الحوار في فلسفته وشروطه
مداخلات قدمت في اطار برنامج الاتحاد الاوروبي للاعلاميين الشباب وحوار الأديان (2008-2009)..
لا تخلو وسيلة إعلامية من حديث عن الحوار، ولا يتوقف الإعلام عن تذكيرنا صبح مساء بمزايا الحوار. أما القوى والأحزاب والشخصيات السياسية فحدث عنها ولا حرج. غرام مستجد في الحوار، إلى حد انك تظن بأنهم هم من اخترع المفردة وأعطاها شكلا ومضموناً، فسبحان مغيّر الأحوال.
والحال أن الحوار قيمة مطلقة بذاته، رغم أن الأصوليات كافة تتعامل معه باعتباره نسبيا خاضعا للظروف وموازين القوى. وهو اليوم أضحى مكسبا من مكتسبات الثقافة والحياة السياسية السليمة والشفافة، غير أن البعض ممن كان يرفضه بالأمس، أصبح يقدمه اليوم على انه "الحل المثالي" أو "الوصفة السحرية" لأي خلاف أو اختلاف أو نزاع، وذلك دون أدنى تدقيق أو تمحيص في شروطه وفي مبناه كما في معناه. وبعد عقود وعقود على سيادة "الأفكار الثورية" (من اليمين واليسار على السواء) والتي كانت تعتبر الحوار مساومة وتسوية وتنازلا (أي بدعة وضلالة، مصيرهما جهنم وبئس المصير) والتي كانت تنظر للعنف (اللفظي والمادي) باعتبار أن الحياة والعلاقات الإنسانية والاجتماعية ليست إلا ميزان قوى، أي علاقات قوة وغلبة، وان السياسة نبذ وإلغاء للآخر أو سيطرة وهيمنة وقمع وأحادية رأي، إن لم يكن شطارة، وبعد مرحلة تمجيد سلطة الحزب الواحد (ضمير الأمة) والزعيم الأوحد (القائد الملهم وسبب وجود الأمة)، إذا بنا ننعطف 180 درجة، فيصبح الحوار مضغة تلوكها الأفواه، ومشجبا تعلق عليه كل المزايا......والخطايا.....
إن هدف الحوار الحق هو الإفساح في المجال أمام البشر للتعرف والتعارف المتبادل كمقدمة للفهم والتفاهم المتبادل (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم) وذلك لبناء التعاون على البر والتقوى ولرد الإثم والعدوان... ولا يمكن للحوار أن يبنى على غير معايير الحقيقة والحرية والعدالة المقبولة دينيا وأخلاقيا ولدى كل الشعوب والحضارات، فلا يمكن أن يقوم حوار ويستقيم مبناه ومعناه من دون الارتكاز إلى تلك المعايير - المسلمات الضرورية والمطلقة:
1- نشدان الحقيقة مهما كانت (الحق والعدل هما من أسماء الله الحسنى، والحقيقة تحرر كما في الإنجيل).
2- العدل في الأحكام ولو على النفس أو على ذي قربى("وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى" - "ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين").
3- التقوى في خلوص النية ووقوف المتحاورين على قدم المساواة (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين).
4- الاعتراف بالاختلاف سنة إلهية كونية (ولو شاء الله لجعلكم امة واحدة - ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا) وبحق الآخر المختلف في التعبير عن رأيه وعن اختلافه بحرية.
5- الاعتراف بحق الجميع في حرية تغيير الرأي (لا إكراه في الدين - أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين- لست عليهم بمسيطر - وما جعلناك عليهم حفيظا).
6- - رفض العنف ونبذه بالمطلق اذ يعطل به ومعه كل حوار ، كما انه يضرب امكان الفحص الجدي والموضوعي لآراء الآخر، أو التبادل الحي والواقعي للافكار والرؤى، أو التساؤل الدائم حول معنى تلك الآراء والافكار والمعتقدات وحول امكان او عدم امكان الاخذ بها. إن العنف ايا يكن شكله ونوعه يلغي الحوار نهائيا.
إن تعميم ثقافة الحوار، يقتضي التأصيل الكلامي والفقهي لمعاني الحقيقة والعدالة والحرية،، وذلك بالعودة إلى الجذور الدينية والفلسفية في الإسلام والمسيحية كما في الفكر الإنساني عموما.
ذلك أن البعض قد يختزل الحوار إلى حدود القول الحسن، والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، وحسن المعاشرة والجوار، واللين والرفق (أو التسامح في لغة العصر)، مرتكزا إلى توجيهات الله لرسوله (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك - وجادلهم بالتي هي أحسن، ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كانه ولي حميم). وهذا المعنى نجده في المسيحية وهي التي بنيت على المحبة والتسامح والغفران للأعداء (تماما مثل الإسلام المبني على السلام والرحمة والعفو والسماحة، ولو أن معظم الإسلاميين الحداثويين جعلوا منه دين الحرب والقتال ليس إلا!). ولكننا هنا نقع في الحالتين (الإسلام والمسيحية) في خطر التبشير أو الدعوة، إذ يصبح الحوار كمحفز للتعايش واللطف والمسايرة أداة للتأثير على الغير بالكلمة والقدوة والمثال (في لين المعاشرة ولطف الجوار وحلو الحديث) ولعل ذلك ما جعل غالبية المسلمين يرفضون في العصر الحديث ممارسة الحوار باعتباره أداة تبشير، خاصة وانه ترافق مع التبشير بعد سقوط الدولة العثمانية. وليس من قبيل الصدف أن تكون كل دعوات الحوار قد صدرت في العصر الحديث عن هيئات مسيحية أو غربية. ورغم تجاوب مسلمين ودول إسلامية معها، إلا أن هذا لا ينفي كونها صادرة عن غيرهم، ومقبولة منهم بحذر شديد.
ولم تبدأ الدول والهيئات الإسلامية إلا أخيرا بالدعوة إلى الحوار، وذلك إما لفك الحصار الغربي المفروض عليها (إيران مثلاً) وإما للرد على تداعيات الحادي عشر من أيلول (السعودية مثلاً)،أو لأخذ موقع تحت الشمس الدولية(قطر والاردن مثلاً).
ولم يبلور الفكر الإسلامي (باستثناء لمحات ولمعات مضيئة للمرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين) أي تأصيل كلامي - فقهي لمبدأ الحوار ومعناه باعتباره حقيقة فلسفية مجردة كما جرى في الفكر والثقافة والفلسفة الغربية.
لقد مجد السفسطائيون الكلمة والقول إلى حدود التسييس إذ جعلوا لهما "هدفا ذكيا"، وحاربهم سقراط، الذي كان يقول بأن ما يسمى محاجات - مجادلات ليس في الحقيقة كذلك (أي أنها ليست حججا) إذ هي عبارة عن أقوال بسيطة تدخل العقل في متاهات وتضله عن الصواب. أنها كلمات وليست خطابا أو مقالة تهتم بالحقيقة وبالمعنى، وباستقامة وجدية العلاقة بين المتحاورين. في حين أن إرادة الوصول إلى شيء حقيقي نكون فيه على اتفاق، ونستطيع الحوار حوله بناء على مبادئ ومعايير متعارف عليها، هو أساس الموقف السقراطي المعارض للسفسطة والمؤسس فعلا للفلسفة الغربية.
فالفلسفة هي محبة الحكمة (حسب الأصل اليوناني) وليس أن نقرر ما هو الصواب نيابة عن الآخرين. ولفظة Philia اليونانية القديمة كانت تعني ليس المحبة فقط وإنما أيضا الصداقة، والود، والأخوة، واحترام الغير. وحسب حنة آرندت فإن "الخطاب" هو جوهر الـPhilia، أي أن تبادل الكلام - الحوار، يحقق الـPhilia هذه. والفلسفة هي أن نفكر معا، وان نجادل - نتحاور ضمن إطار الـPhilia (أي احترام الآخر وصداقته). وفي كل حوار هناك همّ أساسي هو همّ المعنى، وليس الإطار أو الشكل فقط، أو همّ التواصل، وهما معاً (المعنى والتواصل) دعامتا الحوار. فأحيانا تكون الحجة الواضحة البسيطة (همّ المعنى) سببا لكي يطيل المتحاوران حوارهما، وأحيانا فان الخوف من القطيعة أو الانفصال على زعل هو ما يدفع بالمتحاورين إلى إيجاد حجج أكثر وضوحا وبساطة (همّ التواصل).
وفي الحالتين، وفي كل الأحوال عموما، فان ما هو مرفوض في الفلسفة هو العنف، إذ يتعطل به ومعه كل حوار وتبرز محله: القوة - الغلبة، أو الحيلة - التذاكي، أو التحريض - التعبئة، أو التهديد - الوعيد، أو التكفير - التخوين. وللأسف فان الكثير من التيارات السياسية، والإسلامي منها تحديدا، يرى إلى الحوار باعتباره تكتيكا ( تقية) ضمن إستراتيجية الاستعداد فالتمكن فالقوة - الغلبة بالعنف. إن العنف (بأشكاله المذكورة هنا) يضرب إمكان الفحص الجدي والموضوعي لآراء الآخر، أو التبادل الحي والواقعي للأفكار والرؤى، أو التساؤل الدائم حول معنى تلك الآراء والأفكار والمعتقدات وحول إمكان أو عدم إمكان الأخذ بها. إن العنف أيا يكن شكله ونوعه يلغي الحوار نهائيا. قد يتبادل اثنان الكلام الحلو، أو الاهانات والاتهامات، وهذا نوع من الاتصال والتواصل إلا انه ليس حوارا. فالاتصال والتواصل مفهوم أوسع من الحوار. والحوار هو أحد أشكال التواصل (ولكنه ليس أي شكل، إذ هو مميز) تماما كما الحرب والعنف هي من أشكال التواصل (الحرب امتداد للسياسة كما عند كلاوسفيتز، والعنف لغة رمزية كما عند بورديو وغيره).
قد تكفي نظرة واحدة أو كلمة بسيطة لكي يتم الاتصال - التواصل مع الآخر، وهذا الاتصال يعني أن حس التواصل قد يكون عميقا، إلا انه ليس حوارا. فالحوار يفترض التفكير النقدي، والاستغراق الذاتي، بحثا عن الحقيقة: انه يفترض العودة إلى الذات والغوص في أعماقها وليس النظر المجرد أو التلقي الجامد فقط، وهذا يفترض أيضا حس العدالة - التقوى، وهو أقرب إلى الروحانية المطلقة - ("ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو اقرب للتقوى واتقوا الله" - "فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا" )- فليس المهم أن أفهم عليك من النظرة أو البسمة أو الكلمة فقط وإنما أن أفهمك كما أنت وكما تريد وتقصد وان أفهم ما تريد وما تقصد أو ما تريد إيصاله، وهنا فعلاً يبدأ كل حوار.
إن ما نراه ونعيشه اليوم في منابر السياسة والإعلام ليس حوارا، ولذلك يسميه الناس (حوار طرشان)، فهو عبارة عن ردود فعل تكون أحيانا سيئة أو خاطئة (ولو عن غير قصد)، إذ أنها تأتي خارج سياق أي تبادل أو تفاعل بين المتحاورين، وخارج أي استغراق أو تأمل ذاتي نقدي، ولنا في ما يجري من إعلان مواقف وردود أفعال في الصحف ووسائل الإعلام، أو في برامج الحكي Talk Show على التلفزة خير مثال.
الحوار والحرية
إن مفهوم الحوار (الذي يغطي في الحقيقة عدة حقول: أخلاقية - اجتماعية - لغوية - سياسية) يرتكز أولا وأخيرا على معطى ثابت - واقعي (أي حقيقي) وهو اللقاء: لقاء بين كائنين فردين منفتحين على بعضهما البعض، محتاجين إلى بعضهما البعض، ومحتاجين إذن إلى الكلام المتبادل بينهما. دون ذلك لا يكون الحوار حالة إنسانية (أو بالأحرى تجربة إنسانية، هي ضرورة ومغامرة في آن).
الحوار يتعدى مجرد التبادل الكلامي - اللفظي. والثقافة وتاريخها ليست سوى تسجيل لحوار دائم: حوار مع الغيب، مع الكون، مع الطبيعة، مع الزمان، مع المكان.... والبشرية هي حسب قول لبلايز باسكال أشبه برجل يتعلم باستمرار ويتطور بالاستناد إلى معارف الذين سبقوه والذين نقلوا إليه معرفتهم وحكمتهم وتجاربهم بواسطة ما تركوه من آثار مكتوبة. (انظر ما يقوله جان بياجيه عن تطور وظيفة الكلام واللغة عند الطفل، وما أوضحه إميل بنفنيستي حول الفرق بين التواصل الحيواني والتواصل البشري وهو خلص إلى أن الحيوان قادر على التواصل بالإشارة والرمز، ووحده الإنسان قادر على الحوار! وقارن أيضا مع الروسي الماركسي ميخائيل باختين حول دور التفكير ودراسة الآثار والأعمال المكتوبة، في تطور الثقافة الإنسانية).
إن الطبيعة الحوارية للفكر تظهر بأجلى صورها من خلال طابعها الجدلي (الحجاجي). الحوار ليس عاملا مساعدا على إثبات أو تأكيد الفكر فقط، انه بنية الفكر نفسها، من حيث أن التفكير بطريقة جدلية (حجاجية) يفترض الركون إلى أحكام يعبر عنها بكلمات وجمل وعبارات وافتراضات.
وبذا فان الفكر يتبدى وكأنه حوار النفس مع ذاتها فيتطابق إذاك مع اللوغوس (محاورات أفلاطون - حيث اللوغوس يعني العقل والكلمة، وحيث الكلمة هي خطاب الخارج، والعقل هو خطاب الداخل) وعند سقراط فان التفكير النقدي هو مثل المحاجة، يمتلك بنية حوارية. ومن هنا قوله إن الفكر هو حوار النفس مع ذاتها. وهذا ما قاله ديكارت في الكوجيتو حيث أن حقيقة "أنا أفكر" تنتج عن لعبة قوانين الخطاب: أي أننا لا نستطيع أن نفكر بأنه من الخطأ أن نفكر وإذا قلنا بأننا نشك في أننا نفكر فهذا أيضا خطأ إذ أن الشك هو نوع من التفكير!
وإذا حللنا ما يتضمنه هذا الاتحاد بين التفكير والحوار، استطعنا أن نستخلص وجود مبادئ ناظمة مشتركة في ما بينهما لعل أبرزها افتراض ضابط معياري ما للحقيقة. ذلك انه من الواجب في أية عملية تواصل أن نتوافق على معنى الكلمات. وينبغي عند تقديم حجة أو برهان أو حين نصوغ عبارة أو قضية، أن نستطيع على الأقل الاعتراف بحقيقة أننا قلناها (أو عبرنا عنها) فلا يوجد إمكان لحوار حقيقي إذا رفضنا وضع ضابط معياري ما للحقيقة (تعالوا إلى كلمة سواء) إن معيار الحقيقة يستتبع معيار العدالة والمساواة. ذلك انه لا معنى للقول بأن قيمة أية حجة أو فكرة هي في مرجعية أو سلطة صاحبها ، فعندها لا تعود حجة أو فكرة. وإنما ينبغي أن نتفق على معنى العدالة والمساواة أي الوقوف على مستوى واحد (وإنّا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين - الله يحكم بيننا وبينكم يوم القيامة - لا حجة بيننا وبينكم، الله يجمع بيننا واليه المصير) والى معياري الحقيقة والعدالة ينبغي أن نضيف المبدأ أو المعيار الأساس وهو الحرية. وأول ما نقبله في الحوار هو الحرية الشخصية وخصوصا حرية تغيير الرأي (وليس فقط حرية التعبير عن الرأي) وحرية المعتقد والدين هي أساس في أي حوار... والآية - المفتاح (حسب وصف الإمام شمس الدين) "لا إكراه في الدين"، فيها وحدها كل فلسفة العلاقة بين الحوار والحرية، لا بل أنها تؤسس للفكر الإنساني عموما.
المادة 18 من إعلان - ميثاق حقوق الإنسان تقول: "لكل إنسان حق في حرية الفكر والوجدان والدين، ويشمل ذلك حريته في أن يدين بدين ما، وحريته في اعتناق أي دين أو معتقد يختاره، وحريته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم، بمفرده أو مع جماعة، وأمام الملأ أو على حدة"... والى ذلك ذهب الإمام شمس الدين في تفسيره لآية "لا إكراه في الدين" وللآيات الأخرى المماثلة: "ولو شاء الله لجمعهم على الهدى - ولو شاء الله لجعلهم امة واحدة - قل الله أعبد مخلصا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه - لكم دينكم ولي ديني - ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين - وما جعلناك عليهم حفيظا - من شاء فيلؤمن ومن شاء فليكفر")... وهو ما ذهب إليه أيضا الكثير من العلماء والفقهاء المعاصرين.
يقول الشيخ عبد العزيز جاويش (تلميذ محمد عبده ورفيق شكيب أرسلان ومصطفى كامل) "وما كان للعقائد أن تتكون بالإرغام والقهر، ولا للإسلام الذي هو دين البحث والنظر أن يقول بقتل من لا يدينون به" (كتابه الإسلام دين الفطرة والحرية - الزهراء للإعلام العربي - لا تاريخ نشر)... ويقول عبد المتعال الصعيدي "الحرية الدينية عبارة عن حق الإنسان في اختيار عقيدته الدينية فلا يكون لغيره من الناس سلطان عليه في ما يعتقده، بل له أن يعتقد ما يشاء وله ألا يعتقد في شيء أصلا، وله إذا اعتقد في شيء أن يرجع عن اعتقاده وله الحرية في الدعوة إلى ما يعتقده بالتي هي أحسن" (كتابه: حرية الفكر في الإسلام - دار الفكر العربي ط2 - القاهرة - دون تاريخ).
ومما يتعلق بموضوع الحرية الدينية قضية الردة (أي الكفر بعد الإسلام عن وعي واختيار) وقد برز في العقود الأخيرة التيار الذي أسس له وطوره المشايخ محمد عبده، ورشيد رضا، وعبد المتعال الصعيدي، ومحمد مهدي شمس الدين، وراشد الغنوشي، وحسن الترابي، وعبد الوهاب خلاف، ومحمد أبو زهرة، وعبد العزيز جاويش، وسيد قطب، ومالك بن نبي، ومن رجال القانون الدستوري: فتحي عثمان وعبد الحميد متولي وعبد الحكيم حسن العيلي ومحمد سليم غزوري وطارق البشري ومحمد سليم العوا، والذي يقول بأن الردة جريمة لا علاقة لها بحرية العقيدة، وإنما هي مسألة سياسية (من قبيل الخيانة الوطنية والحرابة، أي الخروج المسلح على الدولة) وبذلك تكون عقوبة المرتد تعزيرا لا حدا، أي أن عقوبة الردة هي تشريع زمني يطبق تبعا لما تمليه المصلحة العامة مع مراعاة البيئة الخاصة.
إن الكثير من المفكرين المسلمين، وعلى رأسهم الشيخ شمس الدين والترابي والغنوشي، يتفقون مع الشيخ عبد المتعال الصعيدي في أن آيات الحرية الدينية أصلية ولم يتم نسخها، وفي أن حرية اختيار العقيدة أو تغييرها مطلقة في الإسلام "فلكل إنسان أن يعتقد ما يشاء في الدنيا، وحسابه على الله تعالى في الآخرة، وليس من حقنا أن نحاسبه بشيء على ما يعتقده، لأن كل إنسان عاقل يتحمل مسؤولية اعتقاده ولا نتحملها نحن عنه، فليس لنا أن نحاسبه على شيء من شأن نفسه وحدها، ولا شأن لنا فيه" (عبد المتعال الصعيدي).
ومع ذلك، فان السائد في فكر الحركة الإسلامية المعاصرة وممارستها، لا علاقة له بما سبق تقريره من موقف إسلامي أصيل في الحرية الدينية وحرية الاعتقاد وتغيير المعتقد. وهذا مما يعيق لا بل يلغي إمكان الحوار، أي حوار. إن قبول الحرية الإنسانية بالمطلق يبدأ بقبول حرية تغيير الرأي أو المعتقد ولعل هذا ما عبّرت عنه وجودية جان بول سارتر، وما كان الإمام شمس الدين قد وصفه بالمغامرة: ففي كل حوار هناك على الدوام مغامرة، فنحن لا نعرف كيف ينتهي الحوار، الذي هو بالنتيجة لحظة وجود أصيلة.
إن روح الحوار، حين تتكرس، تعيد النظر بنظام الأشياء وبالأحكام المسبقة وبالأفكار والتصورات الظنية ("يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه، واتقوا الله إن الله تواب رحيم") (أو كما قال الإمام علي لشيعته: "إني اكره لكم أن تكونوا سبابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم كان أصوب في القول وابلغ في العظة").
سعود المولى