الأحد، 6 مايو 2012
محجوب عمر : الفدائي التاريخي
سعود المولى
في النصف الثاني من خمسينيات القرن العشرين ترددت في الحلقات الشيوعية المصرية همسات عن مناضل شيوعي سجين "مثير للجدل" اسمه الرفيق محجوب، كان يحاور وينتقد ولا يقبل بالتبريرات الموسكوبية الرسمية بل يناقش الخط العام للحركة الشيوعية المصرية والعالمية داخل زنازين السجن.. وفي سجن الواحات الخارجية دهش "الرفاق" لرؤية الطبيب يقوم بالخدمة العامة دون تفلسف أو تأفف ومهما كانت طبيعة الخدمة وصولاً حتى إلى قيام الدكتور بتنظيف الزنزانة الجماعية.. وحين انضم في العام 1959 إلى نزلاء معسكر التعذيب في ليمان أبو زعبل اشتهر الرفيق محجوب بصموده الأسطوري تحت سياط الجلادين.. اسمه الحقيقي: الدكتور رؤوف نظمي ميخائيل عبد الملك صليب... نعم مسيحي... فهو فلاح قبطي صعيدي ، وُلِدَ في بني سويف عام 1932 وانتقل مع الأسرة إلى القاهرة. نشأ في الحيّ الشعبي "حوض الزهور" بالسبتيّة حيث كان والده رئيس لجنة "الوفد" وساهم في ثورة 1919. في الجامعة، التي دخلها في أكتوبر 1948 كطالب في كلية الطبّ، التقى بقائد "اللجان الشعبيّة-المقاومة الوطنيّة" التابعة للحزب الشيوعي المصري. كانت هذه اللجان تعمل في إطار الكفاح المسلّح الذي انطلق سنة 1950-1951 الموجّه ضد القوات البريطانية في منطقة القنال. وكان هذا أوّل عهد رؤوف نظمي مع الحزب الشيوعي. أصبح مسؤول الجامعة ثم القاهرة (1952)، وعضواً في اللجنة المركزية للحزب. لعب دورا في تقارب الحزب الشيوعي المصري مع سائر التنظيمات ومنها جماعة الإخوان المسلمين في إطار سياسة "مدّ اليد لكل القوى" المناهضة للاحتلال البريطاني. تمّ القبض عليه في نوفمبر عام 1954. وتتالت محطّات السجن إلى أن خرج منه عام 1964 وقد عاد الى السجن في العام 1966 ليخرج بعد نكسة حزيران وقد قرر المضي في طريق جديد..
ورغم العذاب الرهيب الذي استمر سنوات اعتقاله في أبي زعبل الشهير فقد استمر مؤمناً بالجماهير ولكنه خرج من تجربة المعتقلات مولياً ظهره للعمل التنظيمي الشيوعي السري دون أن تنقطع صلاته بهموم مصر وشعبها ومناضليها من كل الاتجاهات والتيارات وخصوصاً رفاق السجن والتعذيب... بعد خروجه من السجن، عمل طبيباً بمستشفى بنها ثم مستشفى دمياط التابعين لوزارة الصحة المصرية حيث طار صيته كطبيب للفقراء وكانسان متواضع... وجاءت نكسة حزيران ثم انطلاق العمل الفدائي الفلسطيني بقيادة حركة فتح ليبدأ محجوب عملية مراجعة قاسية قدّم فيها نقداً ذاتياً وموضوعياً لتجربة العمل اليساري والسري في مصر والعالم العربي على السواء وليتبنى شعار حرب الشعب الطويلة الأمد كعنوان لمسيرته الجديدة... وحين أعلن لرفاق دربه (وخصوصاً صديقيه الرفيقين الدكتورين قدري حفني ويسري هاشم) أنه حسم خياره بالالتحاق بحركة فتح (1967) وقرر أن يسافر إلى الجزائر حيث مركز الشهيد القائد خليل الوزير قال لهم إنه يريد الذهاب إلى حيث القضية الأولى وحيث الاشتباك المباشر مع العدو... عمل محجوب طبيباً في مستشفى مدينة تلمسان بغرب الجزائر بانتظار انتقاله إلى الأردن حيث كان يلح بشدة على قيادة فتح بضرورة الموافقة على تحوله إلى مقاتل.. وحين جاءت الموافقة من ياسر عرفات في منتصف شهر أيار 1969 احتار خليل الوزير ماذا يكتب على قرار التحاقة بقوات العاصفة (في 21 أيار 1969)..هل يلتحق كطبيب وهو يرفض ذلك، أم كمقاتل وهو دكتور؟؟ فكتب أبو جهاد: "يلتحق الدكتور محجوب عمر بقوات العاصفة بصفة بَرَكة للقوات"...
الأردن بداية المشوار
في الأغوار الأردنية عاش محجوب عمر عيشة المقاتلين... وقد لمع اسمه وخطه عندما أقامت فتح معسكر العمل الدولي في ضواحي مدينة الكرك صيف 1970 والذي شاركت فيه مجموعات من الشباب من أوروبا وأميركا.. في هذا المعسكر الشبابي الدولي ناقش محجوب مع المناضلين والمثقفين الغربيين اليساريين شعار فتح في إقامة دولة فلسطين الديموقراطية العلمانية.. وفي قواعد الأردن أسهم محجوب في إنشاء الخدمات الطبية لقوات العاصفة ومن خلالها قام بتأسيس عيادات شعبية منتظمة لا سيما في منطقة جنوب الأردن الصحراوية (معان والطفيلة والشوبك) التي يغلب على تركيبتها السكانية الطابع العشائري البدوي..عينته قيادة قوات العاصفة مسؤولاً عن القطاع الجنوبي ومفوضاً سياسياً للقوات في الأردن (وبعده لبنان).. هذا القائد الجماهيري العظيم أرسى في جنوب الأردن نمط تعامل كسر من خلاله الفدائيون الأفكار المسبقة عن البدو والمفاهيم الخاطئة عن الثوار.. وأسس لعمل سياسي حول فلسطين دعمه أسلوب ثوري مبني على خدمة الناس (مقولة ماو تسي تونغ: لنخدم الشعب) ومشاركتهم همومهم اليومية... فالتحم الفدائيون مع العشائر في تجربة حضارية تضافرت خلالها قيم البداوة العربية مع قيم الفدائية الثورية لتصنع ملحمة قل نظيرها في تجربة الثورات المعاصرة... وارتقى العمل الفدائي في جنوب الأردن إلى مستوى منهج أخلاقي مبدأه شعار محجوب عمر:"لن نطلق النار على الجماهير حتى لو كانت تطلق النار علينا"..وقصة هذا الشعار تعود إلى استشهاد أربعة مقاتلين من أصدقاء محجوب رفضوا الرد على إطلاق النار عليهم يوم بدأت الفتنة الأردنية الفلسطينية عشية أيلول الأسود 1970..
من الجنوب انتقل محجوب إلى عمان المحاصرة والمقاتلة والتحق فوراً بمستشفى الأشرفية ... صمد المستشفى أمام هجمات وحشية استمرت من الخميس 17 ايلول حتى السبت 26 أيلول حين سقط المستشفى بعد استشهاد وجرح العشرات... وقد كتب محجوب تجربته تلك في كراس صغير صدر باسمه عن دار الطليعة، بيروت، أيار 1971، بعنوان: "قصة مستشفى الأشرفية"...
تقول روز شوملي مصلح: "لقد سجل د محجوب، وهو يروي المحادثة اليومية في مستشفى الأشرفية، قدرة عالية في كتابة النص المسرحي، ومن يقرأ مسرحية "السبع في السيرك" التي كتبها محجوب عمر وأخرجها المخرج اللبناني المعروف روجيه عساف، وعرضها في مخيم شاتيلا في صيف 1974، يدرك هذه القدرة. وما يلفت النظر في نصوص محجوب هو هذه الأناقة في التقاط الحركة، وفي التعبير عن العمق الإنساني بطريقة أدبية رهيفة".
لبنان أرض التلاحم والمبادرات
بعد أيلول السبعين خرج محجوب مع قوات الثورة إلى جنوب لبنان حيث استمر في موقعه كمفوض سياسي للقوات وقد التحق أولاً بكتيبة نسور العرقوب بقيادة القائد الفذ نعيم وشاح وبعد ذلك صار رفيق درب الشهيد جواد أبو الشعر في القطاع الأوسط.. ومن القوات في جنوب لبنان إنتقل محجوب إلى إدارة مركز التخطيط الفلسطيني في بيروت برفقة نبيل شعث ومنير شفيق..حيث ساهم معهما في صياغة الخط النضالي الوحدوي الجماهيري لحركة فتح عبر مواقف مميزة من حرب أكتوبر 1973 ومن موضوعة التضامن العربي (التي كان له الفضل مع منير شفيق في بلورتها على أسس ثورية واضحة) كما من الوضع الفلسطيني الرسمي والدولي. وقد كان لمركز التخطيط فضل إعداد الخطاب التاريخي الذي ألقاه أبو عمار في الأمم المتحدة يوم الأربعاء 13 نوفمبر 1974 (وقد كتبه محجوب عمر ومنير شفيق ونبيل شعث وقام محمود درويش بتحريره، وأضاف إليه جملته النهائية المشهورة "لا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي"). . وإلى تلك المرحلة ينتمي كتاب محجوب المهم: "حوار في ظل البنادق: التاريخ والأمة والطبقة والتجمع الصهيوني" (دار الطليعة، بيروت، أيار 1975)، الذي ناقش فيه فكرة فلسطين الديمقراطية على أساس المساواة في المواطنة بين المسلمين والمسيحيين واليهود.. والكتاب بدأ في الأصل على شكل حوار مع رفاق يهود ثوريين حملوا السلاح مع الثورة الفلسطينية ضد الكيان الصهيوني، وفيه علق على خطابات الرفاق رامي ليفنه ويهودا أديف أمام المحكمة العسكرية في حيفا التي حاكمتهما مع غيرهما من تنظيم "الجبهة الحمراء" التي ضمت يهوداً وعرباً من فلسطين على رأسهم المرحوم المناضل داوود تركي..
في بيروت تلك السنوات حلمنا بتحرير فلسطين وبتغيير الوضع العربي برمته انطلاقاً من شعار أن الثورة الفلسطينيية هي رأس الحربة للثورة العربية الشاملة وأن حرب الشعب هي طريق النصر... وفي تلك المرحلة تبلورت موضوعاتنا الرئيسية: الوحدة والتضامن، نبذ الخلافات الجانبية، التعالي على الأمور الهامشية، تركيز الجهد صوب المسائل المركزية، حفظ الناس وخدمة الشعب والتضحية في سبيله..الاستقامة على الحق والعدل لكل الناس.. وبالتالي فلم يكن غريباً أن محجوب عمر ومنير شفيق ومركز التخطيط كانوا أول من فتح قلبه وعقله للقائد الإمام موسى الصدر.. المهم في هذه المرحلة أن محجوب عمر صاغ رؤية وحدوية إنسانية حاولت أن تتخطى انقسامات الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1976) وعملت على نسج علاقات حوار وتضامن بين اللبنانيين وخصوصاً بين الفاعلين الرئيسيين أمثال الامام موسى الصدر والزعيم كمال جنبلاط والمفتي حسن خالد والرئيس صائب سلام.. وقد تبلورت هذه الرؤية يومها برفضنا شعار "عزل الكتائب" وممارسات التصعيد والتوتير، وبالدعوة إلى منع الانزلاق نحو الحرب الأهلية...
كامب دايفيد واستراتيجية الصراع
في 1 /7/1980 كتب محجوب عمر تقريراً داخلياً لم ينشر عرض فيه لوجهة نظر جريئة حول استراتيجية المفاوض المصري (أي أنه جاء بعد زيارة الرئيس السادات للقدس في 19 نوفمبر 1977 ثم توقيع اتفاق كامب دايفيد في في 17 سبتمبر 1978 وهي الاتفاقية التي مهدت لتوقيع اتفاقية السلام في واشنطن يوم 26 آذار/مارس 1979.. يقترح محجوب في ورقته قراءة منهجية للحدث ويبيّن أنه يرفض منهج تفسير الأحداث الكبرى (كالصلح بين مصر واسرائيل) على أساس غيبي فردي (مؤامرة سرية نفذها عميل مدرب وتقاضى ثمنها) فمثل هذا الحدث ما كان ليتم، وإن تم ما كان ليستمر لأكثر من 3 سنوات حتى الآن، لولا أن الظروف الموضوعية في مصر والوطن العربي وفي العالم تسمح له بالتحقق والاستمرار..ويقول محجوب إن الاكتفاء بتوجيه تهم العمالة تعني التوقف عن تقييم ما يحدث إلى أن يختفي العميل عن المسرح السياسي...كما أن التصور الذي تطرحه الورقة عن خطة المفاوض المصري يرفض الافتراض القائل بأن كل ما يحدث هو مخطط أميركي يقوم السادات وبيغن (مناحيم) بتنفيذ أدوارهما فيه.. ويرى محجوب في ورقته أن زيارة القدس وما تلاها لم تكن هي بداية المسار التفاوضي بين العرب واسرائيل كما أنها لاتعني نهاية الصراع بينهم، فليست هذه المرة الأولى التي يفاوض فيها رئيس عربي العدو الصهيوني ولا هي المرة الأولى التي يلتقي فيها حاكم عربي بمندوبي العدو، ولا هي المفاوضات الأولى في تاريخ الصراع، وإن تكن الأولى من ناحية العلنية والمباشرة... ومنطلق ورقة محجوب هو حتمية استمرار الصراع بين الكيان الصهيوني ومجموع الأمة العربية حتى يزول.. إنه صراع طويل ترتبط به كل قضايا الصراع الأخرى في الوطن العربي...وهو صراع من أجل الاستقلال العربي الذي ينقضه وجود الكيان الصهيوني على أرض فلسطين...
لا أظن أن مثقفاً عربياً أو مناضلاً ملتزماً مقاتلاً تجرأ على مقاربة موضوع كامب دايفيد والرئيس السادات بمثل هذه الجرأة المنهجية وبمثل تلك الرؤية المتكاملة للصراع بكل أبعاده وتاريخيته وآفاقه..
في صيف 1982 واجه محجوب عمر مع اللبنانيين والفلسطينيين آلة الحرب الاسرائيلية الوحشية التي قامت بغزو لبنان واحتلت جنوبه وبقاعه الغربي وجبله الجنوبي ووصلت إلى مشارف بيروت حيث أخضعت العاصمة لحصار مرير ولتدمير وقتل وتهجير ومذابح لم يسبق أن شهدتها عاصمة عربية من قبل.. سقط في حرب لبنان تلك عشرات الآلاف من القتلى ومئات الآلاف من الجرحى والمهجرين والمعوقين... وخرج محجوب من بيروت مع قوات الثورة الفلسطينية ليكتب شهادته التاريخية على أيام بيروت صيف 82 والتي صدرت في كتاب بعنوان (الناس والحصار) عن دار العربي للنشر، القاهرة، 1983...
تحدث محجوب عن الناس (كما عنوان الكتاب) وهم في حالة حراك تحت أقسى ظروف عرفها بشر، ودون أن يكون لهم تعبير سياسي خاص .. وهذه من منطلقات محجوب الرئيسة في فهمه لحراك الجماهير بمعزل عن القيادات والأحزاب..فهو الشعبي حتى النخاع، إلى حدود فوضوية برودون وباكونين، وجماهيرية ماوتسي تونغ وشؤان لاي، وهو صاحب قصيدة أنا اسمي جمهر...مفرد جمهور...مفرد جماهير... لقد وجد محجوب في ناس بيروت تحت الحصار أنموذجاً أخلاقياً إنسانياً رائعاً أراد أن ينقل لنا صورته ووهجه قبل انطفاء الشعلة..
وفيما بعد ترجمت منى عبد الله زوجة محجوب كتاب أمنون كابليوك "تحقيق حول مذبحة صبرا وشاتيلا" وقدّم له محجوب بقراءة إنسانية "تنزع عن الضحايا صفة المجهول لتصورهم في جهدهم البسيط، اليومي، المتراكم، ثمرة العبقرية التلقائية للمظلومين العزّل التي يهزمون بها الخوف ويعيدون بناء الحياة فوق أنقاض الحياة" (صدر عن دار العربي للنشر والتوزيع، القاهرة، 1984)..
خرج محجوب من بيروت مع قوات الثورة الفلسطينية ولكنه قرر العودة إلى مصر لخدمة القضية والمشاركة في بناء مركز للدراسات والأبحاث الفلسطينية وقد رصد من خلاله بدايات الانتفاضة الفلسطينية التي انطلقت في ديسمبر 1987 وكان لمحجوب وأبو جهاد شرف الدور الرؤيوي والريادي في تلك الأيام..
نعم: أول الرصاص أول الحجارة..
ومن سنة 1984 إلى سنة 2000، كان محجوب يحرّر مقالا أسبوعيّا في جريدة "الشعب" المصرية بطلب من صديقه ورفيق دربه القديم المرحوم الدكتور عادل حسين... كما كان يكتب في نفس تلك الفترة مقالاً اسبوعياً في جريدة "القدس العربي" يتابع فيه تطورات الوضع في فلسطين.
محجوب صاحب الدور التربوي الفلسطيني الرائد
كتبت عنه روز شوملي مصلح: "لم يكن محجوب سياسياً بالمطلق، ولا طبيباً بالمطلق، ولا عسكرياً بالمطلق، ولا كاتباً بالمطلق، بل كان كل ذلك، وفي كل ذلك، كان مبدعاً، ذواقاً، رهيفاً، وصاحب رؤية، والأهم من ذلك أنه كان إنساناً، يعشق الأطفال، ويحترم المرأة. لعب وجود الدكتور محجوب دوراً في بلورة وعيي التربوي، السياسي والجماهيري. كان مقنعاً ليس لأنه متحدث يعرف كيف يكسب مستمعيه، وليس لأنه مثقف ثقافة عالية، بل لأنه زاوج ما بين الفكر والممارسة، بين النظرية والتطبيق العملي لها. وكان شعاره الدائم الجماهير هي المحك. وبوجود الدكتور محجوب، بدأت أتخفف تدريجياً من كوني مجرد ست بيت، وأستعيد نفسي كإنسان له دور في الحياة العامة، ساعد في ذلك منى صديقتي. وبدأت أنظر إلى دوري ليس فقط كزوجة وأم، بل أصبحت أرى نفسي بأدوار أخرى توقفت عن القيام بها منذ أن حل بنا المطاف في بيروت".
وفي تقييمها لدور محجوب التاريخي في العمل التربوي الفلسطيني تذكر روز شوملي مصلح أن "المتتبع لدار الفتى العربي، يدرك تماماً دور د. محجوب في تأسيس هذه الدار وفي وضعها على السكة من خلال استقطاب كفاءات للبدء في العمل، مثل إسماعيل عبد الحكم الذي تولى إدارة الدار بنجاح، والرسامَين حلمي التوني ومحيي الدين اللباد ، حيث رسم الأخير قصة "البيت" عن نص قصير رائع للكاتب السوري زكريا تامر في العام 1974. حصل الكتاب على جائزة معرض ليبزيغ الدولي للكتاب قبل وحدة الألمانيتين. ولم يقتصر دور د. محجوب على ذلك، بل تعداه لكتابة قصص الأطفال التي شاء لها أن تكرس المفاهيم التي طرحتها فلسفة التربية للشعب الفلسطيني، مثل قصة "جزيرة الضياع" التي تشجع الاعتماد على النفس والمبادرة والمخاطرة والشجاعة. كما كتب شعراً للأطفال وأخص بالذكر قصيدة "الحمار" التي لحّنها الفنان بول مطر. واهتمام محجوب بالحمار لا يبعد عن اهتمام محمود درويش بالحمار، فهو العنيد الصبور، الذي يعرف طريقه جيداً نحو الهدف، لا يثنيه شيء عن ذلك، وهو القائد الذي يستطيع أن يقود قافلة من الجمال بسلام في صحراء الجفاف لتصل إلى شط الأمان".
وتضيف روز بأن "فلسفة التربية للشعب الفلسطيني، التي أسست لكافة الأنشطة التي قام بها مركز التخطيط الفلسطيني، كانت من أهم ما تم إنجازه لوضع رؤية تربوية تكون منطلقاً لما سيتم ترجمته عملياً في المجال التربوي الفلسطيني.وقد عملت مجموعة من الفلسطينيين التربويين والملتزمين بالقضية، وممثلين عن قطاعات مختلفة، في وضع هذه الرؤية، نذكر منهم الدكتور نبيل شعث، الدكتور ابراهيم أبو لغد، الدكتور الشهيد حنا ميخائيل (أبو عمر) ، عبد الفتاح القلقيلي (أبو نائل)، الدكتور نبيل بدران، الدكتور راجي مصلح. وكانت هذه الرؤيا الأساس لوضع فلسفة التربية للشعب الفلسطيني. كانت هذه أول محاولة جدية لتحديد القيم التي نريد أن يتحلى بها أطفالنا وفتياننا وفتياتنا في المستقبل. ولكوننا شعب مقتلع من أرضه، ولأن أطفالنا كانوا يدرسون في مدارس غير فلسطينية، ولا يعرفون إلا ما ترويه لهم أمهاتهم أو جداتهم عن فلسطين، كان من الضروري أن يتم وضع القيم الانسانية والنضالية التي تعمل على تطور الفرد وتنميته دون الانفصال عن الروح الجمعية والتطوعية. ومن هنا جاءت فكرة رياض الأطفال التي تبناها مركز التخطيط التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، والتي كان لي شرف متابعتها منذ تأسيسها في العام 1973 وشاركتني زميلتي سميرة خوري في وضع منهاج لتدريب مربيات الروضات، ومنهاج للروضات.وإنطلاقاً من هذه الرؤية أيضاً، قام المركز بالاهتمام بالفئة العمرية في المرحلة الابتدائية والإعدادية، ووضع المنطلقات الأساسية لتطوير مناهج الزهرات والأشبال، ومن ضمنه، تم إعداد منهاج لتاريخ وجغرافيا فلسطين ليتم استخدامه مع هذه الفئة العمرية. ولنفس السبب، انطلقت فكرة أدب الطفل الفلسطيني، الذي عملت عليه بداية نبيلة برير ، التي استشهدت في الحرب الأهلية في بيروت. ورغم أن الدكتور محجوب كان واحداً من أركان القسم السياسي الرئيسيين مع منير شفيق والدكتور نبيل شعث، مدير المركز، إلا أنه كان مطلاً على كل هذه التطبيقات العملية المنطلقة من فلسفة التربية للشعب الفلسطيني، ومستندة إليها".
يقول الصحفي محمد حمدي (الأهرام) : "فى نهاية ثمانينيات القرن الماضى وأثناء عملي فى صحيفة الشعب (التابعة لحزب العمل القريب من الإخوان المسلمين) ذهبت إلى محافظة المنيا لإجراء تحقيق صحفي حول الجماعة الإسلامية فى المدينة وجامعتها، حيث جمعني لقاء أول وأخير مع محمد الإسلامبولي شقيق خالد الإسلامبولي فى أرض المولد معقل الجماعة الإسلامية بالمدينة، كان الإسلامبولي يقف بين الآلاف من أنصاره زعيماً لا يشق له غبار والكل يأتمر بأمره، وبعد اللقاء جلست أتجاذب أطراف الحديث مع أعضاء الجماعة ولفت انتباهي إعجابهم الكبير جداً "بالكاتب الإسلامى الدكتور محجوب عمر" الذي كان يكتب الصفحة الأخيرة فى جريدة الشعب. حينما عدت إلى القاهرة أبلغت الدكتور محجوب عمر بإعجاب أعضاء الجماعة الإسلامية بكتاباته باعتباره كاتباً إسلامياً مميزاً، فضحك ضحكة ذات مغزى، فما لم يعرفه الإسلاميون المتشددون فى صعيد مصر أن من وصفوه بالكاتب الإسلامي هو مسيحي مصري له أصول صعيدية، واسمه الحقيقى رؤوف نظمي، أما محجوب عمر فهو اسمه الحركي فى الحزب الشيوعي المصري وفي حركة فتح التي انضم لها بعد ذلك!"..
عُرف محجوب بقربه من القائدين التاريخيين أبو عمار وأبو جهاد وحبه لهما وانهماكه الدائم في توفير شروط شرح وتعميم خطهما الفتحاوي الأصيل، وتنفيذ سياستهما التي كان يرى أنها السياسة "الصح".. وهو كان يرى فيهما عكازتي فلسطين والمقاومة والتحرير ويرفض كل دعوات التخوين والتشهير ليس فقط ضدهما بل ضد أي كان حتى أولئك الذي اختلفنا معهم واستخدموا التخوين والتشهير وصولاً إلى القتل..
في 3 آب 1978 سقط رفيقه وصديقه (ورفيقنا الحبيب) عز الدين قلق ممثل فلسطين في باريس على أيدي عصابة أبو نضال.. وقبله وبعده سقط العديد من قادة وكوادر حركة فتح في سلسلة اغتيالات نفذها أبو نضال لمصلحة دول عربية مختلفة (سوريا والعراق وليبيا) وصبت كلها بالتأكيد في خدمة مصلحة العدو الصهيوني.. يومها كتب محجوب كراسة بعنوان : "عز الدين قلق: الكلمة والبندقية" نشرتها مجلة شؤون فلسطينية (العدد 83، تشرين الأول/أكتوبر 1978) جعل لها عنواناً ثانوياً يقول: "في أن الكلمة الحرة هي الكلمة المسؤولة وإلا اصابت في مقتل وحصدت خيرة الشباب"... يقول محجوب: "بسطاء الناس في بلادنا يعرفون قيمة البندقية ويعرفون أن من يملك بندقية يجب أن يملك لسانه معها وإلا صار أضحوكة الآخرين..ويعرفون أن للبندقية تقاليدها وحقوقها وواجباتها ومسلكيتها..يعرفون أن البندقية في يد الأطفال تقتل وفي يد العقلاء تصون"... "لقد تعوَّد البعض قبل البندقية أن يجمع الأعداء في سلة واحدة ويرجمها بالكلمات.. وما أسهل أن تصف الأعداء جميعاً في سطر واحد أو فقرة واحدة في مقال أو كتاب ثم تنهال عليهم بالنعوت واللعنات... ولكن البندقية لا تستطيع".. "إن البعض في قديم الزمان وحديثه تعود حرفة الكلام والكلام كما يقول بسطاء الناس يزداد كلما مضغته ويكبر كلما ابتل بريق الفم فما بالكم ببريق الدنانير؟ والكلمة تجريد، والانتقال من التجريد الى التجريد سهل، فإن كنت مخالفاً في الرأي فأنت "مضلَّل"، وإن كنت مضلَّلاً فأنت "منحرف"، وإن كنت منحرفاً فأنت "انتهازي"، وإن كنت انتهازياً فأنت "تصب الحب في طاحونة الأعداء"، فأنت "جاسوس" أو "عميل"..وللتبسيط، إن كنت مخالفاً في الرأي فأنت "عميل".. وهكذا إن كنت عميلاً فأنت عدو وأخطر من الأعداء أنفسهم...والمقياس في كل ذلك هي "ذات" الذي سيصدر عليك الحكم، فيدينك أو يضمك إلى أتباعه.. ولكن اعتماد البندقية شعاراً وخطة لا يتحمل هذه الرفاهية الفكرية والاستمتاع اللفظي. فالرجل الذي يحمل البندقية يعرف أن عليه "إن قال فعل" وإن أدان نفَّذ. وأن الطلقة إن خرجت من بندقيتها هي كالكلمة الصادقة، لا تعود ثانية. وأن الموتى لا يقومون في هذا العصر، وإن قرانا على قبورهم آلاف صفحات النقد الذاتي..لذا لا يتسلى الذين يحملون البنادق بالكلام، ولا يسرعون بالأحكام، ولا يخلطون بين العدو والصديق، ويحترمون القلم و الكلمة كما يحترمون البندقية فيحافظون عليها نظيفة لا تشوبها شائبة، ويعرفون أن هناك فرقاً كبيراً بين البندقية وبين عصا الراعي... والعجيب أن الذين يرمون مخالفيهم في الرأي بتهم العمالة والجاسوسية والاستسلام واليمينية والرجعية فيفتحون بذلك باب رميهم بالرصاص ، يطالبون بأن تسود الساحة علاقات "الحوار الديمقراطي"..... "ثم كيف يمكن تصور إجراء حوار ديمقراطي، أي حوار سينتهي بالتزام، بين من يسوق الاتهامات بالاستسلام والرجعية واليمينية والخيانة والعمالة إلى آخر هذا القاموس، وبين الذين يتهمهم. إن الحوار الديمقراطي هو شكل الصراع الذي ينطلق من وحدة ليؤدي إلى مزيد من الوحدة..أليس القانون كما يكررون هو: وحدة- صراع- وحدة ؟ فأي وحدة هذه التي بين الرجعيين والثوار؟..".انتهى كلام محجوب... وما أشبه اليوم بالبارحة!!
في 18/2/2004، قلّده الرئيس ياسر عرفات "وسام نجمة القدس الشريف" : "تقديراً وتكريماً لدوره الكبير وفكره القومي الأصيل من أجل تحقيق تطلعات شعبنا الفلسطيني بقيام دولته الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف". توفي في القاهرة ليل الجمعة 16 آذار 2012