عن الثقافة والمثقفين
الثقافة حسب قاموس (لاروس) وقاموس (روبير) الفرنسيين هي: (جماع المعارف الإنسانية)، ولكن المقصود هنا هو بالضبط المعارف الذهنية المجرّدة حيث أن المعرفة المادية المباشرة والملموسة لا تنتمي إلى نسق الثقافة. وفي التعريف (الأنكلو ساكسوني) (قاموس ويبستر على سبيل المثال) فإن الثقافة هي عملية تطوير المهارات الذهنية والمعنوية بواسطة التربية والتعليم.. وهي أيضاً المعرفة المتعلقة بالفنون والآداب وكل ما يرتبط بالمهارات التقنية.
وفي الفكر الغربي تعايش النسقان الطبيعي والثقافي وتمايزا وتعارضا بحيث أن المجمع الفرنسي عرّف في معجمه كلمة ثقافة بأنها (تُطلق بالمعنى المجرّد العام في مقابل كلمة طبيعة، فهي العبقرية الإنسانية مضافة إلى الطبيعة بغية تحرير عطاءاتها وإغنائها وتنميتها).
وبهذا فإن النسق الطبيعي، وحشي، بري، بدائي، في حين أن النسق الثقافي حضاري، إنساني، محرّر.. وكذلك فان إرادة النسق الثقافي، الهيمنة والتسلط على الطبيعي، هي ضرورية تحقيقاً للحرية وتحريراً للإنسانية. وفي عصرنا اليوم، ومع التطور الحديث لوسائل وأدوات الاتصال والتواصل والإعلام والمعلومات، أصبحت الغلبة مطلقة للثقافي على الطبيعي؛ أي إن المعرفة المجرّدة أصبحت هي السيدة وذلك على حساب المعرفة المباشرة الحقيقية؛ فالمثقف هو من يستطيع أن يحدثك لساعات عن الثعلب والذئب دون أن يكون قد رآهما أو يعرف الفرق بينهما.. والفلاح القروي الصّياد يعرف عن الثعلب أو الذئب أو غيره من الحيوانات معلومات وأموراً وحكايات وأسراراً اختبرها ولاحظها مباشرة فأعطته معرفة أكثر عمقاً من معرفة المثقف، ولكنها تظل معرفة غير ثقافية طالما أنها غير مجرّدة..
فالثقافة تحتقر المعارف الملموسة رغم أنها لا تستطيع أن تتكون خارج سياق المعرفة الملموسة المباشرة..ولا تعني إشارتنا هذه الحط من قدر المثقف والثقافة أو المعرفة الذهنية المجرّدة وإنما نريد الدلالة على مسألة أعمق من ذلك. فأول مثقف ألف كتاباً حول الزراعة مثلاً، اعتمد على التحقيق المباشر وعلى سؤال الخبراء والمزارعين أصحاب التجربة الحسية الملموسة. وعمله بهذا المعنى هو عمل محترم طالما أنه اعتنى باختيار الشهادات والمصادر وتنويعها وتصنيفها وفرزها.. الخ.
إذن، هذا المثقف الأول له كل الفضل والتقدير.. ثم إنه جاء من بعده من استوحى من أعماله أو نقل نصه معدلاً ومضيفاً.. وهكذا.. ومن واحد إلى واحد.. انتقلت إلينا تلك المعرفة المجرّدة.. ونفس الأمر ينطبق على الصيد وتربية الدواجن وعلى أمور الحياة كلها.. وليست القضية أو المشكلة هنا أيضاً بل هي تبدأ حين تنفصل تلك الفئة من الناس صاحبة المعرفة المجرّدة لتتحول إلى سلطة تحدد وتقرر وتضع المعايير.. فلا يعود بوسع الصياد المجرّب الذهاب إلى الصيد قبل المرور بامتحان يسمح له بنيل إجازة مخصوصة.. وهذا الامتحان لا وظيفة له سوى تقرير المعارف الذهنية المجرّدة للصياد، والحكم في ذلك والمقرر هو المثقف، أما الفلاح الأمي الذي يزرع السهول والحقول ويقطع الغابات والوديان منذ طفولته، ويعرف كل الحيوانات وعاداتها وأوكارها ولغتها وأصواتها وطقوسها وطرقها، كما يعرف كل الأشجار والنباتات، وكل عوامل الطبيعة وتقلباتها.. هذا الفلاح سيكون بالطبع عاجزاً عن اجتياز الامتحان المطلوب والمقرر له من طرف المثقف، لنيل إجازة في الزراعة أو التدجين!!.
إن (انقلاب الصورة) هذا، يحدث في كل المهن اليدوية والحرف، أي في كل الأمور التي يعمل فيها ذكاء الإنسان وشخصيته وإرادته وتجربته وتاريخه انطلاقاً من الأشياء وليس من الكلمات.. فالنسق الثقافي هو نسق المعرفة المجرّدة، والمثقفون أصبحوا هم الوسطاء بين الثقافة، وبين جماهير الناس، وهذا التحوّل أو الانقلاب في الوضع، هو أمر حديث في تاريخ البشرية، ولعله يؤرخ أيضاً لولادة الأنثروبولوجيا التي صاغت بداهة تعريفها للثقافة.. فقال (إدوارد تايلور) في كتابه (الثقافة البدائية- primitive culture) بأن الثقافة هي ذلك (الكل المركب الذي يشتمل على المعرفة والعقائد والفن والأخلاق والقانون والعرف وكل القدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان من حيث هو عضو في مجتمع).
أما (مالينوفسكي) فقال بأن الثقافة هي: (جهاز فعّال يمكّن الإنسان من الانتقال إلى وضع أفضل يواكب المشاكل التي تواجه الإنسان في بيئته).
ولعلّ سلامة موسى هو أول من أدخل لفظة ثقافة بمعناها الأوروبي (كمقابل للفظة Culture) في لغتنا العربية، وهو يقول في ذلك: (كنت أول من أفشى لفظة الثقافة في الأدب العربي الحديث ولم أكن أنا الذي سكّها بنفسه فإني انتحلتها من ابن خلدون، إذ وجدته يستعملها في معنى شبيه بلفظة (كلتور) الشائعة في الأدب الأوروبي الثقافة هي المعارف والعلوم والآداب والفنون يتعلمها الناس ويتثقفون بها، وقد تحتويها الكتب ومع ذلك هي خاصة بالذهن) (1). وقد استخدمها سلامة موسى مجدداً في كتابه (اليوم وغداً) (القاهرة 1928).
كما استخدمها طه حسين في (مستقبل الثقافة في مصر) وكذلك لطفي السيد وفارس نمر ويعقوب صروف وشبلي الشميل وغيرهم في مطلع هذا القرن.
وهكذا حمل لفظ ثقافة العربي نفس معاني ومدلولات مفهوم كلتور الأجنبي وهو انتقل إلى معاجم اللغة منذ السبعينيات.. (2)
وبهذا فإن الثقافة هي (حالة متقدمة عن البدائية، هي أرقى درجات سلم التقدم، وهي نشأت في أوروبا ثم انتشرت في المجتمعات الأخرى الأقل تطوراً).
وبالتالي فانه يمكن تصنيف المجتمعات طبقاً لمدى اقترابها أو ابتعادها عن الثقافة السائدة في أوروبا؛ ومن هنا ظهرت موضوعات اللحاق بأوروبا، والتحديث، ورسالة الأوروبي التمدينية، والتحضيرية، وغيرها..
وهذا المعنى هو الذي حمله سلامة موسى في كتابه (اليوم وغداً) (القاهرة 1928) حيث يقول: (فالرابطة الغربية هي الرابطة الطبيعية لنا لأننا في حاجة إلى أن نزيد ثقافتنا وحضارتنا، وهما لن تزيدا من ارتباطنا بالشرق بل من ارتباطنا بالغرب.. إننا إذا ارتبطنا بالغرب تعلمنا فلسفة عالية وأدباً راقياً ووقفنا على اختراعات عديدة واكتشافات لا حصر لها..!! )، وفي بعض عناوين هذا الكتاب: (التردد بين الشرق والغرب - لسنا شرقيين - الدم الشرقي فينا جلبه علينا العرب - بقينا أوروبيين في تقاسيم وجوهنا ونزعات نفوسنا - الجامعة المصرية هي أداة الثقافة الحديثة - الأزهر هو أداة الثقافة المظلمة ثقافة القرون الوسطى - ليس علينا للعرب أي ولاء - لغة المتنبي ليست لغتنا - لنا من العرب ألفاظهم فقط وليس لغتهم وليس كل ألفاظهم حتى - الرابطة الشرقية سخافة - الرابطة الحقيقية هي رابطة الثقافة وهي رابطتنا بأوروبا).وطه حسين يرى ارتباط مصر بالثقافة الغربية منذ القديم ولهذا السبب يعطي مصر دور (نشر الثقافة في الأقطار العربية)، و(تنظيم الثقافة وتوحيد برامجها) (3).
إن المترجمين النقلة لمفهوم الثقافة الغربي قد أرادوا عن وعي الالتزام بالمفهوم التطوّري للتاريخ وبموضوعة التقدم، وصولاً إلى الدفاع عن الاستعمار والاحتلال (تماماً كما فعل سلامة موسى وشبلي الشميل بوضوح) باعتبار أن التغيير نحو التقدم والتطور واللحاق بركب الحضارة يقتضي التثاقف أو المثاقفة acculturation، وبالتالي فإن مهمة المثقف المحلي هي نقل ثقافة الغرب الأوروبي كونها وسيلة التطور والتقدم، والتخلي عن التراث المحلي (البائد الرجعي المتخلف)، وبالتالي فإن مفهوم الثقافة هو مفهوم معياري (في النص الأجنبي كما لدى النقلة المترجمين العرب)، وقد أعطى الاستخدام الشائع لهذا المفهوم (الثقافة والمثقف) نموذجاً مشوهاً يحمل المعاني والدلالات الأوروبية للمفهوم دون الدلالات الأصلية، على اعتبار أن الدلالات الأوروبية هذه تظهر وكأنها مستنبطة من لغتنا العربية. وهكذا نقرأ في (المعجم الوسيط) لمجمع اللغة العربية في القاهرة(4) وفي المعجم العربي الأساسي لمجمع اللغة العربية (تحت مادة ثقف) أن (الثقافة هي العلوم والمعارف والفنون التي يُطلب الحذق فيها).
وهكذا نعود إلى ما بدأنا به، فإن الثقافة (والمثقف) هي معرفة ذهنية مجرّدة، وهي تحتقر المعارف الملموسة على الرغم من أنها لا يمكن أن تكون قد نشأت إلا بواسطتها أو من خلالها.
وحسب النظريات الأوروبية فإن الثقافة هي التجسيد الفعلي لميل الإنسان نحو التميّز والانفصال عن الطبيعة، ثم هي تتجه نحو ترويض الطبيعة والسيطرة عليها (الطبيعة الخارجية كما الطبيعة البشرية الداخلية) وحسب هذه النظريات فان الخط الفاصل بين الطبيعة والثقافة يتمثل في التقنية، اكتشاف العمل، استخدام اليد في الصناعة، (المفهوم الشيوعي) وبعضها رأى في التحريم الجنسي للأقارب أو اللغة المنطوقة الخط الفاصل بين الطبيعة والثقافة (كلود ليفي ستروس) أو في ضبط الغرائز وتضييق الحياة الجنسية (فرويد) أو في حرمان الإنسان من المتعة واللذّة باسم الأخلاق (نيتشه) أو في نشوء السلطة (هوبز - روسو الخ.. ).
وفي أيامنا هذه أصبحت الثقافة هي الإله المطلق الحاكم الذي يعطي لأتباعه (المثقفون) السلطة على كل الأشياء وكل الناس (الذين لا ينتمون إلى هذا الدين!).
إن هؤلاء هم كهنة هذا (الدين الجديد) أو هم الفريسيون الجدد وهم يقولون للناس إن الثقافة هي الحل لكل مشاكل الحياة الشخصية والاجتماعية وبالتالي فإن من كان لا ينتمي إلى هذا النسق لا يستطيع أن يتولى أي موقع مسؤولية أو إدارة للمجتمع أو للحياة!!.
الهوامش:
(1) سلامة موسى: الثقافة والحضارة - مجلة الهلال القاهرة - ديسمبر 1927 - ص171.
(2) مجمع اللغة العربية - القاهرة: معجم علم النفس والتربية - الجزء الأول(1984)،
مراد وهبه وآخرون: المعجم الفلسفي - القاهرة - دار الثقافة الجديدة (1971)،
مجمع اللغة العربية - القاهرة - مجموعة المصطلحات العلمية والفنية التي أقرها المجمع - المجلد 19 - (القاهرة 1977).
(3) طبعة القاهرة 1936، ج1، ص525 - 536 من كتاب مستقبل الثقافة في مصر.
(4) المعجم الوسيط: ج1 ص 98.
سعود المولى