الأحد، 6 مايو 2012
عن الذاكرة المثقوبة والوعي الشقي
سعود المولى
نحن نعرف وتعرفون بأن السياسة ممارسة ديموقراطية نبيلة تلتزم الدستور والقوانين وتستخدم الوسائل السلمية في العمل البرلماني والإعلامي والحزبي والنقابي وفي التعبئة الجماهيرية والتنظيمية استعداداً لتداول السلطة في صناديق الاقتراع وضمن المهل الدستورية. والسياسة فعل إيمان بالناس وبالخير العام وبالمصالح العليا للوطن وبوحدة المجتمع وسلمه الأهلي... ولا يمكن أن تكون السياسة المدنية الحقة بالتهديد والوعيد، وبالتخوين والتكفير، وبالتوتير والشحن، وبالحقد والفتنة.. ولا يمكن أن تكون السياسة المدنية الحقة عبر الشتم والقدح والذم، ونشر الصور المفبركة عن قصد مريض، وكتابة المقالات التي تنضح باللؤم والتشهير والتخوين، وإطلاق الخطابات العنترية التافهة.
كما أن السلم الأهلي والمصالحة الوطنية والتسوية العادلة المتوازنة هي أساس العقد الاجتماعي اللبناني وميثاقنا الوطني ما يعني نبذ عمليات نبش الذاكرة واستحضار الماضي استنسابياً. ويعني أيضاً ضرورة القيام بمراجعة نقدية حقيقية شجاعة للتجربة الماضية تحت عنوان الحقيقة والعدالةن وذلك كمقدمة لتأسيس ذاكرة وطنية موحَّدة وموحِّدة وثقافة وطنية ديموقراطية جديدة تستوعب تجارب الماضي وتستفيد من دروسه ومحنه.
لكن ذلك كله لم يحصل للأسف ولا يبدو أنه كان أصلاً على جدول أعمال الطبقة السياسية الحاكمة منذ اتفاق الطائف ؛ ما سمح ويسمح لكل شتام دجال ولكل ناعق في غربال بأن يستعيد لغة الحرب ونبش القبور تحت ستار واه من خيوط العفة الطهور.. وكم هي أوهن من بيت العنكبوت..
لقد كان من المأمول ان يكون وجود حكومة فيها قوى وسطية ومعتدلة تؤمن بالحوار والوفاق والسلم الأهلي، محطة لإنجاز تسوية ومصالحة هما أكثر من ضرورة. ولكن تبين أن البعض ما يزال عنده رغبة إجرامية في تدمير التسوية وتدمير لبنان من خلال إعلاء سلطة أنانيته وشخصانيته ولغة الابتذال والتفاهة والشتم وسياسات الحقد والكيد والغلبة على حساب سلطة المعايير والمرجعيات الحافظة للوطن والضامنة للجماعة والمستظلة بالحق والعدل..
والحقيقة المفزعة التي ينبغي الاعتراف بها هي انكفاء وتراجع لغة الرشد والوسطية والوضوح من المنابر الاعلامية والثقافية والسياسية بحيث صار الشتم والتخوين والقتل المعنوي للخصم هو الحكم في العلاقات بين السياسيين اللبنانيين.. والأنكى من ذلك أن يعمد البعض إلى استخدام ذاكرة مثقوبة ووعي شقي لطرح مشاريعه التي يشوبها جنون العظمة وانفصام الشخصية..
إن كل الامم تعتمد على النسيان، وعلى صناعة أساطير وحدة وهوية تسمح للمجتمع بنسيان جرائمه المؤسسة، وخسائره المخبوءة، وانقساماته وجراحاته غير الملتئمة.. والمصالحة الحقيقية لا تقوم على فقدان الذاكرة لكنها أيضاً لا يمكن أن تتأسس على استخدام استقوائي استنسابي لذاكرة معينة أو على الكيد والانتقام وسياسة الغالب والمغلوب. المصالحة تتطلب وتفترض مساومة وتنازلاً عن بعض ما نعتقد أنه حقنا وما نظن أنه الحقيقة، والاعتراف والقبول بحق وبحقيقة الآخر.. إن التسوية هي عملية تاريخية وهي ككل قضية تاريخية تتطلب رجالاً تاريخيين من حجم ونوعية أولئك الذين يؤسسون الأوطان أو يدشنون المراحل الحاسمة في تاريخها.. وهؤلاء هم بالأساس رجال ونساء من القادة الذين يتمتعون بصدقية عالية وممن انخرطوا في هموم وقضايا جماعتهم، غير منقطعين عنها ولا مستتبعين منقادين لها.. إنهم من أصحاب المبادئ وأصحاب النوايا الحسنة والخبرة الموثوقة...
لقد أنجز التسويات التاريخية الكبرى في تاريخ لبنان رجال تاريخيون بحجم الوطن والدولة أمثال رياض الصلح وبشارة الخوري وحبيب أبو شهلا وحميد فرنجية وسليم تقلا وحبيب باشا السعد وميشال شيحا وكميل شمعون وكمال جنبلاط ومجيد أرسلان وصبرى حمادة وأحمد الأسعد وعادل عسيران وصائب سلام وبيار الجميل وريمون إده ورشيد كرامي وتقي الدين الصلح وعبدالله اليافي وفؤاد شهاب ورينيه معوض ورفيق الحريري وحسن خالد ومحمد أبو شقرا وحليم تقي الدين وموسى الصدر ومحمد مهدي شمس الدين...
وما نحتاجه اليوم هو رجال ونساء من هذا الحجم وهذا العيار ..