من الطبيعي أن يكون للموقف الروسي محدّدات ذات طابع مصلحيّ اقتصاديّ وإستراتيجيّ.. فلا يمكن القول بأن الروس بنوا موقفهم من الأزمة الحاليّة على أساس مضاعفات الصّراع العربيّ- الإسرائيليّ أو على حب موسكو للمقاومة والممانعة، فروسيا هي روسيا التي نعرفها، وهي اليوم جزءٌ من الرباعيّة الدوليّة، وقد تهرّبت حتى اليوم من أن تبيع سوريا سلاحًا دفاعيًّا نوعيًّا ضدّ إسرائيل، أما اليوم فإن اللوبي الصهيوني المحيط ببوتين/ميدفيديف قوي جداً ومؤثِّر..
لقد وجد الروس أنفسهم أمام وضع دوليّ جديد يتّسم بأزمةٍ ماليّة كبرى تعصف باقتصاديّات أوروبا والولايات المتّحدة، وأمام محاولات تقوم بها إدارة أوباما لتخفيض النّفقات العسكريّة، ولتقليص الدّور العسكريّ الأميركيّ، وأمام مسعى صيني لأخذ موقع دولي، وأمام موجة يسارية اكتسحت أميركا اللاتينية، وبالتالي فقد كان الباب مفتوحاً أمام روسيا لاستعادة بعض مواقع القوّة والنّفوذ على المسرح العالميّ.
والأيديولوجية المسيطرة اليوم في روسيا هي الأوراسيّة التي حلّت محلّ الشيوعيّة وهي تقوم على أنّ روسيا تجسّد حضارة أوراسيا الجامعة بين السلافيّة والشّعوب الآسيويّة، وأن قدر القارّة الأوراسيّة هو أن تكون إمبراطوريّة بغضّ النّظر عمّن يحكمها... وفكرة أوراسيا هذه كانت دائمًا تخترق جهاز المخابرات الروسيّ وتمثّل إلى حدٍّ بعيد تفكير النّخبة المحيطة ببوتين وخصوصاً مافيا اليهود الصهاينة المحيطة به والمسيطرة على اقتصاد روسيا كله : سيرغي بوغاتشيف، غينادي تيمتشنكو، يوي كوفالتشوك، فلاديمير كوغان، رومان ابراهاموفيتش، أوليغ ديريباسكا، ألكسي مورداخوف، ميخائيل فريدمان، بيوتر آفن، أليكسي ميلر، ديميتري ميدفيديف، ألكسي كودرين...
ثم هناك السّابقة الليبيّة، فقد وقفت روسيا موقفًا معارضًا لأيّ تدخّلٍ خارجيّ في ليبيا حليفها التاريخي في المنطقة. بيد أنّها في النّهاية لم تعترض على تبنّي مجلس الأمن فرض منطقة حظر في الأجواء الليبيّة مع السّماح باتّخاذ كلّ الإجراءات اللازمة لحماية المدنيّين، وهو القرار الذي استخدمه الغرب للهجوم العسكري ما أدى الى انهيار نظام القذافي، ومعه انتهى النّفوذ الروسيّ في ليبيا.
من جهة أخرى فإن القيمة الاجماليّة للعقود السوريّة مع الصّناعة الدفاعيّة الروسيّة، يرجّح أن تتجاوز أربعة بلايين دولار. وتستفيد روسيا كذلك من "تسهيلاتٍ" بحريّة تستأجرها في ميناء طرطوس السوريّ، بما يمنحها المدخل المباشر الوحيد إلى البحر الأبيض المتوسّط الموجود تحت تصرّفها.
بقي العامل الجيو - سياسيّ (الإستراتيجيّ). وبالنّسبة إلى روسيا ، فإنّ خطّ الدّفاع عن مصالحها في آسيا الوسطى يقع اليوم في المنطقة العربيّة. ففي روسيا أعداد مهمّة من السكّان المسلمين، فلا يقلّ عن 25 % من سكّانها هم مسلمون ينتشرون في مناطقَ مفتاحيّة خطيرة بالنّسبة إلى روسيا (في القوقاز، وعلى البحر الأسود، وفي حوض الفولغا، وإلى الشّرق في الأورال وسيبيريا). ويشكّل المسلمون عنصر السكّان الأصليّين (دون المهاجرين والمستوطنين الرّوس) في جمهوريّات داغستان، وأنغوشيا، وجيجنيا (الشّيشان) وأوسيتيا الشماليّة وكاباردينو بلكارسكايا وكريميا (القرم) وجوفاشيا وموردافيا وباشكيريا، وأقاليم قرة جاي والادجيا وأوريغا وغيرها.
كما أن "الغبن الجغرافيّ" الذي يعاني منه الاتّحاد الروسيّ (قلب أوراسيا) في الوصول إلى البحر المفتوح يمثّل أحد العوامل المحدّدة للموقف الروسيّ من سورية، وهو يعدّ من نوع المحدّدات القابلة للتّفاوض والتّباحث لضمان مصالح روسيا..
ومن ثمّ، فإنّ أيّ تغييرٍ محتمل في الموقف الروسيّ سوف يقوم على أساس معادلة جيو-سياسيّة جديدة، يتم التّفاوض عليها مع الفاعلين الرّئيسين المهتمّين بالتطوّرات الحاليّة في العالم العربيّ وإسقاطاتها المحتملة في آسيا الوسطى وشماليّ القوقاز . ومن خلال عمليّة التّفاوض والمساومة (ولعلّها تحدث الآن وراء الكواليس)، سيتمّ إيجاد "التّسوية" التي تحفظ لروسيا مصالحها أو بعضًا منها على الأقلّ في النّظام الإقليميّ الجديد الذي بدأ يتشكّل في المنطقة وقد لفت الانتباه قول لافروف أن المسألة السورية هي بداية نظام عالمي جديد.