ياسين الحاج صالح
خلافاً لأنظمة عربية أخرى، استفاد النظام السوري من خدمات نوعين من الأيديولوجيين غير التابعين له مباشرة: أيديولوجيي الحداثية وأيديولوجيي الممانعة.
ينشغل أيديولوجيو الحداثية بمواجهة الإسلاميين سياسياً وثقافياً، أو «القدامة» كذهنية و «الأصولية» كتفكير وسياسة، بينما يشغل الغرب عموماً، والمحور الأميركي الإسرائيلي بخاصة، مركزَ تفكير الممانعين. و «يؤصل» عموم هؤلاء موقفَهم العدائي سياسياً للغرب بتشكك عميق في الغرب الثقافي.
يبدو النظام السوري جامعاً لمَجْدَي الممانعة والحداثة معاً، فهو في موقع الخصومة لأميركا وإسرائيل، الأمر الذي جعل منه الإقليمَ القاعدة للممانعة وقِبلة مناضليها الموزعين بين البلاد العربية والغرب، وهو في الوقت نفسه خصم للإسلاميين المحليين، وراعٍ لضرب من حداثة مادية واجتماعية تجعله قريباً من قلوب حداثيين سوريين وعرب وغربيين. أما علاقته الطيبة مع الإسلاميين العرب، اللبنانيين والفلسطينيين والعراقيين... فتُدْرَج ضمن إشكالية الممانعة والمصانعة لا إشكالية الحداثة والقدامة.
لم يتح مثل ذلك لأنظمة عربية أخرى. استفاد النظام التونسي من أيديولوجيي الحداثة لكنه كان فاشلاً في امتحان الممانعة بالطبع، أما نظام مبارك، فنال دعماً أقل من الحداثيين، وأسوأ الدرجات عند الممانعين. وإذا استعرضنا البلدان العربية واحداً واحداً، فإن أياً منها لم يفز ببركات الممانعين والحداثيين معاً غير النظام السوري. ولذلك حظي بصيت إيجابي، شعبي ونخبوي، في العالم العربي لم يحظَ بمثله غيرُه.
ولقد وضع هذا معارضي النظام السوريين، الذين يولون أهمية أولى لنمط ممارسة السلطة ومستوى الحريات العامة، في وضع بالغ السوء، فعموم الممانعين ضدهم، لأنهم (المعارضين الديموقراطيين) أخصام لقاعدة الممانعة، ولأن الديموقراطية التي ينادون بها بكل سذاجة لا تعدو كونها إضعافاً للبلاد ومدخلاً لهيمنة القوى الغربية على مقدراتها، وعموم الحداثيين ضدهم أيضاً، لأنهم أخصام لنظام حداثي، ولأن دعوتهم الديموقراطية الساذجة أيضاً ليست أكثر من حصان طروادة سيقفز منه الإسلاميون إلى حكم البلاد، ومجرد مدخل إلى «طغيان الأكثرية» الإسلامية. وهكذا، فهم خطأ في الحالتين.
وبالفعل، شهدت السنوات الأخيرة تخويناً واسعاً للمعارضين السوريين على أرضية الممانعة، والتحريض عليهم والتشهير بهم، بل وإظهار الشماتة باعتقال من قد يُعتقل منهم. هناك وقائع وأسماء معروفة في هذا الشأن، كان اللافت أن رؤوس حربتها مقيمون في الولايات المتحدة. وقد تزامن التخوين مع تسفيه لهم لا يقل شأناً، على يد أيديولوجيي الحداثة، الذين وجدوا أن واجبهم يملي عليهم نقد معارضي النظام على سذاجتهم و «ديموقراطويتهم»، وعلى أنهم لا يعادون الإسلاميين بالقدر المطلوب، ولا يرون أن السياسة جزء من الثقافة... إلخ. وإن لم يعبر هؤلاء عن موقف صريح إلى جانب النظام، فإنهم لا يجدون ما يقال عنه غير عموميات عن الاستبداد، كانوا يسارعون إلى العثور على ما يشابهها عند معارضيه بالقدر نفسه أو أكثر.
لقد مضت أوقات طويلة كان من الصعوبة بمكان أن يكون المرء فيها معارضاً سورياً.
الانتفاضة أربكت الطرفين، فلم يستطع الحداثيون، وهم قوم مشتغلون بالثقافة، المثابرةَ على الصمت، واضطروا لقول أشياء ناقدة للنظام، لكن بدا الأمر قياماً بواجب ثقيل، وليس تفاعلاً إيجابياً مع واقع مستجد لا يحدث مثله كل عقد، ولا حتى كل جيل، ولم يُظهر أحد منهم ما يشير إلى تعارض الثورة السورية، بل والثورات العربية عموماً، مع مخططاته الإدراكية القارة، أو استعداداً لمراجعة تلك المخططات وتعديلها بحيث تتفاعل بمرونة أكبر مع المتغيرات الجديدة. في المحصلة، قال الحداثيون الأشياء وضدها، إنهم ضد استبداد النظام وعنفه، لكنهم أضافوا من الاستدراكات ما يفرّغ هذه المواقف من محتواها، هذا مع مثابرة على التشاؤم، ومع انفصال نفسي عن كل ما يجري.
الممانعون، وهم قوم نضال لا ثقافة، قالوا أشياء كثيرة يلغي بعضها بعضاً. إنهم لا يرضون طبعا أن يُقتَل السوريون، لكن بدا أن السوريين المقتولين مغرَّرٌ بهم، لا يفهمون السياسات الدولية، ولا يتبينون المخططات الغربية المتربصة ببلدهم، ولا يرون أن «المقاومة» (= حزب الله) مستهدفة، فإذا أحرق منتفضون سوريون أعلاماً لحزب الله، بعد أن اصطف الأخير بصورة حاسمة إلى جانب النظام، كان هذا دليلاً على أن الانتفاضة السورية مؤامرة دولية. وسيمضي بعضهم إلى حد نفي أي تماثل بين الانتفاضة السورية والثورتين التونسية والمصرية، وتفسير الأخيرتين بتبعية نظامي حكمهما للغرب، وليس بأوضاع اجتماعية وسياسية واقتصادية يتساوى معهما على أرضيتها النظامُ السوري. ولم يكد يطرح جدياً سؤال عن نصيب النظام السوري من الحداثة المنتِجة، أو عن جدية اعتراضه على الهيمنة الأميركية الإسرائيلية في الإقليم.
تعاني الحداثية العربية من تثبّت فكري على شكل قديم للرجعية الاجتماعية والثقافية والسياسية، ذاك المرتبط بالبيئات الإسلامية التقليدية، لكنها لا تتبين شكلاً حديثاً للرجعية حداثياً وفاشياً، هو الذي يفتك بالمجتمع السوري اليوم، ولا يميزون من جهة أخرى ضمن الشكل القديم للرجعية، بين نزعة محافظة تدافع عن درجات أعلى من الاستقلال الاجتماعي، وإنْ ليس بالضرورة من الحرية الفردية، وبين صيغة رجعية مقاتلة تتمثل في السلفية الجهادية. لا مجال للمقارنة بين المحافظ الاجتماعي وبين الرجعي الحداثي، فهذا يدافع بضراوة عن أوضاع امتيازية تقارب العبودية، ويُظهر استعداداً طيباً للقتل الجماعي الواسع النطاق، وهو -بالمناسبة- ليس اكتشافاً حديثاً، فنحن نعرفه في سورية منذ أكثر من جيل، وهو يتجسد مؤسسياً في أجهزة الأمن وميلشيات الشبيحة المرتبطة بها. لكن الحداثيين لم يأخذوا علماً به، وليس مؤكداً أنهم سيأخذون اليوم علماً به، بل هناك من الشواهد المتواترة على ضرب من القرابة بين الداعية الحداثي وجنرالات المخابرات، الأصل فيها على الأرجح هو العدو المشترك، أي الإسلامية. أما المحافظ التقليدي، فهو يجمع اليوم بين التدين والدفاع عن الحرية، وإن تكن الحرية التي يعنيها أقرب إلى الاستقلال الاجتماعي، كما قلنا. هناك رجعيون دينيون متطرفون، سلفيون جهاديون وما شابه، لكنهم أقرب إلى الرجعية الحديثة، وإلى أساليبها الفاشية منهم إلى المحافظة التقليدية، وأصول هؤلاء حداثية، وإن تكن شرعيتهم دينية. وبين التنويعتين، المحافظة الاجتماعية والسلفية الجهادية، ثمة التنويعة الإخوانية، وهي تترجح بين المحافظة الاجتماعية والثقافية وبين الرجعية المقاتلة.
وبدورها تعاني الممانعة من تثبّت مشابه على السيطرة الأجنبية التقليدية اللاغية للاستقلال الوطني أو المقيِّدة له، ولا تتبين أشكالاً من السيطرة السياسية لا تقف عند إلغاء الاستقلال الاجتماعي واستقلال الأفراد، بل تسحق الجميع وتتعامل مع المحكومين كأنهم عبيد. ليس لهياكل السيطرة هذه قضية تتجاوز خلودها الذاتي، وهي لا تصلح بحال أساساً لمقاومة أي سيطرة أجنبية، فإذا كان المراد بلورة سياسة ناجعة حيال السيطرة الأميركية الإسرائيلية، فلا مناص من تفكيك الطغيان الحديث، هياكلَ حكمٍ وأيديولوجياتٍ ونُظُمَ مصالح. ولا بد أيضاً من التخلص من ازدواج المعايير السياسية والأخلاقية الواسم لعقيدة الممانعة: نصرة الممانعين، ظالمين أو مظلومين، وعلو النبرة ضد غيرهم. ولقد ظهر هذا الضرب من النفاق بوضوح حيال الانتفاضة السورية.
تشترك الأيديولوجيتان في الانحياز للسلطة (متقدمةً مَرة، وصامدة مرة) ضد المجتمع (متخلفاً مرة، وغير مؤتمن على القضية مرة)، وفي منزع لا إنساني عميق. الحداثية السورية (والعربية) متمركزة حول الأشياء والواجهات لا حول الإنسان وحقوقه وحرياته وإبداعه، والممانعة حول القضية و «الوطن» لا حول سكان البلد. لا وجود للمجتمع، ويقع خارج نطاق التفكير كيف ينتج وكيف ينتظم وكيف يفكر وكيف يتعاون، ومم يشكو وماذا يأمل. ..... لكن ها هو يدخل بصخب إلى المشهد.
ختاماً، الحداثية والممانعة سندان أيديولوجيان للنظام الذي يستعبد السوريين. من شأن نقدهما أن يكون مساهمة في الانتفاضة التحررية للشعب السوري. هذه المقالة مجرد طرح أولي للقضية.
الثلاثاء، 30 أغسطس 2011
الأحد، 28 أغسطس 2011
الاستراتيجية القذافية في الثورة والثروة
حسام عيتاني
أمام ندرة المعلومات التي يمكن الركون إليها من بين ركام خطابات معمر القذافي، قد تكون العودة إلى المعطيات الاقتصادية السبيل الأقرب للحصول على صورة واقعية عما كانت عليه الحال في الجماهيرية العظمى.
لا ريب في أن القذافي قد حوّل ببهرجته واستعراضه اللوني الذي لا ينتهي، وبأفعاله وحارساته وخيمته، الانتباه عن حقيقة وضع المجتمع الليبي في الأعوام التي قبع على رأس النظام، مع صفة رسمية ومن دونها. وإذا صح الاعتقاد أن الاستراتيجية القذافية في الهندسة الاجتماعية هي التفريغ والتجميد، أي طرد ونبذ أي عنصر فاعل من الداخل وإبعاده إما إلى المنافي أو إلى السجون أو «تغييبه»، ومنع خروج أي خطة تطوير إلى حيّز التنفيذ بهدف بقاء ليبيا في حالة تسهل «معرفتها» كمقدمة لازمة للسيطرة عليها، من قبل نظام قليلة قدراته على امتلاك المعرفة.
وليبيا التي تملك أكبر احتياطي نفطي مؤكد في أفريقيا (أكثر من 40 بليون برميل) والتي يرى خبراء النفط أن باطن أرضها ما زال يحتوي الكثير من هذه الثروة بسبب ضآلة المساحات التي تم مسحها جيولوجياً، مقارنة بالرقعة الشاسعة للأراضي الليبية (حوالى 1.755 مليون كليومتر مربع)، ترتفع نموذجاً مدهشاً على ما يمكن أن ينزله حكم غشوم ببلد ثري. ولا تفيد كثيراً معطيات الاقتصاد الكلي في فهم ما كان يدور في ليبيا. إذ إن الأرقام تتحدث عن أعلى مستوى للدخل الفردي في أفريقيا (14.8 ألف دولار سنوياً) ونسبة نمو تزيد عن العشرة في المئة منذ بداية العقد الحالي. أما الوقائع التي بدأت تظهر إلى العلن منذ انطلاق ثورة السابع عشر من شباط (فبراير) فتقول إن الثروة الوطنية كانت ملكاً شخصياً للقذافي وأفراد أسرته، وإن الأرقام الفلكية لمداخيل تصدير النفط، كانت تختفي من الحسابات العامة للدولة من دون أثر تقريباً، وسط «مدينة الملاهي» التي يطلق عليها اسم اللجان الثورية واللجان الشعبية وأسماء أخرى تخلو كلها من المعنى.
كثيرة هي المتشابهات والمتوازيات بين ليبيا في عهد معمر القذافي والعراق أثناء حكم صدام حسين في التفاوت المخزي بين الإمكانات المالية ومستويات المعيشة العامة. ثم إن الأخير تميز في مجال اضطهاد الجماعات بعدما فرغ من خصومه الأفراد، فتنقل يقتل البعثيين والشيوعيين والأكراد والشيعة، والمعارضين من كل صنف وجنس وحزب وملّة. لكن إذا لم تشتهر عملية اضطهاد كبيرة نفذها القذافي ضد جماعة محددة، على غرار «أنفال» صدام ضد الأكراد، إلا أن «ملك ملوك أفريقيا» لم يتردد، كنظيره المشرقي، صدام، في الاستخدام الكثيف للمال في شراء ولاءات وتمويل عداوات محلية وخارجية.
المهم في هذا الجانب أن ما كانت تقوله أرقام البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة للتنمية عن وصول نسبة البطالة إلى خمسين في المئة وإلى ميل طاغٍ لتوظيف الأجانب ووصول نسبة سكان المدن إلى 85 في المئة من بين الليبيين، لم يأتِ من تطور غير منسق لاقتصاد أحادي الجانب يقوم على تصدير النفط وحسب، بل جاء أيضاً - ومثل ليبيا في ذلك مثل الكثير من دول العالم الثالث الغنية بالثروات الطبيعية والفقيرة إلى مؤسسات الدولة والقانون - جاء نتيجة تصميم مسبق، سياسي واجتماعي، على حصر امتيازات السلطة والقوة في أيدي فئة قليلة.
الممارسة هذه ليست فريدة في عالم السلطات العربية حيث برزت أشكال السلطة الشمولية من أوروبا الوسطى والشرقية على خلفية العائلات والطوائف. المميز في التجربة الليبية أن جانب «التفريغ» أو التجويف، الذي سبقت الإشارة إليه، قد جاوز كل الشكليات التي راعتها الدول العربية الأخرى. وبذريعة أيديولوجيا «ثالثة»، جرى تفكيك نواة الدولة التي كان الحكم الملكي «الذي «أزكمت رائحته النتنة الأنوف» - على ما قال القذافي في بيان استيلائه على السلطة - يسعى إلى بنائها.
نجاعة ذرائع القذافي التي أجملها في كتابه الأخضر، وفي تجويفه الدولة والمجتمع الليبيين من أي نواة قادرة على التطور وتشكيل البديل، يدل عليه تطاول حكمه إلى الحد الذي بدا معه أن سلالته ستحكم ليبيا حتى آخر برميل نفط فيها. بيد أن نجاح «الطريق الثالث» القذافي، لم يكن شيئاً مختلفاً في الجوهر عن نجاحات أسر زين العابدين بن علي وحسني مبارك وحافظ الأسد وعلي عبدالله صالح، وغيرهم من الرؤساء الذين يحتفل أكثرهم بالاستيلاء على السلطة بأعياد يسميها أعياد التغيير أو الثورة.
تطويع الليبيين من خلال التسلط على حقهم في ثروتهم وإخضاعهم لاعتباط القذافي وأبنائه، لا يختلف إذاً عن النهب المنظم للدولة المصرية الذي مارسه حسني مبارك وزين العابدين بن علي، وهي عملية ترمي إلى الحفاظ على الثروة في أيد أمينة، من جهة، وضمان ارتباط «العامة» (البشر من دون صفتهم السياسية التي تحولهم الى «شعب» أو «مواطنين») «بأسياده». واللافت أن ما من بلد عربي تجرى فيه الإطاحة بالنظام التسلطي، كتونس ومصر وليبيا، إلا وتظهر حاجة ملحة إلى برنامج ضخم لإعادة البناء - بناء لإصلاح «الإنجازات» التي حققتها الأنظمة السابقة والتي دفعت بلادها ومجتمعاتها إلى صحراء سياسية قاحلة.
وقد يكون من المبالغة في التفاؤل توقع انتقال الأوضاع في ليبيا من الحالة التي رأينا إلى درجة عليا من العقلانية في إدارة الثروة الوطنية على غرار البرنامج النروجي في إدارة ثروة الأجيال المقبلة. لكن من المهم التمسك بفرضية إدراك الحكومات الجديدة في البلدان التي نجحت حتى الآن في التخلص من المستبدين فيها، بأهمية التخطيط التنموي (وهذا يختلف عن الاقتصاد الموجه اختلافاً جذرياً).
المثال السيئ الذي يرد إلى الذهن هنا هو ما تقوم به الحكومة العراقية، ومنذ أعوام، من إعادة تطبيق أسوأ طرق الإنفاق غير المدروس والإسراف في المشاريع غير الإنتاجية وتحويل البلاد إلى مستهلكة لمنتجات مستوردة، ضمن استراتيجية وحيدة هي التمسك بالسلطة.
دروس صدام والقذافي ومبارك لم تُستوعب كما يجب.
في أمّ معاركه... النظام السوري يخوض حروبه السابقة
ياسين الحاج صالح
من المحتمل أن النظام السوري ينهل من إطاري خبرة مرجعيين في تعامله مع الانتفاضة. أولهما ما يعرف بأزمة الثمانينات، والثاني أزمة ما بعد اغتيال رفيق الحريري. فإن كان ذلك صحيحاً، على ما نقدّر، كان من شأن إلقاء نظرة عليهما أن يساعد في فهم كيفية تفكير النظام اليوم في مواجهة الأزمة الوطنية الراهنة، وفي تقدير محصلة هذه المواجهة.
رغم أن الشكل الأكثر درامية لمعارضة النظام في أزمة الثمانينات كان إسلامياً وعنيفاً، فإن حركة المعارضة شملت يساريين ومثقفين وطلاب جامعات ونقابات مهنية. تفجرت الأزمة بمجزرة، وانتهت بمجرزة. في أواخر ربيع 1979 قتل تنظيم الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين عشرات طلاب الضباط العلويين في مدرسة المدفعية في حلب، وفي شباط (فبراير) 1982 قتل النظام ما قد يصل إلى 30 ألفاً من سكان مدينة حماة إثر مواجهة أخيرة مع مجموعات من الإسلاميين. لكن منذ صيف 1980 كان واضحاً أن الإسلاميين أخفقوا في إثارة انتفاضة عامة ضد النظام، وأن بؤر التمرد النشطة عليه اقتصرت على حلب وحماة وإدلب، وبعض البلدات التابعة للأخيرتين. مشاركة حمص ودمشق كانت محدودة، والمدن الأخرى أقرب إلى معدومة.
وإثر محاولة لاغتيال الرئيس حافظ الأسد في حزيران (يونيو) 1980، جرى قتل مئات المعتقلين الإسلاميين في سجن تدمر، والتوسع في سياسة الاعتقال والتعذيب والاستئصال حيال الإسلاميين والبيئة التي خرجوا منها. ولم يكد النظام يأمن إلى أنه وجّه ضربة ماحقة للإسلاميين حتى اعتقل معارضيه اليساريين بنيّة استئصالهم، ثم حلّ نقابات المهن العلمية وأعاد تشكيلها من أتباعه. وقبل ذلك كان احتل الجامعات بالمخابرات، وشكل ميليشيات طالبية من البعثيين المسلحين للسيطرة على الطلاب. وجرى بناء جيش مهول من الوشاة والمخبرين، واعتقل عشرات ألوف الناس بناء على «تقاريرهم»، وكان التعذيب روتينياً... والإذلال كذلك. وقد استمر التعذيب في سجن تدمر حتى وقت قريب من 2000، وكان ضحيته الإسلاميون وجماعة بعث العراق أولاً، لكن أيضاً سجناء يساريون أحياناً.
تميزت تلك الفترة وأكثر من عقد تلاها بفائض مهول من القمع، يتجاوز مقتضيات تأمين النظام إلى إرهاب المجتمع السوري وإسكان الهزيمة في قلوب السوريين وعقولهم. وهو ما تحقق فعلاً لنحو جيل. ولعل النظام استخلص من ذلك أن الحل الصحيح للمنازعة السياسية الداخلية هو سحق المنازعين، ورفض أية تسوية معهم أو تقديم أي تنازل لهم.
المشكلة مختلفة في 2005. كان جرى التمديد لإميل لحود في لبنان دونما ضرورة من وجهة نظر مصالح النظام بالذات (ربما عدا المالية السرية منها)، وبمبادرة أميركية - فرنسية صدر القرار 1559 الذي يقضي بانسحاب القوات السورية من لبنان ونزع سلاح الميليشيات فيه، ثم اغتيل الحريري، وشيّعه جمهور لبناني كبير اتجه بلومه إلى النظام السوري. وخلال عشرة أسابيع انسحبت القوات السورية اضطراراً من لبنان. وتشكلت لجنة تحقيق دولية في اغتيال الحريري، وجرت سلسلة اغتيالات استهدفت بصورة شبه حصرية خصوم النظام السوري اللبنانيين. وصعّدت المعارضة الداخلية في البلاد موقفها من النظام، وتشكل لها ما يقارب إطاراً جامعاً سمي إعلان دمشق، و «انتحر» غازي كنعان، وزير الداخلية السوري آنذاك ورئيس المخابرات السورية في لبنان في سنوات سبقت، و«انشق» عبدالحليم خدام في نهاية 2005.
وطوال عام أو أكثر كان مصير النظام موضع مضاربات متنوعة، تقدر انهياره في أي وقت. لكن في الوقت نفسه كان الاستقطاب الداخلي يحتدم في لبنان مع دور سوري في ذلك، وكانت أوضاع العراق تبلغ ذروة من الانفلات، جعلت البلد غير قابل للحكم، ودفعت الأميركيين قبل نهاية 2006 إلى إصدار تقرير بيكر - هاملتون الذي كان بمثابة انعطاف عن سياسة المواجهة، وتراجع عن «الثورية» الأميركية المحافظة الجديدة التالية لاحتلال أفغانستان والعراق باتجاه الانخراط مع القــــوى الإقليمية بدل مواجهتها وتخويفها. وكان للنظام السوري ضلع في ذلك أيضاً. وفي تموز (يوليو) 2006 تفجرت حرب دامت نحو خمسة أسابيع بين إسرائـــيل و«حزب الله» المدعوم مـــن سورية، والذي قاتـــل ببسالة ووجّه ضربة قويــة للردعيــــة الإسرائيلية. انتهت الحرب بفشل إسرائيلي، وبفوز نسبي لسورية و«حزب الله» في المواجهة، لكن مع تعمق الانقسام اللبناني وتحول لبنان إلى بلد غير قابل للحكم بدوره.
في شباط 2006 فازت حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية، فاستنتجت القوى الغربية أن الديموقراطية في العالم العربي والإسلامي تخدم الإسلاميين، وهو ما بدا أن دخول الإسلاميين المصريين الى البرلمان بنسبة لافتة، قبل شهور من ذلك، يصادق عليه.
وقد أدت جملة هذه العمليات إلى تراجع الضغوط الدولية على النظام، وإلى عودة الأميركيين إلى سياسات شرق أوسطية متمركزة حول الاستقرار بعد نحو خمس سنوات من الكلام على «تغيير الأنظمة» و «إعادة رسم الخرائط» و «الفوضى الخلاقة» و «الشرق الأوسط الجديد».
لا يبعد أن يكون الدرس الذي استخلصه النظام السوري من هذه الأزمة هو أن استقراره مرهون بتوسيع قاعدة اللاإستقرار إقليمياً قدر الممكن، والاستفادة من بؤر التوتر السياسي القائمة. وكانت هذه هي النقطة الأهم في ما قاله رامي مخلوف لصحيفة أميركية في وقت مبكر من الانتفاضة. هذا مع الضبط الداخلي المتشدد وعدم التسامح مع أية خلافات داخل مراتب النظام العليا، ومع كسب الوقت إلى أقصى حد، والرهان على تغير اتجاهات الريح السياسية الدولية.
اليوم يخوض النظام أمّ معاركه، مطبقاً خبرة الثمانينات نفسها... لكنه لا يبدو قادراً على المضي إلى الحد الذي بلغه في حماة 1982. هذا بفعل فقدان الظهير الدولي، وعمومية الانتفاضة اليوم وتفوقها الأخلاقي مقارنة بصراعه مع الإسلاميين قبل ثلاثة عقود، والتغطية الإعلامية الواسعة التي تؤمنها الانتفاضة لنفسها. ومن جهة أخرى، لا يبدو النظام قادراً على تحريك الأوضاع الإقليمية، أو أن محاولاته في هذا الشأن تفشل بسرعة وتأتي بنتائج عكسية، على نحو ما جرى على جبهة الجولان في ذكرى النكبة، ثم النكسة. ومن غير المحتمل أن تخوض إيران حرباً من أجله، أو «حزب الله». ولا يبدو أن الوقت حليفه هذه المرة، بل لعله خصم له.
مع ذلك يمضي النظام في خوض حروبه السابقة. لا يقتصر الأمر على تأويل المواجهة الجديدة على ضوء خبرات قديمة، بل على مواجهة الأعداء أنفسهم: عصابات مسلحة (سلفية) وقوى غربية متآمرة. من غير المحتمل أن ينجح ذلك في إنقاذ النظام، لكنه قد يكون «ناجحاً» جداً في تدمير البلد.
من المحتمل أن النظام السوري ينهل من إطاري خبرة مرجعيين في تعامله مع الانتفاضة. أولهما ما يعرف بأزمة الثمانينات، والثاني أزمة ما بعد اغتيال رفيق الحريري. فإن كان ذلك صحيحاً، على ما نقدّر، كان من شأن إلقاء نظرة عليهما أن يساعد في فهم كيفية تفكير النظام اليوم في مواجهة الأزمة الوطنية الراهنة، وفي تقدير محصلة هذه المواجهة.
رغم أن الشكل الأكثر درامية لمعارضة النظام في أزمة الثمانينات كان إسلامياً وعنيفاً، فإن حركة المعارضة شملت يساريين ومثقفين وطلاب جامعات ونقابات مهنية. تفجرت الأزمة بمجزرة، وانتهت بمجرزة. في أواخر ربيع 1979 قتل تنظيم الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين عشرات طلاب الضباط العلويين في مدرسة المدفعية في حلب، وفي شباط (فبراير) 1982 قتل النظام ما قد يصل إلى 30 ألفاً من سكان مدينة حماة إثر مواجهة أخيرة مع مجموعات من الإسلاميين. لكن منذ صيف 1980 كان واضحاً أن الإسلاميين أخفقوا في إثارة انتفاضة عامة ضد النظام، وأن بؤر التمرد النشطة عليه اقتصرت على حلب وحماة وإدلب، وبعض البلدات التابعة للأخيرتين. مشاركة حمص ودمشق كانت محدودة، والمدن الأخرى أقرب إلى معدومة.
وإثر محاولة لاغتيال الرئيس حافظ الأسد في حزيران (يونيو) 1980، جرى قتل مئات المعتقلين الإسلاميين في سجن تدمر، والتوسع في سياسة الاعتقال والتعذيب والاستئصال حيال الإسلاميين والبيئة التي خرجوا منها. ولم يكد النظام يأمن إلى أنه وجّه ضربة ماحقة للإسلاميين حتى اعتقل معارضيه اليساريين بنيّة استئصالهم، ثم حلّ نقابات المهن العلمية وأعاد تشكيلها من أتباعه. وقبل ذلك كان احتل الجامعات بالمخابرات، وشكل ميليشيات طالبية من البعثيين المسلحين للسيطرة على الطلاب. وجرى بناء جيش مهول من الوشاة والمخبرين، واعتقل عشرات ألوف الناس بناء على «تقاريرهم»، وكان التعذيب روتينياً... والإذلال كذلك. وقد استمر التعذيب في سجن تدمر حتى وقت قريب من 2000، وكان ضحيته الإسلاميون وجماعة بعث العراق أولاً، لكن أيضاً سجناء يساريون أحياناً.
تميزت تلك الفترة وأكثر من عقد تلاها بفائض مهول من القمع، يتجاوز مقتضيات تأمين النظام إلى إرهاب المجتمع السوري وإسكان الهزيمة في قلوب السوريين وعقولهم. وهو ما تحقق فعلاً لنحو جيل. ولعل النظام استخلص من ذلك أن الحل الصحيح للمنازعة السياسية الداخلية هو سحق المنازعين، ورفض أية تسوية معهم أو تقديم أي تنازل لهم.
المشكلة مختلفة في 2005. كان جرى التمديد لإميل لحود في لبنان دونما ضرورة من وجهة نظر مصالح النظام بالذات (ربما عدا المالية السرية منها)، وبمبادرة أميركية - فرنسية صدر القرار 1559 الذي يقضي بانسحاب القوات السورية من لبنان ونزع سلاح الميليشيات فيه، ثم اغتيل الحريري، وشيّعه جمهور لبناني كبير اتجه بلومه إلى النظام السوري. وخلال عشرة أسابيع انسحبت القوات السورية اضطراراً من لبنان. وتشكلت لجنة تحقيق دولية في اغتيال الحريري، وجرت سلسلة اغتيالات استهدفت بصورة شبه حصرية خصوم النظام السوري اللبنانيين. وصعّدت المعارضة الداخلية في البلاد موقفها من النظام، وتشكل لها ما يقارب إطاراً جامعاً سمي إعلان دمشق، و «انتحر» غازي كنعان، وزير الداخلية السوري آنذاك ورئيس المخابرات السورية في لبنان في سنوات سبقت، و«انشق» عبدالحليم خدام في نهاية 2005.
وطوال عام أو أكثر كان مصير النظام موضع مضاربات متنوعة، تقدر انهياره في أي وقت. لكن في الوقت نفسه كان الاستقطاب الداخلي يحتدم في لبنان مع دور سوري في ذلك، وكانت أوضاع العراق تبلغ ذروة من الانفلات، جعلت البلد غير قابل للحكم، ودفعت الأميركيين قبل نهاية 2006 إلى إصدار تقرير بيكر - هاملتون الذي كان بمثابة انعطاف عن سياسة المواجهة، وتراجع عن «الثورية» الأميركية المحافظة الجديدة التالية لاحتلال أفغانستان والعراق باتجاه الانخراط مع القــــوى الإقليمية بدل مواجهتها وتخويفها. وكان للنظام السوري ضلع في ذلك أيضاً. وفي تموز (يوليو) 2006 تفجرت حرب دامت نحو خمسة أسابيع بين إسرائـــيل و«حزب الله» المدعوم مـــن سورية، والذي قاتـــل ببسالة ووجّه ضربة قويــة للردعيــــة الإسرائيلية. انتهت الحرب بفشل إسرائيلي، وبفوز نسبي لسورية و«حزب الله» في المواجهة، لكن مع تعمق الانقسام اللبناني وتحول لبنان إلى بلد غير قابل للحكم بدوره.
في شباط 2006 فازت حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية، فاستنتجت القوى الغربية أن الديموقراطية في العالم العربي والإسلامي تخدم الإسلاميين، وهو ما بدا أن دخول الإسلاميين المصريين الى البرلمان بنسبة لافتة، قبل شهور من ذلك، يصادق عليه.
وقد أدت جملة هذه العمليات إلى تراجع الضغوط الدولية على النظام، وإلى عودة الأميركيين إلى سياسات شرق أوسطية متمركزة حول الاستقرار بعد نحو خمس سنوات من الكلام على «تغيير الأنظمة» و «إعادة رسم الخرائط» و «الفوضى الخلاقة» و «الشرق الأوسط الجديد».
لا يبعد أن يكون الدرس الذي استخلصه النظام السوري من هذه الأزمة هو أن استقراره مرهون بتوسيع قاعدة اللاإستقرار إقليمياً قدر الممكن، والاستفادة من بؤر التوتر السياسي القائمة. وكانت هذه هي النقطة الأهم في ما قاله رامي مخلوف لصحيفة أميركية في وقت مبكر من الانتفاضة. هذا مع الضبط الداخلي المتشدد وعدم التسامح مع أية خلافات داخل مراتب النظام العليا، ومع كسب الوقت إلى أقصى حد، والرهان على تغير اتجاهات الريح السياسية الدولية.
اليوم يخوض النظام أمّ معاركه، مطبقاً خبرة الثمانينات نفسها... لكنه لا يبدو قادراً على المضي إلى الحد الذي بلغه في حماة 1982. هذا بفعل فقدان الظهير الدولي، وعمومية الانتفاضة اليوم وتفوقها الأخلاقي مقارنة بصراعه مع الإسلاميين قبل ثلاثة عقود، والتغطية الإعلامية الواسعة التي تؤمنها الانتفاضة لنفسها. ومن جهة أخرى، لا يبدو النظام قادراً على تحريك الأوضاع الإقليمية، أو أن محاولاته في هذا الشأن تفشل بسرعة وتأتي بنتائج عكسية، على نحو ما جرى على جبهة الجولان في ذكرى النكبة، ثم النكسة. ومن غير المحتمل أن تخوض إيران حرباً من أجله، أو «حزب الله». ولا يبدو أن الوقت حليفه هذه المرة، بل لعله خصم له.
مع ذلك يمضي النظام في خوض حروبه السابقة. لا يقتصر الأمر على تأويل المواجهة الجديدة على ضوء خبرات قديمة، بل على مواجهة الأعداء أنفسهم: عصابات مسلحة (سلفية) وقوى غربية متآمرة. من غير المحتمل أن ينجح ذلك في إنقاذ النظام، لكنه قد يكون «ناجحاً» جداً في تدمير البلد.
الثورة السورية بين إعلام السلطة وعدسة المتظاهرين
شمس الدين الكيلاني
منذ بدايات الانتفاضة السورية أفصح النظام والحركة الشعبية، كلٌ على حدة، عن طريقتين مختلفتين في تغطية ما يجري من أحداث. المنتفضون اختاروا الإطلالة على العالم تحت الأضواء الباهرة، واستخدام ما يستطيعون من وسائل وتقنيات لنقل ما يحدث إلى الفضاء المفتوح، مُستَنِدين الى ثقة غير محدودة بعدالة قضيتهم، التي اختصروها بشعاري الحرية (الله، سورية، حرية وبس) والكرامة (الموت ولا المذلة)، اللذين اختصروا بهما خطابهم للتغيير. وعزَّز ثقتهم هذه تأييد الشعوب واحترامها لاختيارهم التظاهر السلمي والحشد الجماهيري أسلوباً وحيداً لمواجهة جبروت قوة السلطة ولتغيير ميزان المعادلة السياسية لمصلحة ثورتهم.
فهم لا يقومون بشيء يخشون افتضاحه، بل استمدوا بعض قوتهم من تفهم الناس وتعاطفهم، في الإقليم وفي العالم، مع القيم التي رفعوها ومع أسلوبهم السلمي للتغيير، وما أبدوه من شجاعة وإصرار، وأيضاً من اتساع دائرة التأييد الشعبي. لقد أعطى النشطاء عنوان (ثورة الكرامة) لثورتهم، مؤكدين أنها ليست ثورة الرغيف أو حرب الطبقات، أو احتجاجات الريف على المدينة، أو الفقراء على الأغنياء، أو المدن الصغيرة قبالة المدن الكبيرة المُتنعِّمة – كما روج لذلك المتحذلقون من اليسار أو بعض مثقفي السلطة - بل إن ثورتهم، ككل الثورات الديموقراطية الكبرى، تتعلق بالكرامات وبالحريات المهدورة للفرد والجماعة السورية بأكملها، باستثناء الأجهزة المركبة للسلطة، وقمم رجال الأعمال الذين اندمجوا بالنظام أو كانوا استطالة طفيلية لفساده. واستخدم نشطاء التنسيقيات، بمهارة، تقنيات الاتصال الحديثة، للإضاءة على (صورة) ما يحدث إلى العالم، كي يضعوا هذا العالم برمته أمام مسؤولياته الأخلاقية والسياسية عمَّا يشاهد من استباحة للحقوق والكرامات والدماء.
في المقابل، اختار النظام إبعاد الأضواء والكاميرا عن الحدث، مصرَّاً على إبقاء الأحداث في العتمة، ليطلق لأقواله العنان، ولينكر ما يشاء ويؤكد ما يشاء. وخصَّص لفضائياته، المدربة على مستلزمات الولاء، وظيفة فبركة الخبر أو اختلاقه، وإعلاء شأن رموز السلطة إلى مراتب ميتافيزيقية لا ينال منها الزيغ ولا الوهن، والنيل من صورة الخصم وغاياته وبواعثه الخبيثة! وجند لتلك الفضائيات الموالين من كل صوب، كما استقدم لبنانيين من أصحاب معلقات (المقاومة والممانعة!)، وممن اشتهروا بفن الردح بالمؤامرة الإمبريالية التي تدخل من بوابة الحرية!
فاتجه إعلام السلطة نحو غاية رئيسة، هي الإجهاز على الخصم، ذلك أن السلطة اعتادت على التعامل مع المعارضة كعدو، عليها النيل منه ومن سمعته وتدميره! ولم تتعامل معه كأحد مصادر الشرعية التي تحرص على نيلها كل سلطة ديموقراطية تحترم شعبها. فهي ترى نفسها الآمر الوحيد والمرجع الوحيد للشرعية والقانون، يكفيها أنها استنسخت من تجربة كوريا الشمالية عسكرة المجتمع، وفكرة الحزب القائد للدولة والمجتمع وطبقتها حرفياً.
افتتح إعلام السلطة حملته بمقدمة كبرى، عنوانها النيل من الخصم/الشعب المنتفض، باتهامه بالكثير من الشرور: إنه ضالع في مؤامرة تنال من قلعة الممانعة، وتهدد وحدة سورية واستقرارها. فهو تارة سلفي وتارة أخرى عصابات مسلحة لا نعرف هويتها ومصادرها، وتارة ثالثة قوى مأجورة تمتد يدها إلى ما وراء الحدود. فلم يتورع، على سبيل المثال، عن ترويج خبر وجود «امارة إسلامية في درعا بزعامة الشيخ صياصنة وإلى جواره رياض الترك» - الذي صرح أنه كان يتمنى لو كان هناك فعلاً في الجامع العمري إلى جانب أهل درعا - كما أعلن اعلام السلطة عن اكتشاف إمارة إسلامية في بانياس بمساندة عناصر «موساد» ونائب من تيار الحريري! وهو أمر مُغرق في الخيال. وعمل على تشويه سمعة ما سُمّي «الشاهد العيان» الذي عمل على نقل الخبر إلى الفضائيات العربية والعالمية، كما عمل هذا الإعلام في المقابل على تنزيه القيادة وسمو مقامها ونسبة الوطن إليها، وهذا يستدعي شعار «الله، سورية، بشار وبس»، سورية الصمود والممانعة والمقاومة، التي إن اهتزَّت اهتزت المنطقة، هي الدولة القومية والعلمانية ضامنة الأمان للأقليات، لهذا غدت هدفاً لمؤامرات إمبريالية صهيونية تستهدف وحدتها الوطنية!
وقياساً على ذلك، يصبح النشطاء السوريون ضالعين في مؤامرات خارجية، هدفها تدمير المنعة الوطنية والفضاء العلماني الذي يؤمّن استقرار التنوع السوري، وبالتالي تمزيق المشرق العربي إلى طوائف وأقليات لمصلحة التسيُّد الصهيوني! فكان لا بد لهذا الإعلام السلطوي من ان ينكر مشاهد التظاهرات العارمة التي اصطخبت بها المدن والقرى السورية. وأنكر معها الحاجات الكبرى للشعب السوري في الكرامة والحرية والديموقراطية! لماذا؟ لأن كل شيء في سورية في مكانه الصحيح، أما النواقص العارضة فهي في طريقها الى الإصلاح على الدرب الطويل (للتحديث والتطوير) الذي وعدت به القيادة!
هذه هي المقدمة الكبرى لدعوى إعلام السلطة، وعلى قاعدة هذه المقدمة سرد حكاياته وابتكر قصصه. واعتمد في ذلك على تكتيك إنكار الوقائع (التظاهرات، المعارضة وأفكارها وشعاراتها ومطالبها)، لتبدو كل تلك التظاهرات من دون مسوِّغ مقبول، ولأهداف غير معروفة، ويعوز أطراف المعارضة وضوح الهدف والاتفاق، تختلف على الغايات والأهداف وطرق الوصول، أما شعار الحرية والديموقراطية الذي أطلقته فهو أكثر غموضاً وإبهاماً، ليصل هذا الإعلام الى الاستنتاج أنه لا يمكن هذه القوى أن تقود، وإن قادت ستقود البلد إلى الدمار والتمزق! بينما يجد الوضوح جلياً في كل ما يتعلق بالسلطة وتوجهاتها في مقدمها الاستقرار والأمان (!) تلتقط فضائيات السلطة صور مسيرات الموظفين وعمال القطاع العام و(منظمات الشبيبة) ورجال الأمن: شرطة وجيش بلباسهم المدني، الذين تنقلهم وسائل مواصلاتها على شتى التجمعات في كل اتجاه، ترفرف فوقهم الأعلام وصور الرئيس، وشعارات واضحة، وإلى جوارها لوحات «بنحبك».
لم تقدِّم السلطة لأنصارها أهدافاً جديدة ذات مغزى سوى تقديس رموزها وتكريس ما هو قائم والدفاع عنه، وتبرير العنف ضد المحتجين. ميزة هذا الخيار تتجلى في وعده بالسلامة والإفلات من التهديد واحتمال جمع المنافع، شرط التنازل عن الحرية وعن الرغبة فيها، بينما قدم المنتفضون مشروعاً للحرية، للتغيير الديموقراطي لاسترجاع الكرامة المهدورة، وإعادة سورية الى كل أبنائها من دون تمييز (الشعب السوري واحد) وفك العلاقة مع رموز السلطة وإنزالها من عليائها، لكن من دون هذا الخيار التغييري هناك الدم والدموع الممتزجان بالأمل والحلم.
منذ بدايات الانتفاضة السورية أفصح النظام والحركة الشعبية، كلٌ على حدة، عن طريقتين مختلفتين في تغطية ما يجري من أحداث. المنتفضون اختاروا الإطلالة على العالم تحت الأضواء الباهرة، واستخدام ما يستطيعون من وسائل وتقنيات لنقل ما يحدث إلى الفضاء المفتوح، مُستَنِدين الى ثقة غير محدودة بعدالة قضيتهم، التي اختصروها بشعاري الحرية (الله، سورية، حرية وبس) والكرامة (الموت ولا المذلة)، اللذين اختصروا بهما خطابهم للتغيير. وعزَّز ثقتهم هذه تأييد الشعوب واحترامها لاختيارهم التظاهر السلمي والحشد الجماهيري أسلوباً وحيداً لمواجهة جبروت قوة السلطة ولتغيير ميزان المعادلة السياسية لمصلحة ثورتهم.
فهم لا يقومون بشيء يخشون افتضاحه، بل استمدوا بعض قوتهم من تفهم الناس وتعاطفهم، في الإقليم وفي العالم، مع القيم التي رفعوها ومع أسلوبهم السلمي للتغيير، وما أبدوه من شجاعة وإصرار، وأيضاً من اتساع دائرة التأييد الشعبي. لقد أعطى النشطاء عنوان (ثورة الكرامة) لثورتهم، مؤكدين أنها ليست ثورة الرغيف أو حرب الطبقات، أو احتجاجات الريف على المدينة، أو الفقراء على الأغنياء، أو المدن الصغيرة قبالة المدن الكبيرة المُتنعِّمة – كما روج لذلك المتحذلقون من اليسار أو بعض مثقفي السلطة - بل إن ثورتهم، ككل الثورات الديموقراطية الكبرى، تتعلق بالكرامات وبالحريات المهدورة للفرد والجماعة السورية بأكملها، باستثناء الأجهزة المركبة للسلطة، وقمم رجال الأعمال الذين اندمجوا بالنظام أو كانوا استطالة طفيلية لفساده. واستخدم نشطاء التنسيقيات، بمهارة، تقنيات الاتصال الحديثة، للإضاءة على (صورة) ما يحدث إلى العالم، كي يضعوا هذا العالم برمته أمام مسؤولياته الأخلاقية والسياسية عمَّا يشاهد من استباحة للحقوق والكرامات والدماء.
في المقابل، اختار النظام إبعاد الأضواء والكاميرا عن الحدث، مصرَّاً على إبقاء الأحداث في العتمة، ليطلق لأقواله العنان، ولينكر ما يشاء ويؤكد ما يشاء. وخصَّص لفضائياته، المدربة على مستلزمات الولاء، وظيفة فبركة الخبر أو اختلاقه، وإعلاء شأن رموز السلطة إلى مراتب ميتافيزيقية لا ينال منها الزيغ ولا الوهن، والنيل من صورة الخصم وغاياته وبواعثه الخبيثة! وجند لتلك الفضائيات الموالين من كل صوب، كما استقدم لبنانيين من أصحاب معلقات (المقاومة والممانعة!)، وممن اشتهروا بفن الردح بالمؤامرة الإمبريالية التي تدخل من بوابة الحرية!
فاتجه إعلام السلطة نحو غاية رئيسة، هي الإجهاز على الخصم، ذلك أن السلطة اعتادت على التعامل مع المعارضة كعدو، عليها النيل منه ومن سمعته وتدميره! ولم تتعامل معه كأحد مصادر الشرعية التي تحرص على نيلها كل سلطة ديموقراطية تحترم شعبها. فهي ترى نفسها الآمر الوحيد والمرجع الوحيد للشرعية والقانون، يكفيها أنها استنسخت من تجربة كوريا الشمالية عسكرة المجتمع، وفكرة الحزب القائد للدولة والمجتمع وطبقتها حرفياً.
افتتح إعلام السلطة حملته بمقدمة كبرى، عنوانها النيل من الخصم/الشعب المنتفض، باتهامه بالكثير من الشرور: إنه ضالع في مؤامرة تنال من قلعة الممانعة، وتهدد وحدة سورية واستقرارها. فهو تارة سلفي وتارة أخرى عصابات مسلحة لا نعرف هويتها ومصادرها، وتارة ثالثة قوى مأجورة تمتد يدها إلى ما وراء الحدود. فلم يتورع، على سبيل المثال، عن ترويج خبر وجود «امارة إسلامية في درعا بزعامة الشيخ صياصنة وإلى جواره رياض الترك» - الذي صرح أنه كان يتمنى لو كان هناك فعلاً في الجامع العمري إلى جانب أهل درعا - كما أعلن اعلام السلطة عن اكتشاف إمارة إسلامية في بانياس بمساندة عناصر «موساد» ونائب من تيار الحريري! وهو أمر مُغرق في الخيال. وعمل على تشويه سمعة ما سُمّي «الشاهد العيان» الذي عمل على نقل الخبر إلى الفضائيات العربية والعالمية، كما عمل هذا الإعلام في المقابل على تنزيه القيادة وسمو مقامها ونسبة الوطن إليها، وهذا يستدعي شعار «الله، سورية، بشار وبس»، سورية الصمود والممانعة والمقاومة، التي إن اهتزَّت اهتزت المنطقة، هي الدولة القومية والعلمانية ضامنة الأمان للأقليات، لهذا غدت هدفاً لمؤامرات إمبريالية صهيونية تستهدف وحدتها الوطنية!
وقياساً على ذلك، يصبح النشطاء السوريون ضالعين في مؤامرات خارجية، هدفها تدمير المنعة الوطنية والفضاء العلماني الذي يؤمّن استقرار التنوع السوري، وبالتالي تمزيق المشرق العربي إلى طوائف وأقليات لمصلحة التسيُّد الصهيوني! فكان لا بد لهذا الإعلام السلطوي من ان ينكر مشاهد التظاهرات العارمة التي اصطخبت بها المدن والقرى السورية. وأنكر معها الحاجات الكبرى للشعب السوري في الكرامة والحرية والديموقراطية! لماذا؟ لأن كل شيء في سورية في مكانه الصحيح، أما النواقص العارضة فهي في طريقها الى الإصلاح على الدرب الطويل (للتحديث والتطوير) الذي وعدت به القيادة!
هذه هي المقدمة الكبرى لدعوى إعلام السلطة، وعلى قاعدة هذه المقدمة سرد حكاياته وابتكر قصصه. واعتمد في ذلك على تكتيك إنكار الوقائع (التظاهرات، المعارضة وأفكارها وشعاراتها ومطالبها)، لتبدو كل تلك التظاهرات من دون مسوِّغ مقبول، ولأهداف غير معروفة، ويعوز أطراف المعارضة وضوح الهدف والاتفاق، تختلف على الغايات والأهداف وطرق الوصول، أما شعار الحرية والديموقراطية الذي أطلقته فهو أكثر غموضاً وإبهاماً، ليصل هذا الإعلام الى الاستنتاج أنه لا يمكن هذه القوى أن تقود، وإن قادت ستقود البلد إلى الدمار والتمزق! بينما يجد الوضوح جلياً في كل ما يتعلق بالسلطة وتوجهاتها في مقدمها الاستقرار والأمان (!) تلتقط فضائيات السلطة صور مسيرات الموظفين وعمال القطاع العام و(منظمات الشبيبة) ورجال الأمن: شرطة وجيش بلباسهم المدني، الذين تنقلهم وسائل مواصلاتها على شتى التجمعات في كل اتجاه، ترفرف فوقهم الأعلام وصور الرئيس، وشعارات واضحة، وإلى جوارها لوحات «بنحبك».
لم تقدِّم السلطة لأنصارها أهدافاً جديدة ذات مغزى سوى تقديس رموزها وتكريس ما هو قائم والدفاع عنه، وتبرير العنف ضد المحتجين. ميزة هذا الخيار تتجلى في وعده بالسلامة والإفلات من التهديد واحتمال جمع المنافع، شرط التنازل عن الحرية وعن الرغبة فيها، بينما قدم المنتفضون مشروعاً للحرية، للتغيير الديموقراطي لاسترجاع الكرامة المهدورة، وإعادة سورية الى كل أبنائها من دون تمييز (الشعب السوري واحد) وفك العلاقة مع رموز السلطة وإنزالها من عليائها، لكن من دون هذا الخيار التغييري هناك الدم والدموع الممتزجان بالأمل والحلم.
في مسألة التدخّل
حازم صاغيّة
ليس التدخل الأجنبي بالحل الأمثل للمشكلات، أو الحل المفضَّل، ولا هو أصلاً مطروح على السوريين، أكان بالمعنى العراقي أم بالمعنى الليبي.
لكن الأصوات العربية الكثيرة التي تردّد رفضها للتدخل كيفما كان، وفي أي وقت، وبكثير من التشنج، تتغافل عن حقيقة بالغة الأهمية، هي أن بعض المجتمعات عاجزة عن حسم الصراع على السلطة مع أنظمتها.
وهذا ما لا علاقة له بالشجاعة والتضحية والإقدام، مما ضرب المثلَ فيه ملايين من السوريين والليبيين. إنه، في المقابل، نتاج التعادل الذي أنتجه التفتت الاجتماعي المعزز بسلوك رسمي منهجي ومديد. والذين يتحدثون عن القبائل في ليبيا، وعن ثلاثية طرابلس وبنغازي وفزان، أو عن الموقف العلوي–المسيحي في سورية، وعن خصوصيات دمشق وحلب، لا يقولون إلا ذلك بكلمات أخرى،
وهذا ليس من الشيم الحصرية للعرب: فتونس ومصر، العربيتان أيضاً، تمكنتا من إنجاز انتفاضتيهما من دون تدخل خارجي، لأن أوضاعهما لا تصح فيها المواصفات الليبية والسورية (والعراقية واللبنانية...). في المقابل، فإن يوغوسلافيا السابقة، غير العربية، لم تستطع جماعاتها أن تحسم صراعاتها من دون تدخل خارجي، وذلك بالضبط ناجم عن مواصفات فيها تشبه تلك الليبية والسورية.
في هذه الحال، ماذا يعني التمسك بمبدأ عدم التدخل والتشدق فيه؟ إنه يعني استمرار القتل والعنف بلا حدود، واحتمالاً أرفع لتمكين النظام الاستبدادي من استعادة أنفاسه وفرض سلطته مجدداً. في مقابل ذلك، نكون قد أرضينا نرجسية قومية ودينية جريحاً، و «مُتنا واقفين ولم نركع».
نصرف النظر عن تناقضات كثيرة تتخلل هذا المنطق، في رأسها مناشدة الغرب «أن يفعل شيئاً»، والتهديد بـ «فضح دعاواه الإنسانية» حين «لا يفعل شيئاً»، ثم الجهر بالعداء له، بمجرد أن «يفعل شيئاً». والمثال العراقي لا يمكن هنا إلا أن يحضر بقوة: نفس القوى التي ناشدت الولايات المتحدة أن تطيح صدام، الذي يحكم هو وحزبه منذ 1968، سارعت إلى التنصل من الأميركيين ومن عملهم الإنقاذي بُعيد إتمام المهمة. وكان مقتدى الصدر الذي رفع الاميركيون السكين عن رقاب عائلته، التجسيدَ الألمع لهذه «الشنفخة» المحلية.
أما الحجة البليدة التي تتحدث عن المصالح، فلا تردِّد إلا محفوظات غبية ومضجرة، ذاك أن «الغرب» ليس بالطبع جمعية بر وإحسان، وهو بالتأكيد يبحث عن مصالحه. إلا أن تلك المصالح قد تتقاطع مع مصالح الشعوب مثلما تقاطعت مع مصالح الحكام السابقين. وغني عن القول إن هذه المسألة يشوب طرحَها تبسيط هائل: ذاك أن القذافي كان، أقله منذ 2004، يقدم للغرب كل ما يريده الغرب وأكثر، وهو ما كان صدام من قبله، مستعداً لتقديم أضعافِه مقابل البقاء في السلطة.
وإذا كان العراق يُطرح حجة على مخاطر التدخل، فإن أخطاء التدخل فيه، وهي كبيرة، لا تلغي «الخطأ» الأكبر الناجم عن الحقائق العراقية كما تجلت بعد إزاحة صدام، فليس الأميركيون هم الذين اخترعوا طوائف العراق ثم كبتوها وعززوها في العتم لتنفجر على النحو الذي نعرفه. ولنا في الصومال ولبنان تجربتان غنيتان، ولو متفاوتتان، عن مأساة الشعوب التي يفشل فيها التدخل: لقد طردت المكونات الأهلية الهائجة للبلدين «القوات المتعددة الجنسية» من لبنان والقوات الأميركية من الصومال، وتُرك البلدان لمصائر لا يشتهيها المرء لأعدائه.
أما التناقض، فيبلغ ذروته حين تلتقي في صوت واحد دعوة للغرب أن يلبي دفتر شروط نضعه نحن، ودعوة له أن يعمل لرفع الذبح عن المذبوح الذي يضع دفتر شروط!
وهذا، على العموم، من نتائج تمجيد للذات لا تملك الذات ما يسوِّغه إطلاقاً، هذا إذا ما قرأناها على حقيقتها بعيداً من «الشنفخة» والانتفاخ، فكيف وأن هذا توأم الفكر العتيق الذي هو فكر الأنظمة المتساقطة نفسه.
ليس التدخل الأجنبي بالحل الأمثل للمشكلات، أو الحل المفضَّل، ولا هو أصلاً مطروح على السوريين، أكان بالمعنى العراقي أم بالمعنى الليبي.
لكن الأصوات العربية الكثيرة التي تردّد رفضها للتدخل كيفما كان، وفي أي وقت، وبكثير من التشنج، تتغافل عن حقيقة بالغة الأهمية، هي أن بعض المجتمعات عاجزة عن حسم الصراع على السلطة مع أنظمتها.
وهذا ما لا علاقة له بالشجاعة والتضحية والإقدام، مما ضرب المثلَ فيه ملايين من السوريين والليبيين. إنه، في المقابل، نتاج التعادل الذي أنتجه التفتت الاجتماعي المعزز بسلوك رسمي منهجي ومديد. والذين يتحدثون عن القبائل في ليبيا، وعن ثلاثية طرابلس وبنغازي وفزان، أو عن الموقف العلوي–المسيحي في سورية، وعن خصوصيات دمشق وحلب، لا يقولون إلا ذلك بكلمات أخرى،
وهذا ليس من الشيم الحصرية للعرب: فتونس ومصر، العربيتان أيضاً، تمكنتا من إنجاز انتفاضتيهما من دون تدخل خارجي، لأن أوضاعهما لا تصح فيها المواصفات الليبية والسورية (والعراقية واللبنانية...). في المقابل، فإن يوغوسلافيا السابقة، غير العربية، لم تستطع جماعاتها أن تحسم صراعاتها من دون تدخل خارجي، وذلك بالضبط ناجم عن مواصفات فيها تشبه تلك الليبية والسورية.
في هذه الحال، ماذا يعني التمسك بمبدأ عدم التدخل والتشدق فيه؟ إنه يعني استمرار القتل والعنف بلا حدود، واحتمالاً أرفع لتمكين النظام الاستبدادي من استعادة أنفاسه وفرض سلطته مجدداً. في مقابل ذلك، نكون قد أرضينا نرجسية قومية ودينية جريحاً، و «مُتنا واقفين ولم نركع».
نصرف النظر عن تناقضات كثيرة تتخلل هذا المنطق، في رأسها مناشدة الغرب «أن يفعل شيئاً»، والتهديد بـ «فضح دعاواه الإنسانية» حين «لا يفعل شيئاً»، ثم الجهر بالعداء له، بمجرد أن «يفعل شيئاً». والمثال العراقي لا يمكن هنا إلا أن يحضر بقوة: نفس القوى التي ناشدت الولايات المتحدة أن تطيح صدام، الذي يحكم هو وحزبه منذ 1968، سارعت إلى التنصل من الأميركيين ومن عملهم الإنقاذي بُعيد إتمام المهمة. وكان مقتدى الصدر الذي رفع الاميركيون السكين عن رقاب عائلته، التجسيدَ الألمع لهذه «الشنفخة» المحلية.
أما الحجة البليدة التي تتحدث عن المصالح، فلا تردِّد إلا محفوظات غبية ومضجرة، ذاك أن «الغرب» ليس بالطبع جمعية بر وإحسان، وهو بالتأكيد يبحث عن مصالحه. إلا أن تلك المصالح قد تتقاطع مع مصالح الشعوب مثلما تقاطعت مع مصالح الحكام السابقين. وغني عن القول إن هذه المسألة يشوب طرحَها تبسيط هائل: ذاك أن القذافي كان، أقله منذ 2004، يقدم للغرب كل ما يريده الغرب وأكثر، وهو ما كان صدام من قبله، مستعداً لتقديم أضعافِه مقابل البقاء في السلطة.
وإذا كان العراق يُطرح حجة على مخاطر التدخل، فإن أخطاء التدخل فيه، وهي كبيرة، لا تلغي «الخطأ» الأكبر الناجم عن الحقائق العراقية كما تجلت بعد إزاحة صدام، فليس الأميركيون هم الذين اخترعوا طوائف العراق ثم كبتوها وعززوها في العتم لتنفجر على النحو الذي نعرفه. ولنا في الصومال ولبنان تجربتان غنيتان، ولو متفاوتتان، عن مأساة الشعوب التي يفشل فيها التدخل: لقد طردت المكونات الأهلية الهائجة للبلدين «القوات المتعددة الجنسية» من لبنان والقوات الأميركية من الصومال، وتُرك البلدان لمصائر لا يشتهيها المرء لأعدائه.
أما التناقض، فيبلغ ذروته حين تلتقي في صوت واحد دعوة للغرب أن يلبي دفتر شروط نضعه نحن، ودعوة له أن يعمل لرفع الذبح عن المذبوح الذي يضع دفتر شروط!
وهذا، على العموم، من نتائج تمجيد للذات لا تملك الذات ما يسوِّغه إطلاقاً، هذا إذا ما قرأناها على حقيقتها بعيداً من «الشنفخة» والانتفاخ، فكيف وأن هذا توأم الفكر العتيق الذي هو فكر الأنظمة المتساقطة نفسه.
بين طرابلس الغرب ودمشق... أيّام الثورة وسقوط الكوابيس
هوشنك أوسي
كم كان مشهد ليلة 21/8/2011 في طرابلس الغرب مشابهاً لمشهد صباح 9/4/2003 في بغداد، حيث صورة الكابوس _ الطاغيّة، تداس بالاقدام، وتضرب بالأحذية. لَكم كان المشهد من البلاغة القصوى بمكان، أن يعجز الكلام عن وصفه!. شبابٌ ليبيون، ينهالون بغلِّ وحرقةٍ وتشفٍّ، دهساً على خرقةٍ مطبوعةٍ عليها صورة "الأخ القائد"، و"عميد الرؤساء العرب"، و"ملك ملوك افريقيا". وكذا كان الحال، قبل ثمانية أعوام ونيّف في بغداد، حين انهال الشعب على صورة "القائد المفدّى.. المهيب الركن"، وقائد "أم المعارك"، و"حارس البوابة الشرقيّة للأمّة العربيّة" صدّام حسين، دهساً وتمزيقاً، وعلى تماثيله وأصنامه، خلعاً وتحطيماً وتكسيراً!. هكذا، وبدهاءٍ وخُبثٍ وحنكةٍ ومكر عميق، يعيدُ التاريخ دورته في مكانين وزمانين مختلفين، وجوهر الحدثِ واحد. وهو، ثورة العبيد على أغلالهم، وعلى سيّدهم الطاغية. والانهيال بالضرب على الصور، بالعصيّ والاحذية والدهس، هو التعبير عن مدى الاحتقان والكبت وكتمان الغضب والرفض لنظام كان جاثماً على الصدور كالكابوس المميت، وبل أشدُّ وطأةً وأثقلُ. ذلك أن هذه الصور لدى الجموع الغاضبة والفرِحة في آن، هي تعبير عن صاحبها، وبمعاقبة الشعب للصور، فأنها تعاقب صاحبها الطاغية.
"أنا لست رئيس ليبيا. ولا أسعى الى مناصب. ولو كان لدي منصب، لقدّمت الاستقالة، وألقيتها على وجوهكم"، هكذا قالها العقيد القذّافي، معلّقاً على دعوات موجّهة له من الشعب الليبي، تطالبه بالتنحّي. والحال هذه، الرئيس الليبي "المخلوع"، لم يكن لديه أيّ منصب رسمي، وكان يحضر المؤتمرات، ويزور البلدان على أنه الرئيس الليبي!. هكذا، كان القذّافي، يخطب "نائياً بنفسه، عن اللهاث على المناصب!!. ولِمَ المناصب، ما دام الشعب والدولة وثرواتها ومؤسساتها في جيب الزعيم؟!. ذلك أن المنصب بالنسبة للقذّافي، استنفد مهمّته في تطويب ليبيا باسمه وأسماء أبنائه وحاشيّته.
"هذا الكلام لا يقال لرئيس لا يعنيه المنصب.. لا يقال لرئيس لم تأت به الولايات المتحدة ولم يأت به الغرب.. أتى به الشعب السوري". بهذه اللغة، ردّ الرئيس السوري بشّار الأسد على الدعوات بالتنحّي التي أتته من واشنطن ولندن وباريس وبرلين وطوكيو... وعواصم أخرى. وقبل هذه العواصم، تأتيه هذه الدعوى، يوميّاً، من الشعب السوري منذ اربعة أشهر. لكأنّ الأسد، كقرينه ونظيره الليبي، القّذّافي، يقذف كلاماً جزافاً واعتباطيّاً، كيفما اتفق، يريدُ به أن يُخرس التاريخ!. ذلك أن والده الراحل، حافظ الأسد، كان قد ألغى الشعب والدولة في سورية، مختزلاً الشعب والدولة في العائلة وحاشيتها. وورث الأسد الابن من الأسد الأب كل هذا الإرث وهذه التقاليد العريقة في الاستبداد والالغاء والطغيان. ولعلّ الأسد، بردّه الهشّ والركيك ذاك، يريد أن يشطب من ذاكرة سورية الطريّة، كيف ان مجلس (الشعب)، اجتمع، وغيّر مادّة رئيسة في الدستور السوري، وخفّض سنّ رئيس الجمهوريّة من 40 الى 36 سنة، كي يصبح مقام رئاسة سورية على مقاس عمر الأسد الابن. كل ذلك، في 15 دقيقة!. لكأنّه يظنّ بالسوريين والعرب وشعوب العالم والمجتمع الدولي، قطيعاً من الجهلاء والحمقى، حتّى يصدّقوا كلامه حول إتيان الشعب به للحكم!
الحقّ أن حديث الأسد، لتلفزيونه الرسمي، كان عبارة عن حزمة تهديدات للداخل والخارج. هذا الحديث هو الرابع من نوعه، منذ بدء الانتفاضة السورية المطالبة بالحريّة وإسقاط النظام منذ منتصف آذار الماضي، لكنه كان الأكثر وضوحاً في التهديد والوعيد. إذ أراد الأسد، من خلال حديثه ذاك، التأكيد للداخل السوري أنه ماضٍ في الحلّ الأمني والقمع وسحق الانتفاضة. وكان رسالة للعالم، أنني قادر على تحطيم الشرق الأوسط على رؤوس مصالحكم. وردّي سيفوق تصوّركم وطاقة احتمالكم!. هكذا هدد الأسد، أي دولة تقوم بشن هجوم عسكري على نظامه!
الاعلام السوري، ووكالة "سانا" الرسميّة للأنباء، تجاهلت تماماً، حدث استيلاء الثوّار على طرابلس. وحين ظهر "سيف الاسلام" القذّافي، في شريط فيديو، يكذّب فيها خبر اعتقاله، أبرزته "سانا"، كخبر رئيس وعاجل. ولكن، حين سقط "بيت الصمود والتصدّي" (مجمّع باب العزيزيّة)، وفرار القذّافي كالجرذ المذعور، هذا الخبر أيضاً، تجاهلته "سانا"، وقنوات التلفزة السوريّة، في حين كانت قنوات التلفزة ووكالات الانباء العربيّة والعالميّة مطبولة بهذا الحدث!. ومعروف ومفهوم لماذا تجاهل الإعلام السوري _ الأسدي، أخبار انهيار النظام الليبي، وعدم صمود "بيت الصمود"، وذلك حرصاً وخشيةً من تداعيات ذلك على "قلعة الصمود والتصدّي"، التي يحكمها الأسد!
بالعودة الى حديث الأسد لتلفزيونه الرسمي "الشفاف"، على حدّ وصفه له، رأينا كيف أكّد الرئيس السوري على إهانته للشعب الكردي في سورية. وتجاهله لوصفهم بـ"الشعب"، وذلك أثناء ردّه على سؤال "حول ما إذا كان مرسوم تجنيس الأكراد جاء نتيجة القلق من احتمال تحريك هذا العامل في الأزمة؟، قال الأسد، بحسب ما أوردته "سانا" نقلاً عن حديثه: "الحقيقة أن أول مرة طرح هذا الموضوع كان في شهر آب عام 2002 عندما قمت بزيارة الحسكة والتقيت بالفعاليات في المحافظة ومنها الأخوة الأكراد وتحدثوا في هذا الموضوع وكان جوابي في تلك الزيارة أن هذا الموضوع حق وحالة إنسانية يجب أن نتعامل معها وسنبدأ بحل الموضوع". وأضاف: "بدأنا مباشرة باتخاذ الإجراءات ودراسة الاحتمالات وكانت هناك عدة سيناريوهات أي ما الشكل القانوني والدستوري لإصدار مثل هذا القرار... وسرنا في ذلك وطبعا لم تكن الحركة سريعة ولكن كدنا ننتهي في بداية عام 2004 إلى أن بدأت الأحداث في الحسكة والقامشلي تحديدا في شهر آذار عام 2004 حيث حاولت بعض القوى أو الشخصيات أو الجهات أن تستغل موضوع منح الجنسية لمكاسب سياسية ستؤدي بالنتيجة للتنافر بين الأكراد والعرب.. وعندها توقفنا وأجلنا الموضوع وبدأنا عملية حوار مع القوى المختلفة ولاحظنا بأن هناك محاولة مستمرة لاستغلال هذا الموضوع". وتابع حديثه: "الحقيقة أنه عندما قررنا إصدار هذا المرسوم في بداية الأحداث (يقصد الانتفاضة السورية) كان جاهزا لذلك صدر بسرعة أي أن الدراسات كانت منتهية والقرارات جاهزة على الورق ولم يكن باقيا سوى توقيع المرسوم ونحن كمبدأ لا يمكن أن نفكر بهذه الطريقة لأن هذا فيه أولا اتهام للأكراد بأنهم غير وطنيين وإذا كنا نفكر بهذه الطريقة فهذا يعني أن التعامل بين الدولة والشعب هو بطريقة الرشوة وهذا خطر.. لا يوجد دولة تحترم شعبها وتحوله إلى مرتزقة.. وهذا الكلام مرفوض والشعب السوري هو شعب عريق وحضاري والإخوة الأكراد هم جزء أساسي من النسيج العربي السوري.. كما قلت منذ سنوات سورية من دون أي مكون من مكوناتها لا يمكن أن تكون سورية التي نعرفها ولا يمكن أن تكون مستقرة إن لم يشعر كل مواطن بأنه أساس وليس ضيفا وليس طائرا مهاجرا لا يمكن أن يكون وطنيا وهذا شيء محسوم لنا في سورية.. والقضية كانت تقنية والبعض حاول تحويلها إلى قضية سياسية .. ولو عدنا إلى تاريخنا فكما كافحنا الفرنسي وغيره من المستعمرين كان للأكراد ايضا عدد من القيادات التي واجهت الفرنسي أي من قيادات الثورة وليس مجرد ثوار عدا التاريخ السابق والتاريخ اللاحق واليوم.. وبالتالي هذا التشكيك نعتبره مرفوضاً".
الحقّ أنه لا يوجد رئيس في العالم، يحترم نفسه ووطنه وشعبه، ويمتلك أدنى درجات اللباقة واحترام عقول الناس، ويكون بهذا القدر من الكذب!
أولاً: الكرد هم شعب عريق في المنطقة، وفي سورية أيضاً، وتعداده يناهز 3 مليون نسمة. وهم ليسوا "فعاليات" اجتماعيّة كما يكررها الأسد.
ثانياً: كان الأسد قد صرّح عقب الانتفاضة الكرديّة في 12 اذار 2004، أن الكرد هم جزء من النسيج الاجتماعي السوري. والآن، يقول: هم "جزء أساسي من النسيج العربي السوري". يعني، انه يصرّ على تعريبهم وإنكار وجودهم القومي، وهويّتهم القوميّة!.
ثالثاً، الشعب الكردي، ليس بحاجة لشهادة حسن سلوك وطني، لا من بشّار الأسد، ولا من حزبه، ولا من أيّ شخصٍ أو جهة كانت، سواء في النظام والمعارضة.
وأمّا اتهامه للاحزاب السياسيّة الكرديّة، بأنها حاولت استغلال محنة الكرد المجرّدين من الجنسيّة، لأغراض سياسيّة، تريد النيل من العلاقة والأخوّة والشراكة الوطنيّة الكرديّة _ العربيّة في سورية، فالردّ على ذلك، متروك برسم الاحزب والنخب الكرديّة، التي يجب ان تنفض يديها نهائيّاً من هذا الطاغوت، وتكفّ عن حالة التردد والضبابيّة الذي يكتنف خطابها موقفها، بخاصّة أن غالبيّة المجتمع الدولي قالها للنظام السوري، تنحّى! ويجب أن تصرّح الحركة الكرديّة الوطنيّة السوريّة أيضاً عن ذلك وتطالبه بالتنحّي. ولقد كان موقف الحركة الكرديّة السوريّة الحالي مبرراً، حين كان العالم يدعو الى تغيير سلوك النظام وليس إلى اسقاطه. لكن الوضع الآن، اختلف. ويجب أن يكون موقف الاحزاب الكرديّة منسجماً مع الموقف الدولي. وأي تردد، سيكون في مصلحة النظام، وفي مصلحة بعض الجهات المشبوهة التي تريد تهميش دور الحركة الكرديّة، والصعود على اكتافها.
الرئيس السوري، "مطمئنّ وغير قلق" كما قال في حديثه. وحقيقة الأمر، بالضدّ من ذلك تماماً. ولعلّه الأكثر خشية من سقوط النظام الليبي. ذلك ان سقوط النظام الليبي، وانكشاف مدى التنسيق بينه وبين النظام السوري في الجرائم الارهابيّة التي شهدها العالم، مضافاً اليها جريمة اختطاف، وربما تصفية الإمام موسى الصدر ايضاً.
الرئيس السوري، "مطمئنّ" وغير "قلق"، ويطالب القلقين بالاطمئنان وعدم القلق، وهو يشاهد صورة القذّافي تداس بالاقدام. وتماثيله وأصنامه تقتلع من ليبيا، "زنقة زنقة، شبر شبر"! لكن، أغلب الطغاة، لا يتعظون من التاريخ. ذلك ان الذي يريد ان يدخل التاريخ داهساً شعبه، يخرج من التاريخ مدهوساً من شعبه. إنها أيّام الثورة، وسقوط الأنظمة الكوابيس، والزعامات الكوابيس، من على صدر الشعوب لتحت أقدامها. أنه ربيع الشعوب الحرّة، ربيع الأوطان الحرّة التي تحاول النهوض من تحت ركام وويلات وكوابيس الاستبداد والفساد والقادة الطغاة.
الاثنين، 22 أغسطس 2011
عن الصدور المتجدد لمجلة الطريق إرث علينا أن نحميه من الضياع
جاد تابت
عادت مجلة «الطريق» إلى الصدور بعد توقف دام ثماني سنوات. يبدأ عدد المجلة في عامها السبعين بافتتاحية الأستاذ محمد دكروب، التي ذكّرت بالعدد الأخير الذي صدر عام 2003، معلنة ان «قدراً غاشماً شاء ان يطول زمن عودة المجلة... إلى ان وصلنا إلى زمن صار فيه بالامكان ان تستأنف هذه المجلة مسيرتها في شق الطريق إلى المستقبل». لا بد في البداية من ان يهنئ قراء «الطريق» أنفسهم بصدور المجلة من جديد. لكن من حق هؤلاء أيضاً ان يتساءلوا لماذا توقفت المجلة عن الصدور هذه الفترة الطويلة، ولماذا عادت اليوم؟ افتتاحية العدد الجديد لا تجيب عن هذين السؤالين. كما انها تُبقي أسباب غياب المجلة محاطة بغموض ضبابي، مؤكدة ان الأسباب المالية التي كانت تُعطى لتفسير «سر» الغياب، لم تكن سوى «تهرّب»، ثم تبشرنا «بخبر سار» جاء «في شكل قرار» سمح للمجلة بأن تستأنف صدورها. من الواضح ان الافتتاحية لا تقدم سوى جواب تبسيطي وغير مقنع. فكي نفهم لماذا توقفت الجلة عن الصدور خلال ثمانية أعوام، لا بد لنا من استعادة المراحل التي مرت بها «الطريق» والدور الذي لعبته في الحياة الفكرية والثقافية في لبنان والعالم العربي. عام 1941 أسس انطون تابت مجلة «الطريق» كرسالة ثقافية تصدرها «عصبة مكافحة الفاشستية في سورية ولبنان»، وضمت هيئة التحرير إضافة إلى تابت نخبة من الأدباء والمثقفين كان من بينهم عمر فاخوري ويوسف ابراهيم يزبك ورئيف خوري وقدري قلعجي... منذ تأسيسها، ربطت المجلة بين النضال التحرري للشعوب العربية من أجل الاستقلال والتقدم الاجتماعي من جهة، والكفاح الفكري ضد الفاشستية والنازية بوصفهما «أخبث أشكال السيطرة الاستعمارية»، من جهة ثانية. فقدمت نفسها «كلسان الأحرار في هذا البلد وصدى الحرية في العالم». وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية بهزيمة النازية والفاشستية، استمرت «الطريق» في نهجها المنفتح على أسئلة النهضة العربية وأفكار التنوير واليسار والتجديد، وواكبت صعود حركة التحرر العربية خلال الخمسينات، والنضال ضد الأحلاف العسكرية ونشوء حركة عدم الانحياز. وإذا كانت المجلة قد واكبت مسار الحزب الشيوعي اللبناني والاتجاهات الماركسية في العالم العربي، إلا انها حافظت دوماً على هامش من الاستقلالية سمح لها بأن تكون منبراً ثقافياً يتميز بالتعددية والتنوع، بحيث صارت، مثلما قدمت نفسها، في العدد الخاص بالذكرى الأربعين لتأسيسها «مجلات عدة في مجلة واحدة». وعلى الرغم من تأكيدها على هويتها الفكرية الواضحة، فإن خطاب المجلة وخطها تعرضا لمراجعات نقدية عدة فرضتها التحولات السياسية التي عصفت بالمنطقة، من هزيمة حزيران وانهيار الناصرية، إلى بروز المقاومة الفلسطينية واندلاع الحرب اللبنانية والاجتياح الإسرائيلي لبيروت، وانطلاق المقاومة الوطنية اللبنانية. عبر مواكبتها لهذه التحولات استطاعت «الطريق» ان تحافظ حتى بداية التسعينات، على موقعها كمجلة تقدمية تنطلق من التزامها الفكري والأيديولوجي الواضح بأن تكون منبراً حوارياً في كافة ميادين الفكر والثقافة. غير ان نهاية الحرب اللبنانية ترافق مع تحولات أساسية زعزعت القواعد الفكرية التي كانت ترتكز إليها المجلة. فانهيار النظام السوفياتي كشف طابعه السلطوي وعجزه عن تحقيق الشعارات التي آمن بها ملايين المناضلين في العالم، وبذلوا في سبيلها أغلى التضحيات. وقد ترافق هذا الانهيار مع تراجع الأفكار الاشتراكية والتحررية وسيطرة الخطاب النيوليبرالي وتأليه السوق الحرة في كافة أنحاء العالم، من أميركا جورج بوش إلى صين ما بعد ماو. أما على الصعيد العربي، فقد أدى فشل التيارات القومية إلى إقامة أنظمة استبدادية أخضعت الشعوب العربية لأبشع أنواع القمع وكادت تُخرجها من التاريخ. وكانت إحدى نتائج عجز اليسار العربي عن الاستجابة لمتطلبات المرحلة الجديدة هي صعود التيارات الدينية الأصولية التي تقدم حلولاً سحرية كبديل عن واقع اليم تتخبط فيه الجماهير العربية في ظل قمع الأنظمة العسكرية والعدوانية الصهيونية المتمادية، إضافة إلى نهب ثروات المنطقة من قبل الشركات العالمية. أمام هذه التحولات العاصفة، كان لا بد من ان تقوم «الطريق» بمراجعة نقدية جذرية لتوجهاتها الأساسية على الصعيدين الفكري والسياسي، وان تطرح أسئلة منهجية حول الدور الذي يمكن ان تلعبه في عصر العولمة. وبعد صدور العدد الأخير في شتاء 2003، اتصل بي الصديق كريم مروة، الذي كان يشرف على إصدار «الطريق» في تلك المرحلة، بصفتي ممثلاً لورثة انطون تابت، مالكي المجلة. وتباحثنا في ضرورة إرساء أسس جديدة للمجلة، واتفقنا على ان التحولات الجذرية على الصعيدين العالمي والعربي، تتطلب صوغ مشروع جديد متكامل قادر على بلورة توجّه يساري منفتح ومتحرر من رواسب الماضي، ينطلق من الأسئلة الفكرية والثقافية الجديدة التي يطرحها الحاضر المتغيّر. كا اتفقنا على ان الشرط الأساسي لنجاح هذه التجربة يكمن في تأمين الاستقلالية التامة لمجلة «الطريق»، على المستويات السياسية والفكرية والمالية، وفي إيجاد هيكلية متقدمة تتصف بمهنية عالية، من أجل تأمين استمرارية المجلة في الظروف الصعبة التي يمر بها قطاع الصحف والمجلات في العالم. ورغم الجهود التي بذلها الأستاذ كريم مروة ومعه مجموعة من المثقفين المؤمنين برسالة «الطريق»، لم يكن في الإمكان تأمين الشروط الضرورية لإصدار المجلة على المدى الطويل، ففضل ان يعيد إليّ التكليف الذي منحته له، بدلاً من مباشرة مشروع لا ضمانة لاستمراريته. غير انني فوجئت منذ بضعة أشهر بتسريبات صحافية عن قرب صدور «الطريق»، ثم اكتشفت العدد الأول المؤرخ في صيف 2011 في الأسواق، هذا من دون استشارتي، ولو من باب اللياقة الاجتماعية. قرأت كغيري من محبي هذه المجلة إعلان عودتها إلى الصدور بفضل «قرار» جاء «كخبر سعيد» سمح بالتغلب على «القدر الغاشم الذي سمح باحتجاب المجلة خلال ثماني سنوات». وقد توقفت افتتاحية العدد عند الصدفة التي جعلت قرار إعادة الصدور متلازماً مع «قرارات الجماهير باندلاع الانتفاضات الثورية في أكثر من بلد عربي»، كما تضمن العدد محوراً خاصاً حول «خصوصية ثورتي مصر وتونس والانتفاضات الشعبية». الثورات المشتعلة في العالم العربي تطرح مجموعة من الأسئلة الكبرى التي من شأنها قلب كافة الأطر التقليدية للتحليل السياسي والفكري، وتلقي على عاتق اليسار مسؤوليات جسيمة عليه ان يثبت انه قادر على الاضطلاع بها كي يستطيع ان يلعب دوراً في المرحلة المقبلة. الأفق الذي يفتحه الربيع العربي، يتطلب مراجعة نقدية شاملة لكافة المسلمات النظرية والتجارب التي مرتبها حركة التحرر العربية. تشمل هذه المراجعة النقدية تجربة الحركات القومية، التي تمكنت في أوج المد الناصري خلال الخمسينات وبداية الستينات من تعبئة الجماهير في معركة التحرر من الاستعمار ومناهضة المشروع الصهيوني، لكنها تعثرت بسبب القمع وغياب الديموقراطية وانتهت بهزيمة تاريخية أدخلت العالم العربي في مرحلة إحباط امتدت نصف قرن. كما تشمل مراجعة «ورثاء» الناصرية وخصوصاً تجربة حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي أطلق في أواخر الأربعينات شعار الوحدة والحرية والاشتراكية، وانتهى إلى إقامة نظامين قطريين استبداديين تميزا بقمعهما الوحشي وبالهيمنة على السلطة واستئثار زمر عسكرية ـ عائلية بالثروات الاقتصادية. وتشمل أيضاً مراجعة تجارب الحركات الدينية الثورية التي نمت على أنقاض التيارات القومية واليسارية، وأنهت إلى تفتيت المجتمعات العربية في ملل ونحل وعشائر متصارعة، أدخلت المجتمعات في دوامة الحروب الأهلية والمجابهات المذهبية. وتشمل أخيراً وليس آخراً تجربة التيارات الماركسية العربية بشقيها «الرسمي» أي الأحزاب الشيوعية، و«الهامشي»، أي التيارات القومية التي تمركست بعد هزيمة حزيران 1967، والتي لم تتمكن إلا في بعض الحالات الاستثنائية من ان تلعب دوراً فاعلاً في التأثير الفكري والسياسي وفي خلق حال من التعبئة الجماهيرية القادرة على طرح خيارات حقيقية في وجه أنظمة الاستبداد العربية. هذه المراجعات هي المدخل من أجل الوصول إلى قراءة الأفق الديموقراطي والتحرري الذي تطرحه الثورات الشعبية العربية، التي لم تفاجئ الأنظمة فقط، بل فاجأت المعارضة أيضاً، وفاجأت جميع تيارات الثقافة العربية. هذا الأفق الجديد يتطلب لغة ورؤية جديدتين، ويساراً قادراً على ربط مسألة حرية المواطن وكرامته بالتقدم والعدالة الاجتماعية، وعلى ربط المسألتين بالصراع مع الاحتلال الإسرائيلي. هل يمكن الاستعاضة عن هذه المراجعة النقدية الشاملة برفع شعار إنتاج ماركسية عربية أو «ماركسية لنا» بحسب ما تطرحه افتتاحية «الطريق» كعنوان للمرحلة المقبلة؟! من حقنا ان نتساءل، بعد كل ما يجري، إذا كان هذا الشعار القديم، له علاقة بنبض المرحلة، أو يستطيع ان يكون عنواناً فكرياً لفهم ما يجري اليوم في العالم العربي؟ وهل تستطيع «الطريق» ان تلعب دورها في مرحلة اليقظة العربية الجديدة بمجرد صدور «قرار» يرفع شعاراً عاماً كهذا الشعار؟ وهل يُغني هذا القرار عن العمل الجماعي الهادف إلى صوغ خطة متكاملة تسمح للمجلة بأن تكون على مستوى التحديات التي تفرضها المرحلة؟ ألا تتطلب عملية إعادة الصدور الانفتاح على التيارات التحررية والشبابية منها بخاصة، بهدف رسم الإطار العام للمجلة، وتشكيل هيئة تحرير حقيقية تحدد خط المجلة ومنهجها وتضم إلى جانب مثقفي اليسار الكلاسيكي مفكرين مجددين قادرين على تخطي الأطر التقليدية التي لا تزال تحكم الأداء الفكري لليسار العربي؟ أليس من حقنا ان نتساءل عن ضمانات استمرارية المجلة من دون تأمين هيكلية إدارية متطورة تتحلى بمهنية عالية وترسم خطة مالية تؤمن للمجلة موازنة ثابتة واستقلالية تسمح لها بأن تصير منبراً حياً وخلاقاً، ومركز إبداع فكري وثقافي يكون على مستوى تحديات المرحلة؟ حرصت في هذا المقال على ان أكتب في وصفي قارئاً ومتابعاً ومحباً لمجلة «الطريق»، لا في وصفي ممثلاً لورثة انطون تابت الذين يملكون امتياز المجلة. فأنا تربيت على فكرة ان «الطريق» والتراث الفكري والنضالي الذي خلّفه انطون تابت ورفاقه، ليسا ملكية خاصة، بل هما ملك للتراث العقلاني واليساري في الثقافتين اللبنانية والعربية. كتبت حرصاً على هذا الإرث الثقافي الكبير ومن أجل تصويب المسيرة لا من أجل أي هدف آخر. وإذا كان حرصي وحرص ورثة انطون تابت واضحين في عدم التصرف بهذا الإرث لأننا لا ننظر إليه كملكية خاصة، فإن كنا ننتظر من الآخرين الذين أصدروا «القرار»، وخصوصاً من الناقد محمد دكروب، الذي نشأ وكبرت قامته النقدية في «الطريق»، ان يتصرفوا هم أيضاً بالروحية نفسها، لا ان يتم «تهريب» إصدار العدد من دون موافقتنا ومن دون استشارة كوكبة كبيرة من الكتاب والمثقفين الذين رافقوا المجلة في محطات مختلفة من مسيرتها. ان الصدور بهذا الشكل وعبر قرار لم يأخذ في الاعتبار واقع المجلة وآفاق تطورها، يدعونا إلى رفع الصوت كي يلتزم الجميع بمسؤولياتهم الأخلاقية تجاه إرث لا نستطيع ان لا نحميه من الضياع.
عادت مجلة «الطريق» إلى الصدور بعد توقف دام ثماني سنوات. يبدأ عدد المجلة في عامها السبعين بافتتاحية الأستاذ محمد دكروب، التي ذكّرت بالعدد الأخير الذي صدر عام 2003، معلنة ان «قدراً غاشماً شاء ان يطول زمن عودة المجلة... إلى ان وصلنا إلى زمن صار فيه بالامكان ان تستأنف هذه المجلة مسيرتها في شق الطريق إلى المستقبل». لا بد في البداية من ان يهنئ قراء «الطريق» أنفسهم بصدور المجلة من جديد. لكن من حق هؤلاء أيضاً ان يتساءلوا لماذا توقفت المجلة عن الصدور هذه الفترة الطويلة، ولماذا عادت اليوم؟ افتتاحية العدد الجديد لا تجيب عن هذين السؤالين. كما انها تُبقي أسباب غياب المجلة محاطة بغموض ضبابي، مؤكدة ان الأسباب المالية التي كانت تُعطى لتفسير «سر» الغياب، لم تكن سوى «تهرّب»، ثم تبشرنا «بخبر سار» جاء «في شكل قرار» سمح للمجلة بأن تستأنف صدورها. من الواضح ان الافتتاحية لا تقدم سوى جواب تبسيطي وغير مقنع. فكي نفهم لماذا توقفت الجلة عن الصدور خلال ثمانية أعوام، لا بد لنا من استعادة المراحل التي مرت بها «الطريق» والدور الذي لعبته في الحياة الفكرية والثقافية في لبنان والعالم العربي. عام 1941 أسس انطون تابت مجلة «الطريق» كرسالة ثقافية تصدرها «عصبة مكافحة الفاشستية في سورية ولبنان»، وضمت هيئة التحرير إضافة إلى تابت نخبة من الأدباء والمثقفين كان من بينهم عمر فاخوري ويوسف ابراهيم يزبك ورئيف خوري وقدري قلعجي... منذ تأسيسها، ربطت المجلة بين النضال التحرري للشعوب العربية من أجل الاستقلال والتقدم الاجتماعي من جهة، والكفاح الفكري ضد الفاشستية والنازية بوصفهما «أخبث أشكال السيطرة الاستعمارية»، من جهة ثانية. فقدمت نفسها «كلسان الأحرار في هذا البلد وصدى الحرية في العالم». وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية بهزيمة النازية والفاشستية، استمرت «الطريق» في نهجها المنفتح على أسئلة النهضة العربية وأفكار التنوير واليسار والتجديد، وواكبت صعود حركة التحرر العربية خلال الخمسينات، والنضال ضد الأحلاف العسكرية ونشوء حركة عدم الانحياز. وإذا كانت المجلة قد واكبت مسار الحزب الشيوعي اللبناني والاتجاهات الماركسية في العالم العربي، إلا انها حافظت دوماً على هامش من الاستقلالية سمح لها بأن تكون منبراً ثقافياً يتميز بالتعددية والتنوع، بحيث صارت، مثلما قدمت نفسها، في العدد الخاص بالذكرى الأربعين لتأسيسها «مجلات عدة في مجلة واحدة». وعلى الرغم من تأكيدها على هويتها الفكرية الواضحة، فإن خطاب المجلة وخطها تعرضا لمراجعات نقدية عدة فرضتها التحولات السياسية التي عصفت بالمنطقة، من هزيمة حزيران وانهيار الناصرية، إلى بروز المقاومة الفلسطينية واندلاع الحرب اللبنانية والاجتياح الإسرائيلي لبيروت، وانطلاق المقاومة الوطنية اللبنانية. عبر مواكبتها لهذه التحولات استطاعت «الطريق» ان تحافظ حتى بداية التسعينات، على موقعها كمجلة تقدمية تنطلق من التزامها الفكري والأيديولوجي الواضح بأن تكون منبراً حوارياً في كافة ميادين الفكر والثقافة. غير ان نهاية الحرب اللبنانية ترافق مع تحولات أساسية زعزعت القواعد الفكرية التي كانت ترتكز إليها المجلة. فانهيار النظام السوفياتي كشف طابعه السلطوي وعجزه عن تحقيق الشعارات التي آمن بها ملايين المناضلين في العالم، وبذلوا في سبيلها أغلى التضحيات. وقد ترافق هذا الانهيار مع تراجع الأفكار الاشتراكية والتحررية وسيطرة الخطاب النيوليبرالي وتأليه السوق الحرة في كافة أنحاء العالم، من أميركا جورج بوش إلى صين ما بعد ماو. أما على الصعيد العربي، فقد أدى فشل التيارات القومية إلى إقامة أنظمة استبدادية أخضعت الشعوب العربية لأبشع أنواع القمع وكادت تُخرجها من التاريخ. وكانت إحدى نتائج عجز اليسار العربي عن الاستجابة لمتطلبات المرحلة الجديدة هي صعود التيارات الدينية الأصولية التي تقدم حلولاً سحرية كبديل عن واقع اليم تتخبط فيه الجماهير العربية في ظل قمع الأنظمة العسكرية والعدوانية الصهيونية المتمادية، إضافة إلى نهب ثروات المنطقة من قبل الشركات العالمية. أمام هذه التحولات العاصفة، كان لا بد من ان تقوم «الطريق» بمراجعة نقدية جذرية لتوجهاتها الأساسية على الصعيدين الفكري والسياسي، وان تطرح أسئلة منهجية حول الدور الذي يمكن ان تلعبه في عصر العولمة. وبعد صدور العدد الأخير في شتاء 2003، اتصل بي الصديق كريم مروة، الذي كان يشرف على إصدار «الطريق» في تلك المرحلة، بصفتي ممثلاً لورثة انطون تابت، مالكي المجلة. وتباحثنا في ضرورة إرساء أسس جديدة للمجلة، واتفقنا على ان التحولات الجذرية على الصعيدين العالمي والعربي، تتطلب صوغ مشروع جديد متكامل قادر على بلورة توجّه يساري منفتح ومتحرر من رواسب الماضي، ينطلق من الأسئلة الفكرية والثقافية الجديدة التي يطرحها الحاضر المتغيّر. كا اتفقنا على ان الشرط الأساسي لنجاح هذه التجربة يكمن في تأمين الاستقلالية التامة لمجلة «الطريق»، على المستويات السياسية والفكرية والمالية، وفي إيجاد هيكلية متقدمة تتصف بمهنية عالية، من أجل تأمين استمرارية المجلة في الظروف الصعبة التي يمر بها قطاع الصحف والمجلات في العالم. ورغم الجهود التي بذلها الأستاذ كريم مروة ومعه مجموعة من المثقفين المؤمنين برسالة «الطريق»، لم يكن في الإمكان تأمين الشروط الضرورية لإصدار المجلة على المدى الطويل، ففضل ان يعيد إليّ التكليف الذي منحته له، بدلاً من مباشرة مشروع لا ضمانة لاستمراريته. غير انني فوجئت منذ بضعة أشهر بتسريبات صحافية عن قرب صدور «الطريق»، ثم اكتشفت العدد الأول المؤرخ في صيف 2011 في الأسواق، هذا من دون استشارتي، ولو من باب اللياقة الاجتماعية. قرأت كغيري من محبي هذه المجلة إعلان عودتها إلى الصدور بفضل «قرار» جاء «كخبر سعيد» سمح بالتغلب على «القدر الغاشم الذي سمح باحتجاب المجلة خلال ثماني سنوات». وقد توقفت افتتاحية العدد عند الصدفة التي جعلت قرار إعادة الصدور متلازماً مع «قرارات الجماهير باندلاع الانتفاضات الثورية في أكثر من بلد عربي»، كما تضمن العدد محوراً خاصاً حول «خصوصية ثورتي مصر وتونس والانتفاضات الشعبية». الثورات المشتعلة في العالم العربي تطرح مجموعة من الأسئلة الكبرى التي من شأنها قلب كافة الأطر التقليدية للتحليل السياسي والفكري، وتلقي على عاتق اليسار مسؤوليات جسيمة عليه ان يثبت انه قادر على الاضطلاع بها كي يستطيع ان يلعب دوراً في المرحلة المقبلة. الأفق الذي يفتحه الربيع العربي، يتطلب مراجعة نقدية شاملة لكافة المسلمات النظرية والتجارب التي مرتبها حركة التحرر العربية. تشمل هذه المراجعة النقدية تجربة الحركات القومية، التي تمكنت في أوج المد الناصري خلال الخمسينات وبداية الستينات من تعبئة الجماهير في معركة التحرر من الاستعمار ومناهضة المشروع الصهيوني، لكنها تعثرت بسبب القمع وغياب الديموقراطية وانتهت بهزيمة تاريخية أدخلت العالم العربي في مرحلة إحباط امتدت نصف قرن. كما تشمل مراجعة «ورثاء» الناصرية وخصوصاً تجربة حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي أطلق في أواخر الأربعينات شعار الوحدة والحرية والاشتراكية، وانتهى إلى إقامة نظامين قطريين استبداديين تميزا بقمعهما الوحشي وبالهيمنة على السلطة واستئثار زمر عسكرية ـ عائلية بالثروات الاقتصادية. وتشمل أيضاً مراجعة تجارب الحركات الدينية الثورية التي نمت على أنقاض التيارات القومية واليسارية، وأنهت إلى تفتيت المجتمعات العربية في ملل ونحل وعشائر متصارعة، أدخلت المجتمعات في دوامة الحروب الأهلية والمجابهات المذهبية. وتشمل أخيراً وليس آخراً تجربة التيارات الماركسية العربية بشقيها «الرسمي» أي الأحزاب الشيوعية، و«الهامشي»، أي التيارات القومية التي تمركست بعد هزيمة حزيران 1967، والتي لم تتمكن إلا في بعض الحالات الاستثنائية من ان تلعب دوراً فاعلاً في التأثير الفكري والسياسي وفي خلق حال من التعبئة الجماهيرية القادرة على طرح خيارات حقيقية في وجه أنظمة الاستبداد العربية. هذه المراجعات هي المدخل من أجل الوصول إلى قراءة الأفق الديموقراطي والتحرري الذي تطرحه الثورات الشعبية العربية، التي لم تفاجئ الأنظمة فقط، بل فاجأت المعارضة أيضاً، وفاجأت جميع تيارات الثقافة العربية. هذا الأفق الجديد يتطلب لغة ورؤية جديدتين، ويساراً قادراً على ربط مسألة حرية المواطن وكرامته بالتقدم والعدالة الاجتماعية، وعلى ربط المسألتين بالصراع مع الاحتلال الإسرائيلي. هل يمكن الاستعاضة عن هذه المراجعة النقدية الشاملة برفع شعار إنتاج ماركسية عربية أو «ماركسية لنا» بحسب ما تطرحه افتتاحية «الطريق» كعنوان للمرحلة المقبلة؟! من حقنا ان نتساءل، بعد كل ما يجري، إذا كان هذا الشعار القديم، له علاقة بنبض المرحلة، أو يستطيع ان يكون عنواناً فكرياً لفهم ما يجري اليوم في العالم العربي؟ وهل تستطيع «الطريق» ان تلعب دورها في مرحلة اليقظة العربية الجديدة بمجرد صدور «قرار» يرفع شعاراً عاماً كهذا الشعار؟ وهل يُغني هذا القرار عن العمل الجماعي الهادف إلى صوغ خطة متكاملة تسمح للمجلة بأن تكون على مستوى التحديات التي تفرضها المرحلة؟ ألا تتطلب عملية إعادة الصدور الانفتاح على التيارات التحررية والشبابية منها بخاصة، بهدف رسم الإطار العام للمجلة، وتشكيل هيئة تحرير حقيقية تحدد خط المجلة ومنهجها وتضم إلى جانب مثقفي اليسار الكلاسيكي مفكرين مجددين قادرين على تخطي الأطر التقليدية التي لا تزال تحكم الأداء الفكري لليسار العربي؟ أليس من حقنا ان نتساءل عن ضمانات استمرارية المجلة من دون تأمين هيكلية إدارية متطورة تتحلى بمهنية عالية وترسم خطة مالية تؤمن للمجلة موازنة ثابتة واستقلالية تسمح لها بأن تصير منبراً حياً وخلاقاً، ومركز إبداع فكري وثقافي يكون على مستوى تحديات المرحلة؟ حرصت في هذا المقال على ان أكتب في وصفي قارئاً ومتابعاً ومحباً لمجلة «الطريق»، لا في وصفي ممثلاً لورثة انطون تابت الذين يملكون امتياز المجلة. فأنا تربيت على فكرة ان «الطريق» والتراث الفكري والنضالي الذي خلّفه انطون تابت ورفاقه، ليسا ملكية خاصة، بل هما ملك للتراث العقلاني واليساري في الثقافتين اللبنانية والعربية. كتبت حرصاً على هذا الإرث الثقافي الكبير ومن أجل تصويب المسيرة لا من أجل أي هدف آخر. وإذا كان حرصي وحرص ورثة انطون تابت واضحين في عدم التصرف بهذا الإرث لأننا لا ننظر إليه كملكية خاصة، فإن كنا ننتظر من الآخرين الذين أصدروا «القرار»، وخصوصاً من الناقد محمد دكروب، الذي نشأ وكبرت قامته النقدية في «الطريق»، ان يتصرفوا هم أيضاً بالروحية نفسها، لا ان يتم «تهريب» إصدار العدد من دون موافقتنا ومن دون استشارة كوكبة كبيرة من الكتاب والمثقفين الذين رافقوا المجلة في محطات مختلفة من مسيرتها. ان الصدور بهذا الشكل وعبر قرار لم يأخذ في الاعتبار واقع المجلة وآفاق تطورها، يدعونا إلى رفع الصوت كي يلتزم الجميع بمسؤولياتهم الأخلاقية تجاه إرث لا نستطيع ان لا نحميه من الضياع.
أزمة الخطاب في السعودية
فؤاد ابراهيم
التاريخ لن يعود للوراء»، عبارة تتردد في كل زوايا الشارع العربي منذ بداية «ربيع العرب» من تونس في 5 كانون الأول (ديسمبر) من العام الماضي، وأن وكلاء التاريخ الجدد قادرون على شق درب الخلاص من الأقدار العقيمة، المفروضة نتيجة تواطؤ أطراف غير مقدّسة محلية وخارجية.
في السعودية، ثمة من يريد أن يثبت أن التاريخ يمكن إعادته للوراء، وأن «الخصوصية» السعودية قادرة على إبقاء حصرية وكالة التاريخ بيد فئة محدودة، وهي من تقرّر ما إذا كان هناك «ربيع عربي» أو هو» خريف أو صيف أو ربما زمهرير» على حد وصف الأمير تركي الفيصل، رئيس الاستخبارات العامة السابق والسفير في لندن وواشنطن سابقاً، في مقابلة مع قناة بي بي سي العربي في 8 آب الحالي.
منذ اندلاع الثورات العربية، برز العامل السعودي بكونه نذيراً من تحوّلات تفقد فيها القوى القابضة على القرار السياسي العربي السيطرة. وفيما كانت الثورة المصرية تعبر بآمال العرب الى مرحلة النصر الحسم، كانت القوى المضادة للثورة تستنفر قواها وتحالفاتها وإمكانياتها المالية لجهة تصنيع البدائل، المعادية تكويناً للثورة ولأهدافها.
حين سأل رئيس تحرير صحيفة محلية في الرياض وزير الداخلية الأمير نايف ذات لقاء خاص مع رؤوساء تحرير الصحف المحلية عن موقف المملكة من الثورة المصرية، وكيف ستتعاطى الحكومة مع مطلب التغيير، كانت إجابته مستمدة من ثقافة «الخصوصية»: إننا لسنا تونس ولسنا مصر، وإننا نطبّق الشريعة الإسلامية!
اليوم، ومع الإقتراب من الثلث الأخير من السنة الأولى لربيع العرب، نحاول أن نرصد مظاهر أزمة الخطاب في السعودية، بالنظر الى النزوع المتعاظم لدى العائلة المالكة بأنها لها وحدها حق حصري في تقرير طبيعة التغيير.
الحشد الأمني الهائل الذي قامت به وزارة الداخلية في «يوم الغضب» الافتراضي في 11 آذار الماضي، مثّل امتحاناً حقيقياً للثقة بين الحاكم والمحكوم، بخلاف ما صدر عن وزير الداخلية الأمير نايف في اليوم التالي، من أن عدم خروج تظاهرات في المدن والشوارع يعكس الثقة المتبادلة بين الحكومة والشعب. من راقب تدابير الفزع قبل أسابيع من اليوم المقرر للإحتجاج، شعر بأن الدولة كانت تعيش حالة طوارىء، وأن 11 آذار شهد «حظر تجوّل» غير معلن في كل أرجاء المملكة.
مهما يكن، ما أعقب ذلك اليوم يسترعي إنتباهاً خاصاً، أي حين بدأ الهجوم المضاد على الثورات العربية: دخول قوات درع الجزيرة الى البحرين في 15 آذار، وإرسال سفينة محمّلة بالذخائر والأسلحة الى اليمن في 16 آذار، وتشكيل جبهة خليجية لتوفير غطاء مالي وإعلامي وسياسي لتدخل عسكري دولي في ليبيا، بدء تحريك الجماعات السلفية في مصر، والإتصال مع شخصيات سياسية لتعطيل مفاعيل مجلس الثورة في تونس.
محلياً، وهنا تكمن أزمة الخطاب في السعودية، ألقى الملك عبد الله في 17 آذار خطاباً مقتضباً بسبب أوضاعه الصحيّة، ثم تُلي عقب ذلك بيان تفصيلي عن القرارات الجديدة، والتي أحدثت خيبة أمل كبيرة لدى المتطلّعين نحو إصلاحات سياسية جديّة. وفيما جرى اختصار مطالب الناس في تقديمات اجتماعية بقيمة 36 مليار دولار، كان الأخطر، في هذه القرارات، إعادة تأسيس الدولة الأمنية والدينية، حيث أشاد بيان الملك بدور علماء الدين الذي نهروا وزجروا أهل دعوتهم من الإستجابة لأهل الغيّ والضلال بالخــروج في مظاهرات ضد ولاة الأمر، كما أطرى رجال الأمن الذين انتــشروا في كــل أرجاء البلاد في يوم الغضب المقرر، فكانت المكافأة: حظر توجيه النقد للعلماء في وسائل الإعلام بصورة حاسمة وإنزال عقوبة صارمة ضد المخالفين، وزيادة عديد رجال الأمن بتجـنيد وتدريب 60 ألفاً في قوى الأمن الـتابعة لوزارة الداخلــية..وهكذا أغلق الباب على أي نقاش داخلي حول الإصلاح السياسي!
ما جرى في سوريا في آذار الماضي مثّل مخرّجاً مثالياً للعائلة المالكة من أي استحقاقات إصلاحية، فالتعبئة الثقافية والإيديولوجية التي جرت خلال ما يربو عن ثلاثة عقود ضد النظام في سوريا، على خلفية طائفية، في المساجد والمجلات والنشريات والكتب الدينية في السعودية، أريد تثميرها في استدراج الإهتمام المحلي والدولي الى مكان آخر، وإقفال ملف (الثورة) في السعودية..
الإصلاح السياسي المرفوض داخلياً وخارجياً في الدول الحليفة للسعودية، وعلى وجه الخصوص في مصر والبحرين واليمن وتونس، بل والاشتغال على تعطيل شروط التحوّل الانتقالي فيها، تصبح ليبيا وسورية إستثناءً في ذلك الرفض.
بيان الملك عبد الله في 8 آب الجاري حول الأوضاع في سورية يعتبر «استثناءً» فعلياً في النهج السياسي السعودي. فما غفل عنه صنّاع القرار في السعودية إزاء الثورات في تونس ومصر واليمن فضلاً عن البحرين من استعمال مفرط للقوة ضد تظاهرات سلميّة، بل غضب من الحليف الأميركي لأنه تخلّى في لحظة حرجة عن (حلفائه)، في إشارة الى الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك، ولم نسمع عن إحترام إرادة الشعب المصري إلا بعد أصبحت عودة مبارك مستحيلة..!
بيان الملك عبد الله يضعنا أمام صورتين متقابلتين: الأولى سوريا وتشجيع التظاهر فيها حد استعمال أقصى أشكال العنف، مؤسس على فتوى دينية أطلقها رئيس مجلس القضاء الأعلى السابق، وعضو هيئة كبار العلماء حالياً الشيخ صالح اللحيدان في الأيام الأولى من اندلاع الاحتجاجات في سوريا، أجاز فيها قتل ثلث الشعب السوري من أجل أن ينعم الثلثان. بيان الملك عبد الله طالب القيادة السورية بتفعيل الإصلاحات الموعودة وتحويلها الى واقع ملموس، كما جرّم العنف..
في البحرين، كما في الداخل السعودي، وعلى الضد يصبح التظاهر عملاً غوغائياً ومحرّماً لأنه خروج على ولي الأمر، ومدخل للفتنة، وتتدخل قوات عسكرية سعودية من أجل منع التحوّل الديمقراطي السلمي، والإفراط في استعمال كل الاتهامات ضد المتظاهرين، بما في ذلك استعمال العنف، رغم أن الحركة الشعبية السلمية في البحرين أغضبت ثوّار العالم بسبب الإفراط في سلميتها، وعزوفها حتى عن تقنيات المقاومة المدنية المشروعة في الثورات الشعبية، كقانونية استعمال الغاز المسيل للدموع، والهراوات، والمياه المغلية بالنسبة لقوات مكافحة الشغب..
لعبىة محاور، إرهاب ديني، عقم سياسي، ثارات مؤجّلة.. قد تكون جميعها حاضرة في المواقف السياسية المتناقضة من الثورات العربية. لاشك أن التقارب التركي السعودي حيال الموضوع السوري يعتبر استثناءً، لأن لعبة المحاور تملي هذا النوع من التقارب، ولا ريب أن فتاوى «التحريم الكنسي» التي أصدرها علماء دين في السعودية ضد رؤوساء تحرير صحف محلية لمجرد أنهم لم ينخرطوا في حملة تجريم التظاهر، حتى خصّص الشيخ المثير للجدل محمد العريفي خطبة في صلاة الجمعة كي يطلق عبارة إستفزازية يقول فيها (أن بعض الصحافيين لا يستحقّون بصاق المفتي)، ولا ريب أن تشجيع الإصلاح السياسي في سوريّا واستغلاله كعامل رئيسي في المناكفة السياسية ولعبة المحاور، واجتياح بلد بأسره للحيلولة دون تحقيق الإصلاح السياسي المأمول شعبياً كما في البحرين، والإلتفاف عليه في اليمن، ومحاولة اختراقه في تونس ومصر نصبح أمام عقم سياسي، أما الثارات المؤجّلة فإن تخصيص ليبيا وسوريا بالعقاب الثوري، لا شأن له بالإصلاح السياسي المفقود محلياً، أو خارجياً في بلدان الحلفاء!
تطوّر آخر لافت تمثّل في قانون مناهضة الإرهاب، والذي كشفت عنه منظمة العفو الدولية في 22 تموز (يوليو) الماضي، والذي يعتبر من وجهة نظر مراقبين استكمالاً لقرارات 17 آذار الماضي، حيث يقفل القانون الجديد الباب أمام أي شكل من أشكال الإحتجاج السلمي. توحيد العقوبة، أي جعل من يكتب بالقلم في نقد سياسات الدولة، ومن يشهر السلاح في وجهها على مرتبة سواء في الجريمة والعقوبة، تحت طائل قانون مناهضة الإرهاب، يعني أن (التاريخ لا يعود للوراء) فحسب، بل يعني تعطيل حركة تاريخ الإنسان في هذا البلد.
في القانون الجديد، يصبح التشكيك في نزاهة الملك أو ولي العهد جريمة يعاقب عليها بعشر سنوات في الحد الأدنى، وهذا يضعنا أمام «خصوصية» من طراز آخر. ومهما قيل عن تعديلات ستجري على القانون بعد انتهاء عطلة مجلس الشورى في إيلول القادم، فإن القبول بهذا النوع من النقاشات القانونية في ظل تطلّعات شعبية نحول الانتقال الديمقراطي يعني أن ثمة مأزقاً تعيشه الدولة.. مأزق يمكن أن نرقب تداعياته، ولا نفهم مبررات الوقوع فيه، تماماً كمقولة (السلفية مطلب وطني) بحسب مؤتمر عقد مؤخراً تحت رعاية وزير الداخلية الأمير نايف، مستحضراً مقولات له في 2006 و2008، حول سلفية الدولة السعودية!
صراع الأجنحة و«ربيع العرب»
لابد من الإنطلاق من حقيقة داخلية، قد ينظر إليها بعض المراقبين بقليل من الإهتمام، ولكّنها تمثّل جزءً من «أسطورة الهيبة» السعودية. الحقيقة هي: أن الجيل الثاني الذي شهد مرحلة التأسيس أو عاش الأخطار المحدقة بالكيان، يقترب من نهاية زمنه الإفتراضي بفعل قوانين الطبيعة، فأعمار أفراد الطبقة الحاكمة اليوم تتراوح بين 80 ـ 90 عاماً، وأن الأوضاع الصحيّة المتدهورة التي يعاني منها أغلب أفراد الطبقة، تزيد في وتيرة التكّهنات والأسئلة عن القادم من أشخاص ومتغيّرات. ويمكن أيضاً في هذا الصدد التنبوء بطبيعة الأوضاع النفسية التي يعيشها شعب بأكلمه، بانتظار رحيل أي من الأمراء الكبار، وما ينجم عن ذلك من تحوّلات بأحجام متفاوتة، تبعاً لموقع الأمير في السلطة.
الإنغماس السعودي في أكثر من ثورة عربية (اليمن، والبحرين، وسورية)، دع عنك ما يقال عن أموال سعودية تغذي جماعات مناهضة للثورة لمنع انتقال ديموقراطي رصين في كل من تونس ومصر، وشكوك حول ضلوع غير مباشر في تسليح جماعات غير ثورية في ليبيا، لا يعكس وضعاً صحياً داخلياً. صراع الأجنحة داخل العائلة المالكة في ظل استحقاقات قريبة قادمة، نتيجة عوامل عديدة منها الأجل الوشيك لأعضاء جيل التأسيس، يستره الهروب للأمام والانخراط الكثيف في الثورات العربية..
التناغم المعدوم بين أداء خارجي يوهم بالقوة والتماسك وآخر داخلي يدفع المقرّبين من السلطة إلى حبس أنفاسهم من احتمالات قائمة لتمزّق خطوط التوارث داخل العائلة المالكة بفعل ما يصفه أحدّ المقرّبين من العائلة المالكة (افتراس داخلي). صفقات المحاصصة بين جناحين أو أكثر تجري الآن على حساب الأجنحة الأخرى التي ستجد نفسها على هامش (لعبة التسويات) داخل العائلة المالكة، وربما ستكون هذه الأجنحة ضمن (نظام الرعاية) لدى أحد كبار الأمراء في الجناح السديري.
في المحصّلة، هناك أزمة خطاب في السعودية، تزداد خطورة بمرور الوقت، كلما تزايدت درجة انخراط السعودية في شؤون الثورات العربية في الخارج، وتمسّكت بالنموذج الأصلي (prototype) للدولة الدينية ـ الأمنية المتخاصمة مع شعبها، حيث الإقتراب من لحظة القطيعة والمصادمة.
التاريخ لن يعود للوراء»، عبارة تتردد في كل زوايا الشارع العربي منذ بداية «ربيع العرب» من تونس في 5 كانون الأول (ديسمبر) من العام الماضي، وأن وكلاء التاريخ الجدد قادرون على شق درب الخلاص من الأقدار العقيمة، المفروضة نتيجة تواطؤ أطراف غير مقدّسة محلية وخارجية.
في السعودية، ثمة من يريد أن يثبت أن التاريخ يمكن إعادته للوراء، وأن «الخصوصية» السعودية قادرة على إبقاء حصرية وكالة التاريخ بيد فئة محدودة، وهي من تقرّر ما إذا كان هناك «ربيع عربي» أو هو» خريف أو صيف أو ربما زمهرير» على حد وصف الأمير تركي الفيصل، رئيس الاستخبارات العامة السابق والسفير في لندن وواشنطن سابقاً، في مقابلة مع قناة بي بي سي العربي في 8 آب الحالي.
منذ اندلاع الثورات العربية، برز العامل السعودي بكونه نذيراً من تحوّلات تفقد فيها القوى القابضة على القرار السياسي العربي السيطرة. وفيما كانت الثورة المصرية تعبر بآمال العرب الى مرحلة النصر الحسم، كانت القوى المضادة للثورة تستنفر قواها وتحالفاتها وإمكانياتها المالية لجهة تصنيع البدائل، المعادية تكويناً للثورة ولأهدافها.
حين سأل رئيس تحرير صحيفة محلية في الرياض وزير الداخلية الأمير نايف ذات لقاء خاص مع رؤوساء تحرير الصحف المحلية عن موقف المملكة من الثورة المصرية، وكيف ستتعاطى الحكومة مع مطلب التغيير، كانت إجابته مستمدة من ثقافة «الخصوصية»: إننا لسنا تونس ولسنا مصر، وإننا نطبّق الشريعة الإسلامية!
اليوم، ومع الإقتراب من الثلث الأخير من السنة الأولى لربيع العرب، نحاول أن نرصد مظاهر أزمة الخطاب في السعودية، بالنظر الى النزوع المتعاظم لدى العائلة المالكة بأنها لها وحدها حق حصري في تقرير طبيعة التغيير.
الحشد الأمني الهائل الذي قامت به وزارة الداخلية في «يوم الغضب» الافتراضي في 11 آذار الماضي، مثّل امتحاناً حقيقياً للثقة بين الحاكم والمحكوم، بخلاف ما صدر عن وزير الداخلية الأمير نايف في اليوم التالي، من أن عدم خروج تظاهرات في المدن والشوارع يعكس الثقة المتبادلة بين الحكومة والشعب. من راقب تدابير الفزع قبل أسابيع من اليوم المقرر للإحتجاج، شعر بأن الدولة كانت تعيش حالة طوارىء، وأن 11 آذار شهد «حظر تجوّل» غير معلن في كل أرجاء المملكة.
مهما يكن، ما أعقب ذلك اليوم يسترعي إنتباهاً خاصاً، أي حين بدأ الهجوم المضاد على الثورات العربية: دخول قوات درع الجزيرة الى البحرين في 15 آذار، وإرسال سفينة محمّلة بالذخائر والأسلحة الى اليمن في 16 آذار، وتشكيل جبهة خليجية لتوفير غطاء مالي وإعلامي وسياسي لتدخل عسكري دولي في ليبيا، بدء تحريك الجماعات السلفية في مصر، والإتصال مع شخصيات سياسية لتعطيل مفاعيل مجلس الثورة في تونس.
محلياً، وهنا تكمن أزمة الخطاب في السعودية، ألقى الملك عبد الله في 17 آذار خطاباً مقتضباً بسبب أوضاعه الصحيّة، ثم تُلي عقب ذلك بيان تفصيلي عن القرارات الجديدة، والتي أحدثت خيبة أمل كبيرة لدى المتطلّعين نحو إصلاحات سياسية جديّة. وفيما جرى اختصار مطالب الناس في تقديمات اجتماعية بقيمة 36 مليار دولار، كان الأخطر، في هذه القرارات، إعادة تأسيس الدولة الأمنية والدينية، حيث أشاد بيان الملك بدور علماء الدين الذي نهروا وزجروا أهل دعوتهم من الإستجابة لأهل الغيّ والضلال بالخــروج في مظاهرات ضد ولاة الأمر، كما أطرى رجال الأمن الذين انتــشروا في كــل أرجاء البلاد في يوم الغضب المقرر، فكانت المكافأة: حظر توجيه النقد للعلماء في وسائل الإعلام بصورة حاسمة وإنزال عقوبة صارمة ضد المخالفين، وزيادة عديد رجال الأمن بتجـنيد وتدريب 60 ألفاً في قوى الأمن الـتابعة لوزارة الداخلــية..وهكذا أغلق الباب على أي نقاش داخلي حول الإصلاح السياسي!
ما جرى في سوريا في آذار الماضي مثّل مخرّجاً مثالياً للعائلة المالكة من أي استحقاقات إصلاحية، فالتعبئة الثقافية والإيديولوجية التي جرت خلال ما يربو عن ثلاثة عقود ضد النظام في سوريا، على خلفية طائفية، في المساجد والمجلات والنشريات والكتب الدينية في السعودية، أريد تثميرها في استدراج الإهتمام المحلي والدولي الى مكان آخر، وإقفال ملف (الثورة) في السعودية..
الإصلاح السياسي المرفوض داخلياً وخارجياً في الدول الحليفة للسعودية، وعلى وجه الخصوص في مصر والبحرين واليمن وتونس، بل والاشتغال على تعطيل شروط التحوّل الانتقالي فيها، تصبح ليبيا وسورية إستثناءً في ذلك الرفض.
بيان الملك عبد الله في 8 آب الجاري حول الأوضاع في سورية يعتبر «استثناءً» فعلياً في النهج السياسي السعودي. فما غفل عنه صنّاع القرار في السعودية إزاء الثورات في تونس ومصر واليمن فضلاً عن البحرين من استعمال مفرط للقوة ضد تظاهرات سلميّة، بل غضب من الحليف الأميركي لأنه تخلّى في لحظة حرجة عن (حلفائه)، في إشارة الى الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك، ولم نسمع عن إحترام إرادة الشعب المصري إلا بعد أصبحت عودة مبارك مستحيلة..!
بيان الملك عبد الله يضعنا أمام صورتين متقابلتين: الأولى سوريا وتشجيع التظاهر فيها حد استعمال أقصى أشكال العنف، مؤسس على فتوى دينية أطلقها رئيس مجلس القضاء الأعلى السابق، وعضو هيئة كبار العلماء حالياً الشيخ صالح اللحيدان في الأيام الأولى من اندلاع الاحتجاجات في سوريا، أجاز فيها قتل ثلث الشعب السوري من أجل أن ينعم الثلثان. بيان الملك عبد الله طالب القيادة السورية بتفعيل الإصلاحات الموعودة وتحويلها الى واقع ملموس، كما جرّم العنف..
في البحرين، كما في الداخل السعودي، وعلى الضد يصبح التظاهر عملاً غوغائياً ومحرّماً لأنه خروج على ولي الأمر، ومدخل للفتنة، وتتدخل قوات عسكرية سعودية من أجل منع التحوّل الديمقراطي السلمي، والإفراط في استعمال كل الاتهامات ضد المتظاهرين، بما في ذلك استعمال العنف، رغم أن الحركة الشعبية السلمية في البحرين أغضبت ثوّار العالم بسبب الإفراط في سلميتها، وعزوفها حتى عن تقنيات المقاومة المدنية المشروعة في الثورات الشعبية، كقانونية استعمال الغاز المسيل للدموع، والهراوات، والمياه المغلية بالنسبة لقوات مكافحة الشغب..
لعبىة محاور، إرهاب ديني، عقم سياسي، ثارات مؤجّلة.. قد تكون جميعها حاضرة في المواقف السياسية المتناقضة من الثورات العربية. لاشك أن التقارب التركي السعودي حيال الموضوع السوري يعتبر استثناءً، لأن لعبة المحاور تملي هذا النوع من التقارب، ولا ريب أن فتاوى «التحريم الكنسي» التي أصدرها علماء دين في السعودية ضد رؤوساء تحرير صحف محلية لمجرد أنهم لم ينخرطوا في حملة تجريم التظاهر، حتى خصّص الشيخ المثير للجدل محمد العريفي خطبة في صلاة الجمعة كي يطلق عبارة إستفزازية يقول فيها (أن بعض الصحافيين لا يستحقّون بصاق المفتي)، ولا ريب أن تشجيع الإصلاح السياسي في سوريّا واستغلاله كعامل رئيسي في المناكفة السياسية ولعبة المحاور، واجتياح بلد بأسره للحيلولة دون تحقيق الإصلاح السياسي المأمول شعبياً كما في البحرين، والإلتفاف عليه في اليمن، ومحاولة اختراقه في تونس ومصر نصبح أمام عقم سياسي، أما الثارات المؤجّلة فإن تخصيص ليبيا وسوريا بالعقاب الثوري، لا شأن له بالإصلاح السياسي المفقود محلياً، أو خارجياً في بلدان الحلفاء!
تطوّر آخر لافت تمثّل في قانون مناهضة الإرهاب، والذي كشفت عنه منظمة العفو الدولية في 22 تموز (يوليو) الماضي، والذي يعتبر من وجهة نظر مراقبين استكمالاً لقرارات 17 آذار الماضي، حيث يقفل القانون الجديد الباب أمام أي شكل من أشكال الإحتجاج السلمي. توحيد العقوبة، أي جعل من يكتب بالقلم في نقد سياسات الدولة، ومن يشهر السلاح في وجهها على مرتبة سواء في الجريمة والعقوبة، تحت طائل قانون مناهضة الإرهاب، يعني أن (التاريخ لا يعود للوراء) فحسب، بل يعني تعطيل حركة تاريخ الإنسان في هذا البلد.
في القانون الجديد، يصبح التشكيك في نزاهة الملك أو ولي العهد جريمة يعاقب عليها بعشر سنوات في الحد الأدنى، وهذا يضعنا أمام «خصوصية» من طراز آخر. ومهما قيل عن تعديلات ستجري على القانون بعد انتهاء عطلة مجلس الشورى في إيلول القادم، فإن القبول بهذا النوع من النقاشات القانونية في ظل تطلّعات شعبية نحول الانتقال الديمقراطي يعني أن ثمة مأزقاً تعيشه الدولة.. مأزق يمكن أن نرقب تداعياته، ولا نفهم مبررات الوقوع فيه، تماماً كمقولة (السلفية مطلب وطني) بحسب مؤتمر عقد مؤخراً تحت رعاية وزير الداخلية الأمير نايف، مستحضراً مقولات له في 2006 و2008، حول سلفية الدولة السعودية!
صراع الأجنحة و«ربيع العرب»
لابد من الإنطلاق من حقيقة داخلية، قد ينظر إليها بعض المراقبين بقليل من الإهتمام، ولكّنها تمثّل جزءً من «أسطورة الهيبة» السعودية. الحقيقة هي: أن الجيل الثاني الذي شهد مرحلة التأسيس أو عاش الأخطار المحدقة بالكيان، يقترب من نهاية زمنه الإفتراضي بفعل قوانين الطبيعة، فأعمار أفراد الطبقة الحاكمة اليوم تتراوح بين 80 ـ 90 عاماً، وأن الأوضاع الصحيّة المتدهورة التي يعاني منها أغلب أفراد الطبقة، تزيد في وتيرة التكّهنات والأسئلة عن القادم من أشخاص ومتغيّرات. ويمكن أيضاً في هذا الصدد التنبوء بطبيعة الأوضاع النفسية التي يعيشها شعب بأكلمه، بانتظار رحيل أي من الأمراء الكبار، وما ينجم عن ذلك من تحوّلات بأحجام متفاوتة، تبعاً لموقع الأمير في السلطة.
الإنغماس السعودي في أكثر من ثورة عربية (اليمن، والبحرين، وسورية)، دع عنك ما يقال عن أموال سعودية تغذي جماعات مناهضة للثورة لمنع انتقال ديموقراطي رصين في كل من تونس ومصر، وشكوك حول ضلوع غير مباشر في تسليح جماعات غير ثورية في ليبيا، لا يعكس وضعاً صحياً داخلياً. صراع الأجنحة داخل العائلة المالكة في ظل استحقاقات قريبة قادمة، نتيجة عوامل عديدة منها الأجل الوشيك لأعضاء جيل التأسيس، يستره الهروب للأمام والانخراط الكثيف في الثورات العربية..
التناغم المعدوم بين أداء خارجي يوهم بالقوة والتماسك وآخر داخلي يدفع المقرّبين من السلطة إلى حبس أنفاسهم من احتمالات قائمة لتمزّق خطوط التوارث داخل العائلة المالكة بفعل ما يصفه أحدّ المقرّبين من العائلة المالكة (افتراس داخلي). صفقات المحاصصة بين جناحين أو أكثر تجري الآن على حساب الأجنحة الأخرى التي ستجد نفسها على هامش (لعبة التسويات) داخل العائلة المالكة، وربما ستكون هذه الأجنحة ضمن (نظام الرعاية) لدى أحد كبار الأمراء في الجناح السديري.
في المحصّلة، هناك أزمة خطاب في السعودية، تزداد خطورة بمرور الوقت، كلما تزايدت درجة انخراط السعودية في شؤون الثورات العربية في الخارج، وتمسّكت بالنموذج الأصلي (prototype) للدولة الدينية ـ الأمنية المتخاصمة مع شعبها، حيث الإقتراب من لحظة القطيعة والمصادمة.
الانتفاضة السورية وعزم الاستمرار...
أكرم البني
هو سؤال يثار باستغراب هذه الآونة، عن سر استمرار الانتفاضة الشعبية في سورية أمام هذا القمع العنيف والمعمم، ومن أين تستمد قوتها وعزمها بعد العدد الكبير من الضحايا والجرحى والمعتقلين واللاجئين، وفي ظل مشهد تبدو فيه كأنها تُترك وحيدة لتواجه مصيرها، في إشارة الى ضعف الموقفين العربي والدولي، فالأول لا يزال متردداً، لم يرق الى مصاف شدة هذه الأزمة وعمقها، والثاني يعاني من تشتت وحسابات سياسية تعوق خطوة التقدم لإعلان موقف أممي يدين أخلاقياً هذا التوغل في العنف والتنكيل.
اليوم، يلمس المرء إصراراً قوياً وغير مسبوق عند الناس على التغيير، نابعاً بلا شك من قهر وإذلال مديدين ومن معاناة شديدة من التمييز والتهميش، أوضح وأكثف صورة لها، أن يبيح أهل الحكم لأنفسهم كل شيء على حساب أبسط حقوق الناس ومصالحهم! فأي إصرار يكون حين تصل الأمور إلى حدود غير مقبولة، وتتجاوز كل طاقة على الاحتمال، ليغدو العيش محالاً وترجح كفة تفضيل الموت على الخضوع للوضع القائم؟ وأي حافز للنهوض والانتفاض حين تمدّه الثورات العربية المتواترة، إلى جانب قوة الدفع الأولى، بروح الدأب والمثابرة.
وما يزيد في دينامية النهوض والحراك الشعبي ويرفع روح الإيثار ودرجة الاستعداد لمواجهة العنف المفرط، شيوع إحساس لدى المحتجين، بأن ما يحصل هو لحظة للتغيير يصعب تكرارها ولنقل فرصة تاريخية نادرة للخلاص من منطق القوة والتمييز والغلبة، والأهم حضور إدراك عام بأن أي عودة الى الوراء أو توقف هو الطامة الكبرى ويمكن الدولة الأمنية من تثبيت تحكمها بمصائر البلاد والعباد ويضع الأجيال القادمة في شروط أسوأ بكثير مما هو قائم الآن. وهنا لعبت الأخطاء التي يرتكبها النظام في إدارة الأزمة واستهتاره بمعاداة الناس وأيضاً حجم الاحتجاجات الشعبية وطبيعتها، التي امتدت لتشمل عشرات المدن والبلدات السورية، دوراً كبيراً في منح الانتفاضة كثيراً من الأمل والثقة بقدرتها على تحقيق أهدافها، في مقابل ارتباك وتراجع مستمرين في قدرة الأدوات القمعية على سحقها أو محاصرتها وقمعها.
إن الحملات العسكرية والأمنية على اتساعها وشدتها لم تستطع أن تثني الناس عن الخروج الى الشارع والتعبير عن شعاراتها ومطالبها، ولم تنفع في تغطيتها مناورات النظام السياسية ودعواته الى الحوار والإصلاح، أو محاولات استمالة البشر بزيادة الأجور وتوفير بعض الحاجات الضرورية، أو تخويفهم بالفوضى وبتنظيمات إسلامية متطرفة وبخطر خارجي داهم! وبعبارة أخرى، فإن عجز الخيار الأمني والعسكري بأسلحته الجبارة عن حسم الأمور ولنقل فشله وبعد خمسة شهور في كسر شوكة الحراك الشعبي وإطفاء جذوته، عزز من ثقة الناس بأنفسهم وبخياراتهم وبجدوى ما يقومون به، وكأن قضيتهم أصبحت قضية عصية على القمع، بدليل أن المناطق المنكوبة هي المناطق الأكثر تحدياً وأول من تبادر ما إن ينحسر الحضور الأمني الكثيف للتظاهر والاحتجاج، وما يزيد الثقة والإصرار وعزم الاستمرار، نجاح الانتفاضة في إفشال محاولات تشويهها أخلاقياً بالطعن بسلميتها والتشكيك بأغراضها السياسية، أو عزلها وإثارة الفتن والتفرقة بين صفوفها وفئاتها، ما يشجع على الاستنتاج بأن لغة الحديد والنار، لم يعد لها مكان في الخصوصية السورية، بل صارت تحفز همم الحراك الشعبي أكثر، وتترك أصحابها عرضة للمزيد من ردود الأفعال العربية والدولية ولتأثيرات سلبية بعيدة المدى في علاقتهم مع المجتمع ومدى تماسكهم.
ثمة حافز آخر في الخصوصية السورية مكّن المحتجين وشد من أزرهم، هو تنوع التكوينات القيادية الميدانية التي أفرزتها الانتفاضة وانتشارها في كل مكان وتفاعلها مع بعضها بطرق غير مباشرة، ما جعلها عصية على الاعتقال، عرفت باسم «التنسيقيات» كشكل تنظيمي مرن نجح نسبياً في تحويل التظاهرات إلى ما يشبه الفعل اليومي، وهو شرط ضروري لاستمرارها وتغذيتها بالحماسة، وأيضاً في تسخير وسائل التواصل الاجتماعي لخلق لغة مشتركة للتفاعل وللتوافق على المهام وتوحيد إيقاع النشاطات!
ويبدو للعيان أن هذه «التنسيقيات» قد اغتنت مع الوقت واكتسبت خبرة أكبر في التعامل مع الحدث وقدرة لافتة على التنظيم وتحمل مسؤوليات متعددة كالرصد والإعلام والتوثيق ووضع الخطط الملموسة، والأهم الإحساس الذي أشاعته بين المحتجين والمتظاهرين، بأنهم ليسوا مغيبين أو أرقاماً نكرة، وأن تضحياتهم لا تذهب هدراً بل توظف لفائدة تقدم الحراك العام وتطويره، وبأن انتفاضتهم صارت الشغل الشاغل للعالم وما تسطره من شجاعة وإيثار ومن إبداعات نضالية هو موضع تقدير وإعجاب كبيرين، وأن شعوب كثيرة تترقب على أحر من الجمر النتائج ومقدار ما تتركه انتفاضتهم من أثر إيجابي في مستقبل المشرق العربي خصوصاً والعرب عموماً.
وضوح مطالب الحرية والكرامة والتمسك بالقيمة الأخلاقية السلمية واتساع بنيتها التكوينية وتنوع قياداتها الميدانية هي حوافز صريحة لهذا الاستمرار المبين للانتفاضة السورية، وإذا أضفنا ما تعممه الثقافة الإسلامية من حب للشهادة وأيضاً روح الوفاء للدماء الذكية ولمعاناة الجرحى والمعتقلين، وما يترتب على ذلك من حرج أخلاقي في التراجع ونكث الوعود، ومن مسؤولية كبيرة في الحفاظ على ظواهر الاحتجاج والاستبسال من أجل استمرارها، ثم الحماسة المنقطعة النظير لمن يفاخرون في المناطق التي عرفت لبعض الوقت إدارة أهلية لشؤونها، بأنهم تذوقوا طعم الحرية وصار الموت سهلاً دونها... يمكن أن نقف عند أهم الأسباب التي لا تزال تحفز همم الشباب المنتفض وتساعد تالياً على كسر تردد آخرين وضم فئات جديدة الى الصفوف. وبالفعل ثمة أعداد كبيرة أخذت ترفد الحراك الشعبي، يصعب تفسير دوافعها مع تصاعد شدة القهر والتنكيل، هل لأن حاجز الخوف انكسر، أم لانحيازها الأخلاقي مع المتظاهر الأعزل واشمئزازها من عنف أعمى لا يعرف حدوداً أو ضوابط، أم لإيمانها أخيراً بأن ما يحصل اليوم هو المعطى الأصيل للخروج من الأزمة السورية المزمنة.
ليس الغرض من عرض نقاط قوة الانتفاضة السورية وحوافز استمرارها تقديم أمل كاذب أو شحنة تفاؤل، بل لتأكيد أن الاحتجاجات الشعبية قد تجاوزت مرحلة الانتكاس ووصلت نقطة لا عودة منها، وأن خطر إجهاضها أو كسر شوكتها صار وراءها، وأيضاً لتأكيد أن الشعب السوري خرج أخيراً من خانة الاستثناء في حسابات الانتفاضات والثورات، وأثبت للعالم أجمع أنه شعب مثلما كابد وصمد طيلة عقود في مواجهة شروط لا ترحم، فهو يزخر بطاقة لا تنضب وباستعداد استثنائي للتضحية، وأن خلاصه الذي كان يظن أنه مجرد وهم أو حلم جميل وربما مغامرة خطرة، هو أمر آخذ في التجسد على أرض الواقع.
هو سؤال يثار باستغراب هذه الآونة، عن سر استمرار الانتفاضة الشعبية في سورية أمام هذا القمع العنيف والمعمم، ومن أين تستمد قوتها وعزمها بعد العدد الكبير من الضحايا والجرحى والمعتقلين واللاجئين، وفي ظل مشهد تبدو فيه كأنها تُترك وحيدة لتواجه مصيرها، في إشارة الى ضعف الموقفين العربي والدولي، فالأول لا يزال متردداً، لم يرق الى مصاف شدة هذه الأزمة وعمقها، والثاني يعاني من تشتت وحسابات سياسية تعوق خطوة التقدم لإعلان موقف أممي يدين أخلاقياً هذا التوغل في العنف والتنكيل.
اليوم، يلمس المرء إصراراً قوياً وغير مسبوق عند الناس على التغيير، نابعاً بلا شك من قهر وإذلال مديدين ومن معاناة شديدة من التمييز والتهميش، أوضح وأكثف صورة لها، أن يبيح أهل الحكم لأنفسهم كل شيء على حساب أبسط حقوق الناس ومصالحهم! فأي إصرار يكون حين تصل الأمور إلى حدود غير مقبولة، وتتجاوز كل طاقة على الاحتمال، ليغدو العيش محالاً وترجح كفة تفضيل الموت على الخضوع للوضع القائم؟ وأي حافز للنهوض والانتفاض حين تمدّه الثورات العربية المتواترة، إلى جانب قوة الدفع الأولى، بروح الدأب والمثابرة.
وما يزيد في دينامية النهوض والحراك الشعبي ويرفع روح الإيثار ودرجة الاستعداد لمواجهة العنف المفرط، شيوع إحساس لدى المحتجين، بأن ما يحصل هو لحظة للتغيير يصعب تكرارها ولنقل فرصة تاريخية نادرة للخلاص من منطق القوة والتمييز والغلبة، والأهم حضور إدراك عام بأن أي عودة الى الوراء أو توقف هو الطامة الكبرى ويمكن الدولة الأمنية من تثبيت تحكمها بمصائر البلاد والعباد ويضع الأجيال القادمة في شروط أسوأ بكثير مما هو قائم الآن. وهنا لعبت الأخطاء التي يرتكبها النظام في إدارة الأزمة واستهتاره بمعاداة الناس وأيضاً حجم الاحتجاجات الشعبية وطبيعتها، التي امتدت لتشمل عشرات المدن والبلدات السورية، دوراً كبيراً في منح الانتفاضة كثيراً من الأمل والثقة بقدرتها على تحقيق أهدافها، في مقابل ارتباك وتراجع مستمرين في قدرة الأدوات القمعية على سحقها أو محاصرتها وقمعها.
إن الحملات العسكرية والأمنية على اتساعها وشدتها لم تستطع أن تثني الناس عن الخروج الى الشارع والتعبير عن شعاراتها ومطالبها، ولم تنفع في تغطيتها مناورات النظام السياسية ودعواته الى الحوار والإصلاح، أو محاولات استمالة البشر بزيادة الأجور وتوفير بعض الحاجات الضرورية، أو تخويفهم بالفوضى وبتنظيمات إسلامية متطرفة وبخطر خارجي داهم! وبعبارة أخرى، فإن عجز الخيار الأمني والعسكري بأسلحته الجبارة عن حسم الأمور ولنقل فشله وبعد خمسة شهور في كسر شوكة الحراك الشعبي وإطفاء جذوته، عزز من ثقة الناس بأنفسهم وبخياراتهم وبجدوى ما يقومون به، وكأن قضيتهم أصبحت قضية عصية على القمع، بدليل أن المناطق المنكوبة هي المناطق الأكثر تحدياً وأول من تبادر ما إن ينحسر الحضور الأمني الكثيف للتظاهر والاحتجاج، وما يزيد الثقة والإصرار وعزم الاستمرار، نجاح الانتفاضة في إفشال محاولات تشويهها أخلاقياً بالطعن بسلميتها والتشكيك بأغراضها السياسية، أو عزلها وإثارة الفتن والتفرقة بين صفوفها وفئاتها، ما يشجع على الاستنتاج بأن لغة الحديد والنار، لم يعد لها مكان في الخصوصية السورية، بل صارت تحفز همم الحراك الشعبي أكثر، وتترك أصحابها عرضة للمزيد من ردود الأفعال العربية والدولية ولتأثيرات سلبية بعيدة المدى في علاقتهم مع المجتمع ومدى تماسكهم.
ثمة حافز آخر في الخصوصية السورية مكّن المحتجين وشد من أزرهم، هو تنوع التكوينات القيادية الميدانية التي أفرزتها الانتفاضة وانتشارها في كل مكان وتفاعلها مع بعضها بطرق غير مباشرة، ما جعلها عصية على الاعتقال، عرفت باسم «التنسيقيات» كشكل تنظيمي مرن نجح نسبياً في تحويل التظاهرات إلى ما يشبه الفعل اليومي، وهو شرط ضروري لاستمرارها وتغذيتها بالحماسة، وأيضاً في تسخير وسائل التواصل الاجتماعي لخلق لغة مشتركة للتفاعل وللتوافق على المهام وتوحيد إيقاع النشاطات!
ويبدو للعيان أن هذه «التنسيقيات» قد اغتنت مع الوقت واكتسبت خبرة أكبر في التعامل مع الحدث وقدرة لافتة على التنظيم وتحمل مسؤوليات متعددة كالرصد والإعلام والتوثيق ووضع الخطط الملموسة، والأهم الإحساس الذي أشاعته بين المحتجين والمتظاهرين، بأنهم ليسوا مغيبين أو أرقاماً نكرة، وأن تضحياتهم لا تذهب هدراً بل توظف لفائدة تقدم الحراك العام وتطويره، وبأن انتفاضتهم صارت الشغل الشاغل للعالم وما تسطره من شجاعة وإيثار ومن إبداعات نضالية هو موضع تقدير وإعجاب كبيرين، وأن شعوب كثيرة تترقب على أحر من الجمر النتائج ومقدار ما تتركه انتفاضتهم من أثر إيجابي في مستقبل المشرق العربي خصوصاً والعرب عموماً.
وضوح مطالب الحرية والكرامة والتمسك بالقيمة الأخلاقية السلمية واتساع بنيتها التكوينية وتنوع قياداتها الميدانية هي حوافز صريحة لهذا الاستمرار المبين للانتفاضة السورية، وإذا أضفنا ما تعممه الثقافة الإسلامية من حب للشهادة وأيضاً روح الوفاء للدماء الذكية ولمعاناة الجرحى والمعتقلين، وما يترتب على ذلك من حرج أخلاقي في التراجع ونكث الوعود، ومن مسؤولية كبيرة في الحفاظ على ظواهر الاحتجاج والاستبسال من أجل استمرارها، ثم الحماسة المنقطعة النظير لمن يفاخرون في المناطق التي عرفت لبعض الوقت إدارة أهلية لشؤونها، بأنهم تذوقوا طعم الحرية وصار الموت سهلاً دونها... يمكن أن نقف عند أهم الأسباب التي لا تزال تحفز همم الشباب المنتفض وتساعد تالياً على كسر تردد آخرين وضم فئات جديدة الى الصفوف. وبالفعل ثمة أعداد كبيرة أخذت ترفد الحراك الشعبي، يصعب تفسير دوافعها مع تصاعد شدة القهر والتنكيل، هل لأن حاجز الخوف انكسر، أم لانحيازها الأخلاقي مع المتظاهر الأعزل واشمئزازها من عنف أعمى لا يعرف حدوداً أو ضوابط، أم لإيمانها أخيراً بأن ما يحصل اليوم هو المعطى الأصيل للخروج من الأزمة السورية المزمنة.
ليس الغرض من عرض نقاط قوة الانتفاضة السورية وحوافز استمرارها تقديم أمل كاذب أو شحنة تفاؤل، بل لتأكيد أن الاحتجاجات الشعبية قد تجاوزت مرحلة الانتكاس ووصلت نقطة لا عودة منها، وأن خطر إجهاضها أو كسر شوكتها صار وراءها، وأيضاً لتأكيد أن الشعب السوري خرج أخيراً من خانة الاستثناء في حسابات الانتفاضات والثورات، وأثبت للعالم أجمع أنه شعب مثلما كابد وصمد طيلة عقود في مواجهة شروط لا ترحم، فهو يزخر بطاقة لا تنضب وباستعداد استثنائي للتضحية، وأن خلاصه الذي كان يظن أنه مجرد وهم أو حلم جميل وربما مغامرة خطرة، هو أمر آخذ في التجسد على أرض الواقع.
من يقف وراء الاحتجاجات في سورية؟
رضوان زيادة
مع تزايد الاحتجاجات والتظاهرات وتصاعدها في أكثر من مدينة سورية حتى شملت في 22 نيسان (أبريل) الماضي أكثر من 84 مدينة وبلدة سورية، بدأ السؤال يتصاعد بقوة وهو من يقف وراء الاحتجاجات في سورية؟ وما هو دور المعارضة السورية؟ وهل ستلعب المعارضة في المستقبل دوراً في توجيه مسار الأمور في سورية فيما لو سقط النظام السوري الحالي كنتيجة لتصاعد الاحتجاجات واتساعها؟
لا بد من القول في البداية أن الانتفاضة السورية هي انتفاضة شعبية غير منظمة من دون قيادة محددة ولا تحمل أية أيديولوجيا محددة. إنها شبيهة تماماً بالحالة التونسية أكثر منها بالمصرية حيث لعبت الحركات الشبابية مثل حركة 6 أبريل أو مجموعة «كلنا خالد سعيد» دوراً محورياً في تحديد يوم الخروج للتظاهر ضد نظام الرئيس مبارك في يوم عيد الشرطة في 25 كانون الثاني (يناير) الماضي، لكن في الحالة السورية وبحكم شدة القبضة الأمنية فقد كان من المستحيل تماماً وجود حالات منظمة أو شبه منظمة لحركات شعبية حتى ولو نشطت في السر، ولذلك وجدنا عشوائية كبيرة في مناطق خروج التظاهرات في كل المدن السورية تقريباً ومن دون تنظيم مسبق، وعشوائية أخرى في طريقة رفع الشعارات رغم تركيزها الكبير على الحرية والكرامة التي هي بالتأكيد العنوان الرئيسي للثورة السورية، كرد على احتقار الدولة الأمنية السورية لطريقة التعامل مع مواطنيها.
لكن مع تطور الاحتجاجات كانت التظاهرات تزداد حجماً من أسبوع إلى آخر كما أن المطالب والشعارات تزداد جرأة في الوقت نفسه، حتى توحدت بشكل ما تحت شعار «الشعب يريد إسقاط النظام»، هذا الشعار الشهير الذي بدأ من تونس وتردد في مصر ونجح في إسقاط نظامين من أكثر الأنظمة القمعية في المنطقة العربية.
كان من الطبيعي بعد ذلك أن يخرج قادة ميدانيون في كل مدينة قادرون على تنظيم التظاهرات وحركتها ومحتوى الشعارات التي يجب أن ترفع، وقد لعب هؤلاء القادة الميدانيون دوراً محورياً في تصاعد هذه الاحتجاجات. وبالرغم من أنهم ما زالوا حتى هذه المرحلة أشبه بالقادة المحليين ولم يرتقوا كي يصبحوا قادة على المستوى الوطني، فهذا الأمر يحتاج إلى بعض الوقت، إلا أن طريقة تنظيم التظاهرات تعكس أن هناك تنسيقاً ما بدأ يؤتي بثماره في تنظيم التظاهرات على المستوى الوطني.
لقد لعب المسجد بكل تأكيد دوراً محورياً بخاصة في مراكز المدن الرئيسية في استخدامه كنقطة بدء للتظاهرات أكثر من كونه موجهاً لها، فتطبيق قانون الطوارئ في سورية لمدة تزيد عن 47 سنة لم يؤدِّ فقط إلى حظر التظاهرات والتجمعات وإنما قضى على التقاليد الضرورية لتمرين الشباب على الخروج والتظاهر من أجل المطالبة بحقوقهم، وهي الحالة التي وجدناها تماماً في أميركا اللاتينية حيث لعبت الكنيسة دوراً رئيسياً في قيادة الاحتجاجات ضد الأنظمة العسكرية هناك ولذلك أطلق عليها ما سمي بلاهوت التحرير.
في الحقيقة لا ينتمي أي من هؤلاء القادة الميدانيين إلى أي من الأحزاب السياسية الأيديولوجية التقليدية، بل ربما يحاذرون الانتساب إليها أو حتى فتح حوار مع قادتها حول أفكارها التي لم تعد جاذبة لهم ولحركتهم.
وعلى ذلك فإنه يمكن تقسيم المعارضة السورية اليوم إلى ثلاثة أنواع رئيسية تلعب دوراً في تصاعد الاحتجاجات الحالية في سورية:
- المعارضة التقليدية: وهي تشمل أحزاب المعارضة التقليدية التي أبعدت أو رفضت الدخول في «الجبهة الوطنية التقدمية» الحاكمة التي تشكلت في عام 1972 ثم انتظمت في ما يسمى «التجمع الوطني الديموقراطي» في عام 1983 وهي تشمل حزب الاتحاد الاشتراكي وحزب الشعب الديموقراطي وحزب العمال الثوري وحزب البعث العربي الاشتراكي الديموقراطي، وكما نلحظ فإنه يغلب التوجه القومي واليساري على توجهات كل الأحزاب المنخرطة في هذا التجمع، وهناك أيضاً «الإخوان المسلمون» الذين خاضوا صراعاً مسلحاً مع السلطات السورية في ثمانينات القرن الماضي خلّف عشرات الآلاف من القتلى وقامت الأجهزة الأمنية السورية باعتقال أكثر من مئة ألف خلال فترة الثمانينات والتسعينات من أجل قمع الاحتجاجات وإلى الآن يوجد أكثر من 17 مفقوداً لا تعرف عائلاتهم مصيرهم، وقد أصدرت السلطات السورية القانون رقم 49 الذي يحكم بالإعدام على كل منتسب إلى «الإخوان المسلمين».
ولذلك فتواجدهم على الأرض انعدم تماماً مع بقاء بعض التعاطف تجاههم كونهم تحمّلوا الكثير من القمع والاضطهاد، لكن في الوقت نفسه هناك من يحمّلهم من السوريين المسؤولية عن حملهم السلاح ويلقي باللائمة عليهم بالرغم من أنه يدرك تماماً أن المسؤولية الكاملة إنما تقع على عاتق الدولة، ولذلك فإن تأثيرهم في هذه الأحداث ضعيف تماماً حتى بعد أن اتخذوا قرارهم بدعم الاحتجاجات في سورية.
وقد استطاعت المعارضة السورية وتحديداً بعد عام 2005 أن ترتقي خطوة أخرى باتجاه تجميع جهودها تحت مظلة ما يسمى «إعلان دمشق للتغيير الوطني الديموقراطي»، وقد ضم تحت مظلته بالإضافة إلى التجمع شخصيات مستقلة، كما أعلن «الإخوان المسلمون» السوريون الموجودون خارج سورية عن تأييدهم لهذا الإعلان والانضمام إليه.
كل هؤلاء لعبوا دوراً ثانوياً في قيادات التظاهرات أم حتى التحريض للخروج فيها، بل ولم تظهر أحزاب المعارضة التقليدية تلك القيادة الضرورية لتوجيه التظاهرات وتحقيق ضغط أكبر على النظام من أجل رحيله والتحول باتجاه نظام ديموقراطي كما تطالب كل وثائقها السياسية التي صدرت خلال العقود الماضية، لكن لا بد من الإشارة إلى أن بعض هذه القيادات لعب دوراً محلياً في توجيه التظاهرات وقيادتها ولكن في مرحلة متأخرة كما فعل حزب الاتحاد الاشتراكي في تصاعد التظاهرات في مدينة دوما بالقرب من مدينة دمشق حتى زادت الأرقام عن 50 ألف متظاهر.
لكن لا بد من القول هنا أنه وبحكم خبرة أعضائها السياسية الطويلة فإن هذه المعارضة التقليدية تتمتع بالخبرة السياسية الضرورية في التفاوض ربما من أجل إدارة المرحلة الانتقالية القادمة في المستقبل، وربما ولهذا السبب قامت الأجهزة الأمنية السورية باعتقال كل قياداتها بالرغم من أنها تدرك تماماً دورهم المحدود في إخراج التظاهرات، لكنها رغبت في منع هؤلاء القادة من تطوير البديل المناسب والضروري، بحيث يبقى النظام السوري ممسكاً بكل خيوط اللعبة ومهدداً بنفس الوقت بأن الفوضى هي البديل الوحيد عنه.
- أما النوع الثاني من المعارضة فهم القادة الميدانيون، فقد برز خلال هذه التظاهرات نوع جديد من القادة هو ما أشرنا إليه بأنهم قادة ميدانيون يتمتعون بالاحترام داخل مدنهم المحلية وأثبتوا قدرة على القيادة وتنظيم التظاهرات وتوجيهها، وفي نفس الوقت امتلكوا القدرة على امتلاك خطاب صلب مناهض للنظام بالرغم من الظروف الصعبة التي يعيشون فيها مما شجع الكثيرين على الخروج والتظاهر، وهم ينتمون جميعاً إلى الطبقة الوسطى وذات تحصيل علمي عال. إن كل هؤلاء القادة الميدانيين إما معتقلون أو يعيشون متخفين خوف الاعتقال مما يصعب مهمتهم، لكن وكما قلنا فلما كانت هذه الانتفاضة لا تملك قيادة خاصة بها فإن من المستحيل على النظام قمعها عبر اعتقال قياداتها لأنه كل يوم تقريباً تظهر قيادات جديدة تقود التظاهرات وتحرض عليها.
- أما النوع الثالث من المعارضة التي برزت خلال هذه الانتفاضة فهم النشطاء الحقوقيون ونشطاء الإنترنت الذين أبدوا قدرة رائعة ونادرة على كشف انتهاكات حقوق الإنسان وفضحها وتمرير هذه المعلومات إلى المنظمات الحقوقية الدولية مما ساعد في كشف حجم الجرائم المرتكبة من قبل قوات الأمن السورية وزاد من حجم الانتقادات من قبل المنظمات الدولية والمجتمع الدولي، وهو ما زاد من حجم الضغوط الدولية التي كان أبرزها صدور قرار من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بإرسال لجنة تحقيق دولية إلى سورية للتحقيق في كل انتهاكات حقوق الإنسان التي جرت خلال الأشهر الماضية.
وفي النهاية هناك دور المعارضة السورية في الخارج، فتصاعد الانتفاضة قرّبها كثيراً من الداخل بحيث تلعب الآن الدور المحوري والأساسي في إيصال صوت السوريين إلى الخارج عبر الإعلام بحكم منع تواجد الإعلام والصحافة في كل المدن السورية. هذه المعارضة أتاحت لها لقاءاتها السياسية تصاعد الضغوط الدولية على النظام السوري، كما تمكنت من شرح وجهة نظر المعارضة في الداخل بحكم اعتقال معظم قياداتها أو منعهم من السفر.
مع تزايد الاحتجاجات والتظاهرات وتصاعدها في أكثر من مدينة سورية حتى شملت في 22 نيسان (أبريل) الماضي أكثر من 84 مدينة وبلدة سورية، بدأ السؤال يتصاعد بقوة وهو من يقف وراء الاحتجاجات في سورية؟ وما هو دور المعارضة السورية؟ وهل ستلعب المعارضة في المستقبل دوراً في توجيه مسار الأمور في سورية فيما لو سقط النظام السوري الحالي كنتيجة لتصاعد الاحتجاجات واتساعها؟
لا بد من القول في البداية أن الانتفاضة السورية هي انتفاضة شعبية غير منظمة من دون قيادة محددة ولا تحمل أية أيديولوجيا محددة. إنها شبيهة تماماً بالحالة التونسية أكثر منها بالمصرية حيث لعبت الحركات الشبابية مثل حركة 6 أبريل أو مجموعة «كلنا خالد سعيد» دوراً محورياً في تحديد يوم الخروج للتظاهر ضد نظام الرئيس مبارك في يوم عيد الشرطة في 25 كانون الثاني (يناير) الماضي، لكن في الحالة السورية وبحكم شدة القبضة الأمنية فقد كان من المستحيل تماماً وجود حالات منظمة أو شبه منظمة لحركات شعبية حتى ولو نشطت في السر، ولذلك وجدنا عشوائية كبيرة في مناطق خروج التظاهرات في كل المدن السورية تقريباً ومن دون تنظيم مسبق، وعشوائية أخرى في طريقة رفع الشعارات رغم تركيزها الكبير على الحرية والكرامة التي هي بالتأكيد العنوان الرئيسي للثورة السورية، كرد على احتقار الدولة الأمنية السورية لطريقة التعامل مع مواطنيها.
لكن مع تطور الاحتجاجات كانت التظاهرات تزداد حجماً من أسبوع إلى آخر كما أن المطالب والشعارات تزداد جرأة في الوقت نفسه، حتى توحدت بشكل ما تحت شعار «الشعب يريد إسقاط النظام»، هذا الشعار الشهير الذي بدأ من تونس وتردد في مصر ونجح في إسقاط نظامين من أكثر الأنظمة القمعية في المنطقة العربية.
كان من الطبيعي بعد ذلك أن يخرج قادة ميدانيون في كل مدينة قادرون على تنظيم التظاهرات وحركتها ومحتوى الشعارات التي يجب أن ترفع، وقد لعب هؤلاء القادة الميدانيون دوراً محورياً في تصاعد هذه الاحتجاجات. وبالرغم من أنهم ما زالوا حتى هذه المرحلة أشبه بالقادة المحليين ولم يرتقوا كي يصبحوا قادة على المستوى الوطني، فهذا الأمر يحتاج إلى بعض الوقت، إلا أن طريقة تنظيم التظاهرات تعكس أن هناك تنسيقاً ما بدأ يؤتي بثماره في تنظيم التظاهرات على المستوى الوطني.
لقد لعب المسجد بكل تأكيد دوراً محورياً بخاصة في مراكز المدن الرئيسية في استخدامه كنقطة بدء للتظاهرات أكثر من كونه موجهاً لها، فتطبيق قانون الطوارئ في سورية لمدة تزيد عن 47 سنة لم يؤدِّ فقط إلى حظر التظاهرات والتجمعات وإنما قضى على التقاليد الضرورية لتمرين الشباب على الخروج والتظاهر من أجل المطالبة بحقوقهم، وهي الحالة التي وجدناها تماماً في أميركا اللاتينية حيث لعبت الكنيسة دوراً رئيسياً في قيادة الاحتجاجات ضد الأنظمة العسكرية هناك ولذلك أطلق عليها ما سمي بلاهوت التحرير.
في الحقيقة لا ينتمي أي من هؤلاء القادة الميدانيين إلى أي من الأحزاب السياسية الأيديولوجية التقليدية، بل ربما يحاذرون الانتساب إليها أو حتى فتح حوار مع قادتها حول أفكارها التي لم تعد جاذبة لهم ولحركتهم.
وعلى ذلك فإنه يمكن تقسيم المعارضة السورية اليوم إلى ثلاثة أنواع رئيسية تلعب دوراً في تصاعد الاحتجاجات الحالية في سورية:
- المعارضة التقليدية: وهي تشمل أحزاب المعارضة التقليدية التي أبعدت أو رفضت الدخول في «الجبهة الوطنية التقدمية» الحاكمة التي تشكلت في عام 1972 ثم انتظمت في ما يسمى «التجمع الوطني الديموقراطي» في عام 1983 وهي تشمل حزب الاتحاد الاشتراكي وحزب الشعب الديموقراطي وحزب العمال الثوري وحزب البعث العربي الاشتراكي الديموقراطي، وكما نلحظ فإنه يغلب التوجه القومي واليساري على توجهات كل الأحزاب المنخرطة في هذا التجمع، وهناك أيضاً «الإخوان المسلمون» الذين خاضوا صراعاً مسلحاً مع السلطات السورية في ثمانينات القرن الماضي خلّف عشرات الآلاف من القتلى وقامت الأجهزة الأمنية السورية باعتقال أكثر من مئة ألف خلال فترة الثمانينات والتسعينات من أجل قمع الاحتجاجات وإلى الآن يوجد أكثر من 17 مفقوداً لا تعرف عائلاتهم مصيرهم، وقد أصدرت السلطات السورية القانون رقم 49 الذي يحكم بالإعدام على كل منتسب إلى «الإخوان المسلمين».
ولذلك فتواجدهم على الأرض انعدم تماماً مع بقاء بعض التعاطف تجاههم كونهم تحمّلوا الكثير من القمع والاضطهاد، لكن في الوقت نفسه هناك من يحمّلهم من السوريين المسؤولية عن حملهم السلاح ويلقي باللائمة عليهم بالرغم من أنه يدرك تماماً أن المسؤولية الكاملة إنما تقع على عاتق الدولة، ولذلك فإن تأثيرهم في هذه الأحداث ضعيف تماماً حتى بعد أن اتخذوا قرارهم بدعم الاحتجاجات في سورية.
وقد استطاعت المعارضة السورية وتحديداً بعد عام 2005 أن ترتقي خطوة أخرى باتجاه تجميع جهودها تحت مظلة ما يسمى «إعلان دمشق للتغيير الوطني الديموقراطي»، وقد ضم تحت مظلته بالإضافة إلى التجمع شخصيات مستقلة، كما أعلن «الإخوان المسلمون» السوريون الموجودون خارج سورية عن تأييدهم لهذا الإعلان والانضمام إليه.
كل هؤلاء لعبوا دوراً ثانوياً في قيادات التظاهرات أم حتى التحريض للخروج فيها، بل ولم تظهر أحزاب المعارضة التقليدية تلك القيادة الضرورية لتوجيه التظاهرات وتحقيق ضغط أكبر على النظام من أجل رحيله والتحول باتجاه نظام ديموقراطي كما تطالب كل وثائقها السياسية التي صدرت خلال العقود الماضية، لكن لا بد من الإشارة إلى أن بعض هذه القيادات لعب دوراً محلياً في توجيه التظاهرات وقيادتها ولكن في مرحلة متأخرة كما فعل حزب الاتحاد الاشتراكي في تصاعد التظاهرات في مدينة دوما بالقرب من مدينة دمشق حتى زادت الأرقام عن 50 ألف متظاهر.
لكن لا بد من القول هنا أنه وبحكم خبرة أعضائها السياسية الطويلة فإن هذه المعارضة التقليدية تتمتع بالخبرة السياسية الضرورية في التفاوض ربما من أجل إدارة المرحلة الانتقالية القادمة في المستقبل، وربما ولهذا السبب قامت الأجهزة الأمنية السورية باعتقال كل قياداتها بالرغم من أنها تدرك تماماً دورهم المحدود في إخراج التظاهرات، لكنها رغبت في منع هؤلاء القادة من تطوير البديل المناسب والضروري، بحيث يبقى النظام السوري ممسكاً بكل خيوط اللعبة ومهدداً بنفس الوقت بأن الفوضى هي البديل الوحيد عنه.
- أما النوع الثاني من المعارضة فهم القادة الميدانيون، فقد برز خلال هذه التظاهرات نوع جديد من القادة هو ما أشرنا إليه بأنهم قادة ميدانيون يتمتعون بالاحترام داخل مدنهم المحلية وأثبتوا قدرة على القيادة وتنظيم التظاهرات وتوجيهها، وفي نفس الوقت امتلكوا القدرة على امتلاك خطاب صلب مناهض للنظام بالرغم من الظروف الصعبة التي يعيشون فيها مما شجع الكثيرين على الخروج والتظاهر، وهم ينتمون جميعاً إلى الطبقة الوسطى وذات تحصيل علمي عال. إن كل هؤلاء القادة الميدانيين إما معتقلون أو يعيشون متخفين خوف الاعتقال مما يصعب مهمتهم، لكن وكما قلنا فلما كانت هذه الانتفاضة لا تملك قيادة خاصة بها فإن من المستحيل على النظام قمعها عبر اعتقال قياداتها لأنه كل يوم تقريباً تظهر قيادات جديدة تقود التظاهرات وتحرض عليها.
- أما النوع الثالث من المعارضة التي برزت خلال هذه الانتفاضة فهم النشطاء الحقوقيون ونشطاء الإنترنت الذين أبدوا قدرة رائعة ونادرة على كشف انتهاكات حقوق الإنسان وفضحها وتمرير هذه المعلومات إلى المنظمات الحقوقية الدولية مما ساعد في كشف حجم الجرائم المرتكبة من قبل قوات الأمن السورية وزاد من حجم الانتقادات من قبل المنظمات الدولية والمجتمع الدولي، وهو ما زاد من حجم الضغوط الدولية التي كان أبرزها صدور قرار من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بإرسال لجنة تحقيق دولية إلى سورية للتحقيق في كل انتهاكات حقوق الإنسان التي جرت خلال الأشهر الماضية.
وفي النهاية هناك دور المعارضة السورية في الخارج، فتصاعد الانتفاضة قرّبها كثيراً من الداخل بحيث تلعب الآن الدور المحوري والأساسي في إيصال صوت السوريين إلى الخارج عبر الإعلام بحكم منع تواجد الإعلام والصحافة في كل المدن السورية. هذه المعارضة أتاحت لها لقاءاتها السياسية تصاعد الضغوط الدولية على النظام السوري، كما تمكنت من شرح وجهة نظر المعارضة في الداخل بحكم اعتقال معظم قياداتها أو منعهم من السفر.
سوريا تنزف
أوكتافيا نصر
ما هي المدينة التالية التي ستلقى نصيبها من الهجوم السوري؟ أي "عدو" ستواجه سوريا هذا الأسبوع؟ أي واحدة من ترساناتها ستستعمل في معركتها ضد نفسها؟ أي كابوس ستزرعه في قلوب شعبها؟
كم مواطناً سورياً سيموت بعد قبل أن يدرك الرئيس بشار الأسد أنه حان الوقت ليعتدل او يعتزل؟
بعد الكثير من المدن السورية، بدأت الزوارق الحربية السورية قصف اللاذقية. وقد أعرب سكّان المدينة الساحلية عن شعورهم بالخوف والقلق، فيما تحدّثت التقارير الإعلامية عن "قصف الزوارق الحربية الثقيلة" المدينة الأحد، وأوردت "بي بي سي" أن مرفأ اللاذقية تعرّض لـ"هجوم عسكري دموي". لقي كثرٌ حتفهم من جرّاء الهجمات، ويخشى الناس أن الأسوأ لا يزال ينتظرهم؛ فالكلام عن احتمال حصول إبادة لم يعد بعيداً من الواقع. في وجه الهجوم المتواصل والمتصاعد، يبدو أن المعارضة للرئيس الأسد تنمو داخلياً وخارجياً.
بعد خمسة أشهر من انطلاق الانتفاضة السورية، ثمة أمر أكيد: الرئيس الأسد في مأزق لكنّه متمسّك بالسلطة وهو مستعدّ للذهاب الى النهاية في استخدام كل الوسائل العنفية المتوافرة لديه. إنه يطبّق القول العربي المأثور "يا غالب يا مغلوب" ولا يقبل بحل وسط بين الاثنين. بعبارة أخرى، لا يهمّه التوصل إلى تسوية للنزاع يخرج الجميع منها منتصرين. ومن المؤكّد أنه لا يهمّه أن تخرج سوريا منتصرة. فعلى غرار نظرائه، ولا سيما منهم صدام حسين وحسني مبارك وعلي عبدالله صالح وسواهم، يعتقد أنه يستطيع أن يكون الفائز الوحيد.
وكانت دول الخليج قد استدعت في وقت سابق سفراءها في دمشق احتجاجاً على لجوء النظام السوري إلى القوّة ضدّ شعبه. وأصدر العاهل السعودي إدانة شديدة اللهجة، فيما دعت تركيا إلى وقف العنف فوراً. تزداد سوريا الأسد عزلةً، ومع ذلك ليست ثمة مؤشرات لانحسار العنف على الأرض، ولا تلوح في الأفق أي نهاية منطقية للأزمة.
تحتل سوريا صدارة الاهتمامات على شبكات التواصل الاجتماعي مثل "فايسبوك" و"تويتر" و"يوتيوب". يبدي الناشطون عبر هذه المواقع دعماً قوياً جداً للبلاد وشعبها. لا يمكن تجاهل المعارضة التي ترفع صوتها عالياً ضد بشار الأسد في أنحاء العالم. تشكّل هذه الشبكات فسحة يتشاطر فيها المشتركون الأخبار وأشرطة الفيديو والمعلومات والمستجدّات. من خلالها ينفِّسون غضبهم وينظّمون حملات للتضامن مع معاناة الشعب السوري والشعوب الأخرى. الأهم هو أن شبكات التواصل الاجتماعي تتيح للجميع التعبير عن آرائهم، وكثرٌ لا يوفّرون جهداً لاستخدامها.
خلال شهر رمضان الكريم، ركّز الناشطون جهودهم على تسليط الضوء على الهجوم الذي شنّته القوّات السورية على مدينة حماه، وأطلقوا عليه اسم "مجزرة هلال رمضان". والأسبوع المنصرم شنّوا حملة بعنوان "سوريا تنزف". يبدو أن التطوّرات في سوريا ستظلّ الخبر الرئيسي هذا الأسبوع، فيما تستمرّ الأنباء عن إصدار الأسد أوامر بإرسال الدبّابات إلى القرى بينما يتواصل قصف المدنيين جواً وبحراً.
لقد أصبحت سوريا بكاملها مقبرة للكثير من المدنيين الأبرياء، وحيث من يُفترَض فيهم أن يؤمّنوا الحماية للشعب هم من يصدرون الأوامر ويرتكبون المجازر. في مرحلة ما، سيُدرك منفِّذو الأوامر أنهم يقتلون شعبهم وعائلاتهم. وعندئذٍ سينعطفون ويتمرّدون على من يصدرون الأوامر. يجب أن يشعر الأسد بالخوف، لأنه يبدو أن هذا اليوم لناظره قريب.
ما هي المدينة التالية التي ستلقى نصيبها من الهجوم السوري؟ أي "عدو" ستواجه سوريا هذا الأسبوع؟ أي واحدة من ترساناتها ستستعمل في معركتها ضد نفسها؟ أي كابوس ستزرعه في قلوب شعبها؟
كم مواطناً سورياً سيموت بعد قبل أن يدرك الرئيس بشار الأسد أنه حان الوقت ليعتدل او يعتزل؟
بعد الكثير من المدن السورية، بدأت الزوارق الحربية السورية قصف اللاذقية. وقد أعرب سكّان المدينة الساحلية عن شعورهم بالخوف والقلق، فيما تحدّثت التقارير الإعلامية عن "قصف الزوارق الحربية الثقيلة" المدينة الأحد، وأوردت "بي بي سي" أن مرفأ اللاذقية تعرّض لـ"هجوم عسكري دموي". لقي كثرٌ حتفهم من جرّاء الهجمات، ويخشى الناس أن الأسوأ لا يزال ينتظرهم؛ فالكلام عن احتمال حصول إبادة لم يعد بعيداً من الواقع. في وجه الهجوم المتواصل والمتصاعد، يبدو أن المعارضة للرئيس الأسد تنمو داخلياً وخارجياً.
بعد خمسة أشهر من انطلاق الانتفاضة السورية، ثمة أمر أكيد: الرئيس الأسد في مأزق لكنّه متمسّك بالسلطة وهو مستعدّ للذهاب الى النهاية في استخدام كل الوسائل العنفية المتوافرة لديه. إنه يطبّق القول العربي المأثور "يا غالب يا مغلوب" ولا يقبل بحل وسط بين الاثنين. بعبارة أخرى، لا يهمّه التوصل إلى تسوية للنزاع يخرج الجميع منها منتصرين. ومن المؤكّد أنه لا يهمّه أن تخرج سوريا منتصرة. فعلى غرار نظرائه، ولا سيما منهم صدام حسين وحسني مبارك وعلي عبدالله صالح وسواهم، يعتقد أنه يستطيع أن يكون الفائز الوحيد.
وكانت دول الخليج قد استدعت في وقت سابق سفراءها في دمشق احتجاجاً على لجوء النظام السوري إلى القوّة ضدّ شعبه. وأصدر العاهل السعودي إدانة شديدة اللهجة، فيما دعت تركيا إلى وقف العنف فوراً. تزداد سوريا الأسد عزلةً، ومع ذلك ليست ثمة مؤشرات لانحسار العنف على الأرض، ولا تلوح في الأفق أي نهاية منطقية للأزمة.
تحتل سوريا صدارة الاهتمامات على شبكات التواصل الاجتماعي مثل "فايسبوك" و"تويتر" و"يوتيوب". يبدي الناشطون عبر هذه المواقع دعماً قوياً جداً للبلاد وشعبها. لا يمكن تجاهل المعارضة التي ترفع صوتها عالياً ضد بشار الأسد في أنحاء العالم. تشكّل هذه الشبكات فسحة يتشاطر فيها المشتركون الأخبار وأشرطة الفيديو والمعلومات والمستجدّات. من خلالها ينفِّسون غضبهم وينظّمون حملات للتضامن مع معاناة الشعب السوري والشعوب الأخرى. الأهم هو أن شبكات التواصل الاجتماعي تتيح للجميع التعبير عن آرائهم، وكثرٌ لا يوفّرون جهداً لاستخدامها.
خلال شهر رمضان الكريم، ركّز الناشطون جهودهم على تسليط الضوء على الهجوم الذي شنّته القوّات السورية على مدينة حماه، وأطلقوا عليه اسم "مجزرة هلال رمضان". والأسبوع المنصرم شنّوا حملة بعنوان "سوريا تنزف". يبدو أن التطوّرات في سوريا ستظلّ الخبر الرئيسي هذا الأسبوع، فيما تستمرّ الأنباء عن إصدار الأسد أوامر بإرسال الدبّابات إلى القرى بينما يتواصل قصف المدنيين جواً وبحراً.
لقد أصبحت سوريا بكاملها مقبرة للكثير من المدنيين الأبرياء، وحيث من يُفترَض فيهم أن يؤمّنوا الحماية للشعب هم من يصدرون الأوامر ويرتكبون المجازر. في مرحلة ما، سيُدرك منفِّذو الأوامر أنهم يقتلون شعبهم وعائلاتهم. وعندئذٍ سينعطفون ويتمرّدون على من يصدرون الأوامر. يجب أن يشعر الأسد بالخوف، لأنه يبدو أن هذا اليوم لناظره قريب.
المعضلة الطائفية في التحول الديموقراطي السوري
جهاد الزين
ما هي التركيبة الاجتماعية للسلطة في الزمن الآتي بعد تراكم 90 عاما شهد مأزقين: مدينيا (1958) وريفيا (2011) في بنية النخب الحاكمة؟
يمكن النظر الى التاريخ السوري المعاصر من زاوية سوسيو- سياسية على انه منذ ما بعد الحرب العالمية الاولى وسقوط الدولة الفيصلية في دمشق، ينقسم الى حقبتين:
حقبة سيطرة اعيان المدن الكبرى ولاسيما دمشق وحمص وحلب وحماه، السيطرة التي امتدت من العام 1920 حتى العام 1958، اما الحقبة الثانية فهي حقبة سيطرة حزبيي الارياف بقيادة العسكريين والتي امتدت الى اليوم... 2011.
في ضوء هذا التوصيف الاجتماعي للتاريخ السياسي السوري المعاصر فان الازمة الداخلية السورية المتفجرة اليوم هي حصيلة "نهايتين": افلاس نمط قيادة اعيان المدن للدولة السورية الذي عبر عن نفسه بـ"تسليم" عبد الناصر للسلطة في سوريا عام 1958 وهو ما سيتحول الى استلام نهائي للحزبيين الريفيين مع انقلاب1966... حقبة ستمتد اكثر من اربعة عقود ونصف العقد... هي التي نشهد "نهايتها" حاليا ولا نعرف بالضبط كم ستطول؟ وليس اوضح من البيان الختامي الصادر امس عن "اللقاء التشاوري للحوار الوطني" والذي ترأسه نائب رئيس الجمهورية في الاعلان "الرسمي" عن هذه "النهاية".
اذن السؤال الجوهري في سوريا الراهنة من منظور البنية الداخلية للبلد والدولة هو: ما هي التركيبة الاجتماعية الجديدة للسلطة في الزمن "الديموقراطي" الآتي بعد تراكم تسعين عاما ادى الى "افلاسين" مديني وريفي في بنية النخب الحاكمة السابقة والحالية؟
لكن لا يمكن الاكتفاء بهذه الصياغة للتاريخ السوري المعاصر بدون التشديد على ان نخبة اعيان المدن قبل ان" تفلس" سياسيا بشكل نهائي كانت قد نجحت في توحيد الدويلات السورية الاربع، دمشق وحلب والعلويين والدروز، في كيان واحد هو الجمهورية العربية السورية التي نعرفها اليوم او ما سمي ذات يوم "جمهورية ما تبقى من سوريا" اي بدون المناطق التي ضمتها فرنسا بطلب ماروني – مسيحي الى لبنان (والتي اظن ان موارنة جبل لبنان غيروا رأيهم تجاهها وما عادوا يرغبون بها منذ العام 1975!) كما بدون لواء الاسكندرون وفلسطين الانتدابية واجزاء من حوران وشرق الاردن. كذلك ستتمكن طبقة اعيان المدن من تحقيق الاستقلال عن فرنسا في الاربعينات قبل ان يبدأ تعثرها العميق الارتدادات على مصيرها كله كطبقة حاكمة امام المنعطف الهائل الذي شكله تأسيس اسرائيل عام 1948 وهو التأسيس الذي سيؤدي عمليا الى الهاوية بالبورجوازيات العربية الحاكمة في سوريا والعراق ومصر وليبيا والسودان وسيقضي بالنتيجة على العصر الذهبي لليبرالية العربية الذي امتد في النصف الاول من القرن العشرين.
اما حزبيو الارياف السورية بقيادة الضباط فقد ضيقوا، لاشك، الهوة الاجتماعية الاقتصادية الانمائية بين الريف والمدينة، كما شهدت العاصمة دمشق ترييفا افقيا هائلا ضاعف عدد سكانها فنقلها في نصف قرن من نصف مليون الى اكثر من خمسة ملايين فيما مدن اخرى كاللاذقية وطرطوس تبدلت معالمها الديموغرافية تبدلا جعل باحثا فرنسيا كفابريس بالانش وهو مؤلف كتاب "السلطة السورية والمنطقة العلوية" يكتب مؤخرا ان عدد السكان العلويين زاد بنسب محدودة عن عدد السكان السنة في اللاذقية وجبلة وبانياس فيما وصلت النسبة في طرطوس الى65 بالماية (ع) والى 35 بالماية (س). لكن لايجب ان ننسى ان هذه النسب تتعلق بمدن الساحل في حين ان الفارق على المستوى السوري العام هو 70 الى 80 بالماية سُنّة مقابل 10 الى 15 بالماية هم علويون. وعموما يقدر البعض كل الاقليات الدينية والمذهبية في سوريا بين ربع الى ثلث السكان مقابل ثلاثة ارباع الى ثلثين من السنة (توفيق كسبار في دراسته عن العلاقات الاقتصادية اللبنانية السورية المنجزة مؤخرا يورد رقم 20 مليونا واربعماية الف نسمة هم عدد سكان سوريا الاجمالي بالاستناد الى الاحصاءات الرسمية السورية لعام 2009).
لقد توسل ريفيو السلطة الاقوياء العلاقات القانونية للتمركز في دمشق الصغرى والكبرى ولكنهم غضوا النظر بشكل مثير عن انتشار احياء سكنية غير مرخصة في ضواحي دمشق الغربية والجنوبية (قرب المخيم الفلسطيني) فانتشر الريفيون الفقراء، عسكريين ومدنيين، من اكراد وحوارنة وعلويين وغيرهم منذ السبعينات يبنون داخل حدود دمشق (بما فيها بعض سفوح قاسيون) وحولها بلا ترخيص. لكن الدولة خلافا لبلدان اخرى كانت تسارع في العديد من الحالات الى مد بنية خدمات صحية للمناطق غير القانونية. وقد اذهلني منذ حوالى العام ونصف العام اعتراف مجلة سورية صادرة بالانكليزية وقريبة من السلطة وبقلم خبير تنظيم مدني اوروبي بأن حجم مخالفات البناء في دمشق الكبرى يصل الى الخمسين بالماية. وان "أربعين بالماية من سكان المدن الكبرى يعيشون في مساكن مخالفة للقوانين".
حقق ريفيو السلطة استقرارا سياسيا وامنيا طويل الامد وغيروا توزيع الثروة السورية. ورغم الاحتكارات التي بلغت حدا فضائحيا فسيبقى الانطباع بالنتيجة اذا تمكنت سوريا من عبور مرحلة انتقالية بشكل سلمي ان اجحاف حقبة اعيان المدن الفضائحية بحق الارياف على اكثر من مستوى قد ردت عليها الحقبة الريفية بتسلط غير ديموقراطي بوليسي ادى تاريخيا الى احداث توزيع جديد للثروة رغم وسائل الفساد المستفحلة في المدن والفجوات التنموية الخطرة التي لا تزال تطبع الارياف السورية والنمو المركزي الفاحش للعاصمة حتى بوجود السدود الكبيرة وشبكة الطرقات الشاسعة والمرافئ المتوسعة.
لكن الظاهرة التي تخللت بشكل بارز الاحداث السورية هي لعب الارياف أو التجمعات السكانية الكبيرة في الارياف من درعا الى محيط دمشق الى جسر الشغور جنوب ادلب دورا اساسيا في اطلاق الاحتجاجات الشعبية وتفعيلها قبل انتقالها الى مناطق اخرى. هذا عنى في جملة ما عناه ان التوصيف التقليدي السابق لاصول النخب الحاكمة الريفية لم يعد بدوره كافيا لاعتماد التحليل السياسي اعتمادا وحيد الجانب على ثنائية "المدينة – الريف" بعدما بدا حجم التململ الريفي، الناتج عن سوء الاوضاع الاقتصادية التي تعيشها شرائح واسعة، كبيرا في مواجهة الجيل الثاني من السلطة الريفية او الادق ذات الاصول الريفية لأن هذا الجيل الثاني عاش في دمشق معظم حياته واصبح جزءا من نسيج طبقتها العليا المتعددة الطوائف بين البورجوازيتين القديمة والجديدة.
الذي اريد ان اصل اليه هنا ان الافق الديموقراطي الاكيد الذي تدخل اليه سوريا ضمن التحولات العربية ليس واضحا حتى الآن ما اذا كان سيأخذ منحى سلميا في المستقبل ام يتجه الى الحرب الاهلية (ونحن اللبنانيين نعرف ان الحرب الاهلية هي ايضا ظاهرة تكوينية في "ديموقراطيتنا" الطائفية –المذهبية)... هذا الافق الديموقراطي له مضمون طائفي اكثري/اقلاوي- مديني/ريفي – اسلامي/ مسيحي. وحول النقطة الاخيرة، هناك خاصية في تاريخ سوريا خلال القرن ونيف الماضي هي انها منذ اواخر العهد العثماني شكلت ملاذا فعليا للاقليات المسيحية بدأ مع قوافل الهاربين الارمن والسريان من الاناضول وكيليكيا خلال الحرب العالمية الاولى وسنوات الاضطراب التي تلتها قبل استتباب الامر لمصطفى كمال اتاتورك في تلكما المنطقتين ثم امتد الملاذ السوري مع استقبال الانتداب الفرنسي في منطقة الجزيرة لقوافل الهاربين الاشوريين من شمال العراق في الثلاثينات من القرن الماضي بعد قمع الجيش العراقي الملكي للتمرد الاشوري على الدولة المركزية ثم في التسعينات والعقد الاخير مع استقبال عشرات آلاف المسيحيين (ومئات آلاف المسلمين العراقيين) الهاربين من الجحيم العراقي في حين يعيش معظم المسيحيين السوريين الاصليين وضعا من الازدهار الاجتماعي. وبدون معرفة هذه الخلفية لا يمكن فهم الموقف المسيحي "الهادئ جدا" في الاحداث الجارية. حتى احداث 1860 في دمشق، التي تذهب في الاتجاه المعاكس للشواهد السابقة، قد تكون في الذاكرة التي تحفظها الكنائس مؤشرا على مخاطر التطرف الشارعي.
تحمل سوريا سمة مصرية من زاوية انطوائها كمصر على مسألة طائفية في دولة مركزية قوية ذات جيش قوي وهذا الى الآن يختلف عن الوضع اللبناني المتمثل بالدولة الضعيفة التي باتت تتقاذفها الطائفيات ليس ككرة بل كحذاء مهترئ.
يجب ان تأخذ المسألة الطائفية في سوريا المنحى الذي يليق بدولة فعلية تستعد للانتقال الصعب الى "التعددية" وفق تعبير فاروق الشرع.
لقد خذلتنا النخبة العراقية الجديدة بعد عام 2003 عندما قدمت نموذجا لبنانيا – بل اسوأ- للحرب الاهلية والفساد الوقح. وكم كان العديد من الليبراليين واليساريين العراقيين المعارضين قبل سقوط نظام صدام حسين يرفضون مجرد المقارنة بالطائفية اللبنانية معتبرين النسيج العراقي اكثر تماسكا وطنيا!! بعض المعارضين العلمانيين السوريين- لاسيما في الداخل - يبدون اكثر واقعية من "اسلافهم" العراقيين من حيث اعترافهم بوطأة المسألة الطائفية كأحد تحديات الانتقال الديموقراطي السوري كما تظهرها سطور واضحة في كتاباتهم.
النخب السورية من كل الاطياف والمواقع داخل السلطة وخارجها هل بامكانها تقديم نموذج للتحول الديموقراطي الذي يحمل من ضمنه مشروع تأسيس مصالحة طائفية مناطقية سلمية على غرار "المصالحة" بين الجنوب والشمال بعد الحرب الاهلية الاميركية؟ الفارق الجوهري انها "مصالحة" يجب ان تستبق الحرب الاهلية فتحول دونها كمهمة اساسية من بين مهمات بناء نظام سياسي جديد. دعونا نجازف بالتفاؤل في هذا السياق فقد سبق لسوريا في الخمسينات والستينات ان حصرت "الحرب الاهلية" داخل مؤسسات الدولة ومنعت انفلاتها في المجتمع على النمط اللبناني؟؟
هذه مصالحات تكرسها عادة على المدى الابعد تحالفات جديدة بين قوى اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية في ظل نظام اول شروطه البنيوية ان تحمل الاكثرية- وهذا زمن عودة الاكثريات من كل الانواع - مشروعا ديموقراطيا بل مشاريع ديموقراطية.
ما هي التركيبة الاجتماعية للسلطة في الزمن الآتي بعد تراكم 90 عاما شهد مأزقين: مدينيا (1958) وريفيا (2011) في بنية النخب الحاكمة؟
يمكن النظر الى التاريخ السوري المعاصر من زاوية سوسيو- سياسية على انه منذ ما بعد الحرب العالمية الاولى وسقوط الدولة الفيصلية في دمشق، ينقسم الى حقبتين:
حقبة سيطرة اعيان المدن الكبرى ولاسيما دمشق وحمص وحلب وحماه، السيطرة التي امتدت من العام 1920 حتى العام 1958، اما الحقبة الثانية فهي حقبة سيطرة حزبيي الارياف بقيادة العسكريين والتي امتدت الى اليوم... 2011.
في ضوء هذا التوصيف الاجتماعي للتاريخ السياسي السوري المعاصر فان الازمة الداخلية السورية المتفجرة اليوم هي حصيلة "نهايتين": افلاس نمط قيادة اعيان المدن للدولة السورية الذي عبر عن نفسه بـ"تسليم" عبد الناصر للسلطة في سوريا عام 1958 وهو ما سيتحول الى استلام نهائي للحزبيين الريفيين مع انقلاب1966... حقبة ستمتد اكثر من اربعة عقود ونصف العقد... هي التي نشهد "نهايتها" حاليا ولا نعرف بالضبط كم ستطول؟ وليس اوضح من البيان الختامي الصادر امس عن "اللقاء التشاوري للحوار الوطني" والذي ترأسه نائب رئيس الجمهورية في الاعلان "الرسمي" عن هذه "النهاية".
اذن السؤال الجوهري في سوريا الراهنة من منظور البنية الداخلية للبلد والدولة هو: ما هي التركيبة الاجتماعية الجديدة للسلطة في الزمن "الديموقراطي" الآتي بعد تراكم تسعين عاما ادى الى "افلاسين" مديني وريفي في بنية النخب الحاكمة السابقة والحالية؟
لكن لا يمكن الاكتفاء بهذه الصياغة للتاريخ السوري المعاصر بدون التشديد على ان نخبة اعيان المدن قبل ان" تفلس" سياسيا بشكل نهائي كانت قد نجحت في توحيد الدويلات السورية الاربع، دمشق وحلب والعلويين والدروز، في كيان واحد هو الجمهورية العربية السورية التي نعرفها اليوم او ما سمي ذات يوم "جمهورية ما تبقى من سوريا" اي بدون المناطق التي ضمتها فرنسا بطلب ماروني – مسيحي الى لبنان (والتي اظن ان موارنة جبل لبنان غيروا رأيهم تجاهها وما عادوا يرغبون بها منذ العام 1975!) كما بدون لواء الاسكندرون وفلسطين الانتدابية واجزاء من حوران وشرق الاردن. كذلك ستتمكن طبقة اعيان المدن من تحقيق الاستقلال عن فرنسا في الاربعينات قبل ان يبدأ تعثرها العميق الارتدادات على مصيرها كله كطبقة حاكمة امام المنعطف الهائل الذي شكله تأسيس اسرائيل عام 1948 وهو التأسيس الذي سيؤدي عمليا الى الهاوية بالبورجوازيات العربية الحاكمة في سوريا والعراق ومصر وليبيا والسودان وسيقضي بالنتيجة على العصر الذهبي لليبرالية العربية الذي امتد في النصف الاول من القرن العشرين.
اما حزبيو الارياف السورية بقيادة الضباط فقد ضيقوا، لاشك، الهوة الاجتماعية الاقتصادية الانمائية بين الريف والمدينة، كما شهدت العاصمة دمشق ترييفا افقيا هائلا ضاعف عدد سكانها فنقلها في نصف قرن من نصف مليون الى اكثر من خمسة ملايين فيما مدن اخرى كاللاذقية وطرطوس تبدلت معالمها الديموغرافية تبدلا جعل باحثا فرنسيا كفابريس بالانش وهو مؤلف كتاب "السلطة السورية والمنطقة العلوية" يكتب مؤخرا ان عدد السكان العلويين زاد بنسب محدودة عن عدد السكان السنة في اللاذقية وجبلة وبانياس فيما وصلت النسبة في طرطوس الى65 بالماية (ع) والى 35 بالماية (س). لكن لايجب ان ننسى ان هذه النسب تتعلق بمدن الساحل في حين ان الفارق على المستوى السوري العام هو 70 الى 80 بالماية سُنّة مقابل 10 الى 15 بالماية هم علويون. وعموما يقدر البعض كل الاقليات الدينية والمذهبية في سوريا بين ربع الى ثلث السكان مقابل ثلاثة ارباع الى ثلثين من السنة (توفيق كسبار في دراسته عن العلاقات الاقتصادية اللبنانية السورية المنجزة مؤخرا يورد رقم 20 مليونا واربعماية الف نسمة هم عدد سكان سوريا الاجمالي بالاستناد الى الاحصاءات الرسمية السورية لعام 2009).
لقد توسل ريفيو السلطة الاقوياء العلاقات القانونية للتمركز في دمشق الصغرى والكبرى ولكنهم غضوا النظر بشكل مثير عن انتشار احياء سكنية غير مرخصة في ضواحي دمشق الغربية والجنوبية (قرب المخيم الفلسطيني) فانتشر الريفيون الفقراء، عسكريين ومدنيين، من اكراد وحوارنة وعلويين وغيرهم منذ السبعينات يبنون داخل حدود دمشق (بما فيها بعض سفوح قاسيون) وحولها بلا ترخيص. لكن الدولة خلافا لبلدان اخرى كانت تسارع في العديد من الحالات الى مد بنية خدمات صحية للمناطق غير القانونية. وقد اذهلني منذ حوالى العام ونصف العام اعتراف مجلة سورية صادرة بالانكليزية وقريبة من السلطة وبقلم خبير تنظيم مدني اوروبي بأن حجم مخالفات البناء في دمشق الكبرى يصل الى الخمسين بالماية. وان "أربعين بالماية من سكان المدن الكبرى يعيشون في مساكن مخالفة للقوانين".
حقق ريفيو السلطة استقرارا سياسيا وامنيا طويل الامد وغيروا توزيع الثروة السورية. ورغم الاحتكارات التي بلغت حدا فضائحيا فسيبقى الانطباع بالنتيجة اذا تمكنت سوريا من عبور مرحلة انتقالية بشكل سلمي ان اجحاف حقبة اعيان المدن الفضائحية بحق الارياف على اكثر من مستوى قد ردت عليها الحقبة الريفية بتسلط غير ديموقراطي بوليسي ادى تاريخيا الى احداث توزيع جديد للثروة رغم وسائل الفساد المستفحلة في المدن والفجوات التنموية الخطرة التي لا تزال تطبع الارياف السورية والنمو المركزي الفاحش للعاصمة حتى بوجود السدود الكبيرة وشبكة الطرقات الشاسعة والمرافئ المتوسعة.
لكن الظاهرة التي تخللت بشكل بارز الاحداث السورية هي لعب الارياف أو التجمعات السكانية الكبيرة في الارياف من درعا الى محيط دمشق الى جسر الشغور جنوب ادلب دورا اساسيا في اطلاق الاحتجاجات الشعبية وتفعيلها قبل انتقالها الى مناطق اخرى. هذا عنى في جملة ما عناه ان التوصيف التقليدي السابق لاصول النخب الحاكمة الريفية لم يعد بدوره كافيا لاعتماد التحليل السياسي اعتمادا وحيد الجانب على ثنائية "المدينة – الريف" بعدما بدا حجم التململ الريفي، الناتج عن سوء الاوضاع الاقتصادية التي تعيشها شرائح واسعة، كبيرا في مواجهة الجيل الثاني من السلطة الريفية او الادق ذات الاصول الريفية لأن هذا الجيل الثاني عاش في دمشق معظم حياته واصبح جزءا من نسيج طبقتها العليا المتعددة الطوائف بين البورجوازيتين القديمة والجديدة.
الذي اريد ان اصل اليه هنا ان الافق الديموقراطي الاكيد الذي تدخل اليه سوريا ضمن التحولات العربية ليس واضحا حتى الآن ما اذا كان سيأخذ منحى سلميا في المستقبل ام يتجه الى الحرب الاهلية (ونحن اللبنانيين نعرف ان الحرب الاهلية هي ايضا ظاهرة تكوينية في "ديموقراطيتنا" الطائفية –المذهبية)... هذا الافق الديموقراطي له مضمون طائفي اكثري/اقلاوي- مديني/ريفي – اسلامي/ مسيحي. وحول النقطة الاخيرة، هناك خاصية في تاريخ سوريا خلال القرن ونيف الماضي هي انها منذ اواخر العهد العثماني شكلت ملاذا فعليا للاقليات المسيحية بدأ مع قوافل الهاربين الارمن والسريان من الاناضول وكيليكيا خلال الحرب العالمية الاولى وسنوات الاضطراب التي تلتها قبل استتباب الامر لمصطفى كمال اتاتورك في تلكما المنطقتين ثم امتد الملاذ السوري مع استقبال الانتداب الفرنسي في منطقة الجزيرة لقوافل الهاربين الاشوريين من شمال العراق في الثلاثينات من القرن الماضي بعد قمع الجيش العراقي الملكي للتمرد الاشوري على الدولة المركزية ثم في التسعينات والعقد الاخير مع استقبال عشرات آلاف المسيحيين (ومئات آلاف المسلمين العراقيين) الهاربين من الجحيم العراقي في حين يعيش معظم المسيحيين السوريين الاصليين وضعا من الازدهار الاجتماعي. وبدون معرفة هذه الخلفية لا يمكن فهم الموقف المسيحي "الهادئ جدا" في الاحداث الجارية. حتى احداث 1860 في دمشق، التي تذهب في الاتجاه المعاكس للشواهد السابقة، قد تكون في الذاكرة التي تحفظها الكنائس مؤشرا على مخاطر التطرف الشارعي.
تحمل سوريا سمة مصرية من زاوية انطوائها كمصر على مسألة طائفية في دولة مركزية قوية ذات جيش قوي وهذا الى الآن يختلف عن الوضع اللبناني المتمثل بالدولة الضعيفة التي باتت تتقاذفها الطائفيات ليس ككرة بل كحذاء مهترئ.
يجب ان تأخذ المسألة الطائفية في سوريا المنحى الذي يليق بدولة فعلية تستعد للانتقال الصعب الى "التعددية" وفق تعبير فاروق الشرع.
لقد خذلتنا النخبة العراقية الجديدة بعد عام 2003 عندما قدمت نموذجا لبنانيا – بل اسوأ- للحرب الاهلية والفساد الوقح. وكم كان العديد من الليبراليين واليساريين العراقيين المعارضين قبل سقوط نظام صدام حسين يرفضون مجرد المقارنة بالطائفية اللبنانية معتبرين النسيج العراقي اكثر تماسكا وطنيا!! بعض المعارضين العلمانيين السوريين- لاسيما في الداخل - يبدون اكثر واقعية من "اسلافهم" العراقيين من حيث اعترافهم بوطأة المسألة الطائفية كأحد تحديات الانتقال الديموقراطي السوري كما تظهرها سطور واضحة في كتاباتهم.
النخب السورية من كل الاطياف والمواقع داخل السلطة وخارجها هل بامكانها تقديم نموذج للتحول الديموقراطي الذي يحمل من ضمنه مشروع تأسيس مصالحة طائفية مناطقية سلمية على غرار "المصالحة" بين الجنوب والشمال بعد الحرب الاهلية الاميركية؟ الفارق الجوهري انها "مصالحة" يجب ان تستبق الحرب الاهلية فتحول دونها كمهمة اساسية من بين مهمات بناء نظام سياسي جديد. دعونا نجازف بالتفاؤل في هذا السياق فقد سبق لسوريا في الخمسينات والستينات ان حصرت "الحرب الاهلية" داخل مؤسسات الدولة ومنعت انفلاتها في المجتمع على النمط اللبناني؟؟
هذه مصالحات تكرسها عادة على المدى الابعد تحالفات جديدة بين قوى اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية في ظل نظام اول شروطه البنيوية ان تحمل الاكثرية- وهذا زمن عودة الاكثريات من كل الانواع - مشروعا ديموقراطيا بل مشاريع ديموقراطية.
المعضلة السورية ومآلاتها المحتملة
ياسين الحاج صالح
مع دخول الأزمة الوطنية السورية شهرها السادس، تقف جميع الأطراف المحلية والدولية المعنية بها أمام معضلات عسيرة. الانتفاضة تواجه معضلة. إذا ثابرت على الاعتماد على التظاهرات السلمية أداة احتجاج أساسية لها في مواجهة نظام لا يمتنع عن القتل، تحفظ تفوقها الأخلاقي والوطني، لكنها تدفع ثمناً إنسانياً باهظاً. وهي في الوقت نفسه لا تستطيع مواجهة العنف بالعنف لأسباب مبدئية وعملية معاً، ولا التعويل على التدخل الخارجي لأن من شأنه أن يدرج الانتفاضة في «لعبة الأمم»، فتخسر روحها. فهل يسعها، من دون سند داخلي أو خارجي، تحقيق هدفها الأولي المتمثل في إسقاط النظام؟
الانتفاضة تعالج معضلتها عبر استيعاب ضربات النظام، والاستمرار من جديد. وعبر محاصرة النظام أخلاقياً وإعلامياً، واستنزافه مادياً ومعنوياً، تعمل الانتفاضة على أن يكون الزمن حليفاً لكسب المعركة ضد النظام.
النظام أيضاً أمام معضلة. ما لم يتمكن من تحقيقه بالعنف (الأمني)، لم يتمكن من تحقيقه بمزيد من العنف أيضاً. فهل يمكن لمزيد على المزيد من العنف أن يثمر؟ قصف المدن بالطيران الحربي مثلاً؟ ربما. لكن هذا سيعني تدمير البلد. وماذا يستفيد حكام الغصب من تدمير البلد؟ وماذا سيحكمون أصلاً إن دمروا البلد؟ هذا فوق أن من شأن نهج مجنون كهذا أن يجر تدخلاً دولياً، يتسبب بمزيد من الضرر على سورية، من دون أن يستفيدوا هم منه.
في الوقت نفسه لا يبدو أن من شأن الاكتفاء بمستوى المزيد من العنف (أمني وميلشياوي وعسكري) أن يطفئ الانتفاضة أو يحد من انتشارها. بل يبدو أن المجتمع السوري يستوعب موجات التصعيد العنفي المتتابعة، ويستأنف احتجاجاته بعزم متجدد. قد يستطيع النظام أن يحجّم لبعض الوقت بعض بؤر الاحتجاج الكثيرة، على نحو ما فعل بدرعا والرستن وتلبيسة وحمص، لكنها عادت بنشاط إلى ميادين الاحتجاج ما إن خف عنها الضغط الأمني والعسكري. والأكيد أنه لا يستطيع إخماد جميع البؤر طوال الوقت. هذا يتجاوز قواه وموارده المادية.
في الوقت نفسه لم يعد ثمة مخرج من دائرة العنف التي أسر النظام نفسه والبلاد فيها. فات أوان مبادرات سياسية أكثر جدية من طرفه، بما في ذلك وقف العنف والإفراج عن معتقلي الانتفاضة. ولم يعد أحد يثق به، ومن شأن تراجعه أن يلهب الاحتجاجات الشعبية أكثر. لقد أحرق النظام ورقته «السياسية»، ولا يبدو أن ورقته العسكرية تجديه نفعاً ما لم تبلغ حد الجنون. فإن بلغته، لا يبقى هناك بلد يحكمه.
ومن وجوه معضلة النظام أن رهانه منصبّ على سحق الانتفاضة بغرض إعادة الأمور لما كانت عليه قبل تفجرها، لكن إذا نجح في مسعاه، فسيدين الحكم للساحقين، أي للشبيحة ومن في حكمهم، وسنعود ثلاثين عاماً إلى الوراء، وليس نصف عام فقط.
وإلى الانتفاضة والنظام، يبدو أن القوى الدولية المعنية بالشأن السوري تواجه معضلة تخصها. فوراء التعارض الظاهر بين غضب القوى الغربية وتركيا الشديد من النظام وبين تواضع مواقفها العملية منه وتعويلها حتى اليوم على أن يتصرف بطريقة مسؤولة، ثمة تضارب في الخيارات: فإذا سكتت هذه القوى على النظام تصرف بطريقة طائشة، تحرجها أمام شعوبها أو قطاعات منها وأمام «المجتمع المدني العالمي»، من دون ضمان أن تبقى مفاعيل طيش النظام النازعة للاستقرار قيد الداخل السوري. وفي الوقت نفسه لا يبدو أن من شأن التصعيد ضده في صورة عقوبات محددة وضغوط سياسية أن يثمر شيئاً بالنظر إلى الطابع العصبوي المغلق وغير العقلاني للنظام. هذا بينما ليس لهذه القوى مصلحة في تدخل عسكري لا يريده السوريون أيضاً.
الدول العربية المعنية، دول الخليج ومصر والأردن أيضاً في مأزق. فهي لا تستطيع أن تداوم على الصمت بينما يتشكل ما يقارب إجماعاً دولياً على إدانة النظام، وبينما تعلو فيها أصوات داخلية غاضبة ضد سلوكه المتجاوز لكل حد. وهي أيضاً لا تستطيع أن تفعل شيئاً ضده، بمفردها، ولا يبدو واضحاً لأحد إن كان هناك جهد دولي منظم ضد النظام في وقت قريب أو في أي وقت.
وروسيا في الوضع نفسه. فالنظام لا يوفر لها ما تقنع به نفسها والعالم من مبررات الدفاع عنه ما دام مستمراً في قتل محكوميه، وهي في الوقت نفسه لا تريد أن تساند القوى الغربية وحلف الناتو في عزل النظام وربما ضربه، ما من شأنه أن يعزز الهيمنة الدولية لهذه القوى، ويضعفها هي. وحتى حلفاء النظام الممانعون يبدون مرتبكين. حماس نأت بنفسها مبكراً لأنها لا تستطيع تحمل أكلاف التماهي مع سياسة النظام. وحزب الله توقف عن إطلاق التصريحات المؤيدة له بعد أن رأى ما أثارته من غضب في الشارع السوري، وإن مضت قناة «المنار» في ترداد الرواية الرسمية الكاذبة. وحدها إيران تبدو حاسمة في الوقـوف إلـى جانب النظام حتى النهاية.
وهكذا، تبدو سورية عنواناً لمعضلة جامعة. ففي أي اتجاه يمكن أن تنحل؟
الأمر تابع لتطورات الوضع السوري.
لا ريب أن الاحتمال الأعدل والأوفق للمصلحة الوطنية السورية هو أن تنجح الانتفاضة في إزالة النظام بقواها الذاتية. ستواجه سورية بعد التغيير كل أنواع المشكلات، بدرجة تفوق ما تواجهه مصر وتونس اليوم، لكن لعلها ستكون في وضع أفضل لمعالجة مشكلاتها بالنظر لاتساع قاعدة الانشغال العام، ولتوافق نمط التغيير هذا مع النازع الاستقلالي الذي طبع سورية منذ ما قبل تكون كيانها الحديث قبل أقل من قرن.
الاحتمال الثاني هو «حكم الشبيحة»: أن يحل النظام معضلته بحل سورية، دولة ومجتمعاً وكياناً ومعنى. سيكون هذا أسوأ ما يمكن أن يحصل للبلد، وسيسجل الانحلال الاجتماعي والأخلاقي مستويات غير مسبوقة، وستسود القسوة ويعم الفساد ويرتفع منسوب الكراهية العام، وستكون سورية معزولة وتعاني من أزمات اقتصادية خانقة، وسنشهد موجة هائلة من هجرة الشباب والأدمغة والكفاءات من البلد.
الاحتمال الثالث هو «لعبة الأمم»، أي تحكم القوى الخارجية، الغربية والعربية، بالداخل السوري. قد تنشأ أوضاع سياسية توفر قدراً أكبر من الحرية، لكنها ستكون أوضاعاً غير مستقرة، وستفقد سورية استقلالها وسيطرتها على مصيرها لسنوات. وهذا لن يتأخر في أن يضع الحرية المكتسبة بمشقة في مواجهة الاستقلال، فيقلل من شأنها.
فرص التسوية الداخلية فاتت. النظام لم يظهر أي استعداد لدفع الثمن (نهاية الحكم الأبدي وحاكمية الاستخبارات)، والانتفاضة لم تعد تقبل بما هو أقل من ذلك.
مع دخول الأزمة الوطنية السورية شهرها السادس، تقف جميع الأطراف المحلية والدولية المعنية بها أمام معضلات عسيرة. الانتفاضة تواجه معضلة. إذا ثابرت على الاعتماد على التظاهرات السلمية أداة احتجاج أساسية لها في مواجهة نظام لا يمتنع عن القتل، تحفظ تفوقها الأخلاقي والوطني، لكنها تدفع ثمناً إنسانياً باهظاً. وهي في الوقت نفسه لا تستطيع مواجهة العنف بالعنف لأسباب مبدئية وعملية معاً، ولا التعويل على التدخل الخارجي لأن من شأنه أن يدرج الانتفاضة في «لعبة الأمم»، فتخسر روحها. فهل يسعها، من دون سند داخلي أو خارجي، تحقيق هدفها الأولي المتمثل في إسقاط النظام؟
الانتفاضة تعالج معضلتها عبر استيعاب ضربات النظام، والاستمرار من جديد. وعبر محاصرة النظام أخلاقياً وإعلامياً، واستنزافه مادياً ومعنوياً، تعمل الانتفاضة على أن يكون الزمن حليفاً لكسب المعركة ضد النظام.
النظام أيضاً أمام معضلة. ما لم يتمكن من تحقيقه بالعنف (الأمني)، لم يتمكن من تحقيقه بمزيد من العنف أيضاً. فهل يمكن لمزيد على المزيد من العنف أن يثمر؟ قصف المدن بالطيران الحربي مثلاً؟ ربما. لكن هذا سيعني تدمير البلد. وماذا يستفيد حكام الغصب من تدمير البلد؟ وماذا سيحكمون أصلاً إن دمروا البلد؟ هذا فوق أن من شأن نهج مجنون كهذا أن يجر تدخلاً دولياً، يتسبب بمزيد من الضرر على سورية، من دون أن يستفيدوا هم منه.
في الوقت نفسه لا يبدو أن من شأن الاكتفاء بمستوى المزيد من العنف (أمني وميلشياوي وعسكري) أن يطفئ الانتفاضة أو يحد من انتشارها. بل يبدو أن المجتمع السوري يستوعب موجات التصعيد العنفي المتتابعة، ويستأنف احتجاجاته بعزم متجدد. قد يستطيع النظام أن يحجّم لبعض الوقت بعض بؤر الاحتجاج الكثيرة، على نحو ما فعل بدرعا والرستن وتلبيسة وحمص، لكنها عادت بنشاط إلى ميادين الاحتجاج ما إن خف عنها الضغط الأمني والعسكري. والأكيد أنه لا يستطيع إخماد جميع البؤر طوال الوقت. هذا يتجاوز قواه وموارده المادية.
في الوقت نفسه لم يعد ثمة مخرج من دائرة العنف التي أسر النظام نفسه والبلاد فيها. فات أوان مبادرات سياسية أكثر جدية من طرفه، بما في ذلك وقف العنف والإفراج عن معتقلي الانتفاضة. ولم يعد أحد يثق به، ومن شأن تراجعه أن يلهب الاحتجاجات الشعبية أكثر. لقد أحرق النظام ورقته «السياسية»، ولا يبدو أن ورقته العسكرية تجديه نفعاً ما لم تبلغ حد الجنون. فإن بلغته، لا يبقى هناك بلد يحكمه.
ومن وجوه معضلة النظام أن رهانه منصبّ على سحق الانتفاضة بغرض إعادة الأمور لما كانت عليه قبل تفجرها، لكن إذا نجح في مسعاه، فسيدين الحكم للساحقين، أي للشبيحة ومن في حكمهم، وسنعود ثلاثين عاماً إلى الوراء، وليس نصف عام فقط.
وإلى الانتفاضة والنظام، يبدو أن القوى الدولية المعنية بالشأن السوري تواجه معضلة تخصها. فوراء التعارض الظاهر بين غضب القوى الغربية وتركيا الشديد من النظام وبين تواضع مواقفها العملية منه وتعويلها حتى اليوم على أن يتصرف بطريقة مسؤولة، ثمة تضارب في الخيارات: فإذا سكتت هذه القوى على النظام تصرف بطريقة طائشة، تحرجها أمام شعوبها أو قطاعات منها وأمام «المجتمع المدني العالمي»، من دون ضمان أن تبقى مفاعيل طيش النظام النازعة للاستقرار قيد الداخل السوري. وفي الوقت نفسه لا يبدو أن من شأن التصعيد ضده في صورة عقوبات محددة وضغوط سياسية أن يثمر شيئاً بالنظر إلى الطابع العصبوي المغلق وغير العقلاني للنظام. هذا بينما ليس لهذه القوى مصلحة في تدخل عسكري لا يريده السوريون أيضاً.
الدول العربية المعنية، دول الخليج ومصر والأردن أيضاً في مأزق. فهي لا تستطيع أن تداوم على الصمت بينما يتشكل ما يقارب إجماعاً دولياً على إدانة النظام، وبينما تعلو فيها أصوات داخلية غاضبة ضد سلوكه المتجاوز لكل حد. وهي أيضاً لا تستطيع أن تفعل شيئاً ضده، بمفردها، ولا يبدو واضحاً لأحد إن كان هناك جهد دولي منظم ضد النظام في وقت قريب أو في أي وقت.
وروسيا في الوضع نفسه. فالنظام لا يوفر لها ما تقنع به نفسها والعالم من مبررات الدفاع عنه ما دام مستمراً في قتل محكوميه، وهي في الوقت نفسه لا تريد أن تساند القوى الغربية وحلف الناتو في عزل النظام وربما ضربه، ما من شأنه أن يعزز الهيمنة الدولية لهذه القوى، ويضعفها هي. وحتى حلفاء النظام الممانعون يبدون مرتبكين. حماس نأت بنفسها مبكراً لأنها لا تستطيع تحمل أكلاف التماهي مع سياسة النظام. وحزب الله توقف عن إطلاق التصريحات المؤيدة له بعد أن رأى ما أثارته من غضب في الشارع السوري، وإن مضت قناة «المنار» في ترداد الرواية الرسمية الكاذبة. وحدها إيران تبدو حاسمة في الوقـوف إلـى جانب النظام حتى النهاية.
وهكذا، تبدو سورية عنواناً لمعضلة جامعة. ففي أي اتجاه يمكن أن تنحل؟
الأمر تابع لتطورات الوضع السوري.
لا ريب أن الاحتمال الأعدل والأوفق للمصلحة الوطنية السورية هو أن تنجح الانتفاضة في إزالة النظام بقواها الذاتية. ستواجه سورية بعد التغيير كل أنواع المشكلات، بدرجة تفوق ما تواجهه مصر وتونس اليوم، لكن لعلها ستكون في وضع أفضل لمعالجة مشكلاتها بالنظر لاتساع قاعدة الانشغال العام، ولتوافق نمط التغيير هذا مع النازع الاستقلالي الذي طبع سورية منذ ما قبل تكون كيانها الحديث قبل أقل من قرن.
الاحتمال الثاني هو «حكم الشبيحة»: أن يحل النظام معضلته بحل سورية، دولة ومجتمعاً وكياناً ومعنى. سيكون هذا أسوأ ما يمكن أن يحصل للبلد، وسيسجل الانحلال الاجتماعي والأخلاقي مستويات غير مسبوقة، وستسود القسوة ويعم الفساد ويرتفع منسوب الكراهية العام، وستكون سورية معزولة وتعاني من أزمات اقتصادية خانقة، وسنشهد موجة هائلة من هجرة الشباب والأدمغة والكفاءات من البلد.
الاحتمال الثالث هو «لعبة الأمم»، أي تحكم القوى الخارجية، الغربية والعربية، بالداخل السوري. قد تنشأ أوضاع سياسية توفر قدراً أكبر من الحرية، لكنها ستكون أوضاعاً غير مستقرة، وستفقد سورية استقلالها وسيطرتها على مصيرها لسنوات. وهذا لن يتأخر في أن يضع الحرية المكتسبة بمشقة في مواجهة الاستقلال، فيقلل من شأنها.
فرص التسوية الداخلية فاتت. النظام لم يظهر أي استعداد لدفع الثمن (نهاية الحكم الأبدي وحاكمية الاستخبارات)، والانتفاضة لم تعد تقبل بما هو أقل من ذلك.
السبت، 20 أغسطس 2011
حزب الله والعدالة في سجن مشيمش والحسيني
لن يفلح الحزب في اختصار فكرة المقاومة و"الشيعة" بحزب واحد
علي الأمين
منع قاضي التحقيق العسكري الأول رياض أبو غيدا المحاكمة عن السيد محمد علي الحسيني وتركه حراً لعدم كفاية الادلة،. وقد جاء قرار أبو غيدا مخالفاً لمطالعة النيابة العامة العسكرية التي ميزته، وبانتظار البتّ بالقرار، يبقى العلامة الحسيني موقوفاً. وجاء القرار بعد نحو 3 أشهر من اعتقال الحسيني، وهو رجل دين شيعي، بتهمة "التعامل مع العدو".
وكانت مديرية المخابرات في الجيش اللبناني اعتقلت الحسيني وتولت بعض وسائل الاعلام القريبة من حزب الله الترويج لثبوت تهمة العمالة عليه، أسوة بما جرى مع امام بلدة كفرصير الشيخ حسن مشيمش الذي لم يزل معتقلا منذ 13 شهرا في السجون سورية بإيعاز من حزب الله. وبعد تهاوي التهم بـ"العمالة للعدو"، بحق الشيخ مشيمش والسيد الحسيني، يبقى الرجلان في السجن فقط لأن من عمل على تركيب التهم بحقهما لا يريد ان يفرج عنهما، وهو في هذه الحالة اي حزب الله، كما تؤكد اوساط قريبة من عائلتيهما.
هاتان الواقعتان المتصلتان برجلي دين شيعة معروفين بأنّهما يتبنيان مواقف لا تنسجم مع مواقف حزب الله السياسية او الفكرية، تظهران مدى الضيق الذي يصيب الحزب وقيادته حيال اي تعبير سياسي او اجتماعي مخالف لتوجهاتهما. وعلى قاعدة "عدم الاختباء خلف الاصابع" كما عبر الامين العام للحزب في اطلالته الرمضانية الاخيرة، يمكن الجزم بمسؤولية الحزب عن اعتقالهما التعسفي وترويج الاتهامات الكاذبة بحقهما من دون ان يرف جفن لأيّ من مسؤوليه. ولا احد يستطيع ان يتصور أنّه في لبنان يمكن ان يقوم جهاز امني لبناني باعتقال رجل دين شيعي بتهمة العمالة لاسرائيل، من دون ايعاز من قبل حزب الله، وفي الحد الادنى "استئذانه"، قبل القيام بهذه الخطوة. اما قضية الشيخ مشيمش فكل من حاول، من سعاة الخير، لدى الاجهزة السورية للافراج عنه او لتبيان اسباب اعتقاله، كان الجواب: "تابعوا القضية مع حزب الله"، هذا من دون ان يصدر بحق الموقوف اي اتهام، بل جرت تبرئته اخيرا، وانتقل من سجنه الانفرادي، حيث قضى عاما كاملا، على ما يؤكد ذووه، الذين سمح لهم قبل شهر بزيارته اسبوعيا.
سجن مشيمش والحسيني ظلما وعدوانا يكشف ميزان "عدالة" الحزب
هذان الرجلان المظلومان من قبل حزب الله، على سبيل المثال لا الحصر، كما تبين لاحقا، واللذان لاكت الالسن سيرتهما في عمالة مفبركة للعدو، ظلما وعدوانا، وبتشجيع وتحريض حزبيين، يكشفان الميزان الذي تقيس به قيادة الحزب الظلم والعدل.
إذ حين تتهم المحكمة الدولية بعض عناصره بجريمة اغتيال رفيق الحريري، يريد حزب الله من كل الناس ان تجاريه بقناعاته حيال براءتهما، لا بل يتهم كل من يدرج هذا الاتهام في سياق قانوني وعدالة دولية، بانه متآمر ليس على عناصر في الحزب فقط، بل على المقاومة التي لا يمكن لحزب او رجل ان يختصرها في تاريخ لبنان والعرب والعالم، ولا في تاريخ الشيعة ايضا. وفي نموذج مشيمش والحسيني سؤال اخلاقي مشروع عن معايير العدل والظلم: أليس هذا النموذج تأكيد على ان القوة هي المعيار والظلم ليس الا ضريبة يدفعها الضعفاء، بنظر الظالم؟
لكأن الخطاب الخشبي ايضا بات وسيلة لتثبيت السلطة، من هنا يمكن ان نتلمس بثقة كيف ان خطاب التخوين بات اداة الهجوم والتهجم على كل مختلف ومتمايز. وبهذا المعنى يمكن ان نتلمس كيف الغى الامين العام لحزب الله اي تمايز بين الشيعة والمقاومة وحزب الله في خطابه الاخير. لم يتحدث السيد نصرالله باسم حزب الله، وربما لم يرد في خطابه هذا، كلمة حزب الله، بل وردت كلمتا "المقاومة" و"الشيعة" كطرفين مقصودين، من دون لبس على ما يوحي، في القرار الاتهامي.
لم ترد كلمة حزب الله لكنها في الواقع كانت تحاول ان تختصر الشيعة والمقاومة في الحزب. اختصار المقاومة كإرادة وتاريخ وتراث ممتد ومتنوع وخلاق، واختصارالشيعة كمذهب محكوم بالاجتهاد والتنوع بحزب واحد أحد: "الغالبون"
علي الأمين
منع قاضي التحقيق العسكري الأول رياض أبو غيدا المحاكمة عن السيد محمد علي الحسيني وتركه حراً لعدم كفاية الادلة،. وقد جاء قرار أبو غيدا مخالفاً لمطالعة النيابة العامة العسكرية التي ميزته، وبانتظار البتّ بالقرار، يبقى العلامة الحسيني موقوفاً. وجاء القرار بعد نحو 3 أشهر من اعتقال الحسيني، وهو رجل دين شيعي، بتهمة "التعامل مع العدو".
وكانت مديرية المخابرات في الجيش اللبناني اعتقلت الحسيني وتولت بعض وسائل الاعلام القريبة من حزب الله الترويج لثبوت تهمة العمالة عليه، أسوة بما جرى مع امام بلدة كفرصير الشيخ حسن مشيمش الذي لم يزل معتقلا منذ 13 شهرا في السجون سورية بإيعاز من حزب الله. وبعد تهاوي التهم بـ"العمالة للعدو"، بحق الشيخ مشيمش والسيد الحسيني، يبقى الرجلان في السجن فقط لأن من عمل على تركيب التهم بحقهما لا يريد ان يفرج عنهما، وهو في هذه الحالة اي حزب الله، كما تؤكد اوساط قريبة من عائلتيهما.
هاتان الواقعتان المتصلتان برجلي دين شيعة معروفين بأنّهما يتبنيان مواقف لا تنسجم مع مواقف حزب الله السياسية او الفكرية، تظهران مدى الضيق الذي يصيب الحزب وقيادته حيال اي تعبير سياسي او اجتماعي مخالف لتوجهاتهما. وعلى قاعدة "عدم الاختباء خلف الاصابع" كما عبر الامين العام للحزب في اطلالته الرمضانية الاخيرة، يمكن الجزم بمسؤولية الحزب عن اعتقالهما التعسفي وترويج الاتهامات الكاذبة بحقهما من دون ان يرف جفن لأيّ من مسؤوليه. ولا احد يستطيع ان يتصور أنّه في لبنان يمكن ان يقوم جهاز امني لبناني باعتقال رجل دين شيعي بتهمة العمالة لاسرائيل، من دون ايعاز من قبل حزب الله، وفي الحد الادنى "استئذانه"، قبل القيام بهذه الخطوة. اما قضية الشيخ مشيمش فكل من حاول، من سعاة الخير، لدى الاجهزة السورية للافراج عنه او لتبيان اسباب اعتقاله، كان الجواب: "تابعوا القضية مع حزب الله"، هذا من دون ان يصدر بحق الموقوف اي اتهام، بل جرت تبرئته اخيرا، وانتقل من سجنه الانفرادي، حيث قضى عاما كاملا، على ما يؤكد ذووه، الذين سمح لهم قبل شهر بزيارته اسبوعيا.
سجن مشيمش والحسيني ظلما وعدوانا يكشف ميزان "عدالة" الحزب
هذان الرجلان المظلومان من قبل حزب الله، على سبيل المثال لا الحصر، كما تبين لاحقا، واللذان لاكت الالسن سيرتهما في عمالة مفبركة للعدو، ظلما وعدوانا، وبتشجيع وتحريض حزبيين، يكشفان الميزان الذي تقيس به قيادة الحزب الظلم والعدل.
إذ حين تتهم المحكمة الدولية بعض عناصره بجريمة اغتيال رفيق الحريري، يريد حزب الله من كل الناس ان تجاريه بقناعاته حيال براءتهما، لا بل يتهم كل من يدرج هذا الاتهام في سياق قانوني وعدالة دولية، بانه متآمر ليس على عناصر في الحزب فقط، بل على المقاومة التي لا يمكن لحزب او رجل ان يختصرها في تاريخ لبنان والعرب والعالم، ولا في تاريخ الشيعة ايضا. وفي نموذج مشيمش والحسيني سؤال اخلاقي مشروع عن معايير العدل والظلم: أليس هذا النموذج تأكيد على ان القوة هي المعيار والظلم ليس الا ضريبة يدفعها الضعفاء، بنظر الظالم؟
لكأن الخطاب الخشبي ايضا بات وسيلة لتثبيت السلطة، من هنا يمكن ان نتلمس بثقة كيف ان خطاب التخوين بات اداة الهجوم والتهجم على كل مختلف ومتمايز. وبهذا المعنى يمكن ان نتلمس كيف الغى الامين العام لحزب الله اي تمايز بين الشيعة والمقاومة وحزب الله في خطابه الاخير. لم يتحدث السيد نصرالله باسم حزب الله، وربما لم يرد في خطابه هذا، كلمة حزب الله، بل وردت كلمتا "المقاومة" و"الشيعة" كطرفين مقصودين، من دون لبس على ما يوحي، في القرار الاتهامي.
لم ترد كلمة حزب الله لكنها في الواقع كانت تحاول ان تختصر الشيعة والمقاومة في الحزب. اختصار المقاومة كإرادة وتاريخ وتراث ممتد ومتنوع وخلاق، واختصارالشيعة كمذهب محكوم بالاجتهاد والتنوع بحزب واحد أحد: "الغالبون"
إنقاذ النظام من نفسه أم إنقاذ الوطن منه؟
ياسين الحاج صالح
من شأن تكرار بعض الأشياء عن سورية أن يكون مفيداً في غمرة الكثير الذي يقال عن البلد منذ خمسة شهور.
النظام في سورية هو المركّب السياسي الأمني المالي، ونواته الأصلب هي سياسية أمنية. وهو بالتحديد الحكم الدائم للرئيس مع التطلع إلى توريث الحكم في نسله أو أسرته، ثم حاكمية الأجهزة الأمنية الموثوقة وحصانتها المطلقة، وأخيراً حرية تصرف واسعة بالموارد الوطنية العامة. هذه أشياء غير عادلة وغير صالحة. الإصلاح هو التخلص منها. وبالتحديد انتخابات رئاسية قريبة، متعددة المرشحين، مكفولة النزاهة، تطوي صفحة الحكم الوراثي، وإخضاع الأجهزة الأمنية للمحاسبة القانونية وتحويل العقيدة الأمنية من التمركز حول النظام إلى التمركز حول الأمن الوطني، والمراقبة الاجتماعية والقانونية للتصرف السياسي بالموارد العامة. هذا يعني أن إصلاح النظام هو تغييره بالكامل لأن من غير المتصور أن الأشخاص أنفسهم الذين حكموا البلد بالقرابة والغصب والاستيلاء سيحكمونه بالقانون، ووفق منطق وطني عام.
النظام هو أول من يدرك هذا. لذلك لم نسمع أبداً ما يشير إلى انتخابات رئاسية قريبة، أو محاسبة الأجهزة الأمنية ووضعها تحت القانون، أو نرى ما هو أفضل من كوميديا تحول رامي مخلوف إلى رجل بر وإحسان. ولذلك أيضاً دشن النظام شهر رمضان بالفتك المجنون بحماة ودير الزور، وعشرات البلدات، بهدف سحق الانتفاضة، لأنه يعرف أنه لا يستطيع أن يعطي السوريين شيئاً ذا قيمة على الإطلاق. وهو يعرف أكثر منا أن قوانين الأحزاب والانتخابات والإعلام هي لا شيء بالتمام والكمال في ظل هذه التركيبة السياسية الأمنية المالية القائمة.
لن نرى في الأيام ولا في الأسابيع المقبلة، ولا في أي وقت، «إصلاحات» على ما ينتظر سياسيون عرب وأجانب. النظام غير صالح، وليس فيه إصلاحيون، وفاقد الشيء لا يعطيه. لا بد من تغيير النظام من اجل الإصلاح، ومن أجل أن يوجد إصلاحيون.
هذا من باب قول الأشياء الأساسية عن «النظام» في سورية. وهو ما لا ينبغي أن ينتظر شهادة سياسيين أجانب أياً كانوا
لا تتمثل خطورة التحركات السياسية العربية والدولية الجارية حول سورية في احتمال انتزاعها زمام المبادرة من الداخل السوري، أو احتمال أن يجري التعويل عليها من أطياف سورية هي الأقل ارتباطاً بالانتفاضة والداخل الاجتماعي السوري، ولكن بخاصة من المراهنة الفاشلة لتلك التحركات على أن يصلح النظام أمره ويصلح أمر البلاد. الرهان المشترك للقوى الدولية والعربية هو تعقيل النظام وإنقاذه من نفسه، وليس إنقاذ سورية من النظام على ما تراهن الانتفاضة.
وهذا متصل بحقيقة أن منظور القوى الدولية جميعاً متمركز حول الاستقرار، ولا تكاد تعنيها ممارسات النظام الدموية إلا بقدر ما إنها تهدد بتحويل سورية إلى بؤرة غير مستقرة ومنبع لعدم الاستقرار في الإقليم ككل. وإن لم يكن من حسن السياسة التفرغ لمهاجمة تلك القوى الدولية، كما يطالب الممانعون، فلا شيء يدعو إلى التعويل على تحركاتها ومبادراتها. مناسب أن نلاحظ هنا أن مركز النقاش حول التحركات الدولية، تعويلاً أو رفضاً، هو سمة أشخاص ومجموعات سورية واهية الارتباط بالمجتمع السوري والانتفاضة. في هذا الشأن يبلغ الفارق بين الممانعين والمصانعين الصفر. هذا فوق أن الطرفين شريكان أيضاً في التبعية والدوران حول مراكز السلطة، أياً تكن هذه السلطة.
ما يعول عليه، وما ينبغي أن يتمركز حوله النقاش، وتصب الجهود السياسية والفكرية والميدانية من أجله هو الانتفاضة، استمرار التظاهرات والأنشطة الاحتجاجية إلى حين تحقيق الهدف الأول الكبير للانتفاضة: تغيير النظام.
ليس تغيير النظام نهاية كفاح السوريين بل هو بالفعل بدايته. كل قيمة الانتفاضة، أو الثورة في هذا السياق، أنها تتيح نقل البلاد إلى أوضاع تقبل الإصلاح. فالثورة ليست نقيض الإصلاح ولا البديل عنه، بل هي شرطه.
وأول الصلاح المأمول في سورية نظام سياسي ذاتي الإصلاح، بما يضمن تجدد النخب السياسية والتطور السياسي للمجتمع السوري. نعرف من تجربتنا أن الحكم الأبدي اقترن بإسقاط مبدأي المسؤولية والمحاسبة، بينما يُحاسَب المحكومون تعسفياً على أفكارهم وآرائهم ومبادراتهم المستقلة. وقد اقتضى هذا سلّم قيم سياسياً مقلوباً، يكون الحاكم بموجبه معيار وطنية محكوميه، ويكون الولاء له دينهم الحقيقي (يبوسون مطرح ما يدوس، على ما يقول أحد شعارات الموالين في سورية). لا بد من قلب سلّم القيم هذا. السكان، المواطنون، هم معيار الوطنية، والحاكمون خدم، عقودهم موقتة فوق ذلك.
ومن مقتضيات الإصلاح الذاتي الانتخابات الدورية والحريات العامة والإعلام الحر والتنظيم المستقل، عناصر كانت على الدوام تطلعات جامعة للديموقراطيين العرب.
في المقام الثاني إعادة تأسيس القيم الاجتماعية على العمل والمعرفة. القيمة العليا في سورية اليوم هي السلطة، تليها الثروة. العمل قيمته متدنية، ولا يكاد يضمن لأحد فرص الترقي الاجتماعي أو احترام الذات والغير، ومن يعيشون من عملهم حصراً تبقى فرصهم الحياتية متدنية، بما في ذلك تعذر الحصول على بيت، أو إذا كان المرء متدني التأهيل... معاناة درجات متفاوتة من الفقر. ومع تدهور قيمة العمل يتدهور الوزن الاجتماعي للعاملين وقيمتهم السياسية وتأثيرهم في الحياة العامة. هذا أمر ربما يخفيه اليوم التعطيل السياسي الشامل، لكنه مرشح للظهور أكثر إذا زال هذا التعطيل. الانتفاضة السورية في جوهرها انتفاضة لمجتمع العمل ضد سلطة الحكام الأغنياء، وما يوحد طيفها المتنوع هو هذا الارتباط القوي بالعمل.
ويتصل بذلك حكم القانون. لا قانون في سورية منذ مطلع العهد البعثي الذي هو بالفعل زمن للعسف والاعتباط. طوال نحو نصف قرن دان الحكم للهوى والغريزة، ولم يكن هناك ما يحمي المجتمع السوري من أسوأ التعديات.
ولا ريب، ستفرض نفسها قضايا تتصل بالهوية الوطنية، وترتيب عناصرها الأساسية، السورية والعروبة والإسلام، بصورة تضمن وحدة السوريين والمساواة بينهم. وقد لا يمضي وقت طويل قبل أن نرى أن الثورة السورية ثورة وطنية تعيد بناء الحياة السياسية السورية حول الداخل الاجتماعي، وتالياً تهيمن فيها السورية على كل من العروبة والإسلام. المواطنة المتساوية لا تستقيم على غير أرضية السورية.
ليس من المبكر الكلام على هذه النقطة. هي تطرح نفسها بصورة ما منذ الآن، ومن المرجح أن تكون على جدول العمل الوطني قريباً.
بعد الشجاعة الاستثنائية للانتفاضة السورية في مواجهة «النظام»، ستلزم السوريين شجاعة بناء نظام مغاير، ومستقبل مشترك.
من شأن تكرار بعض الأشياء عن سورية أن يكون مفيداً في غمرة الكثير الذي يقال عن البلد منذ خمسة شهور.
النظام في سورية هو المركّب السياسي الأمني المالي، ونواته الأصلب هي سياسية أمنية. وهو بالتحديد الحكم الدائم للرئيس مع التطلع إلى توريث الحكم في نسله أو أسرته، ثم حاكمية الأجهزة الأمنية الموثوقة وحصانتها المطلقة، وأخيراً حرية تصرف واسعة بالموارد الوطنية العامة. هذه أشياء غير عادلة وغير صالحة. الإصلاح هو التخلص منها. وبالتحديد انتخابات رئاسية قريبة، متعددة المرشحين، مكفولة النزاهة، تطوي صفحة الحكم الوراثي، وإخضاع الأجهزة الأمنية للمحاسبة القانونية وتحويل العقيدة الأمنية من التمركز حول النظام إلى التمركز حول الأمن الوطني، والمراقبة الاجتماعية والقانونية للتصرف السياسي بالموارد العامة. هذا يعني أن إصلاح النظام هو تغييره بالكامل لأن من غير المتصور أن الأشخاص أنفسهم الذين حكموا البلد بالقرابة والغصب والاستيلاء سيحكمونه بالقانون، ووفق منطق وطني عام.
النظام هو أول من يدرك هذا. لذلك لم نسمع أبداً ما يشير إلى انتخابات رئاسية قريبة، أو محاسبة الأجهزة الأمنية ووضعها تحت القانون، أو نرى ما هو أفضل من كوميديا تحول رامي مخلوف إلى رجل بر وإحسان. ولذلك أيضاً دشن النظام شهر رمضان بالفتك المجنون بحماة ودير الزور، وعشرات البلدات، بهدف سحق الانتفاضة، لأنه يعرف أنه لا يستطيع أن يعطي السوريين شيئاً ذا قيمة على الإطلاق. وهو يعرف أكثر منا أن قوانين الأحزاب والانتخابات والإعلام هي لا شيء بالتمام والكمال في ظل هذه التركيبة السياسية الأمنية المالية القائمة.
لن نرى في الأيام ولا في الأسابيع المقبلة، ولا في أي وقت، «إصلاحات» على ما ينتظر سياسيون عرب وأجانب. النظام غير صالح، وليس فيه إصلاحيون، وفاقد الشيء لا يعطيه. لا بد من تغيير النظام من اجل الإصلاح، ومن أجل أن يوجد إصلاحيون.
هذا من باب قول الأشياء الأساسية عن «النظام» في سورية. وهو ما لا ينبغي أن ينتظر شهادة سياسيين أجانب أياً كانوا
لا تتمثل خطورة التحركات السياسية العربية والدولية الجارية حول سورية في احتمال انتزاعها زمام المبادرة من الداخل السوري، أو احتمال أن يجري التعويل عليها من أطياف سورية هي الأقل ارتباطاً بالانتفاضة والداخل الاجتماعي السوري، ولكن بخاصة من المراهنة الفاشلة لتلك التحركات على أن يصلح النظام أمره ويصلح أمر البلاد. الرهان المشترك للقوى الدولية والعربية هو تعقيل النظام وإنقاذه من نفسه، وليس إنقاذ سورية من النظام على ما تراهن الانتفاضة.
وهذا متصل بحقيقة أن منظور القوى الدولية جميعاً متمركز حول الاستقرار، ولا تكاد تعنيها ممارسات النظام الدموية إلا بقدر ما إنها تهدد بتحويل سورية إلى بؤرة غير مستقرة ومنبع لعدم الاستقرار في الإقليم ككل. وإن لم يكن من حسن السياسة التفرغ لمهاجمة تلك القوى الدولية، كما يطالب الممانعون، فلا شيء يدعو إلى التعويل على تحركاتها ومبادراتها. مناسب أن نلاحظ هنا أن مركز النقاش حول التحركات الدولية، تعويلاً أو رفضاً، هو سمة أشخاص ومجموعات سورية واهية الارتباط بالمجتمع السوري والانتفاضة. في هذا الشأن يبلغ الفارق بين الممانعين والمصانعين الصفر. هذا فوق أن الطرفين شريكان أيضاً في التبعية والدوران حول مراكز السلطة، أياً تكن هذه السلطة.
ما يعول عليه، وما ينبغي أن يتمركز حوله النقاش، وتصب الجهود السياسية والفكرية والميدانية من أجله هو الانتفاضة، استمرار التظاهرات والأنشطة الاحتجاجية إلى حين تحقيق الهدف الأول الكبير للانتفاضة: تغيير النظام.
ليس تغيير النظام نهاية كفاح السوريين بل هو بالفعل بدايته. كل قيمة الانتفاضة، أو الثورة في هذا السياق، أنها تتيح نقل البلاد إلى أوضاع تقبل الإصلاح. فالثورة ليست نقيض الإصلاح ولا البديل عنه، بل هي شرطه.
وأول الصلاح المأمول في سورية نظام سياسي ذاتي الإصلاح، بما يضمن تجدد النخب السياسية والتطور السياسي للمجتمع السوري. نعرف من تجربتنا أن الحكم الأبدي اقترن بإسقاط مبدأي المسؤولية والمحاسبة، بينما يُحاسَب المحكومون تعسفياً على أفكارهم وآرائهم ومبادراتهم المستقلة. وقد اقتضى هذا سلّم قيم سياسياً مقلوباً، يكون الحاكم بموجبه معيار وطنية محكوميه، ويكون الولاء له دينهم الحقيقي (يبوسون مطرح ما يدوس، على ما يقول أحد شعارات الموالين في سورية). لا بد من قلب سلّم القيم هذا. السكان، المواطنون، هم معيار الوطنية، والحاكمون خدم، عقودهم موقتة فوق ذلك.
ومن مقتضيات الإصلاح الذاتي الانتخابات الدورية والحريات العامة والإعلام الحر والتنظيم المستقل، عناصر كانت على الدوام تطلعات جامعة للديموقراطيين العرب.
في المقام الثاني إعادة تأسيس القيم الاجتماعية على العمل والمعرفة. القيمة العليا في سورية اليوم هي السلطة، تليها الثروة. العمل قيمته متدنية، ولا يكاد يضمن لأحد فرص الترقي الاجتماعي أو احترام الذات والغير، ومن يعيشون من عملهم حصراً تبقى فرصهم الحياتية متدنية، بما في ذلك تعذر الحصول على بيت، أو إذا كان المرء متدني التأهيل... معاناة درجات متفاوتة من الفقر. ومع تدهور قيمة العمل يتدهور الوزن الاجتماعي للعاملين وقيمتهم السياسية وتأثيرهم في الحياة العامة. هذا أمر ربما يخفيه اليوم التعطيل السياسي الشامل، لكنه مرشح للظهور أكثر إذا زال هذا التعطيل. الانتفاضة السورية في جوهرها انتفاضة لمجتمع العمل ضد سلطة الحكام الأغنياء، وما يوحد طيفها المتنوع هو هذا الارتباط القوي بالعمل.
ويتصل بذلك حكم القانون. لا قانون في سورية منذ مطلع العهد البعثي الذي هو بالفعل زمن للعسف والاعتباط. طوال نحو نصف قرن دان الحكم للهوى والغريزة، ولم يكن هناك ما يحمي المجتمع السوري من أسوأ التعديات.
ولا ريب، ستفرض نفسها قضايا تتصل بالهوية الوطنية، وترتيب عناصرها الأساسية، السورية والعروبة والإسلام، بصورة تضمن وحدة السوريين والمساواة بينهم. وقد لا يمضي وقت طويل قبل أن نرى أن الثورة السورية ثورة وطنية تعيد بناء الحياة السياسية السورية حول الداخل الاجتماعي، وتالياً تهيمن فيها السورية على كل من العروبة والإسلام. المواطنة المتساوية لا تستقيم على غير أرضية السورية.
ليس من المبكر الكلام على هذه النقطة. هي تطرح نفسها بصورة ما منذ الآن، ومن المرجح أن تكون على جدول العمل الوطني قريباً.
بعد الشجاعة الاستثنائية للانتفاضة السورية في مواجهة «النظام»، ستلزم السوريين شجاعة بناء نظام مغاير، ومستقبل مشترك.
كيف كان إدوارد سعيد سيرى الثورات العربية؟
حسام عيتاني
تصلح الثورات العربية مدخلاً لعملية تقديم وإعادة نظر في الكثير من الأفكار والأحكام التي هيمنت على الثقافة والفكر السياسيين العربيين في العقود الممتدة منذ هزيمة 1967 إلى اليوم.
صدمت تلك الحرب، على ما تقول السردية التي انتشرت بعدها، الوعي العربي الذي أدخلته الأيديولوجيا القومية العربية «الرسمية» حالاً سكونية حالت دون رؤيته الأبعاد الحقيقية للصراع مع إسرائيل وتشعب الصلات التي تقيمها هذه مع الغرب وارتقاءها جزءاً عضوياً من مصالحه وآليات الدفاع عنها. وبعدما كان «الاستعمار» هو الاسم المعتمد في وصف السياسات الأميركية والأوروبية في الشرق الأوسط، حلت كلمة «الإمبريالية» التي جاءت إلى الأدبيات السياسية العربية بجهود مثقفي اليسار الذين لاحظوا أن فارقاً شاسعاً بات يفصل بين الاستعمار بالصورة التي جاء فيها إلى المنطقة في القرن التاسع عشر ومطالع العشرين كعملية نهب مباشر لثروات البلدان المحتلة، وبين ما تنطوي عليه الإمبريالية من مكونات اقتصادية وسياسية تهدف إلى الاستتباع والإلحاق وصولاً إلى تغيير المفاهيم الثقافية والاجتماعية.
ربما كان إدوارد سعيد هو من خطف الأضواء في نقده علاقاتِ الشرق والغرب، في الجانب الثقافي خصوصاً في عدد من الكتب التي نالت شهرة واسعة خصوصاً «الاستشراق» و «الثقافة والإمبريالية». أصبح سعيد الصوت الأعلى في الدوائر الأكاديمية الأميركية (وبدرجة أقل الأوروبية)، المنافح عما يراه مصالح شعوب المنطقة العربية وفي مقدمها الشعب الفلسطيني. بيد أن سعيد وقع في عدد من المآزق. وبصرف النظر عن جملة من الأخطاء المعرفية الكبيرة (التي ناقشنا بعضها في مكان آخر)، انزلق سعيد إلى «جوهرانية ثقافوية» تقسم العالم إلى شرق مُضطَهَد يحمل القيم الروحية الراقية، وغرب مضطَهِد تسيّره شهوته إلى المادة والثروة والغزو. اعتقد البعض من تلامذة الرجل أن إدوارد سعيد إنما يساهم في الفكر اليساري التقدمي. وذهبوا إلى تكريسه بطريركاً يسارياً وهو ما لم يزعمه سعيد طوال حياته.
كان إدوارد سعيد أستاذاً للأدب المقارن معدوم الصلة تقريباً بمجالات العلوم الاجتماعية والاقتصاد السياسي التي تشكل الساحات الحقيقية للآراء اليسارية. مقاربته الثقافية للصراعات الكبرى قادته إلى تجاوزات غير بسيطة للدقة التاريخية وللبحث الموضوعي وجعلته منحازاً إلى رؤية غير نقدية لتاريخ العرب وعلاقتهم بالعالم، على قلة ما كان يعرف من تاريخ قديم ومعاصر للشرق الأوسط. هذه الرؤى يمكن العثور على مثيلاتها عند كتّاب عرب تناولوا صلات الشرق والغرب بأدوات معرفية أكثر تواضعاً من تلك التي استخدمها سعيد، كالصادق النيهوم، على سبيل المثال.
لكن سعيد كان، قبل ذلك وبعده، يتمتع بقدر لا يستهان به من الذكاء والقدرة على تعديل الموقع الذي يقف فيه. وتبرز من بين أسطر كتاباته الأخيرة محاولات لتدارك الزلل الذي وقع فيه في «الاستشراق» خصوصاً، من دون أن ينسى تغليف ذلك بعدد وفير من المبررات، ليعود في المقال الطويل الذي كتبه لمجلة «ذي نايشن» الأميركية بعنوان «صدام الجهل» بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 الإرهابية، إلى فكرته الأصلية عن الانقسام العمودي للعالم، وإن بدا كمن ينقد تصور صامويل هانتنغتون عن صدام الحضارات الذي ينبع من فكرة لا تختلف كثيراً، في العمق، عن مصادر أفكار سعيد الذي يرى متوازيات في دوافع الحركات الدينية، بين أسامة بن لادن وحركة «الفرع الداوودي»، على سبيل المثال، تؤسس لـ «صدام الجهل» بين المتطرفين... إلخ. وهو المنهج ذاته الذي اتبعه تلميذه حميد دباشي في محاولته ردم الهوة بين سعيد وبين المستشرق المجري البارز غولدتسيهر، الذي رفعه دباشي إلى مستوى قريب من القداسة ثم انتهى بالقول إن سعيد محق في وضعه كل المستشرقين في خانة العمالة للمشروع الكولونيالي الغربي (بحسب المقدمة التي وضعها دباشي للجزء الأول من كتاب غولدتسيهر الشهير «دراسات في الاسلام»).
أتقن إدوارد سعيد السير في دوائر، فيما كان يبدو من بعيد لمن لا يدقق في عمل الرجل أنه يبتكر مفاهيم وآراء جديدة في نظرته التبخيسية للغرب ولسياسته وعلمه. وأسست الدوائر التي أمضى الباحث يسير فيها لموقف عام وعريض بات في صلب المواقف التي يمكن وصفها، براحة ضمير، بأنها رجعية وشديدة المحافظة في شأن علاقة العالمين العربي والإسلامي بالغرب وبالإشكاليات المعاصرة.
ويمكن القول إن سعيد وفّق في نشر آرائه وأفكاره. لكن ما لم يوفق به هو مجموعة تلامذته ومريديه أو من يقولون عن أنفسهم أنهم كذلك. وباستثناء حفنة قليلة من التلامذة اللامعين، كدباشي الذي أدرك أوجه القصور في فكر سعيد من دون أن يجرؤ على كسرها وتجاوزها، أفرط القسم الأكبر من مريدي الكاتب الفلسطيني - الأميركي بالمبالغة في حمل استنتاجاته إلى أقصى ما يمكن أن تصل إليه خصوصاً بعدما أضفوا عليها أبعاداً عالمثالثية نضالية، وجوهرانية، لا تمت بصلة إلى كل ما يمكن أن يوضع في خانة الفكر النقدي.
هؤلاء التلاميذ وجدوا أنفسهم في مواجهة الثورات العربية التي تشكل تحدياً سياسياً واجتماعياً لناحية استعصاء تصنيفها ووضعها في الخانات المعدّة مسبقاً للثورات وحركات التغيير، إضافة إلى الصعوبات الجدية في استشراف المآلات التي ستؤول إليها هذه الحركة التاريخية العربية. انقسم تلامذة المدرسة السعيدية إلى فرقتين كبيرتين. ساندت الأولى الثورات العربية محتفظة بتأييدها للمقاومة والممانعة في وجه إسرائيل وبالعداء للولايات المتحدة والغرب (كظواهر مطلقة غير قابلة للتبدل بتبدل موضوع الخلاف، أي السلطة في العالم العربي)، وبالرهان على قيام الأنظمة العربية التي بدأت تتشكل في تونس ومصر، ولاحقاً في سورية واليمن وليبيا، بإنجاز المهمة القومية العربية بحسم الصراع ضد إسرائيل. وجليٌ أن رؤية كهذه تتجاهل احتلال الأسباب الداخلية المكان الأول في لائحة الأسباب التي حملت الشبان العرب على النزول إلى الشوارع والسعي إلى إسقاط الأنظمة الحاكمة.
المجموعة الثانية، تركز في كتاباتها على علاقات الولايات المتحدة بالثورات العربية ولا تلبث أن تصل إلى استنتاج لا ينقصه العرج وهو أن واشنطن تستكمل غزو العراق على طريقة حصان طروادة، بإشعال الثورات العربية.
ربما استطاع إدوارد سعيد أن يتجاوز هزال أفكار مريديه وكاريكاتوريتهم، لو قيد له أن يرى الثورات العربية. ولكن لعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن الثنائية التي نظر سعيد بواسطتها إلى العالم، قد تجاوزتها الثورات قبل أن تبدأ.
تصلح الثورات العربية مدخلاً لعملية تقديم وإعادة نظر في الكثير من الأفكار والأحكام التي هيمنت على الثقافة والفكر السياسيين العربيين في العقود الممتدة منذ هزيمة 1967 إلى اليوم.
صدمت تلك الحرب، على ما تقول السردية التي انتشرت بعدها، الوعي العربي الذي أدخلته الأيديولوجيا القومية العربية «الرسمية» حالاً سكونية حالت دون رؤيته الأبعاد الحقيقية للصراع مع إسرائيل وتشعب الصلات التي تقيمها هذه مع الغرب وارتقاءها جزءاً عضوياً من مصالحه وآليات الدفاع عنها. وبعدما كان «الاستعمار» هو الاسم المعتمد في وصف السياسات الأميركية والأوروبية في الشرق الأوسط، حلت كلمة «الإمبريالية» التي جاءت إلى الأدبيات السياسية العربية بجهود مثقفي اليسار الذين لاحظوا أن فارقاً شاسعاً بات يفصل بين الاستعمار بالصورة التي جاء فيها إلى المنطقة في القرن التاسع عشر ومطالع العشرين كعملية نهب مباشر لثروات البلدان المحتلة، وبين ما تنطوي عليه الإمبريالية من مكونات اقتصادية وسياسية تهدف إلى الاستتباع والإلحاق وصولاً إلى تغيير المفاهيم الثقافية والاجتماعية.
ربما كان إدوارد سعيد هو من خطف الأضواء في نقده علاقاتِ الشرق والغرب، في الجانب الثقافي خصوصاً في عدد من الكتب التي نالت شهرة واسعة خصوصاً «الاستشراق» و «الثقافة والإمبريالية». أصبح سعيد الصوت الأعلى في الدوائر الأكاديمية الأميركية (وبدرجة أقل الأوروبية)، المنافح عما يراه مصالح شعوب المنطقة العربية وفي مقدمها الشعب الفلسطيني. بيد أن سعيد وقع في عدد من المآزق. وبصرف النظر عن جملة من الأخطاء المعرفية الكبيرة (التي ناقشنا بعضها في مكان آخر)، انزلق سعيد إلى «جوهرانية ثقافوية» تقسم العالم إلى شرق مُضطَهَد يحمل القيم الروحية الراقية، وغرب مضطَهِد تسيّره شهوته إلى المادة والثروة والغزو. اعتقد البعض من تلامذة الرجل أن إدوارد سعيد إنما يساهم في الفكر اليساري التقدمي. وذهبوا إلى تكريسه بطريركاً يسارياً وهو ما لم يزعمه سعيد طوال حياته.
كان إدوارد سعيد أستاذاً للأدب المقارن معدوم الصلة تقريباً بمجالات العلوم الاجتماعية والاقتصاد السياسي التي تشكل الساحات الحقيقية للآراء اليسارية. مقاربته الثقافية للصراعات الكبرى قادته إلى تجاوزات غير بسيطة للدقة التاريخية وللبحث الموضوعي وجعلته منحازاً إلى رؤية غير نقدية لتاريخ العرب وعلاقتهم بالعالم، على قلة ما كان يعرف من تاريخ قديم ومعاصر للشرق الأوسط. هذه الرؤى يمكن العثور على مثيلاتها عند كتّاب عرب تناولوا صلات الشرق والغرب بأدوات معرفية أكثر تواضعاً من تلك التي استخدمها سعيد، كالصادق النيهوم، على سبيل المثال.
لكن سعيد كان، قبل ذلك وبعده، يتمتع بقدر لا يستهان به من الذكاء والقدرة على تعديل الموقع الذي يقف فيه. وتبرز من بين أسطر كتاباته الأخيرة محاولات لتدارك الزلل الذي وقع فيه في «الاستشراق» خصوصاً، من دون أن ينسى تغليف ذلك بعدد وفير من المبررات، ليعود في المقال الطويل الذي كتبه لمجلة «ذي نايشن» الأميركية بعنوان «صدام الجهل» بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 الإرهابية، إلى فكرته الأصلية عن الانقسام العمودي للعالم، وإن بدا كمن ينقد تصور صامويل هانتنغتون عن صدام الحضارات الذي ينبع من فكرة لا تختلف كثيراً، في العمق، عن مصادر أفكار سعيد الذي يرى متوازيات في دوافع الحركات الدينية، بين أسامة بن لادن وحركة «الفرع الداوودي»، على سبيل المثال، تؤسس لـ «صدام الجهل» بين المتطرفين... إلخ. وهو المنهج ذاته الذي اتبعه تلميذه حميد دباشي في محاولته ردم الهوة بين سعيد وبين المستشرق المجري البارز غولدتسيهر، الذي رفعه دباشي إلى مستوى قريب من القداسة ثم انتهى بالقول إن سعيد محق في وضعه كل المستشرقين في خانة العمالة للمشروع الكولونيالي الغربي (بحسب المقدمة التي وضعها دباشي للجزء الأول من كتاب غولدتسيهر الشهير «دراسات في الاسلام»).
أتقن إدوارد سعيد السير في دوائر، فيما كان يبدو من بعيد لمن لا يدقق في عمل الرجل أنه يبتكر مفاهيم وآراء جديدة في نظرته التبخيسية للغرب ولسياسته وعلمه. وأسست الدوائر التي أمضى الباحث يسير فيها لموقف عام وعريض بات في صلب المواقف التي يمكن وصفها، براحة ضمير، بأنها رجعية وشديدة المحافظة في شأن علاقة العالمين العربي والإسلامي بالغرب وبالإشكاليات المعاصرة.
ويمكن القول إن سعيد وفّق في نشر آرائه وأفكاره. لكن ما لم يوفق به هو مجموعة تلامذته ومريديه أو من يقولون عن أنفسهم أنهم كذلك. وباستثناء حفنة قليلة من التلامذة اللامعين، كدباشي الذي أدرك أوجه القصور في فكر سعيد من دون أن يجرؤ على كسرها وتجاوزها، أفرط القسم الأكبر من مريدي الكاتب الفلسطيني - الأميركي بالمبالغة في حمل استنتاجاته إلى أقصى ما يمكن أن تصل إليه خصوصاً بعدما أضفوا عليها أبعاداً عالمثالثية نضالية، وجوهرانية، لا تمت بصلة إلى كل ما يمكن أن يوضع في خانة الفكر النقدي.
هؤلاء التلاميذ وجدوا أنفسهم في مواجهة الثورات العربية التي تشكل تحدياً سياسياً واجتماعياً لناحية استعصاء تصنيفها ووضعها في الخانات المعدّة مسبقاً للثورات وحركات التغيير، إضافة إلى الصعوبات الجدية في استشراف المآلات التي ستؤول إليها هذه الحركة التاريخية العربية. انقسم تلامذة المدرسة السعيدية إلى فرقتين كبيرتين. ساندت الأولى الثورات العربية محتفظة بتأييدها للمقاومة والممانعة في وجه إسرائيل وبالعداء للولايات المتحدة والغرب (كظواهر مطلقة غير قابلة للتبدل بتبدل موضوع الخلاف، أي السلطة في العالم العربي)، وبالرهان على قيام الأنظمة العربية التي بدأت تتشكل في تونس ومصر، ولاحقاً في سورية واليمن وليبيا، بإنجاز المهمة القومية العربية بحسم الصراع ضد إسرائيل. وجليٌ أن رؤية كهذه تتجاهل احتلال الأسباب الداخلية المكان الأول في لائحة الأسباب التي حملت الشبان العرب على النزول إلى الشوارع والسعي إلى إسقاط الأنظمة الحاكمة.
المجموعة الثانية، تركز في كتاباتها على علاقات الولايات المتحدة بالثورات العربية ولا تلبث أن تصل إلى استنتاج لا ينقصه العرج وهو أن واشنطن تستكمل غزو العراق على طريقة حصان طروادة، بإشعال الثورات العربية.
ربما استطاع إدوارد سعيد أن يتجاوز هزال أفكار مريديه وكاريكاتوريتهم، لو قيد له أن يرى الثورات العربية. ولكن لعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن الثنائية التي نظر سعيد بواسطتها إلى العالم، قد تجاوزتها الثورات قبل أن تبدأ.
«الموت ولا المذلة» طريق انتصار
محمد علي الأتاسي
في منتصف شباط (فبراير) 2011، قبل أسابيع من اندلاع الثورة السورية، تعرض شاب في مقتبل العمر لصفعة من شرطي في حي الحريقة التجاري في العاصمة السورية، وما هي إلا دقائق معدودات حتى تجمع مئات الشبان، في ظاهرة غير مسبوقة في ذلك الوقت، وراحوا يهتفون بصوت واحد «الشعب السوري ما بينذل». وقتها لم يكن محمد البوعزيزي هو الحاضر في الأذهان فقط، بل ثِقَلُ عقود طويلة من الذل والقهر جاثمة على كاهل الشعب السوري. هذا الشعار العفوي الذي انطلق من قلب دمشق التجاري، أصبح في غضون أسابيع قليلة احد أهم شعارات الشارع السوري، وشكَّل في مضمونه أحدَ أهم مفاتيح فهْم الأسباب التي فجرت الثورة السورية وجعلتها تلاقي كل هذا الصدى والاتساع.
يمكن القول إن هذه الثورة هي أولاً وقبل كل شيء، ثورة الكرامة في مواجهة عقود طويلة من الاستبداد أمعنت فيها الدولة الأمنية باستباحة الإنسان السوري وتجريده من أي حقوق أو وسائل حماية مشروعة في مواجهة آلة القتل والهوان الكلية القدرة والمطلقة الصلاحيات.
من هنا، لم يكن مفاجئاً عندما بدأ مسلسل القتل والسحل في درعا، أن يتجذر هذا الشعار ويتحول، بالفعل لا بالقول فقط، إلى تلك الصرخة الدرعاوية القصوى «الموت ولا المذلة»، التي باتت السلاح السلمي الأمضى للشباب في مواجهة الدبابات والرصاص القاتل.
يُروى أن الرئيس السوري شكري القوتلي، غداةَ التوقيع على اتفاقية الوحدة الاندماجية بين مصر وسورية في 1958، بادر الرئيسَ جمال عبد الناصر بالقول: «أنت لا تعرف ماذا أخذتَ يا سيادة الرئيس! أنت أخذتَ شعباً يعتقد كل من فيه أنه سياسي، ويعتقد 50 في المئة من ناسه أنهم زعماء، و25 في المئة أنهم أنبياء، وهناك عشرة في المئة على الأقل يعتقدون أنهم آلهة».
التراجيدي في هذه المرويّة، أن اتفاقية الوحدة، وبمعزل عن موقفنا من الوحدة ذاتها، كانت البداية التأسيسية لمسلسل وأد السياسة داخل المجتمع، وكسر شوكة هذا الشعب العظيم، كونها أدخلت البلاد في أوحال الدولة الأمنية، التي ستؤدي بها رويداً رويداً، بدءاً من تسلمّ البعث السلطة وصولاً إلى الحركة التصحيحية، إلى تدشين عصر «السادة والعبيد»، عصر النخبة المقدسة والرعية المدنسة، عصر «القائد إلى الأبد» و «سورية الأسد».
إن ما نراه اليوم من انتهاكات مقززة لكرامات الناس واستباحة لأجسادهم وسفك لدمائهم، ما هو إلا تتويج لممارسات دأبت السلطة عليها منذ الثمانينات، وجعلت منها طبيعة ثانية لها، وأمعنت فيها خلف الأبواب المغلقة للسجون والمعتقلات. إلاّ أن اندلاع الثورة السورية واتساع رقعة الاحتجاجات الشعبية وحضور كاميرات الهواتف الخليوية في كل مكان، جعلت الشوارع معسكر اعتقال كبيراً تمارس فيه شتى أعمال القتل والتنكيل، وأتاحت للعالم أن يرى بأم عينه ليس فقط كيف يداس السوريون كل يوم بالبسطار العسكري من قرية البيضا إلى حوران، ولكن كيف تنبعث كرامتهم من جديد من تحت نعل هذا البسطار وبرغم أنف منتعله.
قد يسأل سائل، كيف يسود منطق البسطار في تعامل السلطة مع شعبها في مثل هذه اللحظات الحرجة؟ ولماذا تغيب السياسة، بما هي فن الممكن وبما تعنيه من أخذ وعطاء؟
والجواب يبدو بسيطاً على فداحته، فمثل هذه السلطة يمكن لها في الظروف العادية أن تجنح إلى السياسة في تعاملها مع الناس وفي إدارة شؤون البلاد، أما عندما يصل الأمر إلى مساءلةِ بُنْيَة السلطة نفسها، وإلى طرح مبدأ تداول السلطة ومحاسبتها، فمنطق البسطار العسكري هو الذي يسود، أو بالأحرى، منطق اللامنطق هو الذي يطغى، وإلا فكيف نفسر الكم الهائل من الفرص الضائعة التي لم تعرف السلطة السورية كيف تستثمرها في الوقت المناسب! وكيف نفهم عجزها عن الاستفادة من هامش المناورة الواسع الذي كان متاحاً أمامها في الأيام الأولى للثورة.
الواقع يدل على أن هناك في الدوائر الضيقة لمراكز صنع القرار مَن لا يزال يعتقد أن الدولة، بما تضمه من بلاد وعباد، هي بمثابة ممتلكات شخصية وحق متوارث، بالتالي من المستحيل الدخول في أي مسار يمكن له أن يؤدي في النهاية إلى تقاسم السلطة، حتى لا نقول تداولها. ويستند هذا الاعتقاد في جزء منه، إلى أسلوب عصابي في التنشئة قائم على مسلَّمة «تأمر فتطاع»، وعلى حاشية لا تتقن سوى التطبيل لشخوص السلطة، وعلى قناعة راسخة بأن ما لا تحسمه القوة سيحسمه استخدام المزيد منها. من هنا، لا يبقى أمام هذه الحلقة الضيقة المتمسكة بالسلطة سوى الهروب إلى أمام بتطبيق سياسة «فرِّقْ تَسُدْ»، ومحاولة بث الفوضى والتفرقة والاقتتال الأهلي.
في المقابل، ومن أتون هذا الصراع الدامي، وفي مواجهة إستراتيجية الحرائق وزرع الفتنة التي تتبعها السلطة، يبزغ جيل جديد يملك وعياً سياسياً سلمياً بامتياز، ينشد الحرية والكرامة، وتتولد منه قيم مغايرة عمادها الشجاعة والتضحية ونكران الذات، وتتبلور عبره هوية وطنية سورية جامعة تؤمن بالتنوع وتحترم الاختلاف.
خصوصية الحالة السورية لا تأتي من نشر السلطة للجيش في شوارع المدن والقرى، واستخدامها للمدافع والرشاشات الثقيلة والرصاص المتفجر في مواجهة المظاهرات. كما لا تأتي من إرسال فرق الموت والشبيحة لخطف الناشطين وقتلهم، ولا من ملء السجون ومراكز التحقيق بالمعتقلات والمعتقلين. خصوصية الحالة السورية تأتي من قدرة الناس، وبعد خمسة أشهر من استباحة المجتمع بمثل هذه الانتهاكات الخطيرة، على الاحتفاظ بالمجمل بسلمية تحركهم وعدم الانزلاق إلى لعبة السلطة الباحثة بأي طريقة عن جرِّهم إلى النزاع المسلح. أما ما تعجز السلطة عن إدراكه حتى يومنا، فهو أن الدبابات والمدافع والرشاشات الثقيلة يمكن لها أن تبيد الفرق والعصابات المسلحة، هذا إن وجدت، لكن ما لا يمكن لها أن تنجح فيه، خصوصاً في عصر الإنترنت واليوتيوب، هو أن تنتصر على شعب أعزل خرج مطالباً بكرامته وحريته بعد أن صبر عقوداً طويلة على الذل والهوان. من هنا، فمآل هذا الصراع بات واضحاً وجلياً لكل ذي بصيرة، وكل ما عداه مسألة وقت يمر وأثمان تدفع وإرادات تتصارع، وفي هذه النقاط الثلاث، لن تكون الغلبة إلا للشعب السوري.
إن من ينادي «الموت ولا المذلة» في مواجهة الدبابات، لا يمكن إلا أن يكون النصر حليفَه، لأن هذا النداء لا يأتي حباً بالموت بل إصراراً على أن تكون الحياة صنواً للكرامة.
في منتصف شباط (فبراير) 2011، قبل أسابيع من اندلاع الثورة السورية، تعرض شاب في مقتبل العمر لصفعة من شرطي في حي الحريقة التجاري في العاصمة السورية، وما هي إلا دقائق معدودات حتى تجمع مئات الشبان، في ظاهرة غير مسبوقة في ذلك الوقت، وراحوا يهتفون بصوت واحد «الشعب السوري ما بينذل». وقتها لم يكن محمد البوعزيزي هو الحاضر في الأذهان فقط، بل ثِقَلُ عقود طويلة من الذل والقهر جاثمة على كاهل الشعب السوري. هذا الشعار العفوي الذي انطلق من قلب دمشق التجاري، أصبح في غضون أسابيع قليلة احد أهم شعارات الشارع السوري، وشكَّل في مضمونه أحدَ أهم مفاتيح فهْم الأسباب التي فجرت الثورة السورية وجعلتها تلاقي كل هذا الصدى والاتساع.
يمكن القول إن هذه الثورة هي أولاً وقبل كل شيء، ثورة الكرامة في مواجهة عقود طويلة من الاستبداد أمعنت فيها الدولة الأمنية باستباحة الإنسان السوري وتجريده من أي حقوق أو وسائل حماية مشروعة في مواجهة آلة القتل والهوان الكلية القدرة والمطلقة الصلاحيات.
من هنا، لم يكن مفاجئاً عندما بدأ مسلسل القتل والسحل في درعا، أن يتجذر هذا الشعار ويتحول، بالفعل لا بالقول فقط، إلى تلك الصرخة الدرعاوية القصوى «الموت ولا المذلة»، التي باتت السلاح السلمي الأمضى للشباب في مواجهة الدبابات والرصاص القاتل.
يُروى أن الرئيس السوري شكري القوتلي، غداةَ التوقيع على اتفاقية الوحدة الاندماجية بين مصر وسورية في 1958، بادر الرئيسَ جمال عبد الناصر بالقول: «أنت لا تعرف ماذا أخذتَ يا سيادة الرئيس! أنت أخذتَ شعباً يعتقد كل من فيه أنه سياسي، ويعتقد 50 في المئة من ناسه أنهم زعماء، و25 في المئة أنهم أنبياء، وهناك عشرة في المئة على الأقل يعتقدون أنهم آلهة».
التراجيدي في هذه المرويّة، أن اتفاقية الوحدة، وبمعزل عن موقفنا من الوحدة ذاتها، كانت البداية التأسيسية لمسلسل وأد السياسة داخل المجتمع، وكسر شوكة هذا الشعب العظيم، كونها أدخلت البلاد في أوحال الدولة الأمنية، التي ستؤدي بها رويداً رويداً، بدءاً من تسلمّ البعث السلطة وصولاً إلى الحركة التصحيحية، إلى تدشين عصر «السادة والعبيد»، عصر النخبة المقدسة والرعية المدنسة، عصر «القائد إلى الأبد» و «سورية الأسد».
إن ما نراه اليوم من انتهاكات مقززة لكرامات الناس واستباحة لأجسادهم وسفك لدمائهم، ما هو إلا تتويج لممارسات دأبت السلطة عليها منذ الثمانينات، وجعلت منها طبيعة ثانية لها، وأمعنت فيها خلف الأبواب المغلقة للسجون والمعتقلات. إلاّ أن اندلاع الثورة السورية واتساع رقعة الاحتجاجات الشعبية وحضور كاميرات الهواتف الخليوية في كل مكان، جعلت الشوارع معسكر اعتقال كبيراً تمارس فيه شتى أعمال القتل والتنكيل، وأتاحت للعالم أن يرى بأم عينه ليس فقط كيف يداس السوريون كل يوم بالبسطار العسكري من قرية البيضا إلى حوران، ولكن كيف تنبعث كرامتهم من جديد من تحت نعل هذا البسطار وبرغم أنف منتعله.
قد يسأل سائل، كيف يسود منطق البسطار في تعامل السلطة مع شعبها في مثل هذه اللحظات الحرجة؟ ولماذا تغيب السياسة، بما هي فن الممكن وبما تعنيه من أخذ وعطاء؟
والجواب يبدو بسيطاً على فداحته، فمثل هذه السلطة يمكن لها في الظروف العادية أن تجنح إلى السياسة في تعاملها مع الناس وفي إدارة شؤون البلاد، أما عندما يصل الأمر إلى مساءلةِ بُنْيَة السلطة نفسها، وإلى طرح مبدأ تداول السلطة ومحاسبتها، فمنطق البسطار العسكري هو الذي يسود، أو بالأحرى، منطق اللامنطق هو الذي يطغى، وإلا فكيف نفسر الكم الهائل من الفرص الضائعة التي لم تعرف السلطة السورية كيف تستثمرها في الوقت المناسب! وكيف نفهم عجزها عن الاستفادة من هامش المناورة الواسع الذي كان متاحاً أمامها في الأيام الأولى للثورة.
الواقع يدل على أن هناك في الدوائر الضيقة لمراكز صنع القرار مَن لا يزال يعتقد أن الدولة، بما تضمه من بلاد وعباد، هي بمثابة ممتلكات شخصية وحق متوارث، بالتالي من المستحيل الدخول في أي مسار يمكن له أن يؤدي في النهاية إلى تقاسم السلطة، حتى لا نقول تداولها. ويستند هذا الاعتقاد في جزء منه، إلى أسلوب عصابي في التنشئة قائم على مسلَّمة «تأمر فتطاع»، وعلى حاشية لا تتقن سوى التطبيل لشخوص السلطة، وعلى قناعة راسخة بأن ما لا تحسمه القوة سيحسمه استخدام المزيد منها. من هنا، لا يبقى أمام هذه الحلقة الضيقة المتمسكة بالسلطة سوى الهروب إلى أمام بتطبيق سياسة «فرِّقْ تَسُدْ»، ومحاولة بث الفوضى والتفرقة والاقتتال الأهلي.
في المقابل، ومن أتون هذا الصراع الدامي، وفي مواجهة إستراتيجية الحرائق وزرع الفتنة التي تتبعها السلطة، يبزغ جيل جديد يملك وعياً سياسياً سلمياً بامتياز، ينشد الحرية والكرامة، وتتولد منه قيم مغايرة عمادها الشجاعة والتضحية ونكران الذات، وتتبلور عبره هوية وطنية سورية جامعة تؤمن بالتنوع وتحترم الاختلاف.
خصوصية الحالة السورية لا تأتي من نشر السلطة للجيش في شوارع المدن والقرى، واستخدامها للمدافع والرشاشات الثقيلة والرصاص المتفجر في مواجهة المظاهرات. كما لا تأتي من إرسال فرق الموت والشبيحة لخطف الناشطين وقتلهم، ولا من ملء السجون ومراكز التحقيق بالمعتقلات والمعتقلين. خصوصية الحالة السورية تأتي من قدرة الناس، وبعد خمسة أشهر من استباحة المجتمع بمثل هذه الانتهاكات الخطيرة، على الاحتفاظ بالمجمل بسلمية تحركهم وعدم الانزلاق إلى لعبة السلطة الباحثة بأي طريقة عن جرِّهم إلى النزاع المسلح. أما ما تعجز السلطة عن إدراكه حتى يومنا، فهو أن الدبابات والمدافع والرشاشات الثقيلة يمكن لها أن تبيد الفرق والعصابات المسلحة، هذا إن وجدت، لكن ما لا يمكن لها أن تنجح فيه، خصوصاً في عصر الإنترنت واليوتيوب، هو أن تنتصر على شعب أعزل خرج مطالباً بكرامته وحريته بعد أن صبر عقوداً طويلة على الذل والهوان. من هنا، فمآل هذا الصراع بات واضحاً وجلياً لكل ذي بصيرة، وكل ما عداه مسألة وقت يمر وأثمان تدفع وإرادات تتصارع، وفي هذه النقاط الثلاث، لن تكون الغلبة إلا للشعب السوري.
إن من ينادي «الموت ولا المذلة» في مواجهة الدبابات، لا يمكن إلا أن يكون النصر حليفَه، لأن هذا النداء لا يأتي حباً بالموت بل إصراراً على أن تكون الحياة صنواً للكرامة.
تحولات في نظرة النخب السورية إلى لبنان
شمس الدين الكيلاني
لم يكن بمقدور المثقف السوري أن يتنبأ بمدى التبدل الذي سيصيب الجغرافية السياسية لبلاد الشام بعد الحرب الكونية الأولى، انجذب هذا المثقف للجمعيات العربية وانشد إلى ثورة الشريف حسين، كان يأمل على الأقل بدولة تضم بلاد الشام، أو بلاد آسيا العربية تحت راية الهاشميين. منذ تأسيس الكيانات: عندما ألَّف فيصل حكومته الأولى، ضمت في صفوفها رياض الصلح اللبناني وزيراً للداخلية، إلى جانب ذلك أجمعت أحزاب العهد الفيصلي في سورية على رفع شعار وحدة "سورية الطبيعية"، وحافظت حتى نهاية الثلاثينيات على هذا الهدف، دون إغفالها الهدف الأبعد: الوحدة العربية. ينطبق الأمر نفسه على الكتلة الوطنية، التي تأسست بعد الثورة السورية الكبرى، وانضم إليها الكثير من شخصيات حزب الشعب والاستقلال، والوطني السوري. عقدت شخصياتها مؤتمراً لها في بيروت في 27 تشرين الأول 1927م، برئاسة هاشم الأتاسي، حضره من الجانب اللبناني كلاً من عبد الحميد كرامي، وعبد الله اليافي، وعبد الرحمن بيهم، ومظهر أرسلان قرر فيه المؤتمرون خوض الانتخابات المزمع إجراؤها لانتخاب جمعية تأسيسية باسم الكتلة الوطنية في تموز عام 1928م، وعند فوزها بأكثرية مقاعد الجمعية التأسيسية صاغت دستوراً نص على وحدة البلاد السورية، فحذف منه الفرنسيون ست مواد بداعي تعارضها مع أوضاع قامت في لبنان وفلسطين وشرقي الأردن. لكن نتيجة لما أفرزه الانتداب من وقائع، وانخراط النخب السياسية المدنية ممثلة بـ"حزب الكتلة الوطنية" في عمليات التفاوض للوصول إلى معاهدة تعاقدية، انصرفت النخب النافذة في سورية للبحث عن أقصر السبيل لنيل الاستقلال، مع اقترانه بشعار الوحدة العربية، دون المرور بوحدة سورية الطبيعية، أو بالوحدة بلبنان. أما المثقف القومي الراديكالي، أو المثقف الإسلامي التقليدي والإصلاحي، فقد حافظ على نظريته إنكاره للحدود القائمة باعتبارها زائلة بزوال الاحتلال، فبرز في الثلاثينيات وبداية الأربعينيات، مثقفون قوميون راديكاليون، أبرزوا قضية الوحدة العربية في مقدمة عملهم. فظهرت (عصبة العمل القومي)، في 1933م، خرجت ببرنامج قومي راديكالي، كان بمثابة التربة التي استقت منها الأحزاب القومية (القوميين العرب، والبعث) بعض توجهاتها، شدَّد برنامج العصبة على تأليف دولة العرب الكبرى دون احترام للتنوعات والخصوصيات القطرية والثقافية والمذهبية. وفي بداية الأربعينيات، على إثر التصدعات التي أصابت (العصبة)، ظهرت النواة المؤسسة لحزب البعث، الذي دمج بين مسألتي الوحدة والاشتراكية، والطريقة الانقلابية للوصول إلى بعث الأمة عبر استعادة وحدتها، ثم ظهرت حركة القوميين العرب في مناخ النكبة بنواتها الفلسطينية - السورية الصلبة، وضعت الوحدة العربية في سلم أولوياتها، وإلى جوار هذا التوجه اختار جماعة (الحزب السوري القومي الاجتماعي، الذي تأسس في 16 تشرين الثاني 1932م) وحدة سورية الطبيعية. فتضاءل في برامج تلك الأحزاب العقائدية الاهتمام الملموس والبرامجي، بمصير العلاقة اللبنانية - السورية، بعد أن وضعوا تلك العلاقة في سياق رابطة أشمل: الوحدة العربية، أو وحدة البلاد الشامية. وبموازاة ذلك، اتجهت النخب النافذة المعبر عنها بالكتلة الوطنية، إلى الإفلات من البحث الشائك عن المصير المشترك: اللبناني السوري، لمصلحة التعاضد بين البلدين للوصول إلى معاهدات منفردة لنيل الاستقلال، واكتفت بالطرح النظري لمسألة الوحدة العربية. الانتقال من التكامل إلى التباعد: عندما دخلت جيوش فرنسا إلى لبنان، كان يربط المشرق العربي نوع من وحدة اقتصادية، تشمل متصرفية جبل لبنان، فأبقت السلطات الفرنسية الوضع الاقتصادي على ما كان عليه، وكرَّست التعامل بالليرة السورية في البلدين، وأبقت دائرة الجمارك واحدة، والتشريع الجمركي والاقتصادي واحد. لكن ما أبقاه الانتداب من وحدة اقتصادية بين البلدين، فرقته نخب الطبقة الوسطى الليبرالية، منذ إمساكها مقاليد الأمور بعد الاستقلال، فعندما التقى ممثلو الحكومتين: الجانب السوري (سعد الله الجابري وجميل مروم)، واللبناني (رياض الصلح)، في عام 1943م، قرَّروا فصل سائر المصالح التي كانت موحدة تحت الإدارة الفرنسية، وعقدوا بدلاً من ذلك الوحدة الجمركية، ثم تولى خالد العظم إلغاء هذه الوحدة الجمركية، في آذار 1951م. بموازاة هذا الانتقال إلى التباعد الاقتصادي، جرى انتقال مماثل على الصعيد السياسي، فقد تماثلت مدوناتهما التاريخية السياسية، فمن ثورة العشرينيات إلى معاهدة 36، إلى العهد الوطني 1943م، إلى الجلاء عام 1946م، ثم مع بداية العهد الوطني، انجذبت النخب الليبرالية السورية نحو المجال العربي دون المرور بالعلاقة اللبنانية. تجلى ذلك في برامج الأحزاب التي نشأت عن تفكك الكتلة الوطنية، اتجهت النخب السورية في أغلبها باتجاه المحيط العربي الأكبر، ونظرت إلى العلاقة مع لبنان على أنها مجرد جزء من العمل الوحدوي العربي الشامل. من تماثل الحياة السياسية إلى انقطاعها 1949م ـ 1954م: رغم اختلاف قواعد التوازنات الاجتماعية الكبرى في كلا البلدين، فإن مدونة حياتهما السياسية ظلَّت متماثلة: حريات عامة، سياسية وثقافية وصحافية في عالم برلماني مفتوح على الحوار والتنوع، وبقيت الصلات بين نخب البلدين، حاكمة ومحكومة منفتحة، فرياض الصلح وبشارة الخوري كانا يجددان دائماً ما يماثلهما، في دمشق وحلب، في المنبت والثقافة والميول مثل القوتلي والكيخيا مروراً بخالد العظم، وفارس الخوري .ما لبث الوضع أن انقلب برمته مع الإطلالة الأولى لحكم العسكر في ما بين 1949م ـ 1954م ، عندها حدث نوع من الانقطاع بين الحياة السياسية لكلا البلدين، دخلت سوريا حينها في حقبة حكم الثكنة للمدينة. ولكن في هذا العهد بدأت تزهو صورة لبنان وبيروت في نظر النخب السورية، ولا سيما المعارضة منها، إذ بدأ يُنظر إلى بيروت على أنها الملجأ من اضطهاد العسكر، وتزايدت قيمة الحرية البيروتية في كل انقلاب، والتجأ إلى بيروت وجوه كثيرة من المعارضة السورية عندما كان للديموقراطية قيمتها الكبرى في أذهان أغلب النخب السورية، قبل أن ينزلها الزمن التقدمي إلى أسفل سافلين! كل الدروب تمر بالقاهرة: تخلصت سوريا من حكمها العسكري عام 1954م، واستعادت حياتها الديموقراطية، في مناخ عربي جديد، افتتحته حركة 23 يوليو بقيادة ناصر، وفي عام 1956م خرج عبد الناصر من اختبار العدوان الثلاثي زعيماً بدون منازع للعرب، تحولت بعدها القاهرة إلى مركزٍ للعمل الوحدوي والقومي. فتجاذبت النخب السورية ما بين 1954 ـ 1958م خيارات عدة للوحدة العربية لم تمر أي منها في بيروت، كان هناك الخيار العراقي: حزب الشعب، وخيار الهلال الخصيب (مع الأردن)، إلى أن استقر الخيار الحاسم على مصر الناصرية، التي خاضت مع سوريا جنباً إلى جنب المعركة ضد الأحلاف، وفي غمار هذه المعمعة تقارب هذان المركزان، وإنقادا إلى وحدة1958. لقد استقطبت زعامة عبد الناصر أغلبية الشعب السوري، بما فيها قواعد أحزاب: الشعب والوطني والبعث، والإخوان والشيوعيين. وساندت هذا الخيار الكتل المختلفة في الجيش التي أثخنتها الانقلابات، والكتلة الشعبية الأساسية، وانحنى للعاصفة الشعبية قادة الأحزاب المختلفة، أما العلاقة مع لبنان فلم تعد سوى تفصيل ضئيل أمام الطريق إلى الوحدة العربية، وبالمقابل غلبت على القوى الوحدوية اللبنانية، والكتلة الإسلامية نزعة الولاء للقاهرة، وليس دمشق، وظل هذا الحال حتى وفاة عبد الناصر وتحول السادات. راقبت النخب القومية في سوريا تداعيات أحداث الوحدة، فشهدت حوادث 1958 في لبنان بتشجيع من السراج، غير أنها عقب دروس هذه الحوادث المؤلمة، أخذت موقفاً إيجابياً من الرئيس شهاب، ولم تعد تتوقع أن يكون لبنان رافداً إضافياً للوحدة، بل اتجهت أنظارها نحو العراق، بعد أن اندلعت حركة 14 تموز في العراق، إلا أن العراق أخذ وجهة أخرى تحت قيادة قاسم. وحدها النخب البرجوازية الليبرالية بعد أن تضررت من تأميمات 1961م، وجدت في لبنان متنفساً لها أمام ضيق سبل التعبير لديها، وحرية الاستثمار، أما الكتلة الشعبية الأساسية، فكان ولاؤها لعبد الناصر وللوحدة حاسماً، هانت دونها مسألة الحريات العامة، وهو ما يؤشر إلى بداية تضاؤل قيمة الديموقراطية في عيون النخب القومية السورية. وهنا ظهر بعض التباين في موقف البرجوازية اللبنانية الإسلامية عن زميلتها السورية من عبد الناصر، وزاد شعور النخب السورية بكل تلويناتها بتوطد الدولة اللبنانيةوالاعتراف العملي باستقلالها. أما في في فترة الانفصال 1961 -1963 فقد عادت النخب الليبرالية السورية، المألوفة لدى النخب الحاكمة في لبنان، إلى الحكم، وعادت الحياة البرلمانية والحريات العامة، في مناخ سياسي مضطرب متقلب مُهدَّداً من العسكر، ومن الحركة الناصرية الوازنة، أما العلاقة بلبنان فلم تكن (موضوعاً) للنقاش والاختلاف، في ظل هيمنة الجدل الصاخب حول العلاقة مع مصر عبد الناصر! صعود نخب جديدة مع انقطاع لغة التخاطب1963م ـ 1971م: تدهور حال النخب الليبرالية السورية، التي عرفتها النخبة اللبنانية واعتادت التعامل معها، وطال هذا التدهور للنخب قادة الحزب الوطني، وحزب الشعب، وإلى جوارهم الشيوعيون، لتأييدهم الانفصال، لم يسلم منه أبرز قادة البعث أكرم حوراني، وصلاح البيطار، وهذا ما أحدث فراغاً هائلاً في الزعامة، فبدأت دورة تجديد النخب فاجترح الشارع قيادات جديدة للتعبير عن توجهاته الناصرية الوحدوية، وتقدَّم الجيش في 8 آذار 1963م، للمشاركة في ملء ذلك الفراغ، وليعلن ميلاد مرحلة جديدة في تاريخ سوريا، وتاريخ علاقات نخبها الجديدة بملامحها الراديكالية المتجهمة بلبنان. سيطرت (الثقافة التقدمية) لتلك النخب بوجوهها المتصلبة، وجملها القاطعة ويقينها الثابت بطلائعيتها للأمة! ونظرت النخب المضطهدة إلى ديموقراطية بيروت كملجأ، في وقت ضاق الحاكمون بها ذرعاً، أما النخب البرجوازية الليبرالية فباتت ترى في بيروت حلمها الذي ضاع، أو ضيعته في دمشق، فأقامت فيها روحاً وأحياناً جسداً. وبقي البعث الممسك بالسلطة حذراً من المناخ الحر للجار اللبناني اللدود، لا يجد اللغة المشتركة التي يمكن أن يتحدث بها مع نخبه الحاكمة، فهي ليست عنده سوى برجوازية ليبرالية مرتبطة بالإمبريالية، وتميل في ظل هيمنة القاهرة على النظام العربي، إلى إعطاء الأرجحية لعبد الناصر، وهو المنافس الأخطر له، كما وجد الأبواب موصدة أمام علاقاته مع ما سُمِّي القوى الوطنية والإسلامية التي رأت في القاهرة المرجع للعروبة، من هنا ذهب الفرقاء اللبنانيون إلى عبد الناصر لتوقيع اتفاقية القاهرة وليس إلى دمشق. إلا أن خبرة الأيام علمت المثقف السوري، في صوره المختلفة، قيمة المتنفس الثقافي اللبناني الحر، حينما افتقد في بلده حرية التعبير، وضاقت أمامه مساحة النشر، التي تقلصت في بلده من عشرات الصحف والمجلات في أيام العز، إلى صحيفتين لهما صوت واحد، فسمع العرب عبر النافذة البيروتية صوت: الياس مرقص، وياسين الحافظ، وطرابيشي، ومطاع صفدي، وبرهان غليون، وغيرهم. التدخُّل في (الساحة اللبنانية): استلم الأسد السلطة عام1970، في ظروف مواتية، أزاح القيادة اليسراوية، فاستطاع جذب بعض (القوى التقدمية) إلى (الجبهة الوطنية التقدمية) تحت سقف قيادته، وخاض بالتنسيق مع القاهرة حرب تشرين 1973م، ووثّق علاقاته مع الاتحاد السوفياتي على قاعدة قبوله التسوية، ثم أتيح له ملء الفراغ الإقليمي، إثر غياب دور مصر في زمن السادات، وانشغال العراق في الحرب مع إيران، فتعاظمت علاقة السلطة السورية بالقوى اللبنانية والفلسطينية في (الساحة اللبنانية)، إلى أن احتلت موقع مصر الناصرية في لبنان. أما النخب السياسية القومية واليسارية السورية، فكانت تنظر إلى لبنان على ضوء ما يوفره من مناخ مساعد لنهوض العمل الفدائي ضد العدو الصهيوني. لهذا فقد استقبلت هذه النخب والأغلبية الشعبية بالسلبية والمرارة، دخول الجيش السوري إلى لبنان، عندما بدا لها أن هذا التدخل يساند (للجبهة اللبنانية)، لضرب المقاومة الفلسطينية، ولـ(لحركة الوطنية اللبنانية). فكان لهذا الحدث وقعه الكبير على السوريين انتهت به مرحلة التوافق الوطني النسبي الممتدة منذ عام 1970م، انقسمت بدلالاته البلاد، وقفت السلطة وحلفاؤها في (الجبهة الوطنية التقدمية)، في طرف والأكثرية الشعبية في موقع مغاير. وقد عبر المثقفون السوريون آنئذ في بيان لهم عن احتجاجهم على هذا التدخل، كما أصدر الحزب الشيوعي - المكتب السياسي، وحزب الاتحاد الاشتراكي العربي (د. جمال الأتاسي) موقفاً معارضا لهذا التدخل، لأنه لا يخدم القضية العربية، ولا النضال الفلسطيني، ولن يعزز وحدة اللبنانيين. أما عن تأثير ذلك على النظام الديموقراطي واستقلال لبنان، فلم يكونا سوى فرع صغير من اهتمام هذه النخبة. وحده ياسين الحافظ ومعه قلة من المثقفين السوريين، أدرك مسؤولية ما يسميه الانقسامات الاجتماعية العمودية في إثارة الحرب الأهلية اللبنانية، وأدرك حجم الخسارة التي تصيب الحياة العربية، إن فقدت نافذة الحرية في بيروت، وعبر عن شعوره هذا بقوله: "أحسست وأنا ذو الهوى القومي العربي، أنه ليس وطني فقط الذي يحترق، بل بيتي أيضاً، وأن كثيرة هي الأسباب الأصلية والمباشرة التي دفعت إلى إحراق لبنان، لكن يُخيل إلي أنه لقي هذا المصير لأنه نافذة للديموقراطية، مهما بدت مثلومة، جعلت من لبنان مختبراً فكرياً للوطن العربي، ومن بيروت عاصمته الثقافية والسياسية، وكانت تستهدفه بلا شك". أما الليبراليون السوريون الذين كاد ذكرهم أن ينطفئ، فلم يروا في ما يجري في لبنان، إلا تكراراً أكثر مأساوية، لما جرى في بلدهم سابقاً من عسكرة الحياة السياسية، وانطفاء السياسة كمشاركة حرة في الشأن العام، وفضل بعضهم، مثال خالد العظم، أن يدفن في لبنان، اعترافاً بالجميل للبلد الذي رقد فيه حتى نهاية العمر، في زمن خفت فيه صوت الحرية والقيم الديموقراطية. تحولات في النظرة: بقيت المشكلات التي طرحها الوجود السوري في لبنان في مرمى نظر النخب السياسية السوري، مع حدوث تحولات في مواقفها إثر انحيازها للديموقراطية، فإن الجماعات التي عبرت عن نفسها تحت لافتة (التجمع الوطني الديموقراطي) وضمت ناصريين وماركسيين، أعلنت عن برنامج ديموقراطي عام 1980م، يقوم على اعتماد أسس النظام الديموقراطي البرلماني في بلدهم، وأعربت عن عدم رضاها على طريقة تعاطي السلطات السورية في الشأن اللبناني، حيث رأوا أنها لعبت على التوازنات الاجتماعية والطائفية لتستديم الطلب على بقائها من جهة، واعتمدت على الحلول الأمنية، فزادت من تمزق الاجتماع اللبناني، وأضعفت الحياة الديموقراطية فيه. وخلصت إلى قراءة جديدة للحرب اللبنانية، اعتبرت أن أهدافها الرئيسية ضرب نظامها الديموقراطي، الذي "كان أفضل حالاً من كل الإمبراطوريات العربية، وكان عليه بسبب ذلك أن يدفع الثمن غالياً، فالشكل اللبناني للديموقراطية أخاف الحكام العرب من أن تمتد جرثومته إلى أقطارهم وشعوبهم، وكان هذا أحد الأسباب التي دعتهم إلى أن يسوقوه ويسوقوا معه المقاومة الفلسطينية إلى محنة تدمير الذات". على الرغم مما واجه الحياة السياسية السورية حالة من الانطفاء، في ظل محنة الثمانينبات، فإن النخب السياسية السورية لم تكف عن التعبير عن وجهة نظرها تجاه ما يجري في لبنان، فعبرت عن ارتياحها لعودة دورة الحياة الطبيعية بعد مؤتمر الطائف، على طريق استرجاع لبنان عافيته وحياته الديموقراطية، والتعايش عبر إحياء مؤسساته السياسية الشرعية، رغم ما يشوب كل ذلك من نواقص، ولا سيما في ما يخص الحضور السوري الكثيف في الشأن اللبناني. ولم تعد تشكك هذه القوى لا في خطابها السياسي، ولا في شعورها في شرعية الكيان اللبناني، بينما امتلأ خطاب السلطة بالإشارات المتناقضة حول شرعية هذا الكيان. مع العهد الجديد: تجدد اهتمام النخب السورية المعارضة بالشأن اللبناني مع الانتعاش النسبي للحياة السياسية والثقافية السورية آنئذ في بداية العهد الجديد، يوجُّهها إدراك متزايد بتعاظم ترابط المسألة الديموقراطية في كلا البلدين. لكن آمال السوريين في الإصلاح الداخلي، وفي تصحيح العلاقة مع لبنان على قاعدة الاستقلال والاحترام المتبادلين، ما لبثت أن تبددت، مع استعادة هيمنة دورة الدولة الأمنية الأوامرية آلية عملها. في الداخل وفي العلاقة بلبنان، وبلغ هذا المنطق ذروة انفضاحه، بمناسبة التمديد للرئيس لحود. لهذا لم تتفاجأ المعارضة السورية بتعالي أصوات اللبنانيين المطالبة بالحرية وبخروج القوات السورية، على إثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري في شباط 2005، ولقد راقبت النخب السورية المعارضة بالإعجاب خروج اللبنانيين من رماد الألم بثورتهم المخملية نحو الحلم بالحرية، فكان لصرخة الحرية في بيروت صداها الطيب لديهم. وإذا كان المثقفون السوريون المعارضون لم يستطيعوا تغيير أداء السلطة تجاه لبنان، فإنهم نأوا بأنفسهم عنها، وأصدروا بياناً أعربوا فيه عن تأييدهم لمطالب اللبنانيين، ودعوا السلطة إلى سحب قواتها من لبنان، كما أصدرت المعارضة ممثلة بـ(التجمع الوطني الديموقراطي) بياناً إلى الشعب في 15 شباط. جاء فيه " إن تلك الجرائم ما كان لها أن تنجح لو أن العلاقات اللبنانية -السورية صحيحة، وصحِّية، مبنية على أساس الاحترام المتبادل والعلاقة المتكافئة, دون تدخل في الشؤون الداخلية، ثم دعا "إلى الاستجابة لإرادة الشعب اللبناني". بينما شجَّع أنصار السلطة على نشر نزعة شوفينية سورية في وجه اللبنانيين ناكري الجميل! وقد أطلق (التجمع الوطني) والعشرات من القوى والشخصيات في اكتوبر 2005 (إعلان دمشق)، دعوا فيه بشأن لبنان إلى "تصحيح العلاقة مع لبنان، لتقوم على أسس الحرية والاستقلال والسيادة والمصالح المشتركة بين الشعبين والدولتين". ولعل هذا التوجه شكَّل قاسماً مشتركاً للنخب السورية المعارضة، وقد عبَّر عن هذا التوجه المثقفون السوريون الذين وقعوا مع مثقفين لبنانيين على إعلان بيروت - دمشق لتصحيح العلاقة السورية اللبنانية، فكان جزاؤهم المعتقل! وقد أطلق الحراك الشعبي الراهن العديد من الشعارات التي تدعو لخلاص الشعبين، اللبناني والسوري من هيمنة النهج التسلطي الأوامري للسطة السورية.
لم يكن بمقدور المثقف السوري أن يتنبأ بمدى التبدل الذي سيصيب الجغرافية السياسية لبلاد الشام بعد الحرب الكونية الأولى، انجذب هذا المثقف للجمعيات العربية وانشد إلى ثورة الشريف حسين، كان يأمل على الأقل بدولة تضم بلاد الشام، أو بلاد آسيا العربية تحت راية الهاشميين. منذ تأسيس الكيانات: عندما ألَّف فيصل حكومته الأولى، ضمت في صفوفها رياض الصلح اللبناني وزيراً للداخلية، إلى جانب ذلك أجمعت أحزاب العهد الفيصلي في سورية على رفع شعار وحدة "سورية الطبيعية"، وحافظت حتى نهاية الثلاثينيات على هذا الهدف، دون إغفالها الهدف الأبعد: الوحدة العربية. ينطبق الأمر نفسه على الكتلة الوطنية، التي تأسست بعد الثورة السورية الكبرى، وانضم إليها الكثير من شخصيات حزب الشعب والاستقلال، والوطني السوري. عقدت شخصياتها مؤتمراً لها في بيروت في 27 تشرين الأول 1927م، برئاسة هاشم الأتاسي، حضره من الجانب اللبناني كلاً من عبد الحميد كرامي، وعبد الله اليافي، وعبد الرحمن بيهم، ومظهر أرسلان قرر فيه المؤتمرون خوض الانتخابات المزمع إجراؤها لانتخاب جمعية تأسيسية باسم الكتلة الوطنية في تموز عام 1928م، وعند فوزها بأكثرية مقاعد الجمعية التأسيسية صاغت دستوراً نص على وحدة البلاد السورية، فحذف منه الفرنسيون ست مواد بداعي تعارضها مع أوضاع قامت في لبنان وفلسطين وشرقي الأردن. لكن نتيجة لما أفرزه الانتداب من وقائع، وانخراط النخب السياسية المدنية ممثلة بـ"حزب الكتلة الوطنية" في عمليات التفاوض للوصول إلى معاهدة تعاقدية، انصرفت النخب النافذة في سورية للبحث عن أقصر السبيل لنيل الاستقلال، مع اقترانه بشعار الوحدة العربية، دون المرور بوحدة سورية الطبيعية، أو بالوحدة بلبنان. أما المثقف القومي الراديكالي، أو المثقف الإسلامي التقليدي والإصلاحي، فقد حافظ على نظريته إنكاره للحدود القائمة باعتبارها زائلة بزوال الاحتلال، فبرز في الثلاثينيات وبداية الأربعينيات، مثقفون قوميون راديكاليون، أبرزوا قضية الوحدة العربية في مقدمة عملهم. فظهرت (عصبة العمل القومي)، في 1933م، خرجت ببرنامج قومي راديكالي، كان بمثابة التربة التي استقت منها الأحزاب القومية (القوميين العرب، والبعث) بعض توجهاتها، شدَّد برنامج العصبة على تأليف دولة العرب الكبرى دون احترام للتنوعات والخصوصيات القطرية والثقافية والمذهبية. وفي بداية الأربعينيات، على إثر التصدعات التي أصابت (العصبة)، ظهرت النواة المؤسسة لحزب البعث، الذي دمج بين مسألتي الوحدة والاشتراكية، والطريقة الانقلابية للوصول إلى بعث الأمة عبر استعادة وحدتها، ثم ظهرت حركة القوميين العرب في مناخ النكبة بنواتها الفلسطينية - السورية الصلبة، وضعت الوحدة العربية في سلم أولوياتها، وإلى جوار هذا التوجه اختار جماعة (الحزب السوري القومي الاجتماعي، الذي تأسس في 16 تشرين الثاني 1932م) وحدة سورية الطبيعية. فتضاءل في برامج تلك الأحزاب العقائدية الاهتمام الملموس والبرامجي، بمصير العلاقة اللبنانية - السورية، بعد أن وضعوا تلك العلاقة في سياق رابطة أشمل: الوحدة العربية، أو وحدة البلاد الشامية. وبموازاة ذلك، اتجهت النخب النافذة المعبر عنها بالكتلة الوطنية، إلى الإفلات من البحث الشائك عن المصير المشترك: اللبناني السوري، لمصلحة التعاضد بين البلدين للوصول إلى معاهدات منفردة لنيل الاستقلال، واكتفت بالطرح النظري لمسألة الوحدة العربية. الانتقال من التكامل إلى التباعد: عندما دخلت جيوش فرنسا إلى لبنان، كان يربط المشرق العربي نوع من وحدة اقتصادية، تشمل متصرفية جبل لبنان، فأبقت السلطات الفرنسية الوضع الاقتصادي على ما كان عليه، وكرَّست التعامل بالليرة السورية في البلدين، وأبقت دائرة الجمارك واحدة، والتشريع الجمركي والاقتصادي واحد. لكن ما أبقاه الانتداب من وحدة اقتصادية بين البلدين، فرقته نخب الطبقة الوسطى الليبرالية، منذ إمساكها مقاليد الأمور بعد الاستقلال، فعندما التقى ممثلو الحكومتين: الجانب السوري (سعد الله الجابري وجميل مروم)، واللبناني (رياض الصلح)، في عام 1943م، قرَّروا فصل سائر المصالح التي كانت موحدة تحت الإدارة الفرنسية، وعقدوا بدلاً من ذلك الوحدة الجمركية، ثم تولى خالد العظم إلغاء هذه الوحدة الجمركية، في آذار 1951م. بموازاة هذا الانتقال إلى التباعد الاقتصادي، جرى انتقال مماثل على الصعيد السياسي، فقد تماثلت مدوناتهما التاريخية السياسية، فمن ثورة العشرينيات إلى معاهدة 36، إلى العهد الوطني 1943م، إلى الجلاء عام 1946م، ثم مع بداية العهد الوطني، انجذبت النخب الليبرالية السورية نحو المجال العربي دون المرور بالعلاقة اللبنانية. تجلى ذلك في برامج الأحزاب التي نشأت عن تفكك الكتلة الوطنية، اتجهت النخب السورية في أغلبها باتجاه المحيط العربي الأكبر، ونظرت إلى العلاقة مع لبنان على أنها مجرد جزء من العمل الوحدوي العربي الشامل. من تماثل الحياة السياسية إلى انقطاعها 1949م ـ 1954م: رغم اختلاف قواعد التوازنات الاجتماعية الكبرى في كلا البلدين، فإن مدونة حياتهما السياسية ظلَّت متماثلة: حريات عامة، سياسية وثقافية وصحافية في عالم برلماني مفتوح على الحوار والتنوع، وبقيت الصلات بين نخب البلدين، حاكمة ومحكومة منفتحة، فرياض الصلح وبشارة الخوري كانا يجددان دائماً ما يماثلهما، في دمشق وحلب، في المنبت والثقافة والميول مثل القوتلي والكيخيا مروراً بخالد العظم، وفارس الخوري .ما لبث الوضع أن انقلب برمته مع الإطلالة الأولى لحكم العسكر في ما بين 1949م ـ 1954م ، عندها حدث نوع من الانقطاع بين الحياة السياسية لكلا البلدين، دخلت سوريا حينها في حقبة حكم الثكنة للمدينة. ولكن في هذا العهد بدأت تزهو صورة لبنان وبيروت في نظر النخب السورية، ولا سيما المعارضة منها، إذ بدأ يُنظر إلى بيروت على أنها الملجأ من اضطهاد العسكر، وتزايدت قيمة الحرية البيروتية في كل انقلاب، والتجأ إلى بيروت وجوه كثيرة من المعارضة السورية عندما كان للديموقراطية قيمتها الكبرى في أذهان أغلب النخب السورية، قبل أن ينزلها الزمن التقدمي إلى أسفل سافلين! كل الدروب تمر بالقاهرة: تخلصت سوريا من حكمها العسكري عام 1954م، واستعادت حياتها الديموقراطية، في مناخ عربي جديد، افتتحته حركة 23 يوليو بقيادة ناصر، وفي عام 1956م خرج عبد الناصر من اختبار العدوان الثلاثي زعيماً بدون منازع للعرب، تحولت بعدها القاهرة إلى مركزٍ للعمل الوحدوي والقومي. فتجاذبت النخب السورية ما بين 1954 ـ 1958م خيارات عدة للوحدة العربية لم تمر أي منها في بيروت، كان هناك الخيار العراقي: حزب الشعب، وخيار الهلال الخصيب (مع الأردن)، إلى أن استقر الخيار الحاسم على مصر الناصرية، التي خاضت مع سوريا جنباً إلى جنب المعركة ضد الأحلاف، وفي غمار هذه المعمعة تقارب هذان المركزان، وإنقادا إلى وحدة1958. لقد استقطبت زعامة عبد الناصر أغلبية الشعب السوري، بما فيها قواعد أحزاب: الشعب والوطني والبعث، والإخوان والشيوعيين. وساندت هذا الخيار الكتل المختلفة في الجيش التي أثخنتها الانقلابات، والكتلة الشعبية الأساسية، وانحنى للعاصفة الشعبية قادة الأحزاب المختلفة، أما العلاقة مع لبنان فلم تعد سوى تفصيل ضئيل أمام الطريق إلى الوحدة العربية، وبالمقابل غلبت على القوى الوحدوية اللبنانية، والكتلة الإسلامية نزعة الولاء للقاهرة، وليس دمشق، وظل هذا الحال حتى وفاة عبد الناصر وتحول السادات. راقبت النخب القومية في سوريا تداعيات أحداث الوحدة، فشهدت حوادث 1958 في لبنان بتشجيع من السراج، غير أنها عقب دروس هذه الحوادث المؤلمة، أخذت موقفاً إيجابياً من الرئيس شهاب، ولم تعد تتوقع أن يكون لبنان رافداً إضافياً للوحدة، بل اتجهت أنظارها نحو العراق، بعد أن اندلعت حركة 14 تموز في العراق، إلا أن العراق أخذ وجهة أخرى تحت قيادة قاسم. وحدها النخب البرجوازية الليبرالية بعد أن تضررت من تأميمات 1961م، وجدت في لبنان متنفساً لها أمام ضيق سبل التعبير لديها، وحرية الاستثمار، أما الكتلة الشعبية الأساسية، فكان ولاؤها لعبد الناصر وللوحدة حاسماً، هانت دونها مسألة الحريات العامة، وهو ما يؤشر إلى بداية تضاؤل قيمة الديموقراطية في عيون النخب القومية السورية. وهنا ظهر بعض التباين في موقف البرجوازية اللبنانية الإسلامية عن زميلتها السورية من عبد الناصر، وزاد شعور النخب السورية بكل تلويناتها بتوطد الدولة اللبنانيةوالاعتراف العملي باستقلالها. أما في في فترة الانفصال 1961 -1963 فقد عادت النخب الليبرالية السورية، المألوفة لدى النخب الحاكمة في لبنان، إلى الحكم، وعادت الحياة البرلمانية والحريات العامة، في مناخ سياسي مضطرب متقلب مُهدَّداً من العسكر، ومن الحركة الناصرية الوازنة، أما العلاقة بلبنان فلم تكن (موضوعاً) للنقاش والاختلاف، في ظل هيمنة الجدل الصاخب حول العلاقة مع مصر عبد الناصر! صعود نخب جديدة مع انقطاع لغة التخاطب1963م ـ 1971م: تدهور حال النخب الليبرالية السورية، التي عرفتها النخبة اللبنانية واعتادت التعامل معها، وطال هذا التدهور للنخب قادة الحزب الوطني، وحزب الشعب، وإلى جوارهم الشيوعيون، لتأييدهم الانفصال، لم يسلم منه أبرز قادة البعث أكرم حوراني، وصلاح البيطار، وهذا ما أحدث فراغاً هائلاً في الزعامة، فبدأت دورة تجديد النخب فاجترح الشارع قيادات جديدة للتعبير عن توجهاته الناصرية الوحدوية، وتقدَّم الجيش في 8 آذار 1963م، للمشاركة في ملء ذلك الفراغ، وليعلن ميلاد مرحلة جديدة في تاريخ سوريا، وتاريخ علاقات نخبها الجديدة بملامحها الراديكالية المتجهمة بلبنان. سيطرت (الثقافة التقدمية) لتلك النخب بوجوهها المتصلبة، وجملها القاطعة ويقينها الثابت بطلائعيتها للأمة! ونظرت النخب المضطهدة إلى ديموقراطية بيروت كملجأ، في وقت ضاق الحاكمون بها ذرعاً، أما النخب البرجوازية الليبرالية فباتت ترى في بيروت حلمها الذي ضاع، أو ضيعته في دمشق، فأقامت فيها روحاً وأحياناً جسداً. وبقي البعث الممسك بالسلطة حذراً من المناخ الحر للجار اللبناني اللدود، لا يجد اللغة المشتركة التي يمكن أن يتحدث بها مع نخبه الحاكمة، فهي ليست عنده سوى برجوازية ليبرالية مرتبطة بالإمبريالية، وتميل في ظل هيمنة القاهرة على النظام العربي، إلى إعطاء الأرجحية لعبد الناصر، وهو المنافس الأخطر له، كما وجد الأبواب موصدة أمام علاقاته مع ما سُمِّي القوى الوطنية والإسلامية التي رأت في القاهرة المرجع للعروبة، من هنا ذهب الفرقاء اللبنانيون إلى عبد الناصر لتوقيع اتفاقية القاهرة وليس إلى دمشق. إلا أن خبرة الأيام علمت المثقف السوري، في صوره المختلفة، قيمة المتنفس الثقافي اللبناني الحر، حينما افتقد في بلده حرية التعبير، وضاقت أمامه مساحة النشر، التي تقلصت في بلده من عشرات الصحف والمجلات في أيام العز، إلى صحيفتين لهما صوت واحد، فسمع العرب عبر النافذة البيروتية صوت: الياس مرقص، وياسين الحافظ، وطرابيشي، ومطاع صفدي، وبرهان غليون، وغيرهم. التدخُّل في (الساحة اللبنانية): استلم الأسد السلطة عام1970، في ظروف مواتية، أزاح القيادة اليسراوية، فاستطاع جذب بعض (القوى التقدمية) إلى (الجبهة الوطنية التقدمية) تحت سقف قيادته، وخاض بالتنسيق مع القاهرة حرب تشرين 1973م، ووثّق علاقاته مع الاتحاد السوفياتي على قاعدة قبوله التسوية، ثم أتيح له ملء الفراغ الإقليمي، إثر غياب دور مصر في زمن السادات، وانشغال العراق في الحرب مع إيران، فتعاظمت علاقة السلطة السورية بالقوى اللبنانية والفلسطينية في (الساحة اللبنانية)، إلى أن احتلت موقع مصر الناصرية في لبنان. أما النخب السياسية القومية واليسارية السورية، فكانت تنظر إلى لبنان على ضوء ما يوفره من مناخ مساعد لنهوض العمل الفدائي ضد العدو الصهيوني. لهذا فقد استقبلت هذه النخب والأغلبية الشعبية بالسلبية والمرارة، دخول الجيش السوري إلى لبنان، عندما بدا لها أن هذا التدخل يساند (للجبهة اللبنانية)، لضرب المقاومة الفلسطينية، ولـ(لحركة الوطنية اللبنانية). فكان لهذا الحدث وقعه الكبير على السوريين انتهت به مرحلة التوافق الوطني النسبي الممتدة منذ عام 1970م، انقسمت بدلالاته البلاد، وقفت السلطة وحلفاؤها في (الجبهة الوطنية التقدمية)، في طرف والأكثرية الشعبية في موقع مغاير. وقد عبر المثقفون السوريون آنئذ في بيان لهم عن احتجاجهم على هذا التدخل، كما أصدر الحزب الشيوعي - المكتب السياسي، وحزب الاتحاد الاشتراكي العربي (د. جمال الأتاسي) موقفاً معارضا لهذا التدخل، لأنه لا يخدم القضية العربية، ولا النضال الفلسطيني، ولن يعزز وحدة اللبنانيين. أما عن تأثير ذلك على النظام الديموقراطي واستقلال لبنان، فلم يكونا سوى فرع صغير من اهتمام هذه النخبة. وحده ياسين الحافظ ومعه قلة من المثقفين السوريين، أدرك مسؤولية ما يسميه الانقسامات الاجتماعية العمودية في إثارة الحرب الأهلية اللبنانية، وأدرك حجم الخسارة التي تصيب الحياة العربية، إن فقدت نافذة الحرية في بيروت، وعبر عن شعوره هذا بقوله: "أحسست وأنا ذو الهوى القومي العربي، أنه ليس وطني فقط الذي يحترق، بل بيتي أيضاً، وأن كثيرة هي الأسباب الأصلية والمباشرة التي دفعت إلى إحراق لبنان، لكن يُخيل إلي أنه لقي هذا المصير لأنه نافذة للديموقراطية، مهما بدت مثلومة، جعلت من لبنان مختبراً فكرياً للوطن العربي، ومن بيروت عاصمته الثقافية والسياسية، وكانت تستهدفه بلا شك". أما الليبراليون السوريون الذين كاد ذكرهم أن ينطفئ، فلم يروا في ما يجري في لبنان، إلا تكراراً أكثر مأساوية، لما جرى في بلدهم سابقاً من عسكرة الحياة السياسية، وانطفاء السياسة كمشاركة حرة في الشأن العام، وفضل بعضهم، مثال خالد العظم، أن يدفن في لبنان، اعترافاً بالجميل للبلد الذي رقد فيه حتى نهاية العمر، في زمن خفت فيه صوت الحرية والقيم الديموقراطية. تحولات في النظرة: بقيت المشكلات التي طرحها الوجود السوري في لبنان في مرمى نظر النخب السياسية السوري، مع حدوث تحولات في مواقفها إثر انحيازها للديموقراطية، فإن الجماعات التي عبرت عن نفسها تحت لافتة (التجمع الوطني الديموقراطي) وضمت ناصريين وماركسيين، أعلنت عن برنامج ديموقراطي عام 1980م، يقوم على اعتماد أسس النظام الديموقراطي البرلماني في بلدهم، وأعربت عن عدم رضاها على طريقة تعاطي السلطات السورية في الشأن اللبناني، حيث رأوا أنها لعبت على التوازنات الاجتماعية والطائفية لتستديم الطلب على بقائها من جهة، واعتمدت على الحلول الأمنية، فزادت من تمزق الاجتماع اللبناني، وأضعفت الحياة الديموقراطية فيه. وخلصت إلى قراءة جديدة للحرب اللبنانية، اعتبرت أن أهدافها الرئيسية ضرب نظامها الديموقراطي، الذي "كان أفضل حالاً من كل الإمبراطوريات العربية، وكان عليه بسبب ذلك أن يدفع الثمن غالياً، فالشكل اللبناني للديموقراطية أخاف الحكام العرب من أن تمتد جرثومته إلى أقطارهم وشعوبهم، وكان هذا أحد الأسباب التي دعتهم إلى أن يسوقوه ويسوقوا معه المقاومة الفلسطينية إلى محنة تدمير الذات". على الرغم مما واجه الحياة السياسية السورية حالة من الانطفاء، في ظل محنة الثمانينبات، فإن النخب السياسية السورية لم تكف عن التعبير عن وجهة نظرها تجاه ما يجري في لبنان، فعبرت عن ارتياحها لعودة دورة الحياة الطبيعية بعد مؤتمر الطائف، على طريق استرجاع لبنان عافيته وحياته الديموقراطية، والتعايش عبر إحياء مؤسساته السياسية الشرعية، رغم ما يشوب كل ذلك من نواقص، ولا سيما في ما يخص الحضور السوري الكثيف في الشأن اللبناني. ولم تعد تشكك هذه القوى لا في خطابها السياسي، ولا في شعورها في شرعية الكيان اللبناني، بينما امتلأ خطاب السلطة بالإشارات المتناقضة حول شرعية هذا الكيان. مع العهد الجديد: تجدد اهتمام النخب السورية المعارضة بالشأن اللبناني مع الانتعاش النسبي للحياة السياسية والثقافية السورية آنئذ في بداية العهد الجديد، يوجُّهها إدراك متزايد بتعاظم ترابط المسألة الديموقراطية في كلا البلدين. لكن آمال السوريين في الإصلاح الداخلي، وفي تصحيح العلاقة مع لبنان على قاعدة الاستقلال والاحترام المتبادلين، ما لبثت أن تبددت، مع استعادة هيمنة دورة الدولة الأمنية الأوامرية آلية عملها. في الداخل وفي العلاقة بلبنان، وبلغ هذا المنطق ذروة انفضاحه، بمناسبة التمديد للرئيس لحود. لهذا لم تتفاجأ المعارضة السورية بتعالي أصوات اللبنانيين المطالبة بالحرية وبخروج القوات السورية، على إثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري في شباط 2005، ولقد راقبت النخب السورية المعارضة بالإعجاب خروج اللبنانيين من رماد الألم بثورتهم المخملية نحو الحلم بالحرية، فكان لصرخة الحرية في بيروت صداها الطيب لديهم. وإذا كان المثقفون السوريون المعارضون لم يستطيعوا تغيير أداء السلطة تجاه لبنان، فإنهم نأوا بأنفسهم عنها، وأصدروا بياناً أعربوا فيه عن تأييدهم لمطالب اللبنانيين، ودعوا السلطة إلى سحب قواتها من لبنان، كما أصدرت المعارضة ممثلة بـ(التجمع الوطني الديموقراطي) بياناً إلى الشعب في 15 شباط. جاء فيه " إن تلك الجرائم ما كان لها أن تنجح لو أن العلاقات اللبنانية -السورية صحيحة، وصحِّية، مبنية على أساس الاحترام المتبادل والعلاقة المتكافئة, دون تدخل في الشؤون الداخلية، ثم دعا "إلى الاستجابة لإرادة الشعب اللبناني". بينما شجَّع أنصار السلطة على نشر نزعة شوفينية سورية في وجه اللبنانيين ناكري الجميل! وقد أطلق (التجمع الوطني) والعشرات من القوى والشخصيات في اكتوبر 2005 (إعلان دمشق)، دعوا فيه بشأن لبنان إلى "تصحيح العلاقة مع لبنان، لتقوم على أسس الحرية والاستقلال والسيادة والمصالح المشتركة بين الشعبين والدولتين". ولعل هذا التوجه شكَّل قاسماً مشتركاً للنخب السورية المعارضة، وقد عبَّر عن هذا التوجه المثقفون السوريون الذين وقعوا مع مثقفين لبنانيين على إعلان بيروت - دمشق لتصحيح العلاقة السورية اللبنانية، فكان جزاؤهم المعتقل! وقد أطلق الحراك الشعبي الراهن العديد من الشعارات التي تدعو لخلاص الشعبين، اللبناني والسوري من هيمنة النهج التسلطي الأوامري للسطة السورية.
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)