لبنان، بلد الحب والعدالة والوعي. فهنا تأخذ الأرض صورة سماوية. حيث يمتزج الحب اليسوعي مع الحكمة المحمدية والعدالة العلوية... ليكون الإنسان اللبناني برجاله ونسائه أسوة للإنسان الذي يعيش مظلوما لكن يظل رأسه مرفوعا. لبنان يمثل لوحة فنية رائعة تبلور صورة متألقة عن الدين والأدب والثقافة والفن والسياسة.
لبنان يمثل جوهرة تشع النور في عتمة الليل. فيؤذي شعاع نورها عيون هواة الظلام، ممّا يجعلهم يحاولون تحطيم هذه الجوهرة تحت مطرقة العدوان والاحتلال.
وهم غافلون من أن ضمان ديمومة لبنان والحياة اللبنانية الكريمة، إنما يكمن في القناعات الراسخة والقلوب التي تخفق حباً لله وللحياة، والأرواح المتعطشة التي لا يُروى غليلها إلا من نبع الديموقراطية وحب العدالة والمقاومة.
لبنان حي صامد لأن اللبناني واع وباق.
ولبنان الشامخ، يمثل عالماً متكوناً من عوالم عديدة:
عالم الأديان والمذاهب، عالم الطوائف والمجتمعات، عالم الأحزاب والأوساط...
أليس هذا العالم تجسيداً للجمع بين التعددية والتضامن، وبين الكثرة والوحدة، وبين المقاومة والتعايش؟
ألا يجسد هذا العالم المثقف تلك الضالة العتيقة التي تتشوّق إليها القلوب الوالهة إلى الحب والمداراة لا سيما في عصر مليء بالفتن كالذي نعيشه الآن؟
إنني، قد فكّرت في حوار الحضارات والثقافات ولا أزال، فوجدت في لبنان مصداقاً بارزاً لذلك... ولا أزال!
وقد اعتبرت الحرية والتسامح مصدرا لحياة كل شعب، فوجدت في لبنان تجسيدا بارزا لهذا الواقع...
فلبنان يمثل نموذجا لنجاح الحوار بين مختلف الاتجاهات والأفكار، ومؤشراً على الانتصار النهائي لمنطق الحوار والديموقراطية على نزعة الحرب والاستبداد.
انتصار المقاومة للجميع
لبنان أرض مرفوعة الرأس بمقاومتها في عالمنا المعاصر. كما أن رمز بقاء هذا البلد ووحدته يكمن في هذه المقاومة. فإن لبنان كله وقف بوجه الأساليب التي استخدمتها إسرائيل المعتدية كلها. وإن المقاومة المشروعة التي قام بها جميع الفئات والطوائف، جعلت الانتصار انتصارا لجميع أبناء الشعب.
لقد أشاد العالم بهذه المقاومة الباسلة العظيمة. كما أننا أيضا لا نزال نشيد بها. فإن دعمنا هو دعم لبنان ككل. وليس دعما لمذهب دون مذهب، أو لفئة دون فئة، أو لطائفة دون طائفة. إننا ندعم الحرية والاستقلال الذين سعى إليهما، ولا يزال، شعب واحد في صفوف موحدة. إننا قد دافعنا وندافع عن الحق المشروع الثابت للشعب اللبناني في الدفاع عن وحدة أراضي وطنه وتحقيق الأمن في بلده. كما أن العالم قد دافع عن ذلك ولا يزال...
لقد تمتع الشعب اللبناني دوماً بالقدرة على اتخاذ القرار واختيار ما يريد، كما أن الأحزاب والفئات والطوائف اللبنانية قد اعتادت دوماً أن تكون مستقلة ومعتمدة على الذات. فأي حزب أو فئة تتمتع بالمصداقية وتحظى بالاحترام لدى الشعب اللبناني، لا يمكن إبعادها من الساحة من خلال توجيه التهم وإطلاق التهديدات. إن الشعب هو الحكم الوحيد الذي يقرر مركز ورصيد كل حزب أو فئة سياسية داخل كل بلد.
إن لبنان المنيع، وعلى الرغم من كل المحن والمعاناة التي مر بها، لم يتحول الى ساحة لعدم التسامح أو الإرهاب، بل ظل مهداً للتسامح والسلام والحرية.
إن عالمنا المعاصر، قد أتعبته الحروب والأزمات أكثر من أي وقت مضى. إن العيش بين الأنظمة التي تبرّر العنف والإرهاب ليس لصالح أحد. فلا بد من اغتنام الطاقات والإمكانيات الحديثة المتاحة في المنطقة والعالم، اغتناماً جاداً. إن العالم بحاجة الى نماذج جديدة من الحرية وحقوق الإنسان وسيادة الشعب. وإن للديانات مكانة متميزة في مجال تقديم هذه النماذج والنهوض بها.
الإسلام التقدمي
إن الإسلام العقلاني التقدمي هو الذي من شأنه أن يضيّق الساحة على ما يُطرح ويُقدم باسم الإسلام من تصلب ورجعية وتطرف. وإن المسيحية الداعية الى المحبة والتسامح هي التي من شأنها أن تقلل من خطر الأصولية ونشوب الصراعات الدينية باسم المسيحية. وإن الروح اللبنانية والثقافة اللبنانية تشكلان الأرضية الملائمة لنشوء وتطور مثل هذه الأفكار...
نحن في إيران، نتطلع إلى لبنان ليقوم بدور فاعل في هذا المسار. ورغم أن زيارتي هذه للبنان تأتي في ظروف إقليمية غير مستقرة، إلا أنني أعتقد بأن هذا الظرف الزمني يشكل فرصة كبيرة لعرض الاتجاهات السلمية التي تنطلق من العقل الجماعي للنخب الإقليمية.
أعود وأؤكد مرة أخرى على ضرورة وإمكانية استتباب السلام المبني على العدالة، والاستقرار المبني على حقوق الشعوب، في المنطقة.
نقطة التوازن
نحن وأنتم، نعرف جيداً بأن أعداء السلام والحرية في منطقتنا يحاولون توسيع نطاق التوتر والاضطراب، وذلك بهدف تدمير الجهود التي بذلتها شعوب الشرق الأوسط في مجال الديموقراطية الحقيقية والسير نحو الإعمار والبناء والتنمية. إننا نتطلع الى لبنان، كبلد وكمجتمع، من أجل الانتباه الى هذا الخطر. لأننا نعرف بأن هذا البلد يشكل للحوار مركزاً أساسياً يدوي صوته في المنطقة. لبنان، يمثل مهداً للتعقل والحنكة، والسير نحو السلام والاستقرار. وأبناء هذا البلد قد لمسوا أكثر من غيرهم مدى الخسائر والأضرار الناجمة عن آفاق الحرب والنزعة الحربية. ونحن على قناعة بأن لبنان من شأنه أن يشكل نقطة التوازن ومنطلق التحرك في الأجواء الإقليمية المتوترة.
إن لبنان، بما له من مكانة في المنطقة، يستطيع تقديم صورة هادئة باعثة على الاطمئنان، عن المدارس والأفكار. وإنني لأناشد لبنان حكومة، وشعباً، ومثقفين، وإعلاميين، وأحزاباً بأن يعكفوا مرة أخرى على إشاعة خطاب السلام والتفاهم والحق والعدالة في كافة أرجاء المنطقة كما في العالم، وخلق الأجواء المؤاتية للحوار الديني والسياسي والثقافي والاقتصادي على صعيد المنطقة. فإننا نعتبر حالة التعايش والتضامن في لبنان نموذجاً للشرق الأوسط كله. وذلك بغية أن يضيّق أهل المنطقة الطريق على مؤججي الحروب والمعتدين والإرهابيين.
إننا نعتبر أن اتجاه العنف والإرهاب الذي يأتي باسم الدين ليقف أمام الحرية والتقدم، يشكل خطراً كبيراً. إلا أننا في نفس الوقت لا نستهين بخطر اللامبالاة تجاه المقاومة الرامية الى التحرر من قيود الأسر والعدوان. فعلى جانبي العالم المعاصر أي الجانب الغربي وجانب الدول النامية لا بد من التوصل الى فهم متبادل عن القضايا العالمية المشتركة. إن الفهم المتبادل، يقلل من حالات العداء والصراع. ويا تُرى، من الذي يقدر على خوض الحوار في هذا المجال، سوى أولئك الذين يفكرون في السلام والعدالة والحرية للعالم أجمع؟
إزالة التوتر
إننا نريد أن نبذل كل جهد ممكن من أجل خلق منطقة آمنة بعيدة عن القهر والعدوان. إننا انطلاقاً من أسس ديننا وثقافتنا وفي ظل ثورتنا العظيمة قد قرّرنا العمل على ترسيخ ركائز الديموقراطية والاستقلال والحرية والتقدم في بلادنا. كما اننا عازمون على المضي قدماً بالسلام والاستقرار، سواء داخل بلدنا أو في المنطقة والعالم. وتتمثل سياستنا الثابتة والدائمة في الانفراج وإزالة حالات التوتر في العلاقات الإقليمية والدولية، والحوار المستمر العملي بين الثقافات والحضارات، والعمل على تحقيق التحالف من أجل السلام المبني على العدالة.
إنها قناعتنا الجادة، وهي لا تعني أبداً الاستسلام أمام القوة أو التراجع عن المبادئ.
وانطلاقاً من قناعتنا هذه، قد أكدنا دوماً على التعاون الإقليمي ولا نزال. وفي هذا الصدد فإن لعلاقاتنا مع لبنان مكانة خاصة. فنحن كنا ولا نزال بجانب لبنان حكومة وشعباً. وسوف نحترم أي قرار يتخذه قادة هذا البلد وأية إرادة يتبنونها. وفي الظروف الصعبة الجديدة التي تمر بها المنطقة، ندرك بأن الضغوط الأميركية قد اشتدت على كل من سوريا ولبنان، إلا أننا نأمل بأن تترك الإدارة الأميركية العراق الجريح بأسرع ما يمكن ليدار بفعل التدبير العراقي، ونحذر الإدارة الأميركية من أن تكون بصدد خلق أزمات أخرى في المنطقة والعالم بعد الحالة العراقية.
إننا نعرف بأن إسرائيل لا ترى بأساً أن تسعى وراء بعض أطماعها التاريخية بعد استقرار القوات العسكرية الأميركية في العراق. ونعرف تماماً بأنه يجب أن لا تُعطى إسرائيل فرصة للتذرع بحجج جديدة بغية تجنيد القوة الأميركية لخدمة أهدافها. إننا لا نرغب في المشاركة في تصعيد التوتر في المنطقة أو التورط في أحداث تزعزع الاستقرار في حالة وقوعها. إننا نعرف جيداً بمدى ذكاء وبصيرة ووعي أبناء لبنان وأحزابه وطوائفه في هذا الظرف الخطير. وإننا نؤمن بأن لبنان كان دوماً على وعي ويقظة، وأنه قد فرض الهزيمة على الأعداء بفضل مقاومته الشاملة.
خيار الشعب العراقي
إننا قد عانينا سنين طويلة من النظام التعسفي الذي كان يحكم العراق. وإن الحرب التي فرضها الحكم الصدامي على بلادنا والإرهاب الذي ترعرع في أحضان ذلك النظام، قد تسبّبا في إلحاق خسائر فادحة بشعبنا. فقد خسرنا في هذا المجال جماً غفيراً من خيرة أبنائنا.
إن زوال دكتاتورية صدام، يشكل فرصة قيّمة للشعب العراقي المظلوم كما لدول المنطقة. ولكن يجب أن لا نرضى بأن يقع الشعب العراقي تحت وطأة ظلم آخر. يجب أن نحترم ما يختاره الشعب العراقي. الذي نريده نحن هو مشاركة سريعة من المواطنين وجميع الفئات السياسية والطوائف والأديان في العراق، في تشكيل حكومة مؤقتة، وأن يساهموا جميعاً في بلورة عراق حر مستقل موحد، على أساس “لكل عراقي صوت واحد”. ونحن على استعداد للتعاون من أجل تحقيق هذه الغاية وأن ينال الشعب العراقي المظلوم وبأسرع ما يمكن حقه في الحرية والتقدم والسيادة الشعبية.
السلام والتنمية
إن تحقيق السلام والاستقرار والتنمية الدائمة في المنطقة... كل ذلك مرهون بتحقيق تنمية واستقرار وأمن جميع الدول فيها، وإن وجود التعاون بين جميع الدول المقتدرة في المنطقة، سيحقق مصالح جميع هذه الدول في إزالة التهديد وإبعاد شبح الحرب.
إننا نرى بأن استتباب السلام في الشرق الأوسط قضية هامة ومحورية. إلا أننا نرى في نفس الوقت بأن السبيل الى تحقيق السلام يتمثل، قبل كل شيء، في إعادة الحقوق المغتصبة في الأراضي العربية المحتلة. إن ممارسة الضغوط بهدف فرض الحلول المرحلية والتعسفية، لا تساعد على إرساء الأمن والاستقرار في المنطقة. فأي طريق تسلك بهدف حل القضية الفلسطينية ستكون نهايتها الفشل، إن لم تؤد الى تحقيق إرداة الشعب الفلسطيني في تشكيل دولته المستقلة حسب القرارات الدولية ومنها ما يتعلق بعودة النازحين الى وطنهم.
إن فلسطين تمثل أبرز حالة لوقوع أرض تحت وطأة الاحتلال السافر. وهي تشكل القضية المزمنة في منطقتنا. إن القضية الفلسطينية قد أثبتت بأنها لم تكن معقودة بأي قضية أخرى في المنطقة. إن المقاومة باقية طالما هناك الظلم والحرمان. وإن هذه المقاومة ليس مصدرها في الخارج. وعلى الآخرين أيضاً أن يحاولوا فهم واستيعاب هذه الحقيقة، وأن لا يحاولوا التضليل من خلال إعطاء العناوين الخاطئة. إن أحد التحديات الكبيرة التي نواجهها اليوم يتمثل في تبيين مسألة المقاومة التحررية وإبراز الفارق الذي يميزها من الإرهاب. فإذا استطعنا أن نبرز هذا الفارق المميز لدى الرأي العالم العالمي لا سيما لدى الغربيين، فإننا قد حققنا بذلك إنجازاً عظيماً. لنصدّق بأن عصرنا هو عصر وعي الشعوب ويقظتها. والذين قد نالوا في هذا العصر نصيباً أكبر من المعاناة، ستكون حصتهم من الوعي أكثر أيضاً. إن كلاً من لبنان وفلسطين والعراق وأفغانستان وكل الأماكن الأخرى المصابة بجرح في الجسد أو بحرقة في القلب... ستؤدي دوراً أكبر وأوفى. وتلك تجربة قد تعلمها شعبنا هو الآخر خلال القرون والعقود المليئة بالنضال ضد الاستبداد والاستكبار.
إنني جئت الى لبنان، لأتعلم مرة أخرى في هذا الوسط من الشعب الفاهم والنخبة الممتازة. إن لبنان، هو أرض الحرية، وهو أرض الشعر الراقي والشعور الواعي. وفي خضم هذا الضجيج الذي اختلط فيه الحابل بالنابل، لا بد من شحذ الهمم من خلال الاستعانة بمثل هذا الوعي والإدراك. لقد كان لبنان ولا يزال بالنسبة لنا الإيرانيين، مصدراً للأمل. وهنا يجدر بالمقام أن أذكر بإجلال وتكريم معمار الثورة الإسلامية الإيرانية العظيم، سماحة الإمام الخميني (قدس سره)، الذي كان خلال مرحلة من الزمن قد علق الأمل على هذه الأرض الى درجة صرح معها قائلاً: آمل من اللبنانيين أن يكونوا إخوة لبعضهم البعض في القضية اللبنانية، وأن ينهضوا معاً ضد الظلم، وأن يساعدوا بقدر ما في وسعهم هذه النهضة القائمة في إيران. واليوم، أيضاً، يقف قائدنا العظيم، وشعبنا وحكومتنا، مع لبنان وبجانب لبنان.
وفي هذا الظرف الخطير، لا يمكننا إلا أن نتحدث عن الألم الذي بقي في صدورنا نحن وأنتم وذلك من جراء اختفاء العالِم البصير ورمز الصحوة والتسامح والمقاومة سماحة الإمام موسى الصدر وغيابه من الساحة. فنحن في مثل هذا الوقت كنا بأمسّ الحاجة إلى وجوده وحكمته وخبرته أكثر من أي وقت مضى. إن عزيز لبنان وإيران لا يتواجد اليوم في الساحة اللبنانية. إلا أن فكره وطريقه سيظلان مصدر إلهام للأبطال اليقظين من أبناء العالمين الإسلامي والعربي.
إن شعبنا ما زال يكن الحب والعشق للبنان، مشيداً بهذا التضامن والوعي فيه. كما أن شميم الأمل والحب والجدارة منكم يعطّر روحي بشذاه وعطره.
“من جديدٍ شَممتُ عِطرَك يَنْدى *** وتحيّنتُ من لِقائِك وَعْداً”