صالح لأداء وظائف إدارة المجتمع المصري ومرافقه وسد حاجياته.
ــ إعادة الضمانات الوظيفية لرجال الدولة المصرية في هذا الجهاز، بحيث يمكنهم ممارسة نشاطهم في خدمة مرافق المجتمع وسد حاجياته برشد وكفاءة.
ــ ضمان حرية الانتخاب لرئاسة الجمهورية ولمجلسي البرلمان بعد حل مجلس الشعب.
ــ اتخاذ السياسات التي تسترد بها مصر ارادتها المستقلة عن الاملاءات الأميركية والإسرائيلية، واتخاذ السياسات الاقتصادية التي ترعى صالح الجماعة الوطنية المصرية بعيدا عن املاءات المنظمات المالية الدولية.
وان ما اذكره في «تقدير الموقف» هذا لا يعني الرضا بالاكتفاء بما ذكرت من بدائل، بل هو يعني ان يكون مساهمة في التعرف على حقيقة الأوضاع في اللحظة التاريخية التي نحياها هذه الأيام. والتي نريد أن نحقق بتجاوزها ما نستطيع من حرية واستقلالية.
حفظ الله مصر وألهمها الرشاد
والحمد لله.
14شباط/فبراير..دعوة إلكترونية لثورة إيرانية على خطى مصر
14 شباط/فبراير..دعوة إلكترونية لثورة إيرانية على خطى مصر
"
"نرجو من الجمهورية الإسلامية التي تعلن تأييدها للاحتجاجات الشعبية في المنطقة، لا سيما حركات التحرر في مصر وتونس، أن تسمح لنا بدعوة الإيرانيين للتظاهر السلمي في الشارع"، هذا هو مضمون رسالة الكترونية وجهها كلا من حسين موسوي ومهدي كروبي ،المعارضين البارزين في إيران، للمواطنين للتظاهر يوم الإثنين القادم 14-2-2011، تحت شعار " تضامناً مع خطى المحتجين في مصر".
فمع انتشار الاحتجاجات الشعبية التي تهز العالم العربي والمطالبة بالديمقراطية، لا سيما في مصر وتونس، وجدت المعارضة الإيرانية الفرصة مواتية للعودة من جديد إلى الشارع بعد عام من القمع الأمني للمعارضة في إيران، على خلفية الاحتجاجات على إعادة انتخاب الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد 2009، في خطوة قد تحرج الجمهورية الإٍسلامية التي أعلنت تأييدها للاحتجاجات في مصر.
ووجهت "الحركة الخضراء" المعارضة الإصلاحية في إيران، بقيادة كروبي وموسوي، اللذين تنافسا ضد الرئيس الإيراني نجاد في انتخابات الرئاسة 2009، طلباً أيضاً إلى وزارة الداخلية الإيرانية لأخذ التصاريح اللازمة للتظاهر.
وقد سبقت هذه الدعوة، عدد من طلبات المعارضة الإيرانية للتظاهر والتي قوبلت بالرفض من قبل السلطات الإيرانية، ولكن هذه المرة تراهن المعارضة على هذه الدعوة لإحراج الشخصيات المحافظة في إيران.
وقال أردشير أرجوماند، مستشار موسوي، "هذا اختبار صعب للجمهورية الإسلامية في إيران"، بحسب موقع صحيفة هيرالد تريبيون الأمريكية الثلاثاء 8-2-2011.
وأضاف أرجوماند " إذا لم يوافق المسئولون على التظاهر، فسيكون هذا علامة واضحة على نفاقهم مع شعبهم والشعوب الأخرى أيضاً.. وسيظهر من ناحية أخرى خشيتهم من دعم شعبية الشارع الإيراني لكروبي وموسوي".
وأشار "أنهم يخافون من الإقبال.. الذي حتماً سيكون عظيماً يوم الإثنين المقبل".
الجدير بالذكر أن المرشد الإيراني علي خامنئي، قد حرص على توجيه رسالة لدعم الحركات الإحتجاجية في مصر معتبراً أن تظاهرتهم هي " صحوة إسلامية" تشبه الثورة الإيرانية.
ولاقت الدعوة التي وجهها المعارضون الإيرانيون مهدي كروبي، وحسين موسوي، إقبالاً كبيراً على موقع التواصل الاجتماعي الشهير الفيس بوك، حيث اجتذبت أكثر من 12 ألف ناشط على الانترنت خلال يومين فقط من إرسال الدعوة.
وقال أحد الشباب من أنصار المعارضة، "الجميع كان يتساءل كيف يمكن أن يتخذ هؤلاء العرب موقفاً حازماً ضد السلطات القمعية في بلاده".
وتساءل "لماذا يمكن ذلك في تونس ومصر، وإيران لا؟"، مضيفاً أن "الفوز في ليلة 14 فبراير يتمثل في الصمود والإقامة في الشارع في هذا اليوم وهو ما يعني السيطرة على الشارع الإيراني".
وتابع "ولكن إذا كانت مجرد دعوة للصياح بكلمة "الله أكبر" والعودة إلى ديارنا.. فليس هناك داع من النزول".
وأصدر الرئيس الإيراني السابق الإصلاحي هاشمي رافسنجاني، في وقت سابق، بياناً علق فيه على الاحتجاجات الشعبية في مصر وتونس، قائلا فيه "أن الانتفاضات الشعبية لن تقتصر ابدأ على هذين البلدين (مصر وتونس).وأضاف رافسنجاني في بيانه "أن الصحوة العربية نحو الديمقراطية بدت وكأنها تستهدف جميع المتشددين"، واصفا الاحتجاجات الشعبية في مصر وتونس بأنها كانت "نار تحت رماد". وتابع "إن الأزمات في تونس ومصر تظهر أن السلطة إما إنها لم تسمع أصوات احتجاجات شعوبها أو لا ترغب في الاستماع لهم".
يشار إلى أن المعارضة الإيرانية قد قامت بمظاهرات كبيرة في عدة مدن في البلاد في أعقاب إعادة انتخاب نجاد لولاية رئاسية جديدة في عام 2009، متهمة النظام بالتزوير.وقمعت السلطات الإيرانية المحتجين، ما أدى إلى سقوط أعداد كبيرة من القتلى والجرحى، وأجريت محاكمات علنية لرموز المعارضة بتهمة "العمالة لقوى أجنبية".
"
"نرجو من الجمهورية الإسلامية التي تعلن تأييدها للاحتجاجات الشعبية في المنطقة، لا سيما حركات التحرر في مصر وتونس، أن تسمح لنا بدعوة الإيرانيين للتظاهر السلمي في الشارع"، هذا هو مضمون رسالة الكترونية وجهها كلا من حسين موسوي ومهدي كروبي ،المعارضين البارزين في إيران، للمواطنين للتظاهر يوم الإثنين القادم 14-2-2011، تحت شعار " تضامناً مع خطى المحتجين في مصر".
فمع انتشار الاحتجاجات الشعبية التي تهز العالم العربي والمطالبة بالديمقراطية، لا سيما في مصر وتونس، وجدت المعارضة الإيرانية الفرصة مواتية للعودة من جديد إلى الشارع بعد عام من القمع الأمني للمعارضة في إيران، على خلفية الاحتجاجات على إعادة انتخاب الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد 2009، في خطوة قد تحرج الجمهورية الإٍسلامية التي أعلنت تأييدها للاحتجاجات في مصر.
ووجهت "الحركة الخضراء" المعارضة الإصلاحية في إيران، بقيادة كروبي وموسوي، اللذين تنافسا ضد الرئيس الإيراني نجاد في انتخابات الرئاسة 2009، طلباً أيضاً إلى وزارة الداخلية الإيرانية لأخذ التصاريح اللازمة للتظاهر.
وقد سبقت هذه الدعوة، عدد من طلبات المعارضة الإيرانية للتظاهر والتي قوبلت بالرفض من قبل السلطات الإيرانية، ولكن هذه المرة تراهن المعارضة على هذه الدعوة لإحراج الشخصيات المحافظة في إيران.
وقال أردشير أرجوماند، مستشار موسوي، "هذا اختبار صعب للجمهورية الإسلامية في إيران"، بحسب موقع صحيفة هيرالد تريبيون الأمريكية الثلاثاء 8-2-2011.
وأضاف أرجوماند " إذا لم يوافق المسئولون على التظاهر، فسيكون هذا علامة واضحة على نفاقهم مع شعبهم والشعوب الأخرى أيضاً.. وسيظهر من ناحية أخرى خشيتهم من دعم شعبية الشارع الإيراني لكروبي وموسوي".
وأشار "أنهم يخافون من الإقبال.. الذي حتماً سيكون عظيماً يوم الإثنين المقبل".
الجدير بالذكر أن المرشد الإيراني علي خامنئي، قد حرص على توجيه رسالة لدعم الحركات الإحتجاجية في مصر معتبراً أن تظاهرتهم هي " صحوة إسلامية" تشبه الثورة الإيرانية.
ولاقت الدعوة التي وجهها المعارضون الإيرانيون مهدي كروبي، وحسين موسوي، إقبالاً كبيراً على موقع التواصل الاجتماعي الشهير الفيس بوك، حيث اجتذبت أكثر من 12 ألف ناشط على الانترنت خلال يومين فقط من إرسال الدعوة.
وقال أحد الشباب من أنصار المعارضة، "الجميع كان يتساءل كيف يمكن أن يتخذ هؤلاء العرب موقفاً حازماً ضد السلطات القمعية في بلاده".
وتساءل "لماذا يمكن ذلك في تونس ومصر، وإيران لا؟"، مضيفاً أن "الفوز في ليلة 14 فبراير يتمثل في الصمود والإقامة في الشارع في هذا اليوم وهو ما يعني السيطرة على الشارع الإيراني".
وتابع "ولكن إذا كانت مجرد دعوة للصياح بكلمة "الله أكبر" والعودة إلى ديارنا.. فليس هناك داع من النزول".
وأصدر الرئيس الإيراني السابق الإصلاحي هاشمي رافسنجاني، في وقت سابق، بياناً علق فيه على الاحتجاجات الشعبية في مصر وتونس، قائلا فيه "أن الانتفاضات الشعبية لن تقتصر ابدأ على هذين البلدين (مصر وتونس).وأضاف رافسنجاني في بيانه "أن الصحوة العربية نحو الديمقراطية بدت وكأنها تستهدف جميع المتشددين"، واصفا الاحتجاجات الشعبية في مصر وتونس بأنها كانت "نار تحت رماد". وتابع "إن الأزمات في تونس ومصر تظهر أن السلطة إما إنها لم تسمع أصوات احتجاجات شعوبها أو لا ترغب في الاستماع لهم".
يشار إلى أن المعارضة الإيرانية قد قامت بمظاهرات كبيرة في عدة مدن في البلاد في أعقاب إعادة انتخاب نجاد لولاية رئاسية جديدة في عام 2009، متهمة النظام بالتزوير.وقمعت السلطات الإيرانية المحتجين، ما أدى إلى سقوط أعداد كبيرة من القتلى والجرحى، وأجريت محاكمات علنية لرموز المعارضة بتهمة "العمالة لقوى أجنبية".
الدول العربية أمام رياح الثورة.. ترتعش..تترقب..لا تبالي
الدول العربية أمام رياح الثورة.. ترتعش..تترقب..لا تبالي
تشترك الدول العربية كلها هذه الأيام في أن عيونها تتسمر أمام شاشات التلفاز وهي تتابع الثورة المصرية، غير أنها تختلف في أن من هذه الدول من تتابعها بقلوب مرتجفة وفرائص مرتعشة من أن تكون هي الحلقة التالية في مسلسل الثورات المفاجئة، وأخرى تتابعها بنظرات حذرة، والبقية تتابعها في حالة من اللامبالاة.
وتشمل الفئة الأولى "المرتعشة": اليمن والأردن وموريتانيا والعراق، والفئة الثانية "الحذرة": سوريا والسودان وموريتانيا والسعودية والكويت والمغرب، والفئة الثالثة "اللامبالية": سلطنة عمان والإمارات والبحرين وقطر وجيبوتي وجزر القمر والصومال.
وبالإضافة إلى هذا التقسيم للدول العربية من حيث مدى خوفها أو لامبالاتها من أن تصلها عدوى الثورة الشعبية، فإن دوافع هذه الثورة أو الاحتجاجات الشعبية أياً كانت درجتها تختلف من منطقة لأخرى في الدول العربية؛ ففي بعض دول الخليج تدفعها مطالب تقتصر على إتاحة الحريات السياسية وإعادة توزيع الثروات، أما في بقية الدول فهي مدفوعة، إضافة إلى الحريات وتوزيع الثروات، بمطالب مكافحة الفقر والفساد والقمع الأمني.
دول "ترتعش"
في مقدمتها اليمن التي خرجت بالفعل إلى شوارعها مظاهرات احتشد فيها الآلاف، تطالب بتغييرات سياسية واقتصادية جذرية، لم تصل بعد لحد رحيل النظام "الآن"، وهو ما جعلت الرئيس على عبد الله صالح يسارع بشكل مفاجئ إلى عقد اجتماع استثنائي مشترك لمجلسي النواب والشورى يعلن فيه تراجعه عن نيه الترشح للانتخابات الرئاسية القادمة عام 2013، ويؤكد أن ابنه أحمد (رئيس الحرس الجمهوري) لن يخلفه كما كان شائعاً في الشارع اليمني، وأنه يستجيب لمطلب المعارضة بتأجيل إجراء الانتخابات النيابية لحين تغيير القانون الانتخابي.
ورداً على ذلك طالبته المعارضة بتنفيذ هذه التعهدات، وإقالة أفراد أسرته من المناصب الحساسة التي تمكنها من المشاركة في إدارة البلاد مثل قيادات الأمن والجيش.
وفي الأردن استجاب العاهل الأردني، الملك عبد الله الثاني، لإلحاح المظاهرات المتلاحقة بإقالة حكومة سمير الرفاعي، وعين حكومة برئاسة معروف البخيت، غير أن المعارضة ما زالت تدعوه إلى إطلاق "مسيرة إصلاح سياسي حقيقي، وليس مجرد تغيير الوجوه".
وفي العراق أعلن رئيس الوزراء نوري المالكي، أنه لن يجدد ولايته لفترة ثالثة بعد انتهاء ولايته الحالية عام 2014، بعد أن سبق وأعلن خفض راتبه إلى النصف لتقليل التفاوت الحاصل بين رواتب الموظفين في مؤسسات الدولة، وكان أحد أعواد الثقاب التي أشعلت الاحتجاجات الشعبية في أنحاء متعددة من العراق.
وتشهد الشوارع العراقية بين حين وآخر في الأسابيع الأخيرة مظاهرات تندد بتفشي الفقر والتفاوت الطبقي، إضافة إلى البطالة التي ضربت رقماً قياسياً وصل إلى 45%.
أما في أقاصي المغرب العربي فقد سارع الرئيس الجزائري، عبد العزيز بوتفليقة، فور نشوب الثورة في جارته تونس إلى إلغاء زيادة الأسعار في عدد من السلع الرئيسية، وعند وصول الثورة إلى مصر اتخذ قراراً طالما صم أذنيه عن الاستجابة للمطالبين به وهو العمل على إلغاء حالة الطوارئ المعلنة منذ 19 عاما، إضافة إلى إعطاء جميع الأحزاب السياسية قنوات لها في الإذاعة والتلفزيون، والسماح بممارسة حق التظاهر والمسيرات الاحتجاجية.
غير أن هذه القرارات لم تثنِ عزم جماعات حقوقية وشبابية عن الدعوة إلى مسيرة احتجاجية يوم السبت 12 فبراير الجاري، وذلك رغم أن المسيرات في الجزائر ما زالت محظورة.
وسبق أن خرجت احتجاجات عفوية إلى الشارع بعد الإعلان عن ارتفاع أسعار أساسية فيما عرف بـ"انتفاضة الزيت والسكر" سقط فيها قتلى وجرحى.
ونفس الأمر في جارتها موريتانيا التي دعا رئيسها، محمد ولد عبد العزيز، قبل أيام حكومته لاتخاذ إجراءات "عاجلة" لاحتواء ارتفاع أسعار المواد الغذائية مثل السكر والزيت والحليب، خاصة مع خروج مظاهرات من حين لآخر تحتج على مستويات المعيشة والفساد، منها مظاهرة وصلت إلى القصر الرئاسي الأسبوع الماضي.
دول تحترز
وإن كانت هذه الدول قد وصلتها شرارات الثورة بالفعل فإن دولاً عربية أخرى تعمل على إقامة الحواجز والسدود لمنعها من الوصول، مثل المغرب، التي ورغم تأكيد مسئوليه على أنه لن يتأثر بثورتي مصر وتونس، إلا أنه من جانب آخر أعلنت السلطات فيه عزمها الاستمرار في دعم المواد الأساسية مثل الطحين والسكر والزيت وغاز البوتان لمنع ارتفاع أسعارها.
ورغم عدم خروج أي مظاهرات احتجاجية، ولو ضئيلة، في المغرب حتى الآن إلا أنه شهد مسيرات نظمها مغاربة ومصريون تضامناً مع الثورة المصرية، كما قال الأمير مولاي هشام، الملقب بالأمير الأحمر لمواقفه المعارضة للنظام الحاكم إن الاحتجاجات التي تهز دولاً العربية الآن "لم تصل بعد إلى المغرب ولكنه لن يُستثنى منها على الأرجح".
وعلى وقع الثورة في جارتها تونس أعلنت ليبيا، التي يحكمها العقيد معمر القذافي منذ ما يزيد على 40 عاما، والتي تحظر إنشاء أحزاب أو حركات معارضة إلى سد فوهة انفجار شعبي قادم بإنشاء صندوق للاستثمار والتنمية المحلية برأسمال 24 مليار دولار، يركز على بناء منازل لتلبية حاجات سكانها الذين يتزايدون بمعدل سريع.
وأتى هذا الإجراء بعد قرارات سابقة بتخفيض الرسوم الجمركية على المنتجات الغذائية وخفض أسعار مختلف المواد الأساسية.
وفي الكويت التي تشهد بالفعل منذ فترة سجالاً حاداً بين الحكومة والمعارضة أطلق شباب كويتيون الأسبوع الماضي دعوة لتنظيم تظاهرة كبيرة أمام مبنى مجلس الأمة؛ للمطالبة بإسقاط الحكومة ومحاسبة وزير الداخلية.
والشباب الذين يشكلون مجموعة أطلقوا عليها اسم "السياج الخامس"، قالوا إنهم يروجون لدعوتهم عبر شبكة التدوين والتواصل "تويتر"؛ احتجاجاً على الممارسات "غير الديمقراطية" خاصة بعد وفاة المواطن الكويتي محمد المطيري (35 عاما) نتيجة التعذيب في مركز للشرطة.
سوريا يجتهد رئيسها، بشار الأسد، الذي "ورث" المنصب عن والده حافظ الأسد في التأكيد أمام الداخل والخارج على أنها في منأى عن الاحتجاجات الشعبية، حتى أنه قال لصحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية إن سوريا "محصنة مما يحدث في تونس ومصر"، وذلك لأنها تتبع "إصلاحاً تدريجياً" منذ فترة طويلة.
غير أن دعوات صدرت بالفعل من داخل سوريا للخروج في مسيرات احتجاجية، إلا أنها لم تلقَ استجابة، ورغم ذلك بدت مخاوف السلطات من ظهور محاولات أخرى لتحفيز الناس على التظاهر، حتى أنها سعت لإجهاض وقفة سلمية نظمها سوريون للتضامن مع الشعب المصري نهاية الأسبوع الماضي بالضرب على أيدي الشرطة.
ويحكم حزب البعث سوريا منذ 50 عاما، ويحظر أي معارضة، ويفرض قانوناً للطوارئ، ولا يسمح بأي احتجاجات لا تنظمها الحكومة.
وفي السعودية دفعت الثورتان المصرية والتونسية بتغير مفاجئ في سلوك المواطنين السعوديين؛ حيث أطلق ناشطون سعوديون حملة شعبية هي الأولى من نوعها على "فيس بوك" اتخذت شعارا مستلهما من الثورتين، وهو "الشعب يريد إصلاح النظام"، ولم تصل الحملة إلى حد المطالبة بـ"إسقاط النظام".
وقال الناشطون إن حملتهم تطالب بتحقيق إصلاحات جذرية منها قيام ملكية دستورية تفصل بين الملكية والحكم، وإجراء انتخابات تشريعية وإطلاق الحريات العامة، والتوزيع العادلة للثورة ومعالجة البطالة.
وفيما بدا استباقاً لتحول الحملة إلى احتجاجات قوية في الشارع اعتبر مفتى المملكة، عبد العزيز آل الشيخ، أن المظاهرات والاحتجاجات ليست سوى "خطط مدبرة، يسعى من خلالها أعداء الأمة إلى تفكيك الدول الكبرى إلى دول صغيرة متخلفة".
غير أن هذا الرأي خالفه- في خطوة نادرة- عضو هيئة كبار العلماء الشيخ صالح اللحيدان الذي أعلن تضامنه مع ثورة الشعب المصري لدرجة وصلت لمطالبته الرئيس المصري حسنى مبارك بترك السلطة؛ رحمةً بشعبه وحفظاً للدماء.
في وادٍ آخر
وبخلاف الكويت والسعودية بدت دول أخرى، معظمها خليجية، في وادٍ آخر بعيد عما يجري في مصر وتونس؛ ففي الإمارات لم يظهر أي حراك شعبي يعكس التأثر بالثورتين، كما لم يحدد النظام الحاكم هناك موقفاً واضحاً مما يجري في مصر بشكل خاص، وخرج من وزير الخارجية، الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان، تصريح وحيد خلال زيارته مؤخراً للعراق طالب فيه دولا لم يسمها بعدم التدخل في شئون مصر، كما أكد حرص بلاده على استقرار مصر "أياً كانت حكومتها".
وكذلك الأمر في سلطنة عمان التي لم يخرج منها تصريح رسمي عما يجري في مصر، كما لم يتحرك الشارع العماني للاحتجاج ضد حكومته في أي أمر من الأمور، إلا أنه صدر بيان من مثقفين عمانيين وعرب يؤكد تضامنهم مع الشعب المصري في "ثورته المشروعة".
وفي البحرين أيضاً لم تظهر في شوارعها أي احتجاجات شعبية على النظام الحاكم، غير أن عدداً من الجمعيات السياسية وجهت دعوة إلى الحكومة البحرينية بـ"الاستجابة الفورية للمطالب العادلة للشعب البحريني في الديمقراطية والعدالة والشراكة في السلطة والثروة، وإنهاء كل أوجه الاستبداد والفساد"، محذرين من أن "التاريخ لا يرحم المتخلفين الذين لا يستوعبون دروسه والذين عاندوه كما فعل النظام المصري".
تشترك الدول العربية كلها هذه الأيام في أن عيونها تتسمر أمام شاشات التلفاز وهي تتابع الثورة المصرية، غير أنها تختلف في أن من هذه الدول من تتابعها بقلوب مرتجفة وفرائص مرتعشة من أن تكون هي الحلقة التالية في مسلسل الثورات المفاجئة، وأخرى تتابعها بنظرات حذرة، والبقية تتابعها في حالة من اللامبالاة.
وتشمل الفئة الأولى "المرتعشة": اليمن والأردن وموريتانيا والعراق، والفئة الثانية "الحذرة": سوريا والسودان وموريتانيا والسعودية والكويت والمغرب، والفئة الثالثة "اللامبالية": سلطنة عمان والإمارات والبحرين وقطر وجيبوتي وجزر القمر والصومال.
وبالإضافة إلى هذا التقسيم للدول العربية من حيث مدى خوفها أو لامبالاتها من أن تصلها عدوى الثورة الشعبية، فإن دوافع هذه الثورة أو الاحتجاجات الشعبية أياً كانت درجتها تختلف من منطقة لأخرى في الدول العربية؛ ففي بعض دول الخليج تدفعها مطالب تقتصر على إتاحة الحريات السياسية وإعادة توزيع الثروات، أما في بقية الدول فهي مدفوعة، إضافة إلى الحريات وتوزيع الثروات، بمطالب مكافحة الفقر والفساد والقمع الأمني.
دول "ترتعش"
في مقدمتها اليمن التي خرجت بالفعل إلى شوارعها مظاهرات احتشد فيها الآلاف، تطالب بتغييرات سياسية واقتصادية جذرية، لم تصل بعد لحد رحيل النظام "الآن"، وهو ما جعلت الرئيس على عبد الله صالح يسارع بشكل مفاجئ إلى عقد اجتماع استثنائي مشترك لمجلسي النواب والشورى يعلن فيه تراجعه عن نيه الترشح للانتخابات الرئاسية القادمة عام 2013، ويؤكد أن ابنه أحمد (رئيس الحرس الجمهوري) لن يخلفه كما كان شائعاً في الشارع اليمني، وأنه يستجيب لمطلب المعارضة بتأجيل إجراء الانتخابات النيابية لحين تغيير القانون الانتخابي.
ورداً على ذلك طالبته المعارضة بتنفيذ هذه التعهدات، وإقالة أفراد أسرته من المناصب الحساسة التي تمكنها من المشاركة في إدارة البلاد مثل قيادات الأمن والجيش.
وفي الأردن استجاب العاهل الأردني، الملك عبد الله الثاني، لإلحاح المظاهرات المتلاحقة بإقالة حكومة سمير الرفاعي، وعين حكومة برئاسة معروف البخيت، غير أن المعارضة ما زالت تدعوه إلى إطلاق "مسيرة إصلاح سياسي حقيقي، وليس مجرد تغيير الوجوه".
وفي العراق أعلن رئيس الوزراء نوري المالكي، أنه لن يجدد ولايته لفترة ثالثة بعد انتهاء ولايته الحالية عام 2014، بعد أن سبق وأعلن خفض راتبه إلى النصف لتقليل التفاوت الحاصل بين رواتب الموظفين في مؤسسات الدولة، وكان أحد أعواد الثقاب التي أشعلت الاحتجاجات الشعبية في أنحاء متعددة من العراق.
وتشهد الشوارع العراقية بين حين وآخر في الأسابيع الأخيرة مظاهرات تندد بتفشي الفقر والتفاوت الطبقي، إضافة إلى البطالة التي ضربت رقماً قياسياً وصل إلى 45%.
أما في أقاصي المغرب العربي فقد سارع الرئيس الجزائري، عبد العزيز بوتفليقة، فور نشوب الثورة في جارته تونس إلى إلغاء زيادة الأسعار في عدد من السلع الرئيسية، وعند وصول الثورة إلى مصر اتخذ قراراً طالما صم أذنيه عن الاستجابة للمطالبين به وهو العمل على إلغاء حالة الطوارئ المعلنة منذ 19 عاما، إضافة إلى إعطاء جميع الأحزاب السياسية قنوات لها في الإذاعة والتلفزيون، والسماح بممارسة حق التظاهر والمسيرات الاحتجاجية.
غير أن هذه القرارات لم تثنِ عزم جماعات حقوقية وشبابية عن الدعوة إلى مسيرة احتجاجية يوم السبت 12 فبراير الجاري، وذلك رغم أن المسيرات في الجزائر ما زالت محظورة.
وسبق أن خرجت احتجاجات عفوية إلى الشارع بعد الإعلان عن ارتفاع أسعار أساسية فيما عرف بـ"انتفاضة الزيت والسكر" سقط فيها قتلى وجرحى.
ونفس الأمر في جارتها موريتانيا التي دعا رئيسها، محمد ولد عبد العزيز، قبل أيام حكومته لاتخاذ إجراءات "عاجلة" لاحتواء ارتفاع أسعار المواد الغذائية مثل السكر والزيت والحليب، خاصة مع خروج مظاهرات من حين لآخر تحتج على مستويات المعيشة والفساد، منها مظاهرة وصلت إلى القصر الرئاسي الأسبوع الماضي.
دول تحترز
وإن كانت هذه الدول قد وصلتها شرارات الثورة بالفعل فإن دولاً عربية أخرى تعمل على إقامة الحواجز والسدود لمنعها من الوصول، مثل المغرب، التي ورغم تأكيد مسئوليه على أنه لن يتأثر بثورتي مصر وتونس، إلا أنه من جانب آخر أعلنت السلطات فيه عزمها الاستمرار في دعم المواد الأساسية مثل الطحين والسكر والزيت وغاز البوتان لمنع ارتفاع أسعارها.
ورغم عدم خروج أي مظاهرات احتجاجية، ولو ضئيلة، في المغرب حتى الآن إلا أنه شهد مسيرات نظمها مغاربة ومصريون تضامناً مع الثورة المصرية، كما قال الأمير مولاي هشام، الملقب بالأمير الأحمر لمواقفه المعارضة للنظام الحاكم إن الاحتجاجات التي تهز دولاً العربية الآن "لم تصل بعد إلى المغرب ولكنه لن يُستثنى منها على الأرجح".
وعلى وقع الثورة في جارتها تونس أعلنت ليبيا، التي يحكمها العقيد معمر القذافي منذ ما يزيد على 40 عاما، والتي تحظر إنشاء أحزاب أو حركات معارضة إلى سد فوهة انفجار شعبي قادم بإنشاء صندوق للاستثمار والتنمية المحلية برأسمال 24 مليار دولار، يركز على بناء منازل لتلبية حاجات سكانها الذين يتزايدون بمعدل سريع.
وأتى هذا الإجراء بعد قرارات سابقة بتخفيض الرسوم الجمركية على المنتجات الغذائية وخفض أسعار مختلف المواد الأساسية.
وفي الكويت التي تشهد بالفعل منذ فترة سجالاً حاداً بين الحكومة والمعارضة أطلق شباب كويتيون الأسبوع الماضي دعوة لتنظيم تظاهرة كبيرة أمام مبنى مجلس الأمة؛ للمطالبة بإسقاط الحكومة ومحاسبة وزير الداخلية.
والشباب الذين يشكلون مجموعة أطلقوا عليها اسم "السياج الخامس"، قالوا إنهم يروجون لدعوتهم عبر شبكة التدوين والتواصل "تويتر"؛ احتجاجاً على الممارسات "غير الديمقراطية" خاصة بعد وفاة المواطن الكويتي محمد المطيري (35 عاما) نتيجة التعذيب في مركز للشرطة.
سوريا يجتهد رئيسها، بشار الأسد، الذي "ورث" المنصب عن والده حافظ الأسد في التأكيد أمام الداخل والخارج على أنها في منأى عن الاحتجاجات الشعبية، حتى أنه قال لصحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية إن سوريا "محصنة مما يحدث في تونس ومصر"، وذلك لأنها تتبع "إصلاحاً تدريجياً" منذ فترة طويلة.
غير أن دعوات صدرت بالفعل من داخل سوريا للخروج في مسيرات احتجاجية، إلا أنها لم تلقَ استجابة، ورغم ذلك بدت مخاوف السلطات من ظهور محاولات أخرى لتحفيز الناس على التظاهر، حتى أنها سعت لإجهاض وقفة سلمية نظمها سوريون للتضامن مع الشعب المصري نهاية الأسبوع الماضي بالضرب على أيدي الشرطة.
ويحكم حزب البعث سوريا منذ 50 عاما، ويحظر أي معارضة، ويفرض قانوناً للطوارئ، ولا يسمح بأي احتجاجات لا تنظمها الحكومة.
وفي السعودية دفعت الثورتان المصرية والتونسية بتغير مفاجئ في سلوك المواطنين السعوديين؛ حيث أطلق ناشطون سعوديون حملة شعبية هي الأولى من نوعها على "فيس بوك" اتخذت شعارا مستلهما من الثورتين، وهو "الشعب يريد إصلاح النظام"، ولم تصل الحملة إلى حد المطالبة بـ"إسقاط النظام".
وقال الناشطون إن حملتهم تطالب بتحقيق إصلاحات جذرية منها قيام ملكية دستورية تفصل بين الملكية والحكم، وإجراء انتخابات تشريعية وإطلاق الحريات العامة، والتوزيع العادلة للثورة ومعالجة البطالة.
وفيما بدا استباقاً لتحول الحملة إلى احتجاجات قوية في الشارع اعتبر مفتى المملكة، عبد العزيز آل الشيخ، أن المظاهرات والاحتجاجات ليست سوى "خطط مدبرة، يسعى من خلالها أعداء الأمة إلى تفكيك الدول الكبرى إلى دول صغيرة متخلفة".
غير أن هذا الرأي خالفه- في خطوة نادرة- عضو هيئة كبار العلماء الشيخ صالح اللحيدان الذي أعلن تضامنه مع ثورة الشعب المصري لدرجة وصلت لمطالبته الرئيس المصري حسنى مبارك بترك السلطة؛ رحمةً بشعبه وحفظاً للدماء.
في وادٍ آخر
وبخلاف الكويت والسعودية بدت دول أخرى، معظمها خليجية، في وادٍ آخر بعيد عما يجري في مصر وتونس؛ ففي الإمارات لم يظهر أي حراك شعبي يعكس التأثر بالثورتين، كما لم يحدد النظام الحاكم هناك موقفاً واضحاً مما يجري في مصر بشكل خاص، وخرج من وزير الخارجية، الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان، تصريح وحيد خلال زيارته مؤخراً للعراق طالب فيه دولا لم يسمها بعدم التدخل في شئون مصر، كما أكد حرص بلاده على استقرار مصر "أياً كانت حكومتها".
وكذلك الأمر في سلطنة عمان التي لم يخرج منها تصريح رسمي عما يجري في مصر، كما لم يتحرك الشارع العماني للاحتجاج ضد حكومته في أي أمر من الأمور، إلا أنه صدر بيان من مثقفين عمانيين وعرب يؤكد تضامنهم مع الشعب المصري في "ثورته المشروعة".
وفي البحرين أيضاً لم تظهر في شوارعها أي احتجاجات شعبية على النظام الحاكم، غير أن عدداً من الجمعيات السياسية وجهت دعوة إلى الحكومة البحرينية بـ"الاستجابة الفورية للمطالب العادلة للشعب البحريني في الديمقراطية والعدالة والشراكة في السلطة والثروة، وإنهاء كل أوجه الاستبداد والفساد"، محذرين من أن "التاريخ لا يرحم المتخلفين الذين لا يستوعبون دروسه والذين عاندوه كما فعل النظام المصري".
الأحد، 6 فبراير 2011
أول الطريق إلى التغيير....أول الطريق إلى الحرية
تحية إلى شعبي تونس ومصر وثورتيهما
بقلم: كريم مروة
إنه حدث العصر هذا الذي بدأ في تونس وحقق إنجازاً تاريخياً غير مسبوق في المنطقة. إنه الحدث الذي استقر في مصر، أم الدنيا. ثم كبر الحدث، وكبرت معه أحلام شباب مصر ، وكبر معه وعيهم، وكبرت إرادتهم، وأصبحوا مؤهلين بكفاءة، استناداً إلى قدراتهم الذاتية، لإنجاز ذلك التغيير الذي انتظروه طويلاً، التغيير الديمقراطي في معانيه ومضامينه المعاصرة. وهو التغييرالذي خذلتهم، وخذلت أخوانهم في البلدان العربية الأخرى، لأسباب موضوعية وذاتية، حركات نادت بالتغيير بأسمائه وبمرجعياته المختلفة وبالمشاريع وبالإتجاهات وبالأيديولوجيات المتصلة بها. وهي مشاريع تعددت صيغها وتنوعت وسائل وأدوات التعبير عنها لدى كل من هذه الحركات. إذ كانت قد بدأت تلك الحركات تتراجع وتضعف وتفقد دورها الذي كان مجيداً في زمن سابق الواحدة منها تلو الأخرى، حتى قبل حدوث الإنهيار الكبير للتجربة الإشتراكية. ثم صارت تتحول جميعها، أو معظمها، بنسب متفاوتة بعد ذلك الإنهيار المدوي، إلى قوى ضعيفة الوزن والتأثير. واحتلت مكانها الأصلي، بفعل ضعفها وتراجعها قوى من نوع آخر، قوى ديماغوجية وسلفية من أنواع شتى مختلفة ومتناقضة غير ذات صلة بالتغيير بمضمونه الديمقراطي. ومعظم تلك القوى يحمل مشاريع تصب في الإتجاه النقيض لهذا التغيير.
لهذا الحدث التاريخي، في تونس وفي مصر- والبقية ستأتي عاجلاً أم آجلاًً لتشمل كل أنظمة الإستبداد في المنطقة - أبطال كانوا مجهولين ثم صاروا ملء السمع والبصر. إنهم أبطال من طبيعة مختلفة عما ساد من بطولات في تاريخ عالمنا العربي، أبطال تعددت نماذجهم، وتعددت سمات حركاتهم، وتعددت المصادر والمواقع الإجتماعية التي جاءوا منها إلى ذلك الحدث التاريخي الكبير. إنهم مجموعات من كتل كبيرة غير منتمية من الشباب والمثقفين والعمال، ومن الهامشيين أيضاً، الذين أتعبهم الصبر على طول المعاناة من الظلم والإستبداد والفساد، وأرهقهم الصبر الطويل على الجوع إلى الخبز والحرية. تلاقوا متحدين، من دون أن يعرفوا بالضرورة بعضهم بعضاً إلا بالكلمة والصورة والصوت من بعيد. تلاقوا في ثورة عفوية، في تونس أولاً استجابة لصرخة الشهيد بو عزيزي، ثم صاروا، بعد تحقيق معجزتهم غير المسبوقة بإطاحة نظام استبداد دام واحداً وثلاثين عاماً، نموذجاً لسواهم في عالم عربي مقهورة شعوبه حتى التخمة بأنظمة استبداد أدخلتها في الجوع وفي الهزائم وفي الخراب. وهي أنظمة جمهورية استبدادية، وراثية كذلك، لم يتوقف قادتها وزبانيتهم على امتداد عقود عن نهب شعوبهم وتخريب بلدانهم وإخراجها من التاريخ، ووضعها بالفساد وبالخراب على هامش هذا العصر الغريب، الذاهب إلى مستقبل مختلف غامض المعالم.
لقد حصلت المعجزة، وانفتح التاريخ في عالمنا العربي على حقبة جديدة مضيئة. شق شباب تونس ومثقفوه وعماله الطريق إلى مستقبل مختلف. وبات على شباب مصر ومثقفيها وعمالها أن يتابعوا المسيرة. وها هم يخوضون المعركة بشجاعة وكفاءة نادرتين. لكن السر في المعجزة التي نشهدها في مصر بعد تونس إنما تكمن في عفوية الحركة التي جمعت هذا العدد الهائل من الشباب والمثقفين والعمال في وحدة غير مسبوقة من العلاقة بين أناس متنوعي النماذج والأنماط والمواقع الإجتماعية. وهذه العفوية في حركة هذه الكتل الجماهيرية الشابة في معظمها، هي عفوية مختلفة اختلافاً جذرياً، كما تشير إلى ذلك الوقائع، عن العفويات التي سادت في حركات ثورية سابقة في تاريخ العالم، وانتهت، بسبب عفويتها الساذجة الفوضوية تلك، إلى الهزيمة والفشل. عفوية الحركة الجديدة، في تونس، ثم في مصر على وجه الخصوص، ثم في إرهاصاتها في بلدان عربية أخرى، هي أنها عفوية يرتقي فيها الوعي إلى درجة عالية من المسؤولية في طبيعة التحرك السلمي، وفي نوع الشعارات التي تحدد بدقة الهدف المبتغى من التحرك. وهذا الإرتقاء في الوعي هو الذي استطاع أن يحبط كل المحاولات التي لجأ إليها أركان النظامين وزبائنهما، في تونس وفي مصر، لإفساد الحركة ولتشويه طبيعتها، ثم لدفعها، بسبب هذه التشويهات، إلى الفشل في تحقيق أهدافها. غير أن هذا الإرتقاء ذاته، في وعي الشباب والمثقفين والعمال غير المنتمين، أبطال هذه الحركة، هو الذي جعلهم يستوعبون في حركتهم، من دون تزمت أو تطرف أو محاولة إقصاء، كل الذين انضموا إلى الحركة من جهات ومصالح وأهداف سياسية مختلفة، قديمة وجديدة، إما للإلتحاق بها تحت شعاراتها في هذا الإتجاه أو ذاك، وإما بهدف الإستيلاء عليها في هذا الإتجاه أو ذاك، وإما لدفع التحرك في اتجاه المغامرة التي تقوده إلى نقيض أهدافه.
وفي الواقع فإن من أهم الدلالات التي تشير إليها هذه السمات التي تميزت بها هذه الحركة، هو أن الشباب على وجه الخصوص، إذ استطاعوا أن يلتقوا بكثافة في المواقع الإلكترونية ويناقشوا همومهم ويحددوا أهدافهم، فقد استطاعوا فيما يشبه السحر القفز فوق الحواجز التي وضعتها أمامهم تدابير القمع بكل أشكالها لمنعهم من الإلتقاء الجسدي المباشر. وها هم ينتقلون من المواقع الإلكترونية إلى ساحات مصر التي تتسع لملايينهم الغاضبة الثائرة.
بهذه السمات كلها، بأنواعها المختلفة، وفي قمة الشعور بالحاجة إلى الثورة من أجل التغيير خرجت تلك الكتل البشرية في شجاعة وتصميم نادرين لتحقيق ذلك التغيير الذي طال انتظاره. وإذا كان من الطبيعي أن تخرج هذه الكتل البشرية في حركتها الثورية الجديدة غير المسبوقة في نوعها وطبيعتها وقواها لتحقيق أهدافها، بعد طول صبر وانتظار، فقد كان من غير الطبيعي أن يطول ذلك الإنتظار لتحقيق هذا الخروج في اتجاه هذا التغيير.
لقد سقط نظام زين العابدين بن علي. وهو نظام جاءت به، في غفلة من الزمان وبالتواطؤ وبالقسر، قوى من داخل تونس ومن خارجها. سقط ولن يعود. ومن المؤكد أن نظام حسني مبارك سيسقط هو الآخر، تلبية قسرية لإرادة هذا الحشد المليونيّ الهائل من جماهير مصر المصممة على تحرير نفسها وتحرير بلدها من هذا النظام الذي استولى بالعسف على مقدرات مصر، وعلى موقعها وعلى دورها التاريخي. هذا ما تقوله الجماهير التي تحتل ساحات المدن المصرية وتنادي بالهتاف المدوي بسقوط النظام وبسقوط رموزه. لم يعد حسني مبارك قادراً على المناورة طويلاً، حتى ولو تأخر في الإستجابة لإرادة الشعب المصري الثائر. ولعله بالتباطؤ والتحايل يريد من شعب مصر أن يسامحه ويسمح له شخصياً بالبقاء في مصر ليمضي فيها ما تبقى له من أعوام ويموت فيها كما قال، بدلاً من أن يخرج ذليلاً مثل من سبقوه إلى ذلك، بن علي وشاه إيران.
ومن المؤكد أن للتغيير في مصر شروطاً تختلف عنه في تونس. فمصر هي دولة كبرى لا يمكن لأي تغيير فيها إلا أن يأخذ في الإعتبار كونها دولة كبرى في كل المعاني.
ستعود مصر حتماً إلى موقعها. ستعود إلى الدور الذي اضطلعت به على امتداد تاريخها الطويل. فغياب مصر خلال هذه العقود الأربعة عن دورها التاريخي لم يضعفها وحدها وحسب كدولة كبرى، بل هو أضعف كل العالم العربي، وجعله دولاً متفرقة، خارج التأثير، تابعة، ملحقة، غير ذات وزن وتأثير في ما يجري من أحداث في المنطقة وخارجها، عاجزة عن الصمود في مواجهة المشاريع التي تحضر لها من المنطقة ومن خارجها ضد مصالحها وضد مصالح شعوبها.
إن ما حصل في تونس، وما هو حاصل في مصر، هو أول الطريق إلى مستقبل مختلف للبلدين العربيين ولسائر بلداننا العربية. ذلك أن التغيير هو الحتمية التاريخية التي لا جدال فيها. غير أن حتمية التغيير لا تعني إختراق وتجاوز الشروط الموضوعية التي لا بد لأية حركة في اتجاه التغيير أن تأخذها في الإعتبار. فإذا كان التغيير هو الحقيقة المطلقة، فإن طبيعة هذا التغيير ووجهاته وصيغه وأهدافه هي دائماً نسبية. إذ هي تخضع جميعها بالضرورة لشروط الزمان والمكان، ولشروط الوعي البشري بهما.
إن من حق شباب تونس ومثقفيها وعمالها علينا أن نحيّي فيهم شجاعتهم وبطولتهم ووعيهم، ونحيي إنجازهم التاريخي. ومن حقنا عليهم أن يحافظوا على انتصارهم، وأن يستمروا في هذا الإرتقاء الرائع في وعيهم بمسؤوليتهم. ذلك أن إسقاط نظام الإستبداد لا يكفي وحده لتحقيق الإنتقال إلى مستقبل مختلف. إنه أول الطريق إلى الحرية، أول الطريق إلى التغيير. أما بقية الطريق فستكون هي الأكثر صعوبة.
إن شباب مصر ومثقفيها وعمالها هم الأمل المرتجى في هذه المرحلة الدقيقة من كفاحهم السلمي البطولي الرائع، وهم يعبرون الجسر إلى ذلك الطريق المؤدي إلى مستقبلهم ومستقبل مصر ومستقبل العالم العربي من الخليج إلى المحيط. ومن حقهم علينا أن نكون معهم حتى يحققوا الوصول بسلام وأمان إلى إنجازهم التاريخي بإسقاط نظام الإستبداد والقهر والتسلط والفساد. وهم قادرون على تحقيق ذلك بالحزم وبالعقل وبحكمة الثوار المسؤولين عن أوطانهم وشعوبهم وعن مصالحها.
قلوبنا وأفكارنا ومشاعرنا وآمالنا معك يا شعب مصر، ومعكم يا شباب ومثقفي وعمال مصر.
بقلم: كريم مروة
إنه حدث العصر هذا الذي بدأ في تونس وحقق إنجازاً تاريخياً غير مسبوق في المنطقة. إنه الحدث الذي استقر في مصر، أم الدنيا. ثم كبر الحدث، وكبرت معه أحلام شباب مصر ، وكبر معه وعيهم، وكبرت إرادتهم، وأصبحوا مؤهلين بكفاءة، استناداً إلى قدراتهم الذاتية، لإنجاز ذلك التغيير الذي انتظروه طويلاً، التغيير الديمقراطي في معانيه ومضامينه المعاصرة. وهو التغييرالذي خذلتهم، وخذلت أخوانهم في البلدان العربية الأخرى، لأسباب موضوعية وذاتية، حركات نادت بالتغيير بأسمائه وبمرجعياته المختلفة وبالمشاريع وبالإتجاهات وبالأيديولوجيات المتصلة بها. وهي مشاريع تعددت صيغها وتنوعت وسائل وأدوات التعبير عنها لدى كل من هذه الحركات. إذ كانت قد بدأت تلك الحركات تتراجع وتضعف وتفقد دورها الذي كان مجيداً في زمن سابق الواحدة منها تلو الأخرى، حتى قبل حدوث الإنهيار الكبير للتجربة الإشتراكية. ثم صارت تتحول جميعها، أو معظمها، بنسب متفاوتة بعد ذلك الإنهيار المدوي، إلى قوى ضعيفة الوزن والتأثير. واحتلت مكانها الأصلي، بفعل ضعفها وتراجعها قوى من نوع آخر، قوى ديماغوجية وسلفية من أنواع شتى مختلفة ومتناقضة غير ذات صلة بالتغيير بمضمونه الديمقراطي. ومعظم تلك القوى يحمل مشاريع تصب في الإتجاه النقيض لهذا التغيير.
لهذا الحدث التاريخي، في تونس وفي مصر- والبقية ستأتي عاجلاً أم آجلاًً لتشمل كل أنظمة الإستبداد في المنطقة - أبطال كانوا مجهولين ثم صاروا ملء السمع والبصر. إنهم أبطال من طبيعة مختلفة عما ساد من بطولات في تاريخ عالمنا العربي، أبطال تعددت نماذجهم، وتعددت سمات حركاتهم، وتعددت المصادر والمواقع الإجتماعية التي جاءوا منها إلى ذلك الحدث التاريخي الكبير. إنهم مجموعات من كتل كبيرة غير منتمية من الشباب والمثقفين والعمال، ومن الهامشيين أيضاً، الذين أتعبهم الصبر على طول المعاناة من الظلم والإستبداد والفساد، وأرهقهم الصبر الطويل على الجوع إلى الخبز والحرية. تلاقوا متحدين، من دون أن يعرفوا بالضرورة بعضهم بعضاً إلا بالكلمة والصورة والصوت من بعيد. تلاقوا في ثورة عفوية، في تونس أولاً استجابة لصرخة الشهيد بو عزيزي، ثم صاروا، بعد تحقيق معجزتهم غير المسبوقة بإطاحة نظام استبداد دام واحداً وثلاثين عاماً، نموذجاً لسواهم في عالم عربي مقهورة شعوبه حتى التخمة بأنظمة استبداد أدخلتها في الجوع وفي الهزائم وفي الخراب. وهي أنظمة جمهورية استبدادية، وراثية كذلك، لم يتوقف قادتها وزبانيتهم على امتداد عقود عن نهب شعوبهم وتخريب بلدانهم وإخراجها من التاريخ، ووضعها بالفساد وبالخراب على هامش هذا العصر الغريب، الذاهب إلى مستقبل مختلف غامض المعالم.
لقد حصلت المعجزة، وانفتح التاريخ في عالمنا العربي على حقبة جديدة مضيئة. شق شباب تونس ومثقفوه وعماله الطريق إلى مستقبل مختلف. وبات على شباب مصر ومثقفيها وعمالها أن يتابعوا المسيرة. وها هم يخوضون المعركة بشجاعة وكفاءة نادرتين. لكن السر في المعجزة التي نشهدها في مصر بعد تونس إنما تكمن في عفوية الحركة التي جمعت هذا العدد الهائل من الشباب والمثقفين والعمال في وحدة غير مسبوقة من العلاقة بين أناس متنوعي النماذج والأنماط والمواقع الإجتماعية. وهذه العفوية في حركة هذه الكتل الجماهيرية الشابة في معظمها، هي عفوية مختلفة اختلافاً جذرياً، كما تشير إلى ذلك الوقائع، عن العفويات التي سادت في حركات ثورية سابقة في تاريخ العالم، وانتهت، بسبب عفويتها الساذجة الفوضوية تلك، إلى الهزيمة والفشل. عفوية الحركة الجديدة، في تونس، ثم في مصر على وجه الخصوص، ثم في إرهاصاتها في بلدان عربية أخرى، هي أنها عفوية يرتقي فيها الوعي إلى درجة عالية من المسؤولية في طبيعة التحرك السلمي، وفي نوع الشعارات التي تحدد بدقة الهدف المبتغى من التحرك. وهذا الإرتقاء في الوعي هو الذي استطاع أن يحبط كل المحاولات التي لجأ إليها أركان النظامين وزبائنهما، في تونس وفي مصر، لإفساد الحركة ولتشويه طبيعتها، ثم لدفعها، بسبب هذه التشويهات، إلى الفشل في تحقيق أهدافها. غير أن هذا الإرتقاء ذاته، في وعي الشباب والمثقفين والعمال غير المنتمين، أبطال هذه الحركة، هو الذي جعلهم يستوعبون في حركتهم، من دون تزمت أو تطرف أو محاولة إقصاء، كل الذين انضموا إلى الحركة من جهات ومصالح وأهداف سياسية مختلفة، قديمة وجديدة، إما للإلتحاق بها تحت شعاراتها في هذا الإتجاه أو ذاك، وإما بهدف الإستيلاء عليها في هذا الإتجاه أو ذاك، وإما لدفع التحرك في اتجاه المغامرة التي تقوده إلى نقيض أهدافه.
وفي الواقع فإن من أهم الدلالات التي تشير إليها هذه السمات التي تميزت بها هذه الحركة، هو أن الشباب على وجه الخصوص، إذ استطاعوا أن يلتقوا بكثافة في المواقع الإلكترونية ويناقشوا همومهم ويحددوا أهدافهم، فقد استطاعوا فيما يشبه السحر القفز فوق الحواجز التي وضعتها أمامهم تدابير القمع بكل أشكالها لمنعهم من الإلتقاء الجسدي المباشر. وها هم ينتقلون من المواقع الإلكترونية إلى ساحات مصر التي تتسع لملايينهم الغاضبة الثائرة.
بهذه السمات كلها، بأنواعها المختلفة، وفي قمة الشعور بالحاجة إلى الثورة من أجل التغيير خرجت تلك الكتل البشرية في شجاعة وتصميم نادرين لتحقيق ذلك التغيير الذي طال انتظاره. وإذا كان من الطبيعي أن تخرج هذه الكتل البشرية في حركتها الثورية الجديدة غير المسبوقة في نوعها وطبيعتها وقواها لتحقيق أهدافها، بعد طول صبر وانتظار، فقد كان من غير الطبيعي أن يطول ذلك الإنتظار لتحقيق هذا الخروج في اتجاه هذا التغيير.
لقد سقط نظام زين العابدين بن علي. وهو نظام جاءت به، في غفلة من الزمان وبالتواطؤ وبالقسر، قوى من داخل تونس ومن خارجها. سقط ولن يعود. ومن المؤكد أن نظام حسني مبارك سيسقط هو الآخر، تلبية قسرية لإرادة هذا الحشد المليونيّ الهائل من جماهير مصر المصممة على تحرير نفسها وتحرير بلدها من هذا النظام الذي استولى بالعسف على مقدرات مصر، وعلى موقعها وعلى دورها التاريخي. هذا ما تقوله الجماهير التي تحتل ساحات المدن المصرية وتنادي بالهتاف المدوي بسقوط النظام وبسقوط رموزه. لم يعد حسني مبارك قادراً على المناورة طويلاً، حتى ولو تأخر في الإستجابة لإرادة الشعب المصري الثائر. ولعله بالتباطؤ والتحايل يريد من شعب مصر أن يسامحه ويسمح له شخصياً بالبقاء في مصر ليمضي فيها ما تبقى له من أعوام ويموت فيها كما قال، بدلاً من أن يخرج ذليلاً مثل من سبقوه إلى ذلك، بن علي وشاه إيران.
ومن المؤكد أن للتغيير في مصر شروطاً تختلف عنه في تونس. فمصر هي دولة كبرى لا يمكن لأي تغيير فيها إلا أن يأخذ في الإعتبار كونها دولة كبرى في كل المعاني.
ستعود مصر حتماً إلى موقعها. ستعود إلى الدور الذي اضطلعت به على امتداد تاريخها الطويل. فغياب مصر خلال هذه العقود الأربعة عن دورها التاريخي لم يضعفها وحدها وحسب كدولة كبرى، بل هو أضعف كل العالم العربي، وجعله دولاً متفرقة، خارج التأثير، تابعة، ملحقة، غير ذات وزن وتأثير في ما يجري من أحداث في المنطقة وخارجها، عاجزة عن الصمود في مواجهة المشاريع التي تحضر لها من المنطقة ومن خارجها ضد مصالحها وضد مصالح شعوبها.
إن ما حصل في تونس، وما هو حاصل في مصر، هو أول الطريق إلى مستقبل مختلف للبلدين العربيين ولسائر بلداننا العربية. ذلك أن التغيير هو الحتمية التاريخية التي لا جدال فيها. غير أن حتمية التغيير لا تعني إختراق وتجاوز الشروط الموضوعية التي لا بد لأية حركة في اتجاه التغيير أن تأخذها في الإعتبار. فإذا كان التغيير هو الحقيقة المطلقة، فإن طبيعة هذا التغيير ووجهاته وصيغه وأهدافه هي دائماً نسبية. إذ هي تخضع جميعها بالضرورة لشروط الزمان والمكان، ولشروط الوعي البشري بهما.
إن من حق شباب تونس ومثقفيها وعمالها علينا أن نحيّي فيهم شجاعتهم وبطولتهم ووعيهم، ونحيي إنجازهم التاريخي. ومن حقنا عليهم أن يحافظوا على انتصارهم، وأن يستمروا في هذا الإرتقاء الرائع في وعيهم بمسؤوليتهم. ذلك أن إسقاط نظام الإستبداد لا يكفي وحده لتحقيق الإنتقال إلى مستقبل مختلف. إنه أول الطريق إلى الحرية، أول الطريق إلى التغيير. أما بقية الطريق فستكون هي الأكثر صعوبة.
إن شباب مصر ومثقفيها وعمالها هم الأمل المرتجى في هذه المرحلة الدقيقة من كفاحهم السلمي البطولي الرائع، وهم يعبرون الجسر إلى ذلك الطريق المؤدي إلى مستقبلهم ومستقبل مصر ومستقبل العالم العربي من الخليج إلى المحيط. ومن حقهم علينا أن نكون معهم حتى يحققوا الوصول بسلام وأمان إلى إنجازهم التاريخي بإسقاط نظام الإستبداد والقهر والتسلط والفساد. وهم قادرون على تحقيق ذلك بالحزم وبالعقل وبحكمة الثوار المسؤولين عن أوطانهم وشعوبهم وعن مصالحها.
قلوبنا وأفكارنا ومشاعرنا وآمالنا معك يا شعب مصر، ومعكم يا شباب ومثقفي وعمال مصر.
في موت السياسة وغياب القانون
د. برهان غليون
ما الذي يفسر ما تعرفه المجتمعات العربية من استهتار بالحياة القانونية على مستوى الدولة والمجتمع معا، وارتدادها نحو العصبية والتضامنات البدائية والاستسلام لغريزة الاقتتال والعنف؟
هذا السؤال السابق فاجأني به أحد مسؤولي منظمات حقوق الإنسان الدولية. في زيارته الأخيرة لباريس. وبالفعل لا يمكن للمراقب المحايد أن ينكر أن أكثر ما يسم وضع المجتمعات العربية الراهنة هو غياب احترام القانون وضعف الحوافز الأخلاقية، إلى درجة يبدو فيها وكأن القوة وحدها هي التي تقوم فيها بترتيب العلاقات وأشكال الانتظام الفكرية والسياسية والاجتماعية، التي تمتد من العائلة إلى الدولة. ولا يكاد سلوك أو جهد يقوم على أصول أو قواعد مرعية واضحة، وكل ما نقوم به، من التربية الفردية إلى الحرب، يجري تقريبا خارج أي مثال أو أطر واضحة فقهية وعلمية وسياسية، كما لو أن التقاليد التي درجت النظم عليها، بما تمثله من خبرة مختزنة وثابتة مستمدة من التجربة الانسانية الطويلة، قد ضاعت تماما، ولم يعد هناك أي مرجعية واضحة يستند إليها الفرد أو الجماعة أو الدولة في أفعالهم أو ترتيب شؤونهم وحقول ممارستهم. لا يمكن لمثل هذا الوضع إلا أن يثير تساؤلات عديدة، خاصة عندما يتذكر المرء ما حفلت به الحضارة العربية من تراث فقهي وتعلق بالتقاليد واحترام شديد للشرعية والأصول المرعية.
الاستعمار والقانون كغطاء لانعدام المشروعية
هناك في نظري أربع تجارب - أو بالأحرى محن - قد تفسر هذا الانهيار في معنى القانون في المجتمعات العربية.
الخبرة الأولى هي المحنة الاستعمارية. فبالرغم من تحديثها للدولة وإدارتها ومؤسساتها القانونية والقضائية، إلا أنها قوضت معنى القانون باستخدامها لتطبيقه في حقل العلاقات المدنية كغطاء لممارسة عامة غير شرعية وغير قانونية، وبقدر ما أدخلت من مفاهيم ومعايير وقيم مرتبطة بالحرية والعدالة والمساواة لتبرير تدخلها في الشؤون العربية، شكل حكمها نفسه نفيا عمليا يوميا للعنصر الرئيسي الذي تصدر عنه هذه القيم والمعايير القانونية، وهو الإرادة الوطنية والسيادة السياسية. وبينما تذرعت بتعليم شعوبنا القانون، لم يقم وجودها إلا على أساس القوة والقهر والإكراه. فالسلطة الاستعمارية هي التي أعطت المثال الأول والأهم على اغتصاب إرادة المجتمعات والجماعات والأفراد وحكمهم خارج القانون وضد إرادتهم أو بالرغم منهم. هل هناك مثال لتلاعب الاحتلال والاستعمار بمفهوم القانون والشرعية أفضل من مثال احتلال الولايات المتحدة الأمريكية للعراق عام 2003؟ فكيف يمكن، بعد تجربة معسكرات عوانتانامو، وممارسة أقسى أنواع الإذلال والإهانة النفسية والجسدية التي فضحتها الصحافة الدولية، وهي ليست إلا التتويج الأخير للممارسة والسياسة الاستعماريتين في البلاد الضعيفة، والعربية منها بشكل خاص، بعث الثقة بالقانون أو الايمان بشرعة دولية أو بقيم تضامن إنسانية ما فوق قومية؟
الصهيونية وتدعيم الإيمان بجدوى خرق القانون
التجربة الثانية التي ساهمت في تدمير تقاليد الشرعية والأصول القانونية، وعلمت الناس الايمان بتفوق مبدأ القوة على الحق، ونجاعة خرق القانون وسهولته، جاء على يد الاستيطان اليهودي في فلسطين. فقد اتبع هذا الاستيطان التقليد الاستعماري ذاته، لكن مع تحويله إلى كاريكاتير لدرجة أصبحت الهوة لا تعبر بين الخطاب القانوني والإنساني المعلن والممارسة العملية، القائمة على التوسع من دون حدود في استخدام القوة، والرهان الوحيد عليها لضمان وجود الطعم الاستيطاني اليهودي في فلسطين واستمراره. باستخدامها خرق القانون والاعتداء على الحريات الفردية وانتزاع الملكية والاحتيال على القوانين الدولية والابتزاز بصورة الضحية لتحقيق مصالح استعمارية آنية وبعيدة المدى معا، وبإهدارها حقوق الناس ومصالحهم، شكل قيام الدولة اليهودية الاستيطانية ضربة قاصمة لمفهوم الحق والقانون والعدالة والانسانية، وأحدث شرخا عميقا في الصمير الانساني والوعي القانوني عند أي عربي عاش التجربة الاستيطانية أو قرأ عنها. فهل يمكن لحرب التطهير العرقي التي حصلت في فلسطين الحديثة أن تبقي أي احترام لقيم انسانية مشتركة أو تترك معنى لفكرة حكم القانون وأسبقيته على القوة، مهما كان محدودا. وكيف لا يلتف الناس حول ميليشياتهم الذاتية ولا تراهنون على القوة وينتجونها خارج القانون وضده، عندما يتعرضون خلال عقود طويلة للقصف العشوائي والقاتل دون أن يحميهم أي قانون أو ترد عنهم الأذى أي دولة أو منظمة دولية؟
التسلط وتغليب القوة على الحق
أما التجربة الثالثة التي تعلم منها العرب فراغ القانون من أي معنى ومضمون فهو حكم النظم العربية التسلطية الذي يقوم منذ عقود على غير قانون، أي على الشهوة كما يقول فقهاء السياسة القدماء، وإرادة التسلط والاستبداد بالرأي والعسف اليومي. فليس هناك مثال لحكم القوة والحكم بالقوة ضد القانون، واغتصاب إرادة الشعب، واعتقاداته العميقة، أفصح من نموذج النظم السياسية العربية. فهي إلا ما ندر تنفي الحقوق الطبيعية، وتتصرف بوصفها وصية أبدية على شعوبها، وتجعل من الأفراد أدوات مسيرة من قبل السلطة، لا فائدة لها في استخدام العقل ولا في التفكير في مستقبل المجتمع. فالقانون الوحيد السائد هنا هو خرق القانون، والتجريد العملي والرسمي من الحقوق المدنية والسياسية، والإذعان لإرادة السلطة وأحكامها. القانون هو إرادة الفرد الإله الحاكم، وما يصدر عنه من قول أو عمل أو سلوك، فهو أب الأمة ومربيها ومعلمها وملهمها وسيدها المطلق. وهو صانع القانون ومصدر التشريعات ومبدع السنن والتقاليد، لا شيء قبله ولا شيء بعده. وجميع الأفراد يعيشون من فضله وكرمه وتحت رعايته الشاملة.
الأصولية الدينية إضعاف القة في القانون
أما التجربة الرابعة التي قضت على ما يمكن أن يكون قد تبقى من معنى الحق والقانون بكل المعاني الممكنة، فهو الأصولية الدينية التي تلغي الدولة من الذهن وتتصرف وتربي الأفراد على العيش في نموذج من العلاقات الاجتماعية ماقبل دولوي، يضع الجماعة وتقاليدها وهويتها وعصبيتها قبل المؤسسات القانونية وخارجها. وهذا هو في الواقع المعنى الوحيد لقانون الشريعة الدينية الذي يسعى الاصوليون إلى نشر فكرته وتطبيقه إذا أمكن بدل القانون السياسي في إطار الدولة. مما يعني الانتقال من مناهضة الدولة القانونية كمفهوم وكفكرة ناظمة للحقيقة الاجتماعية، إلى إلغاء الدولة من الوجود وإحلال منطق العصبية والجماعة الدينية محلها.
محصلة تغييب القانون
في غياب القانون، وانعدام الايمان به، والشك بجدواه، أو غياب أي رغبة للحديث فيه، لا يبقى حاكما في المجتمعات إلا القوة. وبالقوة وحدها يمكن لمن يسيطر على مقاليد الأمر من النخب السائدة أن يحتفظ بسيطرته، داخل الجماعة وداخل الدولة الجماعة معا. وبالعنف المرتبط بالقوة يستطيع أن يحل خلافاته مع من يخالفه في الرأي أو الموقع أو السلطة. فقانون القوة هو العنف والقهر والإكراه. وليس للعرب اليوم حياة جمعية سوى حياة العنف والإكراه. ولذلك ليس بمقدروهم أيضا أن يتصوروا حياة مدنية قائمة على تبادل الاحترام والثقة والمصالح والمعاني والرموز، أو على التفاهم والتواصل عبر قوانين وأصول إجرائية منظمة وثابتة. وهذا هو أحد أركان الهمجية التي تعرفها مجتمعاتنا، وتتجلى عبر الحروب الأهلية والاقتتال الداخلي واستسهال سفك الدماء والقتل والسجن والاعتقال، والسكوت على انتهاك الحقوق والمحرمات، وعبادة القوة والتسليم للأقوى. فلا حياة مدنية هناك، ولا حضارة. فالمدنية تعني قبل أي شيء آخر تطور الحياة الأخلاقية والقانونية التي تؤسس لتنظيم العلاقات بين الأفراد على مباديء أخلاقية ثابتة ومعروفة، وتسمح بحل النزاعات والخلافات في النظر والمصالح معا بوسائل سلمية، أي عن طريق الحوار والتفاهم والتسويات القائمة على تنازلات، أو بالأحرى مساهمات، مقبولة من جميع الأطراف.
ما الذي يفسر ما تعرفه المجتمعات العربية من استهتار بالحياة القانونية على مستوى الدولة والمجتمع معا، وارتدادها نحو العصبية والتضامنات البدائية والاستسلام لغريزة الاقتتال والعنف؟
هذا السؤال السابق فاجأني به أحد مسؤولي منظمات حقوق الإنسان الدولية. في زيارته الأخيرة لباريس. وبالفعل لا يمكن للمراقب المحايد أن ينكر أن أكثر ما يسم وضع المجتمعات العربية الراهنة هو غياب احترام القانون وضعف الحوافز الأخلاقية، إلى درجة يبدو فيها وكأن القوة وحدها هي التي تقوم فيها بترتيب العلاقات وأشكال الانتظام الفكرية والسياسية والاجتماعية، التي تمتد من العائلة إلى الدولة. ولا يكاد سلوك أو جهد يقوم على أصول أو قواعد مرعية واضحة، وكل ما نقوم به، من التربية الفردية إلى الحرب، يجري تقريبا خارج أي مثال أو أطر واضحة فقهية وعلمية وسياسية، كما لو أن التقاليد التي درجت النظم عليها، بما تمثله من خبرة مختزنة وثابتة مستمدة من التجربة الانسانية الطويلة، قد ضاعت تماما، ولم يعد هناك أي مرجعية واضحة يستند إليها الفرد أو الجماعة أو الدولة في أفعالهم أو ترتيب شؤونهم وحقول ممارستهم. لا يمكن لمثل هذا الوضع إلا أن يثير تساؤلات عديدة، خاصة عندما يتذكر المرء ما حفلت به الحضارة العربية من تراث فقهي وتعلق بالتقاليد واحترام شديد للشرعية والأصول المرعية.
الاستعمار والقانون كغطاء لانعدام المشروعية
هناك في نظري أربع تجارب - أو بالأحرى محن - قد تفسر هذا الانهيار في معنى القانون في المجتمعات العربية.
الخبرة الأولى هي المحنة الاستعمارية. فبالرغم من تحديثها للدولة وإدارتها ومؤسساتها القانونية والقضائية، إلا أنها قوضت معنى القانون باستخدامها لتطبيقه في حقل العلاقات المدنية كغطاء لممارسة عامة غير شرعية وغير قانونية، وبقدر ما أدخلت من مفاهيم ومعايير وقيم مرتبطة بالحرية والعدالة والمساواة لتبرير تدخلها في الشؤون العربية، شكل حكمها نفسه نفيا عمليا يوميا للعنصر الرئيسي الذي تصدر عنه هذه القيم والمعايير القانونية، وهو الإرادة الوطنية والسيادة السياسية. وبينما تذرعت بتعليم شعوبنا القانون، لم يقم وجودها إلا على أساس القوة والقهر والإكراه. فالسلطة الاستعمارية هي التي أعطت المثال الأول والأهم على اغتصاب إرادة المجتمعات والجماعات والأفراد وحكمهم خارج القانون وضد إرادتهم أو بالرغم منهم. هل هناك مثال لتلاعب الاحتلال والاستعمار بمفهوم القانون والشرعية أفضل من مثال احتلال الولايات المتحدة الأمريكية للعراق عام 2003؟ فكيف يمكن، بعد تجربة معسكرات عوانتانامو، وممارسة أقسى أنواع الإذلال والإهانة النفسية والجسدية التي فضحتها الصحافة الدولية، وهي ليست إلا التتويج الأخير للممارسة والسياسة الاستعماريتين في البلاد الضعيفة، والعربية منها بشكل خاص، بعث الثقة بالقانون أو الايمان بشرعة دولية أو بقيم تضامن إنسانية ما فوق قومية؟
الصهيونية وتدعيم الإيمان بجدوى خرق القانون
التجربة الثانية التي ساهمت في تدمير تقاليد الشرعية والأصول القانونية، وعلمت الناس الايمان بتفوق مبدأ القوة على الحق، ونجاعة خرق القانون وسهولته، جاء على يد الاستيطان اليهودي في فلسطين. فقد اتبع هذا الاستيطان التقليد الاستعماري ذاته، لكن مع تحويله إلى كاريكاتير لدرجة أصبحت الهوة لا تعبر بين الخطاب القانوني والإنساني المعلن والممارسة العملية، القائمة على التوسع من دون حدود في استخدام القوة، والرهان الوحيد عليها لضمان وجود الطعم الاستيطاني اليهودي في فلسطين واستمراره. باستخدامها خرق القانون والاعتداء على الحريات الفردية وانتزاع الملكية والاحتيال على القوانين الدولية والابتزاز بصورة الضحية لتحقيق مصالح استعمارية آنية وبعيدة المدى معا، وبإهدارها حقوق الناس ومصالحهم، شكل قيام الدولة اليهودية الاستيطانية ضربة قاصمة لمفهوم الحق والقانون والعدالة والانسانية، وأحدث شرخا عميقا في الصمير الانساني والوعي القانوني عند أي عربي عاش التجربة الاستيطانية أو قرأ عنها. فهل يمكن لحرب التطهير العرقي التي حصلت في فلسطين الحديثة أن تبقي أي احترام لقيم انسانية مشتركة أو تترك معنى لفكرة حكم القانون وأسبقيته على القوة، مهما كان محدودا. وكيف لا يلتف الناس حول ميليشياتهم الذاتية ولا تراهنون على القوة وينتجونها خارج القانون وضده، عندما يتعرضون خلال عقود طويلة للقصف العشوائي والقاتل دون أن يحميهم أي قانون أو ترد عنهم الأذى أي دولة أو منظمة دولية؟
التسلط وتغليب القوة على الحق
أما التجربة الثالثة التي تعلم منها العرب فراغ القانون من أي معنى ومضمون فهو حكم النظم العربية التسلطية الذي يقوم منذ عقود على غير قانون، أي على الشهوة كما يقول فقهاء السياسة القدماء، وإرادة التسلط والاستبداد بالرأي والعسف اليومي. فليس هناك مثال لحكم القوة والحكم بالقوة ضد القانون، واغتصاب إرادة الشعب، واعتقاداته العميقة، أفصح من نموذج النظم السياسية العربية. فهي إلا ما ندر تنفي الحقوق الطبيعية، وتتصرف بوصفها وصية أبدية على شعوبها، وتجعل من الأفراد أدوات مسيرة من قبل السلطة، لا فائدة لها في استخدام العقل ولا في التفكير في مستقبل المجتمع. فالقانون الوحيد السائد هنا هو خرق القانون، والتجريد العملي والرسمي من الحقوق المدنية والسياسية، والإذعان لإرادة السلطة وأحكامها. القانون هو إرادة الفرد الإله الحاكم، وما يصدر عنه من قول أو عمل أو سلوك، فهو أب الأمة ومربيها ومعلمها وملهمها وسيدها المطلق. وهو صانع القانون ومصدر التشريعات ومبدع السنن والتقاليد، لا شيء قبله ولا شيء بعده. وجميع الأفراد يعيشون من فضله وكرمه وتحت رعايته الشاملة.
الأصولية الدينية إضعاف القة في القانون
أما التجربة الرابعة التي قضت على ما يمكن أن يكون قد تبقى من معنى الحق والقانون بكل المعاني الممكنة، فهو الأصولية الدينية التي تلغي الدولة من الذهن وتتصرف وتربي الأفراد على العيش في نموذج من العلاقات الاجتماعية ماقبل دولوي، يضع الجماعة وتقاليدها وهويتها وعصبيتها قبل المؤسسات القانونية وخارجها. وهذا هو في الواقع المعنى الوحيد لقانون الشريعة الدينية الذي يسعى الاصوليون إلى نشر فكرته وتطبيقه إذا أمكن بدل القانون السياسي في إطار الدولة. مما يعني الانتقال من مناهضة الدولة القانونية كمفهوم وكفكرة ناظمة للحقيقة الاجتماعية، إلى إلغاء الدولة من الوجود وإحلال منطق العصبية والجماعة الدينية محلها.
محصلة تغييب القانون
في غياب القانون، وانعدام الايمان به، والشك بجدواه، أو غياب أي رغبة للحديث فيه، لا يبقى حاكما في المجتمعات إلا القوة. وبالقوة وحدها يمكن لمن يسيطر على مقاليد الأمر من النخب السائدة أن يحتفظ بسيطرته، داخل الجماعة وداخل الدولة الجماعة معا. وبالعنف المرتبط بالقوة يستطيع أن يحل خلافاته مع من يخالفه في الرأي أو الموقع أو السلطة. فقانون القوة هو العنف والقهر والإكراه. وليس للعرب اليوم حياة جمعية سوى حياة العنف والإكراه. ولذلك ليس بمقدروهم أيضا أن يتصوروا حياة مدنية قائمة على تبادل الاحترام والثقة والمصالح والمعاني والرموز، أو على التفاهم والتواصل عبر قوانين وأصول إجرائية منظمة وثابتة. وهذا هو أحد أركان الهمجية التي تعرفها مجتمعاتنا، وتتجلى عبر الحروب الأهلية والاقتتال الداخلي واستسهال سفك الدماء والقتل والسجن والاعتقال، والسكوت على انتهاك الحقوق والمحرمات، وعبادة القوة والتسليم للأقوى. فلا حياة مدنية هناك، ولا حضارة. فالمدنية تعني قبل أي شيء آخر تطور الحياة الأخلاقية والقانونية التي تؤسس لتنظيم العلاقات بين الأفراد على مباديء أخلاقية ثابتة ومعروفة، وتسمح بحل النزاعات والخلافات في النظر والمصالح معا بوسائل سلمية، أي عن طريق الحوار والتفاهم والتسويات القائمة على تنازلات، أو بالأحرى مساهمات، مقبولة من جميع الأطراف.
رفض الفجـور
د. غسان سلامة
-1-
تلك اللحظة في يوم من أيام كانون الأول. لحظة حاول عديدون إعادة إنتاجها هنا وهناك، في مصر أو الجزائر أو غيرها من البلدان، بدون ان يفلحوا، فاحترقت اجسادهم هباء. تلك اللحظة التي دامت رفّة جفن، بين ردع شرطي والإتيان ببعض المحروقات ورشها وإشعال النار فيها، فيها جمال الفعل الأقصى بل إنها الجمال عينه.
وهي الجمال، لأنها ما قبل السياسة وما فوقها. عجز الكلام عن التعبير عن الغضب المتراكم فجاء عود الثقاب يسعف اللسان الفاشل. هذا شاب قبل أن يعيش في مدينة من بر تونس، بينما تنعم مدن الشاطىء بعوائد السياحة وحلاوة السواح، وقبل أن يضع شهادته الجامعية في الدرج بعدما اكتشف انها ليست المفتاح السحري الذي اعتقد وهو يراجع دروسه على ضوء قنديل خافت للفوز بفرصة عمل لائقة، وهو ارتضى الاكتفاء ببيع الخضراوات على عربة بعد أن تلاشت آماله الأخرى جميعاً. لكن تنازلاته، وهو بها أعلم، بقيت له، بل وجاء شرطي يجادله حتى في ممارسة ما يعتبره نوعاً من الذل المعيشي الذي ارتضاه بعدما تلاشت الاحلام الاخرى. فيا للشعور بالظلم المطلق، بالظلم العاري: أنا أقبل بقليل القليل كي اعتاش ولكني، حتى من القليل القليل أُحرم. يعجز اللسان ويشتعل عود الكبريت.
-2-
علّمنا محمد البوعزيزي الكثير، ومنه أن السياسة التي نتعاطى ليست كل شيء، لا الأفكار ولا الأيديولوجيات، ولا الصراعات على السلطة، ولا مشاريع التحرير والتحرر. ذكّرنا، وجسده شعلة نار، أننا قبل كل هذا، وفوق كل هذا، نعيش في عصر الفجور، ونصمت عنه متحججين باهتمامنا البائس بالسياسة، أو بولعنا الخائب بالأفكار الكبيرة. الفجور. نعم الفجور. منذ نحو عقود ثلاثة تهاوت كلّ الحدود أمام الإثراء الفاحش والإنفاق التظاهري وعبادة المال، سيّما إن كان حراماً. لن يبرىء أحد الجيل السابق من رجال الشأن العام من حب الفلوس ومن دفع الرُّشى ولا من قبضها. ولكن فورة النفط بعد 1972، وتكدّس المليارات، ونهم الاقتناء الدائم والإنفاق غير المحدود، والغرام غير المسبوق بالسيارات الفارهة والشقق العديدة الموزعة على غير عاصمة، وبالطائرات الخاصة وباليخوت السياحية، أدخل في المجتمعات العربية مستويات غير معهودة من الفجور يتندّر بها على حسابنا العالم بأسره. وتساوت النظم المعدمة بالدول النفطية في ممارسة هذا الفجور، وجوهره هوّة سحيقة تزداد عمقاً كل يوم بين من تطال يده المال الحلال والحرام، ومن يبقى معدماً وهامشياً.
دعك يا صاحبي من التمييزات الخائبة بين دول النفط ودول القحط، أو بين الملكيات والجمهوريات، أو بين دول الاعتدال ودول الممانعة، فكلّها اعتبارات في الحقيقة شكلية. دعك من ذلك، وانظر يا صاحبي الى تلك الآلاف المعدودة (إن لم تكن المئات) من الافراد التي استولت في كل بلد عربي أعرفه على 20 او 30 او 40 بالمئة من كامل الثروة المحلية. انظر الى دول المشرق، انظر الى مصر والسودان، ودول الخليج ودول المغرب. في كل بلد مجموعة ملتصقة بالسلطة السياسية، تشكل نواتها او تدور في فلكها او تشكل امتداداً لها، قد استولت على سبل الإثراء السريع، وما اكثرها، يوم فتح الحاكم أمامها المجال كي تشاركه بالمغانم او ان تحققها وتعود اليه بعد ذلك لتقتسمها معه.
كل منا يعرف ذلك، وبعض من التقيهم قد تخصص فعلا في متابعة الصفقات المشبوهة والرُّشى الهائلة والاثراء الفاحش. بل اني تعرفت على كثيرين يكادون لا يتحدثون الا عن هذا. ولكن اهتمامهم بدا لي دوماً ملتبساً، مشوباً بالكثير من الحسد. فهم يتحدثون عن إثراء الآخرين لأنهم بالاساس قد حُرموا من فرص الاثراء ذاتها، لا لأنهم ينتقدون مبدأ مدّ اليد للمال العام، ونهم تكديس الاموال، انهم مصابون بالنهم عينه، لكنهم عاجزون عن ممارسته، او عن مزاولته بالنسبة نفسها من المداخيل.
-3-
البوعزيزي لم يكن يعرف على الأرجح أرقام ثروة هذا او ذاك من اقرباء رئيسه ومن افراد حاشيته. ربما لو ادرك حجم ثروة بعضهم ما كان تمكّن من تخيّل الرقم، وما كان قد صدّق ما يقال له. وتونس بالمناسبة لا تحتمل ارقاماً من الثروة الفردية والعائلية، بهول الارقام التي يتم تداولها في دول عربية اخرى. إني لمدرك ان الايديولوجيا النيوليبرالية قد عمّقت الهوة بين الثري والفقير في مختلف انحاء العالم، في الولايات المتحدة، في الصين او في الهند، في روسيا. مشاهد مرعبة عن الفجور نفسه: قصور وشقراوات في الأحضان وحياة عاطلة شبه دائمة في الكاريبي وسردينيا ومراكش، بينما رجالك يزيدون من ثروتك وأنت تتمتع بالحياة المرفهة. 7 ملايين بشري من اصل 7 مليارات يملكون اليوم اكثر من ثلث الثروة الدولية واللامساواة في المداخيل على تعمّق يزداد حدّة في كل بلدان العالم، سوى استثناءات معدودة.
لكن فجورنا أبشع لأن اثرياءنا أقل إنتاجاً من زملائهم في العالم، واكثر اعتماداً على الريع، وأكثر التصاقاً بالسلطات السياسية بل إنهم أحياناً عماد تلك السلطات.ومن بعض ما علّمنا البوعزيزي في لحظة عابرة من الزمن، أن هذا الفجور لا يواجه إلا بالعودة إلى الأخلاقيات البسيطة. هذا الفجور لا يواجه لا بالسفسطائيات الماركسية، ولا بالتعويذات الدينية، إنما فقط بالرجوع الى الغضب العاري والعفوي، بالعودة الى الرفض البسيط للظلم بدون أي محاولة لتوصيفه أو تفسيره. مجرّد الرفض بإشعال عود كبريت، وإذا بالخوف الذي في باطنك يتحول فجأة الى هلع عند خصمك الحاكم المستبد المثري.
- 4 -
ما إن فر زين العابدين من قصره المتطاول على شاطىء قرطاج حتى اشتعل السؤال المضني: من ذا الحاكم الذي يليه على دروب التقاعد المبكر؟ أهذا الرئيس أو ذاك الملك أو ذلك الامير؟ شعرت عند أبناء جلدتي بعطش مستجدّ لمشهد الرؤوس المتدحرجة، أو على الأقل لمشهد المداخلات البائسة أمام الكاميرا وصاحب العمر الطويل يستجدي مواطنيه أن يتحملوه لسنوات ثلاث اضافية فقط لأنه والله! والله! لم يفكر يوما برئاسة مدى الحياة. كثيرون اعتقدوا ان الحكام الآخرين أصابهم الهلع من عدوى الفيروس التونسي سيّما وأن أقربهم لتونس انبرى يدافع عن جاره المخلوع. ورأينا شعراء البلاط هنا وهنالك يردون بالحجة البائسة نفسها: الخصوصية التونسية مرض محدد لا أثر له خارج حدود تلك الجمهورية الهانئة البسيطة، ولا خطر بالتالي من أي عدوى. فالعرب، على عكس أوروبا الشرقية منذ نحو عقدين، لا يمارسون لعبة الشطرنج، وهم بالتالي عصيون عن أن يصبحوا ضحايا موجة من الانتفاضات. يا لبؤس المنظرين الذين كتبوا المجلدات عن وحدة المجتمع العربي، وعن التواصل والتشابه والتفاعل بين البنى المجتمعية العربية والذين راحوا الان يحدثوننا ببلاغة فصيحة عن خصوصية تونس، وعن عدم فاعلية نموذجها، وانعدام عدواها كنوع من اللقاح ضد تلك العدوى التي يعرفون في أعماقهم أنها ممكنة.
لكن شتان بين الشوق لرؤية الرؤوس المتدحرجة، والوجوه الرئاسية الهلعة وبين تكرار التجربة التونسية هنا أو هناك. أعترف أني من الذين سيهنأون بانقطاع الرئاسات التي لا تنتهي، وأني لم أقبل يوماً بالتحايل العربي العام على مبدأ التداول الدوري والسلمي للسلطة. لكن مشهد الرئاسات المنقطعة على حين غرة له شروط ومواصفات.
- 5-
فما هو مغزى الحالة التونسية خارج تونس؟ الحق يقال إن من أرقى ما في الحدث التونسي هو بالذات تونسية الحدث، بمعنى الدور الهامشي (وربما المنعدم تماما) للقوى الخارجية في صناعة الحدث مهما جدت قناة "الجزيرة" في البحث عن تلك القوى، وأيضاً بمعنى أن صانعي الحدث من المنتفضين التوانسة لم يتنطحوا للعب دور يتجاوز حدود بلادهم، ولم ينظروا الى انفسهم بوصفهم قادة الثورة الفرنسية أو بلاشفة القرن الحادي والعشرين. الحدث التونسي في جوهره انتفاضة محلية في نوعية المحفزات وهوية الأطراف وآفاق التحرك الجماعي. وهذه الطبيعة المحلية ضمانة حقيقية لأبناء الانتفاضة إن عرفوا الحفاظ عليها.
لكن نجاح التوانسة (أم عدمه) في ترجمة انتفاضة جوهرها اخلاقي، وذات طابع محلي، وبدون قيادة وطنية مؤطرة إلى مشروع حكم بديل للحكم المخلوع مسألة تتجاوز تونس، شاء التوانسة أم أبوا. بمعنى ان تونس قد دخلت الامتحان الذي فرض تباعاً على غير بقعة عربية: هل إن سقوط النظام يعني بالضرورة حالة طويلة من انعدام الاستقرار بل والفوضى أم أنه بالإمكان تصور سيناريو انتقالي شبه سلبي بعد فرار المستبد الفارض للأمن بالقوة؟ إن كان الجواب التونسي ايجابياً تصبح العدوى اكثر احتمالاً. أما إن عجز التوانسة عن انتاج نظام بديل في فترة معقولة من الزمن، أو إن سمحوا للخارج ان يتدخل في شؤونهم او ذهبوا الى حد توسّل التدخل الخارجي المستمر (كما لم يخجل اللبنانيون يوماً عن القيام بذلك)، فقد يتحول حدثهم الجميل الى فزاعة يهدد بها زملاء بن علي من المستبدين العرب شعوبهم: تحملوني كما أنا وإلا فالفوضى ستضربكم.
وإن كان من المبكر الجزم بمآل الحدث التونسي فالحق يقال إن بعض عناصره، غداة فرار بن علي، تبعث على القلق عليه. كمثل المطالبة باقصاء مطلق لمنتسبي حزب الحاكم المخلوع، أو الحنين إلى بورقيبية تجاوزها الزمن، على الرغم من محاسنها، أو محاولة إسقاط تيار ديني على حدث لم يلعب فيه ذلك التيار دوراً يذكر في الوقت الذي سيحاول كثيرون في محيط تونس المغاربي او الاوروبي التدخل في شؤونها لدفع أدواتهم المحلية الى الصدارة. لذا فالسؤال الأول هو في مناعة الحدث التونسي امام دعوات التطرف والراديكالية في الداخل (وهي برأيي طفولية أو مشبوهة) وأمام محاولات التدخل من الخارج. جوهر المسألة يتعلق بطبيعة السلطة العربية الراهنة وباحتمالات تطورها. المسألة ليست كما يردد عديدون، في ظواهر التوريث وما شابه. المسألة في العمق هي في نظرة الحاكم الى السلطة، بوصفها ملكاً له، والى الدولة بوصفها متاعاً يحق له التصرف به للاثراء الذاتي او للتوريث لمن يشاء او للبيع والشراء والمقايضة. هذه ثقافة سياسية غالبة قد فرضت على مختلف الأنظمة العربية. مهما كان شكلها الدستوري المعلن، تحديداً لعلاقة الحاكم بالدولة بوصفها علاقة تملّك مطلق، كمثل تملّك فلان لأرض زراعية وتملّك آخر لمصنع. ومن فضائل تملّك دولة بدلاً من ارض او مصنع، هو ان الدولة تعطيك في الآن معاً عوائد عديدة متكاملة: السلطة على الآخرين، الثروة بوصفها عنصراً مرافقاً للسلطة، والجاه الذي يسعد قلب زوجتك واقربائك. هذه عوائد مادية ورمزية في الآن معاً لا يتيحها تملّك اي وسيلة انتاج اخرى. من هنا إلحاح من في الحكم على البقاء فيه، ومن هنا ايضاً اعتباره ان من حقه التصرف به كمثل توريثه لاحد اولاده. فاشراك العائلة الراهن في فوائد الحكم وعائداته، كما توريث الحكم اللاحق لاحد الاولاد كلاهما صورة عن الاساس، وهو ان الحكم عبارة عن تملّك بالمعنى الحرفي للكلمة.
-6-
ما العمل والحال كذلك؟ الحدث التونسي ضرب تلك المعادلة في الاساس إذ ان احتراق جسد في بلدة بعيدة فجّر ما في القلوب من عواطف ضامرة ضد تحديد تملّكي للسلطة من قبل من لا يستحق، في وطن لا يتحمّل هذا النزوع، حتى قال احدهم لي بالهاتف: لو طلّق بن علي زوجته في الوقت المناسب لربما نجا بنفسه، ومعناها ان التحول الى ممارسة التملّك الاسري للدول في جوهره مرفوض. هذا هو العنصر الذي إن تم إيضاحه في تونس وغيرها من البلدان من شأنه أن يجعل من ذلك البلد المغربي مختبراً مفيداً لإعادة النظر في طبيعة السلطات القائمة، وبالتالي في إرغام الحكام على الخروج من مواقعهم أو على الاقل على الخروج من مفهوم تملّك الدولة من خلال الحكم غير المرتبط بزمن أو من خلال توزيع الثروة على السلالة الافتراضية أو من خلال محاولة فرض التوريث. وإن لم نفلح في بلورة هذا الانحراف المفهومي السائد في مفهوم الحكم فلن نفلح في فرض العودة لتحديد سليم له.
ثم يأتيك طبعاً دور المجتمع الاهلي من خلال أحداث كتلك التي تمرّ بتونس. هناك مجتمع أهلي في تونس، كما في غيرها ودوره أساسي، خنوعه كنز للسلطة القائمة، وتحرّكه سبب هلعها الاول. لكن الاساسي هو في مدى استجابته للتضحية، وفي مدى نبذه للظلم. أنا لا أشك في وجود مخزون شعبي حقيقي معادٍ للظلم والفجور. ولكن هذا المخزون بحاجة الى عود ثقاب فعال كي لا يقدم على هبّات شعبية عقيمة. لكن أفضل أنواع المجتمع الاهلي هو ذلك الذي لم يصب بانقسامات عمودية مديدة، طائفية ومذهبية وجهوية أو لغوية. من حسن حظ تونس ذلك الضعف في الولاءات المحلية، كما انعدام الاختلافات العرقية والمذهبية، بحيث عندما يحصل حراك اجتماعي ما يصعب إطلاق صفة فئوية عليه، ويمكن لصداه أن يطال عموم المجتمع. لكن هذه الشروط غير متوافرة في الاردن أو في اليمن أو في العراق، لذلك فالحراك الاجتماعي موسوم فيها بالفئوية منذ انطلاقته. هنا يتميز النموذج التونسي، لا بمحليته فقط، وإنما ايضاً بانعدام فئويته التي على المجتمعات العربية الاخرى أن تتمكن من تجاوزها أو من معالجتها قبل أن تتحدى السلطات القائمة. من هنا أهمية الكف عن التغني الطوباوي بعظمة المجتمعات الاهلية، وفتح الأذهان على تنوعها واختلافها من مكان الى آخر، قبل الجزم بتحولها الى شارع، تلك العبارة البذيئة بحق الناس التي ما زال المتفوهون التلفزيونيون يلجأون اليها عن غباء أو عن تكبّر.
-7-
ومن الشروط الجديرة بالبحث ايضاً مسلك المؤسسات القائمة عند قيام الانتفاضة. من الواضح أن الجيش التونسي لم يهب هبّة رجل واحد للدفاع عن بن علي (القادم اساساً من الأمن)، بل ربما أنه لعب دوراً أكبر في دفعه نحو المنفى. هذا أمر في غاية الاهمية، خصوصاً إذا ساندها دور فعال للادارات المدنية، بمعنى أن يستمر القيّمون عليها بخدمة المواطنين في شتى المجالات من تعليم وصحة وطرق وما شابه، لكي لا يزيدوا من قلقهم، ولكي يثبتوا لهم استقلال أجهزة الدول عن الحاكم المستبد، وبالتالي إمكانية استمرارها حتى حين تبدأ الكرسي الرئاسية بالاهتزاز. إن من أهم شروط نجاح المجتمع الاهلي هو القدرة على الفصل بين الدولة والنظام، بالحفاظ على الاولى ومقارعة الثاني. ومن أهم شروط الاستبداد، على العكس، هو تمكّن الحاكم من المزج بين النظام والدولة بحيث تتعطل الثانية إن مُسَّ الاول بأذى. هنا ايضاً تبدو تونس محظوظة بارتفاع مستوى الشعور بالمواطنة بين أهلها، وبالتالي بقدر عالٍ من الوضوح في التفريق بين النظام والدولة مما جعل مسلك الجيش ومسلك الادارات المدنية ايجابياً، بمعنى أنه كان في الحد الأدنى محايداً، وفي حدّه الأقصى متفهماً الانتفاضة، داعماً لها.
قد لا يكون الفصل مطلقاً في تونس، ولكنه افضل من حاله في غير بلد عربي. ويقيني أن نجاح انتفاضة اخرى مرتبط بمدى الفصل المسبق في اذهان الضباط والموظفين وعموم الناس بين الدول والنظام، مما لم نجد له صدى يذكر في العراق غداة سقوط النظام هناك سنة 2003، حيث استولى قادة الميليشيات على منازل رجال النظام السابق، بينما نهب الناس ممتلكات الدولة نفسها، وكأنهم يجهلون انهم اصحاب تلك الممتلكات الحقيقيون.
اما الفصل المهم الآخر فهو بين اصحاب السلطة واصحاب الثروة، او على الاقل ارباب العمل. ان التصاقاً بالحكم يؤمن اجمالا مزايا غير مستحقة لأرباب العمل الذين يعلمون كيف يُكافأ على تساهله مع مصالحهم واطماعهم. هكذا تتكون النواة المثلثة الاضلاع (سلطة/ ثروة/ جاه) من حاكم يريد حصة له ولأقربائه من ارباح المنتفعين من نظامه الى سعي مشترك نحو الجاه لدى اصحاب السلطة واصحاب الثروة وقد تقاربا الى حد الاندماج الفعلي في عدد من الاحيان. لذا فالمرض الذي يصيب السياسة العربية له جذور عميقة في طبيعة الاقتصاد الريعي، كما في مدى التصاق اصحاب المشاريع بأصحاب القرار السياسي. ومن اسباب ضعف المجتمع الاهلي خلوه اجمالا من ارباب العمل الذين كثيراً ما يفضلون الالتصاق بالحاكم، ودفع الجزية الضرورية له للإبقاء على الصلة به، عوض التأطر في بنى نقابية ومهنية تدافع عن استقلال المجال الانتاجي، عن المجال الامني والسياسي. لذا كانت الرهانات على الطبقات الوسطى ضعيفة خلال العقود الماضية، بالذات لأن تلك الطبقات الجديدة والهشة في الكثير من مفاصلها، فضلت وصفة استتباع السلطات لها على الدفاع المهني عن مصالحها الذاتية. وكان على علماء الاجتماع العرب المزيد من الاهتمام بأثرياء السلطان، ورجال اعمال الدولة المحظوظين، بدل الاهتمام بشعراء البلاط ذوي الصوت العالي والقليل الاثر.
-8-
انما نكتب والحدث التونسي مفتوح على أكثر من سيناريو، والامل بأحداث شبيهة، ان لم تكن مماثلة، في غير بلد عربي لم يخبُ بعد. ونكتب في السياسة والاقتصاد والاجتماع بينما الغضب العاري، الاخلاقي في جوهره، يتجاوز السياسة والاقتصاد والاجتماع الى نوع من تلقائية رفض الفجور. والفجور سمة الحكم الاولى في هذه الايام العربية التي استفحلت طولا. ورفض الفجور هو شرط انتقال الخوف من ضفة الناس الى ضفة الحكام، وهو مفتاح التغيير وعلة الأمل.
-1-
تلك اللحظة في يوم من أيام كانون الأول. لحظة حاول عديدون إعادة إنتاجها هنا وهناك، في مصر أو الجزائر أو غيرها من البلدان، بدون ان يفلحوا، فاحترقت اجسادهم هباء. تلك اللحظة التي دامت رفّة جفن، بين ردع شرطي والإتيان ببعض المحروقات ورشها وإشعال النار فيها، فيها جمال الفعل الأقصى بل إنها الجمال عينه.
وهي الجمال، لأنها ما قبل السياسة وما فوقها. عجز الكلام عن التعبير عن الغضب المتراكم فجاء عود الثقاب يسعف اللسان الفاشل. هذا شاب قبل أن يعيش في مدينة من بر تونس، بينما تنعم مدن الشاطىء بعوائد السياحة وحلاوة السواح، وقبل أن يضع شهادته الجامعية في الدرج بعدما اكتشف انها ليست المفتاح السحري الذي اعتقد وهو يراجع دروسه على ضوء قنديل خافت للفوز بفرصة عمل لائقة، وهو ارتضى الاكتفاء ببيع الخضراوات على عربة بعد أن تلاشت آماله الأخرى جميعاً. لكن تنازلاته، وهو بها أعلم، بقيت له، بل وجاء شرطي يجادله حتى في ممارسة ما يعتبره نوعاً من الذل المعيشي الذي ارتضاه بعدما تلاشت الاحلام الاخرى. فيا للشعور بالظلم المطلق، بالظلم العاري: أنا أقبل بقليل القليل كي اعتاش ولكني، حتى من القليل القليل أُحرم. يعجز اللسان ويشتعل عود الكبريت.
-2-
علّمنا محمد البوعزيزي الكثير، ومنه أن السياسة التي نتعاطى ليست كل شيء، لا الأفكار ولا الأيديولوجيات، ولا الصراعات على السلطة، ولا مشاريع التحرير والتحرر. ذكّرنا، وجسده شعلة نار، أننا قبل كل هذا، وفوق كل هذا، نعيش في عصر الفجور، ونصمت عنه متحججين باهتمامنا البائس بالسياسة، أو بولعنا الخائب بالأفكار الكبيرة. الفجور. نعم الفجور. منذ نحو عقود ثلاثة تهاوت كلّ الحدود أمام الإثراء الفاحش والإنفاق التظاهري وعبادة المال، سيّما إن كان حراماً. لن يبرىء أحد الجيل السابق من رجال الشأن العام من حب الفلوس ومن دفع الرُّشى ولا من قبضها. ولكن فورة النفط بعد 1972، وتكدّس المليارات، ونهم الاقتناء الدائم والإنفاق غير المحدود، والغرام غير المسبوق بالسيارات الفارهة والشقق العديدة الموزعة على غير عاصمة، وبالطائرات الخاصة وباليخوت السياحية، أدخل في المجتمعات العربية مستويات غير معهودة من الفجور يتندّر بها على حسابنا العالم بأسره. وتساوت النظم المعدمة بالدول النفطية في ممارسة هذا الفجور، وجوهره هوّة سحيقة تزداد عمقاً كل يوم بين من تطال يده المال الحلال والحرام، ومن يبقى معدماً وهامشياً.
دعك يا صاحبي من التمييزات الخائبة بين دول النفط ودول القحط، أو بين الملكيات والجمهوريات، أو بين دول الاعتدال ودول الممانعة، فكلّها اعتبارات في الحقيقة شكلية. دعك من ذلك، وانظر يا صاحبي الى تلك الآلاف المعدودة (إن لم تكن المئات) من الافراد التي استولت في كل بلد عربي أعرفه على 20 او 30 او 40 بالمئة من كامل الثروة المحلية. انظر الى دول المشرق، انظر الى مصر والسودان، ودول الخليج ودول المغرب. في كل بلد مجموعة ملتصقة بالسلطة السياسية، تشكل نواتها او تدور في فلكها او تشكل امتداداً لها، قد استولت على سبل الإثراء السريع، وما اكثرها، يوم فتح الحاكم أمامها المجال كي تشاركه بالمغانم او ان تحققها وتعود اليه بعد ذلك لتقتسمها معه.
كل منا يعرف ذلك، وبعض من التقيهم قد تخصص فعلا في متابعة الصفقات المشبوهة والرُّشى الهائلة والاثراء الفاحش. بل اني تعرفت على كثيرين يكادون لا يتحدثون الا عن هذا. ولكن اهتمامهم بدا لي دوماً ملتبساً، مشوباً بالكثير من الحسد. فهم يتحدثون عن إثراء الآخرين لأنهم بالاساس قد حُرموا من فرص الاثراء ذاتها، لا لأنهم ينتقدون مبدأ مدّ اليد للمال العام، ونهم تكديس الاموال، انهم مصابون بالنهم عينه، لكنهم عاجزون عن ممارسته، او عن مزاولته بالنسبة نفسها من المداخيل.
-3-
البوعزيزي لم يكن يعرف على الأرجح أرقام ثروة هذا او ذاك من اقرباء رئيسه ومن افراد حاشيته. ربما لو ادرك حجم ثروة بعضهم ما كان تمكّن من تخيّل الرقم، وما كان قد صدّق ما يقال له. وتونس بالمناسبة لا تحتمل ارقاماً من الثروة الفردية والعائلية، بهول الارقام التي يتم تداولها في دول عربية اخرى. إني لمدرك ان الايديولوجيا النيوليبرالية قد عمّقت الهوة بين الثري والفقير في مختلف انحاء العالم، في الولايات المتحدة، في الصين او في الهند، في روسيا. مشاهد مرعبة عن الفجور نفسه: قصور وشقراوات في الأحضان وحياة عاطلة شبه دائمة في الكاريبي وسردينيا ومراكش، بينما رجالك يزيدون من ثروتك وأنت تتمتع بالحياة المرفهة. 7 ملايين بشري من اصل 7 مليارات يملكون اليوم اكثر من ثلث الثروة الدولية واللامساواة في المداخيل على تعمّق يزداد حدّة في كل بلدان العالم، سوى استثناءات معدودة.
لكن فجورنا أبشع لأن اثرياءنا أقل إنتاجاً من زملائهم في العالم، واكثر اعتماداً على الريع، وأكثر التصاقاً بالسلطات السياسية بل إنهم أحياناً عماد تلك السلطات.ومن بعض ما علّمنا البوعزيزي في لحظة عابرة من الزمن، أن هذا الفجور لا يواجه إلا بالعودة إلى الأخلاقيات البسيطة. هذا الفجور لا يواجه لا بالسفسطائيات الماركسية، ولا بالتعويذات الدينية، إنما فقط بالرجوع الى الغضب العاري والعفوي، بالعودة الى الرفض البسيط للظلم بدون أي محاولة لتوصيفه أو تفسيره. مجرّد الرفض بإشعال عود كبريت، وإذا بالخوف الذي في باطنك يتحول فجأة الى هلع عند خصمك الحاكم المستبد المثري.
- 4 -
ما إن فر زين العابدين من قصره المتطاول على شاطىء قرطاج حتى اشتعل السؤال المضني: من ذا الحاكم الذي يليه على دروب التقاعد المبكر؟ أهذا الرئيس أو ذاك الملك أو ذلك الامير؟ شعرت عند أبناء جلدتي بعطش مستجدّ لمشهد الرؤوس المتدحرجة، أو على الأقل لمشهد المداخلات البائسة أمام الكاميرا وصاحب العمر الطويل يستجدي مواطنيه أن يتحملوه لسنوات ثلاث اضافية فقط لأنه والله! والله! لم يفكر يوما برئاسة مدى الحياة. كثيرون اعتقدوا ان الحكام الآخرين أصابهم الهلع من عدوى الفيروس التونسي سيّما وأن أقربهم لتونس انبرى يدافع عن جاره المخلوع. ورأينا شعراء البلاط هنا وهنالك يردون بالحجة البائسة نفسها: الخصوصية التونسية مرض محدد لا أثر له خارج حدود تلك الجمهورية الهانئة البسيطة، ولا خطر بالتالي من أي عدوى. فالعرب، على عكس أوروبا الشرقية منذ نحو عقدين، لا يمارسون لعبة الشطرنج، وهم بالتالي عصيون عن أن يصبحوا ضحايا موجة من الانتفاضات. يا لبؤس المنظرين الذين كتبوا المجلدات عن وحدة المجتمع العربي، وعن التواصل والتشابه والتفاعل بين البنى المجتمعية العربية والذين راحوا الان يحدثوننا ببلاغة فصيحة عن خصوصية تونس، وعن عدم فاعلية نموذجها، وانعدام عدواها كنوع من اللقاح ضد تلك العدوى التي يعرفون في أعماقهم أنها ممكنة.
لكن شتان بين الشوق لرؤية الرؤوس المتدحرجة، والوجوه الرئاسية الهلعة وبين تكرار التجربة التونسية هنا أو هناك. أعترف أني من الذين سيهنأون بانقطاع الرئاسات التي لا تنتهي، وأني لم أقبل يوماً بالتحايل العربي العام على مبدأ التداول الدوري والسلمي للسلطة. لكن مشهد الرئاسات المنقطعة على حين غرة له شروط ومواصفات.
- 5-
فما هو مغزى الحالة التونسية خارج تونس؟ الحق يقال إن من أرقى ما في الحدث التونسي هو بالذات تونسية الحدث، بمعنى الدور الهامشي (وربما المنعدم تماما) للقوى الخارجية في صناعة الحدث مهما جدت قناة "الجزيرة" في البحث عن تلك القوى، وأيضاً بمعنى أن صانعي الحدث من المنتفضين التوانسة لم يتنطحوا للعب دور يتجاوز حدود بلادهم، ولم ينظروا الى انفسهم بوصفهم قادة الثورة الفرنسية أو بلاشفة القرن الحادي والعشرين. الحدث التونسي في جوهره انتفاضة محلية في نوعية المحفزات وهوية الأطراف وآفاق التحرك الجماعي. وهذه الطبيعة المحلية ضمانة حقيقية لأبناء الانتفاضة إن عرفوا الحفاظ عليها.
لكن نجاح التوانسة (أم عدمه) في ترجمة انتفاضة جوهرها اخلاقي، وذات طابع محلي، وبدون قيادة وطنية مؤطرة إلى مشروع حكم بديل للحكم المخلوع مسألة تتجاوز تونس، شاء التوانسة أم أبوا. بمعنى ان تونس قد دخلت الامتحان الذي فرض تباعاً على غير بقعة عربية: هل إن سقوط النظام يعني بالضرورة حالة طويلة من انعدام الاستقرار بل والفوضى أم أنه بالإمكان تصور سيناريو انتقالي شبه سلبي بعد فرار المستبد الفارض للأمن بالقوة؟ إن كان الجواب التونسي ايجابياً تصبح العدوى اكثر احتمالاً. أما إن عجز التوانسة عن انتاج نظام بديل في فترة معقولة من الزمن، أو إن سمحوا للخارج ان يتدخل في شؤونهم او ذهبوا الى حد توسّل التدخل الخارجي المستمر (كما لم يخجل اللبنانيون يوماً عن القيام بذلك)، فقد يتحول حدثهم الجميل الى فزاعة يهدد بها زملاء بن علي من المستبدين العرب شعوبهم: تحملوني كما أنا وإلا فالفوضى ستضربكم.
وإن كان من المبكر الجزم بمآل الحدث التونسي فالحق يقال إن بعض عناصره، غداة فرار بن علي، تبعث على القلق عليه. كمثل المطالبة باقصاء مطلق لمنتسبي حزب الحاكم المخلوع، أو الحنين إلى بورقيبية تجاوزها الزمن، على الرغم من محاسنها، أو محاولة إسقاط تيار ديني على حدث لم يلعب فيه ذلك التيار دوراً يذكر في الوقت الذي سيحاول كثيرون في محيط تونس المغاربي او الاوروبي التدخل في شؤونها لدفع أدواتهم المحلية الى الصدارة. لذا فالسؤال الأول هو في مناعة الحدث التونسي امام دعوات التطرف والراديكالية في الداخل (وهي برأيي طفولية أو مشبوهة) وأمام محاولات التدخل من الخارج. جوهر المسألة يتعلق بطبيعة السلطة العربية الراهنة وباحتمالات تطورها. المسألة ليست كما يردد عديدون، في ظواهر التوريث وما شابه. المسألة في العمق هي في نظرة الحاكم الى السلطة، بوصفها ملكاً له، والى الدولة بوصفها متاعاً يحق له التصرف به للاثراء الذاتي او للتوريث لمن يشاء او للبيع والشراء والمقايضة. هذه ثقافة سياسية غالبة قد فرضت على مختلف الأنظمة العربية. مهما كان شكلها الدستوري المعلن، تحديداً لعلاقة الحاكم بالدولة بوصفها علاقة تملّك مطلق، كمثل تملّك فلان لأرض زراعية وتملّك آخر لمصنع. ومن فضائل تملّك دولة بدلاً من ارض او مصنع، هو ان الدولة تعطيك في الآن معاً عوائد عديدة متكاملة: السلطة على الآخرين، الثروة بوصفها عنصراً مرافقاً للسلطة، والجاه الذي يسعد قلب زوجتك واقربائك. هذه عوائد مادية ورمزية في الآن معاً لا يتيحها تملّك اي وسيلة انتاج اخرى. من هنا إلحاح من في الحكم على البقاء فيه، ومن هنا ايضاً اعتباره ان من حقه التصرف به كمثل توريثه لاحد اولاده. فاشراك العائلة الراهن في فوائد الحكم وعائداته، كما توريث الحكم اللاحق لاحد الاولاد كلاهما صورة عن الاساس، وهو ان الحكم عبارة عن تملّك بالمعنى الحرفي للكلمة.
-6-
ما العمل والحال كذلك؟ الحدث التونسي ضرب تلك المعادلة في الاساس إذ ان احتراق جسد في بلدة بعيدة فجّر ما في القلوب من عواطف ضامرة ضد تحديد تملّكي للسلطة من قبل من لا يستحق، في وطن لا يتحمّل هذا النزوع، حتى قال احدهم لي بالهاتف: لو طلّق بن علي زوجته في الوقت المناسب لربما نجا بنفسه، ومعناها ان التحول الى ممارسة التملّك الاسري للدول في جوهره مرفوض. هذا هو العنصر الذي إن تم إيضاحه في تونس وغيرها من البلدان من شأنه أن يجعل من ذلك البلد المغربي مختبراً مفيداً لإعادة النظر في طبيعة السلطات القائمة، وبالتالي في إرغام الحكام على الخروج من مواقعهم أو على الاقل على الخروج من مفهوم تملّك الدولة من خلال الحكم غير المرتبط بزمن أو من خلال توزيع الثروة على السلالة الافتراضية أو من خلال محاولة فرض التوريث. وإن لم نفلح في بلورة هذا الانحراف المفهومي السائد في مفهوم الحكم فلن نفلح في فرض العودة لتحديد سليم له.
ثم يأتيك طبعاً دور المجتمع الاهلي من خلال أحداث كتلك التي تمرّ بتونس. هناك مجتمع أهلي في تونس، كما في غيرها ودوره أساسي، خنوعه كنز للسلطة القائمة، وتحرّكه سبب هلعها الاول. لكن الاساسي هو في مدى استجابته للتضحية، وفي مدى نبذه للظلم. أنا لا أشك في وجود مخزون شعبي حقيقي معادٍ للظلم والفجور. ولكن هذا المخزون بحاجة الى عود ثقاب فعال كي لا يقدم على هبّات شعبية عقيمة. لكن أفضل أنواع المجتمع الاهلي هو ذلك الذي لم يصب بانقسامات عمودية مديدة، طائفية ومذهبية وجهوية أو لغوية. من حسن حظ تونس ذلك الضعف في الولاءات المحلية، كما انعدام الاختلافات العرقية والمذهبية، بحيث عندما يحصل حراك اجتماعي ما يصعب إطلاق صفة فئوية عليه، ويمكن لصداه أن يطال عموم المجتمع. لكن هذه الشروط غير متوافرة في الاردن أو في اليمن أو في العراق، لذلك فالحراك الاجتماعي موسوم فيها بالفئوية منذ انطلاقته. هنا يتميز النموذج التونسي، لا بمحليته فقط، وإنما ايضاً بانعدام فئويته التي على المجتمعات العربية الاخرى أن تتمكن من تجاوزها أو من معالجتها قبل أن تتحدى السلطات القائمة. من هنا أهمية الكف عن التغني الطوباوي بعظمة المجتمعات الاهلية، وفتح الأذهان على تنوعها واختلافها من مكان الى آخر، قبل الجزم بتحولها الى شارع، تلك العبارة البذيئة بحق الناس التي ما زال المتفوهون التلفزيونيون يلجأون اليها عن غباء أو عن تكبّر.
-7-
ومن الشروط الجديرة بالبحث ايضاً مسلك المؤسسات القائمة عند قيام الانتفاضة. من الواضح أن الجيش التونسي لم يهب هبّة رجل واحد للدفاع عن بن علي (القادم اساساً من الأمن)، بل ربما أنه لعب دوراً أكبر في دفعه نحو المنفى. هذا أمر في غاية الاهمية، خصوصاً إذا ساندها دور فعال للادارات المدنية، بمعنى أن يستمر القيّمون عليها بخدمة المواطنين في شتى المجالات من تعليم وصحة وطرق وما شابه، لكي لا يزيدوا من قلقهم، ولكي يثبتوا لهم استقلال أجهزة الدول عن الحاكم المستبد، وبالتالي إمكانية استمرارها حتى حين تبدأ الكرسي الرئاسية بالاهتزاز. إن من أهم شروط نجاح المجتمع الاهلي هو القدرة على الفصل بين الدولة والنظام، بالحفاظ على الاولى ومقارعة الثاني. ومن أهم شروط الاستبداد، على العكس، هو تمكّن الحاكم من المزج بين النظام والدولة بحيث تتعطل الثانية إن مُسَّ الاول بأذى. هنا ايضاً تبدو تونس محظوظة بارتفاع مستوى الشعور بالمواطنة بين أهلها، وبالتالي بقدر عالٍ من الوضوح في التفريق بين النظام والدولة مما جعل مسلك الجيش ومسلك الادارات المدنية ايجابياً، بمعنى أنه كان في الحد الأدنى محايداً، وفي حدّه الأقصى متفهماً الانتفاضة، داعماً لها.
قد لا يكون الفصل مطلقاً في تونس، ولكنه افضل من حاله في غير بلد عربي. ويقيني أن نجاح انتفاضة اخرى مرتبط بمدى الفصل المسبق في اذهان الضباط والموظفين وعموم الناس بين الدول والنظام، مما لم نجد له صدى يذكر في العراق غداة سقوط النظام هناك سنة 2003، حيث استولى قادة الميليشيات على منازل رجال النظام السابق، بينما نهب الناس ممتلكات الدولة نفسها، وكأنهم يجهلون انهم اصحاب تلك الممتلكات الحقيقيون.
اما الفصل المهم الآخر فهو بين اصحاب السلطة واصحاب الثروة، او على الاقل ارباب العمل. ان التصاقاً بالحكم يؤمن اجمالا مزايا غير مستحقة لأرباب العمل الذين يعلمون كيف يُكافأ على تساهله مع مصالحهم واطماعهم. هكذا تتكون النواة المثلثة الاضلاع (سلطة/ ثروة/ جاه) من حاكم يريد حصة له ولأقربائه من ارباح المنتفعين من نظامه الى سعي مشترك نحو الجاه لدى اصحاب السلطة واصحاب الثروة وقد تقاربا الى حد الاندماج الفعلي في عدد من الاحيان. لذا فالمرض الذي يصيب السياسة العربية له جذور عميقة في طبيعة الاقتصاد الريعي، كما في مدى التصاق اصحاب المشاريع بأصحاب القرار السياسي. ومن اسباب ضعف المجتمع الاهلي خلوه اجمالا من ارباب العمل الذين كثيراً ما يفضلون الالتصاق بالحاكم، ودفع الجزية الضرورية له للإبقاء على الصلة به، عوض التأطر في بنى نقابية ومهنية تدافع عن استقلال المجال الانتاجي، عن المجال الامني والسياسي. لذا كانت الرهانات على الطبقات الوسطى ضعيفة خلال العقود الماضية، بالذات لأن تلك الطبقات الجديدة والهشة في الكثير من مفاصلها، فضلت وصفة استتباع السلطات لها على الدفاع المهني عن مصالحها الذاتية. وكان على علماء الاجتماع العرب المزيد من الاهتمام بأثرياء السلطان، ورجال اعمال الدولة المحظوظين، بدل الاهتمام بشعراء البلاط ذوي الصوت العالي والقليل الاثر.
-8-
انما نكتب والحدث التونسي مفتوح على أكثر من سيناريو، والامل بأحداث شبيهة، ان لم تكن مماثلة، في غير بلد عربي لم يخبُ بعد. ونكتب في السياسة والاقتصاد والاجتماع بينما الغضب العاري، الاخلاقي في جوهره، يتجاوز السياسة والاقتصاد والاجتماع الى نوع من تلقائية رفض الفجور. والفجور سمة الحكم الاولى في هذه الايام العربية التي استفحلت طولا. ورفض الفجور هو شرط انتقال الخوف من ضفة الناس الى ضفة الحكام، وهو مفتاح التغيير وعلة الأمل.
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)