أميركا والحركة الإسلامية العربية
ليس هناك من موضوع ملتبس ومثير في آن واحد أكثر من موضوع علاقة أميركا بالحركة الإسلامية العربية. والحقيقة انه برغم التحالفات أو اللقاءات الظرفية من هنا وهناك (حين كان الأمر مناسباً لأميركا لم تتردد في دعم بعض الحركات الاسلامية) فإن الموقف الأساس في علاقة أميركا بالحركة الإسلامية العربية هو موقف العداء الصريح المعلن أو المضمر، وسلوك التآمر والتشويه، الذي يمكن اعتباره أحد خلفيات الالتباس السابق الذكر في آليات الاستخدام السياسي البراغماتي لبعض أوجه أو مظاهر التعبير السياسي عن الحركة الإسلامية العربية.
إن الحركة الإسلامية العربية بمفهومنا، وبشتى تعابيرها، هي تعبير عن يقظة وصحوة في الأمة وليست كما يفهم الغرب وأميركا ردة رجعية إلى الوراء (إلى ظلام القرون الوسطى بحسب الأدبيات الرائجة).فحين نرى إلى الغرب وكيف ينظر إلى المسلمين والعرب من خلال السينما، وكيف يصور نمط حياة المسلم وسلوكه وأخلاقه وقيمه وعلاقاته، لا نظن أن المسألة نقص في المعلومات أو أن أساطين هوليوود لا يعرفون كيف يعيش المسلم أو العربي، أو أنهم لا يعرفون كيف يصورون وينقلون هذا النمط المعيشي. ولا نظن أن الإعلام الأميركي غبي إلى درجة الجهل الكامل. بل نقول عن يقين إن في المسألة موقفاً تحقيرياً وعدوانياً هو ضروري ومطلوب لرسم صورة الذات في مرآة الآخر.
إن النموذج الثقافي المعاصر للموقف العدائي في أميركا مثّله اليوم فوكوياما وهانتنغتون وقبلهما وبعدهما برنارد لويس نفسه، ناهيك عن دانيال بايبس وأمثاله. ولا نستطيع أن نقول إن هؤلاء لا يعرفون الإسلام والعرب والمسلمين وإنما نستطيع أن نقول إنهم يقومون بمهمة الأدلجة لتركيب صورة الذات في مرآة الآخر خصوصاً بعد انكشاف كون هذا الآخر الذي يسكن أحلام الغرب وهواجسه هو الإسلام. وأخيراً انكشف أن من مقاصد سياسة حلف شمال الأطلسي حرب الإسلام كما جاء على لسان الأمين العام السابق للحلف في خطبته الوداعية. وهذا الكلام يعكس خلفية مداولات أروقة الحلف نفسه وليس كلاماً فردياً عابراً. بل إن أولى بصماته قد ظهرت في الانقلاب الأخير على حكومة أربكان في تركيا، وفي الحملة الإعلامية التي لم تتوقف ضد العربية السعودية ومصر. هناك إذن تحوُّل في مناخ الحلف الأطلسي في اتجاه تشكيل عصبيته على قاعدة حرب الإسلام بعد سقوط مبرر العداء للشيوعية. ومجلة "فورين آفيرز" خصصت عدداً لبحث قضية "هل الإسلام هو الخطر؟" ولم ندهش لرؤية أقلام السيد دانيال بايبس والسيدة جوديث ميلر تصبّ في اتجاه التأكيد بالإيجاب على كون الإسلام هو الخطر.
(*)ورقة قُدِّمت في اجتماع في واشنطن نظمه "المجلس الأميركي للعلاقات الخارجية Council on Foreign Relations"(13/11/1997).
والانطباع الأولي الذي تكوّن لدينا هو أن هناك موقفاً عدائياً في أميركا من الإسلام ومن الحركة الإسلامية واعتبارها خطراً على الغرب وحضارته (من هنا مقولة "صدام الحضارات") أو اعتبارها من مختلفات التاريخ التي ينبغي كنسها (مقولة نهاية التاريخ). أما نحن فإننا نعتقد أن الإسلام (والحركة الإسلامية) ليس خطراً ثقافياً وحضارياً على الغرب وأميركا بقدر ما هو خطر على نظام المصالح الدولي وهو الآن في حالة مريحة ومربحة للغرب وأميركا وفي حال قهر وظلم لنا وللعالم الثالث.
وحقيقة الأمر أن أميركا تتعامل مع الحركة الإسلامية باعتبارها خطراً اقتصادياً وسياسياً (وليس ثقافياً وحضارياًَ كما تدّعي) وذلك لسبب جوهري رئيسي هو ما تحمله هذه الحركة الإسلامية من نبرة رفض وتحدٍّ للمشروع الصهيوني ولدولة إسرائيل. وبالأمس القريب اعتبرت الولايات المتحدة الحركة القومية العربية الخطر وذلك للسبب عينه وليس لسبب ثقافي وحضاري، طالما أن الحركة القومية حاولت تقليد الغرب ومحاكاته في كل مفاهيمها وممارساتها السياسية. وليس مثال صدام حسين أول الأمثلة بل هو أشهرها وقد سبقه مثال عبد الناصر في أواخر الخمسينيات وحتى حرب 67 التي كانت حرباً أميركياً لإسقاط التجربة الناصرية والحركة القومية العربية برمتها.هذا ناهيك عن اسقاط تجربة الرئيس مصدّق في ايران وتجربة عدنان مندريس في تركيا،وهما لم يكونا من المعادين للغرب وإنما كانا من المدافعين عن أوطانهم والمطالبين بالحرية والديمقراطية...
دعونا إذا سمحتم ننظر قليلاً إلى صورة أميركا في خيال العرب وعقلهم وعاطفتهم، عموماً، وأن نجري مقارنة تاريخية بين محطات تشكل هذه الصورة. في الحرب العالمية الأولى (ومبادئ ويلسون الشهيرة التي عليها تأسست عصبة الأمم) ثم بين الحربين العالميتين وصولاً إلى الحرب الثانية وما بعدها وحتى عام 1956 (تاريخ العدوان الثلاثي على مصر) نرى الخط البياني لصورة أميركا في العالم العربي في حالة تصاعد، حيث إن العرب كانوا يعتبرون الولايات المتحدة بلاد العدالة والأخلاق والحرية ويرفعون إليها الشكاوى احتجاجاً على السياسات الأوروبية حيال بلدانهم. وفي عام 1956 تحّول الرئيس إيزنهاور بطلاً قومياً عربياً بسبب الموقف من العدوان الثلاثي على مصر. ولكن الانحدار في الخط البياني بدأ منذ نكبة فلسطين عام 1948 بل منذ قرار التقسيم عام 1947 يوم انكشفت حقائق الضغط المعيب الذي مارسته أميركا على بعض الدول للتصويت إلى جانب قرار التقسيم. وقد وصف إلمر برغر وألفرد ليلنتال لاأخلاقية الممارسات الأميركية في تلك الأيام أبلغ وصف، كما تحدث عنها بالتفصيل الدكتور جورج طعمه سفير سوريا الأسبق في الأمم المتحدة والذي عايش تلك المرحلة.
منذ ذلك اليوم بدأت صورة أميركا تشوِّه وصولاً إلى ما أصبحت عليه اليوم. صورة كريهة بشعة. ولئن كانت أميركا لم تعدم حلفاء وأصدقاء لها في العالم العربي إبان سنوات المواجهة مع الحركة القومية العربية، فإنها اليوم ورغم رفعها لشعار مواجهة الحركة الإسلامية العربية فإنها لا تجد أي حليف أو صديق لها ويكفي أن نقرأ بين السطور لنفهم حقيقة علاقتها بأقوى أصدقائها في العالم العربي أي مصر والسعودية. ذلك أن التصرفات الأخيرة لأميركا كانت مناقضة لأبسط القرارات الدولية العادلة. كما أن الالتباسات والتناقضات المضحكة المبكية في سياسة أميركا حيال الحركة الإسلامية العربية كانت أيضاً خير مثال على ما وصلت إليه صورتها في بلادنا: فالقنابل الصهيونية الأميركية الصنع تضربنا وتقتل أطفالنا، وأميركا توصي بإدخال الأحزاب الإسلامية في الحكم كما في الأردن والمغرب أو بتسليمها الحكم كما في الجزائر... أميركا ضد الإسلام في إيران والسودان وفلسطين ولبنان وهي معه في الجزائر ومصر والعراق حيث يمكن إحداث قلاقل واضطرابات وأزمات لإضعاف هذه الدول الثلاث وهي كما لا يخفى عليكم دول مركزية قوية ذات موقع استراتيجي خطير. إننا أمام صيف وشتاء تحت سقف واحد*..ولجلاء نظرة أميركا حيال الحركة الإسلامية العربية لا بأس من جلاء نظرتنا نحن فيكون إظهار الضد المخالف أو المغاير هو دليلنا...
إن نظرتنا إلى الحركة الإسلامية العربية تنبع من كونها مشروعاً للمجتمع المدني وليس للسلطة أو للحكم. وكلما كانت مشاركتها في الحكم ترشده وتعطيه قوة مدنية، ازداد تأييدنا لها. أما إذا كانت المشاركة على حساب أصالة المجتمع المدني واستقلاليته فإننا لا نشجعها ولا نؤيدها بل ننصح بالتمهل والتبصر. وهذه كانت نصيحة الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين للجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر** كما لغيرها من الحركات وذلك منذ أكثر من عقد من الزمن وقبل انفجار الصراعات الدامية.
النقطة الثانية التي على الغرب (وأميركا) أن يعرفها وأن يتبصر فيها هي أن الحركة الإسلامية العربية لا تقوم لها قائمة خارج ثابت ومسلمة مقاومة المشروع الصهيوني.
وأي حركة إسلامية تقدم على القبول بهذا المشروع في المنطقة لا تعود حركة إسلامية أي أنها تفقد مبرر وجودها وقوتها... ولا ننسى أن الحركة الإسلامية في غزة والضفة الغربية كانت كماً مهمشاً قبل إعلان انطلاق المقاومة الإسلامية "حماس" و"الجهاد الإسلامي". وإننا نطلب من الولايات المتحدة ومن الغرب أن يفهم أن الحركة الإسلامية العربية هي مشروع يقظة ونهضة، ومشروع تحرر واستقلال وتنمية وحرية، يريد إعادة بناء مجتمعاتنا على أسس عقلانية وحضارية وأن يحفظ للأمة شخصيتها. ولذا، فإنه ينبغي أن يكون لهذه الحركة مشاركة في صنع تاريخ وقرار البلاد والمجتمعات لا أن يكون وجود الحركة الإسلامية وجوداً هامشياً أو ديكوراً في الحكم لإعطاء انطباع بالديمقراطية وإضفاء شرعية على الحكم.
*(كتب هذا النص قبل 11 ايلول حين صارت سياسة أميركا هي العداء لكل إسلام بغض النظر عن أصله وفصله وحله ونسبه).
**(في لقاء جرى مع قيادة الانقاذ وبحضوري وحضور الشيخ راشد الغنوشي،في لندن،تموز 1990).
إن هذه الرؤية تفترض في المقابل أن نعترف بأن الحركة الإسلامية تعاني من أمراض مثلها في ذلك مثل الديمقراطية الأميركية أو الأوروبية ومثل أي نظام أو قوة في العالم. والمرض الأساس في الحركة الإسلامية العربية هو مرض استخدام العنف. وهذا ليس أمراً أصيلاً فيها بل هو عرضي ودخيل وحديث وهامشي فهو لا يمثل الحركة الإسلامية أو يعبِّر عن حقيقتها وعن مشروعها. وقد سبق لي أن تناولت بالتفصيل هذا الأمر في كتابي "الحوار الإسلامي المسيحي: ضرورة المغامرة" حيث بيّنت بالوثائق والوقائع كيف أن الحوار والاعتراف بالآخر وقبول التعددية واستخدام الوسائل السلمية والديمقراطية هو الخط العام الرئيسي للحركة الإسلامية منذ الإمام الشيخ محمد عبده وحسن البنا ووصولاً إلى الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين وراشد الغنوشي وحسن الترابي والإخوان المسلمين عموماً.. أما السبب الحقيقي والعميق لما نشهده من انفجار للعنف الثوري في أكثر من مكان في العالم العربي، فيعود إلى سياسات الغرب عموماً وأميركا تحديداً وبخاصة حيال الموقف من إسرائيل ومن المشروع الصهيوني. وقد سبق هذا العنف الإسلامي الراديكالي انفجار موجات من العنف القومي واليساري الراديكالي خلال مراحل الخمسينيات والسبعينيات من هذا القرن وهي موجات يكمل بعضها بعضاً وتشكل ردّ فعل جماهيرياً أو نخبوياً على السياسات الظالمة والعدوانية والوقحة التي تُشنّ ضد الأمة العربية وشعوبها وبلدانها. وبالإمكان التأكيد بأن مصدر التوتر الأساسي في علاقة أميركا بالعالم الإسلامي (وبالحركة الإسلامية العربية تحديداً) هو قضية فلسطين وتبعاتها ومتفرعاتها. ولولا هذا الموضوع فإن الحركة الإسلامية كانت لا تزال منفتحة على الغرب بكل معنى الكلمة. ويكفي أن نذكر هنا أن الحركة الإسلامية وفي إبان احتدام الحرب الباردة بين المعسكرين لم تأخذ موقف العداء للغرب أو التحالف مع الشرق بل هي دفعت ثمن اتهامها بموالاة الغرب. وهي لم تمكِّن الاتحاد السوفياتي في عزّ قوته وحضوره السياسي والإيديولوجي الرسمي والحزبي في المنطقة لم تمكّنه من إيجاد أية قاعدة أو قبول داخل الحركة الإسلامية أو داخل جمهور المسلمين. إن ما نريد قوله هنا إنه لا يوجد موقف عداء أصيل تجاه الغرب بقدر ما يوجد موقف انفتاح واستعداد للتعاون والتفاهم. وأخيراً في مؤتمر " الإسلام والغرب" الذي انعقد في القاهرة بدعوة من وزارة الأوقاف ومن المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية (تموز/يوليو 1997) أعاد الإمام شمس الدين تأكيد أساسيات هذا الموقف باسم الحركة الإسلامية العربية. إن أيدينا ممدودة للغرب وللولايات المتحدة لكي نتفاهم ونتعاون ولكن ذلك غير ممكن ما لم يتهيأ المناخ المناسب، لا تستطيع قيادة إسلامية أو عربية أن تتعاون مع الغرب وأميركا في أي حقل من الحقول والمدافع الإسرائيلية تضرب قرانا ومدننا وتقتل أطفالنا وأهلنا، وقرارات المجتمع الدولي حول القدس والاستيطان وحول الانسحاب من جنوب لبنان ومن الجولان، غير منفذة، ولا توجد إرادة ضغط غربية أو أميركية لتنفيذها على غرار ما يحصل في حصار إيران والسودان وليبيا أو في الموقف من العراق.
وأخيراً اتجهت السياسات الأميركية حيال المنطقة وجهة الدعم والاحتضان الكامل للتعنت الإسرائيلي معطلة مسيرة التسوية (التي دخلها العرب مرغمين) وناقلة التوتر إلى حدود لم تعرفها المنطقة من قبل. ويكفي أن نرى كيف أن أميركا تمارس على أخلص أصدقائها وحلفائها في مصر والسعودية ضغوطاً أقل ما يقال فيها إنها غبية ووقحة. ناهيك عن الموقف الغرب والوقح حيال السلطة الوطنية الفلسطينية ومأزق اتفاق أوسلو نفسه. فإذا كانت أميركا تدعم الاستيطان في القدس والضفة الغربية وتدعم المطلب الإسرائيلي في جعل القدس عاصمة موحدة وأبدية لدولة إسرائيل (قرار الكونغرس نقل السفارة) وتدعم الموقف الإسرائيلي بعدم الانسحاب من الجولان ومن جنوب لبنان، وتضغط على دول المنطقة للخضوع الكامل لمشيئة نتنياهو، فأي وقاحة وأي فظاظة وأي غباء هو هذا؟ وكيف لا يعرف المحللون الاستراتيجيون في واشنطن أين تكمن مصادر التوتر في علاقات أميركا بالعالم الإسلامي؟ وكيف لا يعرف هؤلاء ما هي الخيارات الممكنة لتحسين العلاقات مع العالم الإسلامي ولتدعيم وتعزيز موقع ودور الولايات المتحدة في هذه المنطقة؟ لم يتمكن الأميركيون ويا للأسف من إظهار أن حكومة بلادهم لا تنظر إلى الإسلام والمسلمين نظرة عدائية أو أنها لا تعتبر أن الإسلام والمسلمين مصدر الإرهاب والتطرف... واسمحوا لي أن أكرِّر أمامكم أن برنارد لويس وأمثاله هم مشروع عداء وليس صداقة.. إن ما تواجهونه يتعلق بكيفية إقناع العرب والمسلمين بعكس ذلك. إن العرب والمسلمين يريدون صداقة أميركا ولكن يبدو أن المصلحة الاستراتيجية للحركة الصهيونية هي في أن تخلق حالة عداء دائمة بين العرب وأميركا وأن تخلق حالة مواجهة مستمرة لأجل أن تستأثر هي بصداقة الولايات المتحدة وإمكاناتها وبدل أن تكون أميركا موجودة في مناخها الطبيعي في العالم العربي والإسلامي تصبح الحركة الصهيونية هي الوسيط بين أميركا والعرب. إن أخطاء الإدارة الأميركية عمرها حوالى نصف قرن وهي أدّت إلى سيطرة المؤسسة الصهيونية بدرجة كبيرة وخطيرة على الإعلام الأميركي وعلى المواد التي تصوغ حتى التوجه العاطفي للإنسان (مثل السينما والتلفزيون). نحن نعلم أن بعض المسؤولين الأميركيين يعرفون أن سياسة بلادهم غير عادلة ولكنهم يسكتون عن ذلك خوفاً من الصوت الانتخابي أو من الحملة الإعلامية التشهيرية أو من الضغط المادي الاقتصادي. ولكن مع ذلك فإن على القوى المخلصة لروح الولايات المتحدة ورسالتها أن تفكر في مخرج وأن تتعاون مع العرب والمسلمين ومع غيرهم للخروج من هذا الخطر لأن أميركا بسكوتها عن هذا الوضع تنسج حبل المشنقة حول عنقها. نحن ندرك أنه توجد قوة خارج السيطرة الآن تصنعها وتوجّهها المؤسسة الصهيونية التي يمكنها أن تحارب أي رئيس أميركي من خلال نشر صورة له مع سكرتيرة أو التلميح بدعوى قضائية ما.. ونحن ندرك أن قوة السيدة أولبرايت أكبر من قوة الرئيس. وهذا أمر لسنا نحن المسؤولين عنه. وينبغي للقوة الأساسية في المجتمع الأميركي أن تدرس وتفكر.
نحن لا ندعوكم إلى عداء اليهود فهم بالنسبة لنا بشر مثلنا ولهم حقوق إنسانية وكرامة... ولكننا لا نفهم لماذا الطغيان الصهيوني المنفلت من أي قيود وحدود حيث يجري استخدام شعب وأمة في خدمة سياسات شريرة لا يمكن أن تستمر.
أيها الأميركيون تريدون مساعدة الحركة الصهيونية وإسرائيل هذا شأنكم ولكن لا تسلّموها مفاتيح العلاقة بالعرب والمسلمين. كلما صارت الولايات المتحدة مكروهة منبوذة تصبح الصهيونية أقوى من الأميركيين في أميركا، لماذا تجعلون من إسرائيل ضرورة أميركية في المنطقة؟ لماذا لا تكون مصالحكم الاستراتيجية ومصالح السلام العالمي والأمن والازدهار هي الضرورة الأميركية في العالم العربي والإسلامي؟
وكما سبق القول فإنه لا يوجد عداء طبيعي لأميركا بل العداء الموجود هو نتيجة وثمن لمواقف أميركا في مساندة إسرائيل. إن صورة أميركا في بلادنا في مطلع هذا القرن كانت صورة القوة الخيرة في العالم بعكس صورة أوروبا الظالمة المعتدية. الآن أميركا هي قوة الشر أو الشيطان الأكبر، وأوروبا تعمل لتكون قوة الخير في المنطقة وكل هذا بسبب التبنِّي غير المشروط وغير المبرر لإسرائيل.
ينبغي أن تدركوا أن إسرائيل يستحيل أن تكون موضوعياً دولة دائمة الوجود في هذا العالم العربي الإسلامي. العرب هم أهل البلاد وهم التاريخ وهم المستقبل.
إننا في العالم العربي الإسلامي، وفي الحركة الإسلامية العربية تحديداً، وبما نحمل من قيم الإسلام وحضارته، نريد أن نتواصل مع العالم وأن نثريه، وأن نتعاطى معه على القاعدة القرآنية )وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا(. فليس موقفنا من أية صيغة للنظام العالمي موقف الرفض أو التبنّي وإنما نريد أن نكون جزءاً من هذا النظام الجديد إذا كان عادلاً ونريد أن نتكامل معه على أساس المساهمة في صيغته لا على أساس التلقي والخضوع. إننا لا نطالب بعدالتنا وفق شريعتنا الإسلامية بل فقط بالعدالة الدولية وفق مواثيق وقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن. فهل هذا إرهاب وأصولية وتطرّف؟
إن الوضع العالمي الجديد وسياسات الولايات المتحدة الأميركية تجاه العرب والمسلمين لهي مبعث قلق خطير. لقد انكشف لنا خلال السنوات الماضية أن الهول الذي يواجهنا عرباً ومسلمين كبير جداً ويتناول سلامتنا الجسدية المادية ومضموننا الثقافي والقيمي ومصالحنا الاقتصادية في أخص ما لها من خصائص وفي أشمل ما لها من أطر، كما يتناول دورنا في العالم. إذ يراد أن نكون مجموعة من البشر تزوِّد العالم المتقدم إمكانات السوق وتستهلك ما ينتجه على كل الصعد وتبقى كماً مهملاً لا دور لها ولا ريادة في صنع هذه المرحلة من التاريخ.
إننا بإزاء هذا الوضع المثير للقلق أكدنا مراراً على أن الحريات والديمقراطية والشورى هي شرط لتطور مجتمعاتنا ونهوض أمتنا وتقدم شعوبنا. إن دخولنا عالم الغد باعتبارنا شركاء ومسؤولين لا عملاء وتابعين مرهون ببناء شرطي النهضة: الشرط الداخلي وهو نحن، والشرط الخارجي وهو أنتم.. أي التوازن والعدل في السياسة الدولية وفي سياسة أميركا بالذات حيال العالم العربي الإسلامي. إننا نقوم بواجبنا ومسؤوليتنا في تأمين الشرط الداخلي لبناء السلم الأهلي العربي الإسلامي ولبناء الدولة الجامعة، المتواصلة مع مجتمعها، المتكاملة معه والمعبرة عنه.. ولقد أكدنا مراراً (ومنذ نداء الإمام شمس الدين في أيار/مايو 1990) على المهادنة والمصالحة الداخلية ووقف الاحتراب والنزف في مجتمعاتنا العربية على قاعدة الحوار الدائم بين الأنظمة والقوى السياسية والجماهير الشعبية. وإننا بالقدر نفسه الذي نعمل لتأمين الشروط الداخلية لنهضة شعوبنا وبلداننا وتقدمها، نطالب أميركا والغرب بالعمل لتأمين أجواء السلام والتوازن والعدل في علاقتها بنا، إننا نؤكد لكم على أن خيار المقاومة المسلحة ضد الاحتلال في بلادنا هو خيار وطني، شعبي، ورسمي، وهو أرقى أشكال التعبير عن نزوعنا نحو العدل وهو ليس إرهاباً أصولياً كما قد تنقل وسائل إعلامكم وقادة بلادكم.. إن هذه المقاومة ستستمر ما استمر الظلم والعدوان والاحتلال وما دام المجتمع الدولي في حالة تفرّج وعجز أو تواطؤ وصمت. إننا نطالب فقط بتطبيق العدالة الدولية وقرارات المجتمع الدولي. فهل هذا كثير؟ إن مسؤولية تصحيح صورة الإسلام والحركة الإسلامية أمام شعبكم تقع عليكم أنتم. وأن مسؤولية تصحيح سياسة أميركا تجاه الإسلام والحركة الإسلامية تقع هي أيضاً عليكم..ونحن مستعدون لكل تعاون بناءً لما فيه خير ومصلحة شعوبنا ودولنا والإنسانية جمعاء.
سعود المولى