شهدت الجماعة المسلمة الشيعية في لبنان (منذ اتفاق الطائف والتعديلات الدستورية: 1989-1990) صعود وسيطرة نزعات الغلبة والإستقواء المافياوية ومشاعر الدفاع الذاتي الميليشياوية الشرسة في وجه كل مشروع مصالحة أو حوار أو كل نقد سياسي أو تفكير بإصلاح وتغيير... وصار الوعي المضمر ( واللاوعي الجمعي ) للجمهور الشيعي يقوم على مسلّمة بأن الفريق الشيعي مستهدف في أمنه ووجوده وأن عليه وهو المنتصر-المتغلب أن يدافع بكل قوة عن مواقعه وأن يستقوي بسوريا وإيران في هذه المعركة وأن يقلب الطاولة ويطيح بالمعادلات ويؤسس نظاماً جديداً على أنقاض الطائف. وفي ذلك يقول السيد نواف الموسوي: "يجب أن يعمل حزب الله بحيث يشعر شيعة لبنان أنهم بحاجة اليه، ونحن يجب أن نستخدم كامل قدراتنا وإمكاناتنا لنصبح أقوى وأكثر تجذراً في طائفتنا، وحين تلتحم مصالح الشيعة بنا فإن ضعفنا سينعكس عليهم، لذلك سيدعموننا ، يجب أن يستقر حزب الله في إطار الطائفة الشيعية ، لأن وجوده في خارجها سيسهل ضربه" (من مقابلة أجراها الباحث مسعود أسد اللهي، أيلول 1997)..وقد تعاظم هذا الاستقواء مؤخراً تحت عنوان الدفاع عن المقاومة التي يستهدفها المشروع الأميركي-الإسرائيلي.
وفي سياق هذا التحول في الحالة الشيعية اللبنانية حدث ضمور شديد للسياسة، وغياب للدين أصلاً، حيث جرى اختزال المجتمع والدولة والطائف والإصلاح والتغيير بطبقة سياسية ترتكز على سطوة المال والأمن والإعلام وعلى معادلات الغلبة الداخلية والاستقواء بالخارج، وعلى تسعير العصبيات الجاهلية وتوتير الأحقاد الدفينة والذكريات المؤلمة لحروب أهلية (قريبة وبعيدة) أنهكت وحطمت الجسم والأعضاء..كما جرى اختزال الإسلام والتشيع بنوع من الدين السياسي غلبت فيه مظاهر الطقوس والشعارات الفارغة وديماغوجيا التحشيد المبتذل على حساب الدين بما هو عقل وروح، ووعي والتزام، وأخلاق ومعاشرة، وحوار وانفتاح، وتواضع واستغفار. كما سادت في أوساط الحزبيين الشيعة الحماسة الخالية من التقوى، والسياسة المفتقرة إلى الورع، والفقه المسمى فقه الحيلة والتقية... والأخطر من ذلك كله أنه جرى ضرب كل الحيوية الفكرية والسياسية التي تميّز بها الشيعة على مر تاريخهم: فلا مراجعة ولا شفافية، ولا تفكر أو تدبّر، ولا تنظيم أو ممارسة، ولا رقابة أو محاسبة، ولا مبادرة ولو خجولة للتفكير والنقاش أو الحوار حول حال الجماعة المسلمة الشيعية في لبنان وحول الماضي ودروسه وحول الحاضر وأوجاعه... لا بل حتى ولا سؤال فيه جرأة أو فيه قلق.. ونحن الذين كنا دائماً نردد قول المتنبي: على قلق كأن الريح تحتي....وما هو التشيع إن لم يكن قلق السؤال والظمأ إلى العدل وطلب الحق ولو كان دونه الموت؟
وفي السنين الأخيرة غابت المؤسسات المفترض أنها تؤطر التجارب والخبرات وتراكم المعرفة والممارسة وتسمح بتقويم المواقف واقتراح أمور وتصحيح سياسات ورسم مسارات وطرح خيارات.. فانكفأ المجلس الشيعي إلى حدود المصالح العائلية وتغطية الممارسات المافياوية والتشبيحية للشيعية السياسية التي صار تابعاً لها.. ومع انكفاء استقلالية المؤسسة وخصوصيتها الى حدود اختفائها تقريباً، تحول المجلس الى هيئة هدفها إلقاء البيانات الصادرة باسمه، والتي يجري إعدادها وصياغتها من قبل مندوبي أمل وحزب الله..
نعم لم يعد أمام اللبنانيين المسلمين الشيعة أي خيار: إما سلطات النهب والقمع والإرهاب المتضامنة في وحدة مسار ومصير، وإما حراب الاحتلال والتبعية والتغريب والأمركة والصهينة!! وكل من يخرج عن هذين الحدين يرجم بالتخوين والتكفير ويعتبر مفارقاً للجماعة..
وهكذا لم تتورع الحزبية الطائفية الشيعية عن فبركة الملفات الأمنية وتوريط بعض الشخصيات الدينية المعارضة لها في تهمة العمالة للعدو..ورغم قرارات المحاكم السورية واللبنانية ببراءة المتهمين المعتقلين ما زال هؤلاء يخضعون للسجن والترهيب بفعل سيطرة الحزبية الشيعية على أجهزة الأمن والمخابرات وعلى بعض مواقع القضاء والإعلام، وما زال التشويه وضرب السمعة والإعدام المعنوي للمعارضين هو شريعة الشيعية السياسية من غير وازع من دين ولا أخلاق ولا قانون.. وكل ذلك تحت عنوان ضرورة وحدة الطائفة وتماسكها في وجه الآخرين الطامعين بإضعافها. وكأن الشيعة ما عرفوا في تاريخهم لحظات أزمة أقوى وأعنف تجاوزوها بحيوية الفكر النقدي وحرارة الوجدان الصادق وبالوحدة ضمن التنوع وبالتفاعل والتضامن مع محيطهم..
وفي سياق عملية بناء المغايرة الشيعية والتمايز عن بقية أبناء الوطن، أصيبت الجماعة الشيعية بوباء خطير من الأثرياء الجدد تجار الحرب والموت والسياسة والمال الذين يرعون التفلّت و"التشبيح" في المناطق الشيعية؛ وهذه أمور إعترف بها حزب الله نفسه وصدرت عنها وفيها كتابات وتعليقات وحتى خطب للسيد حسن نصرالله ، ناهيك عن حملات حزب الله المعروفة باسم "النظام من الإيمان" و"أسرتي سعادتي"، و"تعزيز القيم الاجتماعية"..لقد أدخلت قوى الحزبية الطائفية المسيطرة الشيعة اللبنانيين في النفق المظلم في ما يتعلق بمجموع القيم والمبادئ الإجتماعية والأخلاقية التي هي أساس التشيع. فظواهر مثل الدعارة والإدمان على المخدرات باتت تسجل أعلى نسبها حالياً في المناطق الشيعية، رغم الأجواء الدينية المصطنعة القابضة عليها. وقد تحولت مناطق الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية إلى بؤر لتسويق الممنوعات وتصريفها، ولإفساد جيل كامل من الشباب. ولا يمر يوم دون اكتشاف شبكة دعارة من هنا وشبكة من هناك. ويكثر الهمس عن وجود "شقق" و"بيوت"، وسط مناطق سكنية، تُستعمل لهذا الغرض. والأبرز على هذا الصعيد هو تآمر المعنيين في التستر عليها والتعمية عنها، وتكذيبها في الإعلام، تلافياً لافتضاح وجوه وشخصيات معروفة متورطة فيها. وقد صار "التشبيح" أمراً عادياً في المناطق الشيعية، فتزايدت سرقة سيارات المواطنين والتعدي على ممتلكانهم وأراضيهم؛ كما نشط التعدي على الأملاك العامة وخصوصاً على المشاعات والأوقاف حيث تكشف أن سيطرة الأحزاب على البلديات كان الهدف منه وضع اليد على كل مشاعاتها وأوقافها خدمة لهذه الأحزاب..
والإحتكام إلى السلاح،عند أي حادثة، صار أمراً اعتيادياً في مناطق سيطرة الأحزاب كحادثة "مكيانيك الحدث" وحوادث "بئر حسن" ومحلتي "الرويس" و"حي السلم" ، الأخيرة، وحوادث أخرى متفرقة (كما في بعلبك) توقع قتلى وجرحى، لأتفه الأسباب.. إضافة الى حوادث الانتحار والقتل المتعمد والسلب والنهب، وانتشار المجموعات الشِّللية والشبابية في الأحياء والقرى، التي تقوم بممارسات مسيئة عبر سهرات تدخين النرجيلة أو قيادة الدراجات النارية. ونكبت المناطق الشيعية بشيوع مخيف للأمراض النفسية كما تشهد به قاعات المستشفيات ، وبانتشار قوي لعمالة الأطفال وللعنف المنزلي الذي يتسبب كل يوم بوفاة المزيد من النساء والصبايا والأطفال. وكل ذلك تتناقله الصحف وأجهزة الإعلام الشيعية قبل غيرها.
ومظاهر التفلت الأخلاقي والتشبيح والبلطجة وتبعاتها هي حديث الساعة حالياً بين أبناء المناطق الشيعية، لكن الأحاديث ليست سبيلاً لمعالجتها. كما أن تذمر قيادات حزب الله، وخططه المبتورة، ليست كافية لوضع حد لها... ولم يعد استدعاء أجهزة الدولة، عند الحاجة فقط ، مؤثراً في احتوائها، لأن الدولة التي أفقدتها الشيعية السياسية هيبتها وحضورها بحجة أنها دولة ظالمة غاصبة للحقوق أو عميلة للخارج ، سوف يُفسَّر أي تحرك لها في هذا الشأن على أنه استهداف أو تصويب سياسي – مذهبي على "الطائفة" وقياداتها وكوادرها "المقاومة"!!
لقد أمكن تحقيق التماهي بين الشيعية السياسية وجمهور الطائفة في ظروف جديدة تماماً لم يسبق أن توفرت من قبل:
1= وجود مركز شيعي قوي في إيران الشيعية يحمل استراتيجية هجومية لتأكيد مصالحه ولفرض وجوده (وإيران دولة كبيرة وغنية وربما نووية).
2= غياب أو تغييب قيادات إصلاحية تاريخية (محسن الحكيم والخوئي في العراق، موسى الصدر ومحمد مهدي شمس الدين في لبنان، خاتمي ومنتظري ورفسنجاني وكروبي وموسوي في إيران).
3= تغييب النجف منذ وفاة السيد الحكيم العام 1970 ثم تحديداً بعد حملة القتل في 1979-1980 والتي انتهت باغتيال محمد باقرالصدر وتشريد الآلاف من العلماء، ونشوء موقع قم الديني كبديل للدراسة منذ العام 1980 ثم كمركز وحيد للشرعية الدينية الشيعية.
4= خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان 1982-1988، وذلك بعد سلسلة حروب وغزوات شنتها اسرائيل وسوريا وشاركت فيها الشيعية السياسية ولا فخر.
5= إنهيار النظام الاقليمي العربي منذ حرب الكويت 1990-1991.
6= انهيار التوازنات الاستراتيجية الدولية منذ سقوط الاتحاد السوفياتي 1991 ثم بعد ذلك 11 ايلول 2001 فالحرب الأميركية على الاسلام وعلى ايران .
7= صعود الشيعة والأكراد في العراق بعد سقوط نظام صدام 2003.
8= انهيار الوضع المسيحي في لبنان بعد 25 سنة من الحرب الأهلية.....
9= انهيار الوضع المسيحي في الشرق الأوسط وسقوط امكانية التدخل الأجنبي لحمايتهم.
10= انهيار الوضع السني اللبناني باغتيال الرئيس الحريري (14 شباط 2005).
11= أزمة النظام المصري من جهة ، وأزمة الأوضاع السعودية والباكستانية واليمنية من جهة أخرى، مع سقوط النظامين العراقي والأفغاني، وصعود القاعدة، كل ذلك طرح في حينه أزمة الشرعية السنية (قبل الربيع العربي).
12= خروج الجيش السوري من لبنان وانهيار المعادلة اللبنانية الداخلية.
وبعكس ما كتب المحللون فليست استراتيجية الشيعية السياسية الفعلية إقامة دولة إسلامية في لبنان، فهذه الدولة موجودة في إيران ولبنان تابع لها وفق نظرية ولاية الفقيه ؛ ولا المشاركة السياسية الديموقراطية في الحكم، إذ أن المشاركة الفعلية تعني المسؤولية الكاملة عن الكل؛ فيما المشاركة بعرف الشيعية السياسية هي التقاسم partage وليس ال participation.
ما تعمل عليه الشيعية السياسية هو استراتيجية للهيمنة تسمح لها بأن تكون اللاعب الأوحد في البلاد...إلا أن هذه الشيعية السياسية الجديدة تحمل سمات خاصة تجعلها تختلف عن المارونية السياسية القديمة، وذلك لعدة أسباب:
-المارونية السياسية ورثت دولة حديثة كانت تحضنها فرنسا وتشكل لها إدارة شبه كفوءة.
-الظرف الاقليمي والدولي ساعد على بحبوحة اقتصادية وعلى نمو اجتماعي أفرز طبقة وسطى متعلمة وديناميكية من كل الطوائف.
-النظام العربي الرسمي أعطى شرعية لدور لبنان في محيطه.
-الثقافة الحداثوية كانت القاسم المشترك بين نخب الطوائف كافة.
-الديموقراطية الليبرالية سمحت بفضل التعدد الطائفي بتحول لبنان الى منطقة حريات إعلامية وسياسية لم توجد في غيره..
- الشيعية السياسية لا تنفصل عن فكر المهدوية الإيرانية وعن صعود التطرف الأصولي في الجانبين السني والشيعي، ولذلك فإنها محكومة بالأصولية.
كيف جرى تطبيق استراتيجية الهيمنة:
1= السيطرة على المكان أو الأرض territoire في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية لبيروت (وبعد حروب مشهودة واغتيالات معدودة). والأرض المسيطر عليها تصبح أرضاً مغلقة (حُرُم باللغة القبلية، محرّمة باللغة الحديثة) لا تدخلها الدولة ولا يدخلها غير المسموح لهم (الأجانب تحديداً وهم كلهم جواسيس: والأجنبي يشمل كل من هو خارج إطارات الحزب وشبكاته الاجتماعية-السياسية-الاقتصادية حتى ولو كان شيعياً). وهذه الأرض يصير لها مع الوقت شبكات اتصالها المستقلة ناهيك عن بناها التحتية والفوقية المنفصلة عن بنى ومؤسسات الدولة والمجتمع.
2= الهيمنة على المجال الديني: من خلال فرض نمط ديني محدد تحوّل مع الزمن والتكرار والسلطة وسطوة النموذج الى النمط السائد بل الوحيد "الشرعي"، المقبول.. ثم من خلال السيطرة على التعليم الديني في المدارس(كل المدارس الرسمية في المناطق الشيعية وليس فقط مدارس الحزب أو الحركة) وعلى حصرية الاعلام الديني بيد الأحزاب (الإذاعة والتلفزة)..وهذه السيطرة كانت بقرارات رسمية لحكومة الرئيس الحريري 1997-1998.
3= الهيمنة الإيديولوجية أو السيطرة على الزمان: وذلك عبر تأطير الوعي الجمعي والذاكرة الجمعية للشيعة اللبنانيين، في أدق تفاصيل حياتهم اليومية التي تصبح مقوننة مرمّزة حتى في أمور مثل الوقت والزمن: فالزمن الشيعي ينظمه مناسبات واحتفاليات دينية ومناسبات مخصصة للتذكير بالشهداء (الأسابيع في القرى، الاحتفالات المركزية في بيروت).. والسيطرة التامة على المجال البصري للزمان تتم من خلال الملصقات والشعارات، والأعلام والصوَر التي تنتشر في كل زاوية وزاروب وشارع وتؤطر رؤية الناس اليومية لحياتهم ولحاضرهم وتاريخهم..ترافقها شعارات دينية تربط هذا الحاضر والتاريخ بتراثهم الديني والمذهبي الخاص.
4= السيطرة الاجتماعية وأدواتها: عبر فرض الفصل بين الجنسين في كل المجالات والأمكنة. ويلحظ غياب أي دور سياسي أو حزبي للمرأة في أي مرفق أو قطاع في أحزاب الشيعية السياسية، رغم أنها القوة الأكبر والتي تمتلك أكبر تنظيمات نسائية من بين الأحزاب، إلا أن وظيفة المرأة ودورها هما في رعاية الأيتام ودعم صمود المقاومة.
كما أنه لا دور للثقافة الوطنية والنقدية حيث أن الشيعية السياسية لا تنشر سوى الثقافة الحزبية الفئوية أوالدينية الطائفية والمذهبية. لا بل أنها تساهم في قمع أية ثقافة أخرى مختلفة.
وتقوم الشيعية السياسية بضبط كل نشاط ثقافي في لبنان: فبعد منع الكوميدي الفرنسي العالمي من أصل مغربي جاد المالح من عرض مسرحيته ضمن مهرجانات بيت الدين الدولية بحجة أنه يهودي في العام 2009، وبعد منع عرض فني راقص لفرقة "سامبا" برازيلية في مدينة صور في العام نفسه بحجة أنه يتنافى مع الدين والأخلاق الإسلامية، وبعد منع عرض فيلم المخرجة الإيرانية هانا مخلباف "أيام خضراء" بحجة أنه ينتقد نظام الحكم في إيران، إضافةً الى منع فيلم الكرتون "بيرسيبوليس" للمخرجة الايرانية مارجان ساترابي من العرض في الصالات اللبنانية بناء على رغبة حزب الله أيضاً، ها هو المنع يطال مجدداً فيلماً آخر بعنوان "أحمر أخضر أبيض" للمخرج الايراني نادر داوودي الذي مُنع حتى من السفر الى لبنان وأُلغيت مشاركته في "مهرجان بيروت السينمائي".
5= تقديم الخدمات المادية واصطناع بورجوازية خدماتية جديدة من الوجهاء الجدد من كبار المسؤولين وادخال عنصر الفساد المالي وبناء ثقافة النفعية والربح السريع السهل.. وهذه المساعدات المالية والتقديمات الاجتماعية ليست تمكيناً للناس بل زبائنية أخطر من زبائنية الاقطاع السياسي القديم.. فنمط بناء تلك الخدمات هو خارج سيطرة الناس ورقابتها وخارج أي توجه انمائي ما يجعلها أداة إفقار للمجتمع من كل طاقاته ومبادراته وتحويل شبابه الى متفرغين حزبيين أو اجتماعيين وليس كنشطاء مبادرين.. وبالمقابل فقد كان مشروع موسى الصدر الاجتماعي يقوم على العمل على الاستفادة من كل العناصر الايجابية في المجتمع بهدف توفير الشروط المؤدية إلى بناء شخصية سياسية واثقة سوية مؤمنة و متوازنة لشيعة لبنان وتساهم في إنهاض حركة الناس على قواعد التعاون والتضامن والاعتماد على الذات والمبادرة والتنظيم المؤسسي.
6= التعبئة الدائمة: لموازنة التحديات الداخلية حافظت الشيعية السياسية على خطاب أيديولوجي سياسي تعبوي دائم لا يفعل سوى التوتير وإبقاء العناصر والمحازبين والجمهور في حالة استعداد دائم للتصدي لعدو ما،واستمرار الشحن ضد أعداء تاريخيين بمعزل عن ضرورات السلم الأهلي وقرارات طي صفحة الماضي والعفو عن أيام وحوادث الحرب الأهلية..والتعبئة الدائمة تؤدي دوراً محدداً في إطار نزع المبادرة من عامة الناس وإبقائها في يد النخبة الحزبية المختارة والأجهزة الأمنية-العسكرية، وهذا يعارض مبدأ تمكين الناس empowerment ومبدأ مدنية التنظيم الحزبي.
7= التشكيك بمؤسسات الدولة الرسمية : وبشكل خاص المؤسسات الأمنية والحديث عن عدم فاعليتها وقدرتها على مواجهة الاستحقاقات الأمنية وفشلها في كشف الجرائم والتفجيرات أو في مواجهة الجيش الإسرائيلي خلال حرب تموز/ يوليو.. كما لم تترك الشيعية السياسية مناسبة دون استعمال لغة التشكيك وإطلاق الاتهام بحق مجلس الإنماء والأعمار، ووزارات المهجرين، والمال، والإقتصاد، ومديرية قوى الأمن الداخلي، وشعبة المعلومات تحديداً ،وطيران الشرق الأوسط ، وشركة أوجيرو.. وغيرها من المؤسسات التي لا تخضع لسيطرتها المباشرة..
8- السيطرة على الاغتراب الشيعي: وقد كان حكراً على حركة أمل حتى العام 1990 حين بدأ خروج عناصر وكوادر حزب الله الى كندا وأميركا وأوروبا وأفريقيا.. ويبدو أن تفاهم نيسان الشهير1996 سمح للحزب بالتوسع في إرسال كوادر الى الاغتراب اخترقت معظم الجمعيات والمؤسسات وقامت ببناء جمعيات ومنظمات جديدة تحت عنوان تمويل المقاومة وأعمال رعاية الشهداء والجرحى..وفي الوقت نفسه جرى التوسع في الأعمال التجارية عبر توظيف رؤوس أموال كبيرة كما في ميشيغان كمثال وفي القارة الأفريقية عموماً..والجديد هنا أن الحزب صار أيضاً يمثل مصالح بورجوازية الإغتراب الشيعية التي صارت تثق به وتتقاسم وتتشارك معه في المشاريع وحتى المغامرات (صلاح عز الدين ليس المثال الوحيد ، كما أن طائرة كوتونو والطائرة الاثيوبية حملتا دلائل على تلك العلاقات الحميمة بين الحزب والإغتراب الشيعي الأفريقي).
9- اللامسؤولية في الحكم: فقد اعتبرت الشيعية السياسية أنها غير مسؤولة عن أي عمل أو قرار حكومي لا يخدم مصالحها المباشرة (مثال تعطيل البرلمان وشل الحركة وسط المدينة لأكثر من سنة وتعطيل الوزارة بالاستقالة أو بدعوى الثلث المعطل- الموقف من المحكمة الدولية ومن القرار 1701 الذي طلبته الكتلة الشيعية أولاً ووافقت عليه ثانياً ثم تملّصت منه في كل وقت- والموقف من الاتفاقية الأمنية مع أميركا أو فرنسا والتي وافق عليها الوزراء الشيعة ثم شنوا حملة عليها- وعدم وجود أية مشاركة في القرارات الاقتصادية والاجتماعية الأساسية التي تخص حياة الناس- لا يوجد لدى الشيعية السياسية أية مشاريع أو اقتراحات تتعلق بالخصخصة أو الجامعة اللبنانية أو قطاع الكهرباء أو الضمان الصحي والاجتماعي أو قوانين العمل- والفضيحة الأكبر كانت في الموقف من الحقوق المدنية للاجئين الفلسطينيين في لبنان..
10= ضرب الحركة النقابية : شاركت الشيعية السياسية في وأد الحركة الطلابية التي كانت من أهم القطاعات المطلبية والديموقراطية في لبنان.. فبالاضافة الى موقفها من عدم السماح بإعادة الاتحاد الوطني لطلاب الجامعة اللبنانية ، فهي ترفض إجراء انتخابات ديموقراطية لروابط في الكليات والمعاهد، وترفض السماح لأي حزب بالعمل في الكليات التي تسيطر عليها طائفياً خصوصاً في المجمع الجامعي الجديد في الحدث.. وتبقى رئاسة الجامعة اللبنانية خير مثال على دور الشيعية السياسية في المحاصصة والفساد..كما دخلت الشيعية السياسية الاتحاد العمالي العام أيام السوريين من خلال كوتا حزبية وقيادات أمنية حزبية لا علاقة لها بالعمال، مثلها في ذلك مثل بقية الأحزاب، وفي استعادة لشكل ونمط الممارسة النقابية في الأنظمة الشيوعية البائدة...وهي صارت تسيطر اليوم على معظم النقابات العمالية.
11= الانتقال الى السيطرة عبر الإدارة: يمارس حزب الله (بالتنسيق مع حليفه الرئيس نبيه بري) استراتيجية الأمر الواقع ومنطق الإحتلال: كلما شغر مركز في الإدارة يتم ملؤه من جماعتهما أو يتم تعطيل أي تعيين فيه بحيث يتولى الإدارة الفعلية شخص بالوكالة أو بالتكليف يكون عادة من فريقهما.. وهكذا جرى تعيين العشرات من جماعتهما مقابل تعطيل عشرات ومئات المراكز التي ما تزال شاغرة منذ سنوات دون إمكانية لملئها بحسب ما توحي المحاولات المتكررة والفاشلة.. أما أخطر تلك المراكز فهي في الجيش والمؤسسات الأمنية الأخرى.. ولا يتخلى الحزب عن غطاء بري في هذه المواقع وذلك لاعتبارات إقليمية (سورية) ومصلحية خاصة به ولكي يحافظ على سمعة النظافة مقابل فساد حركة أمل..
تعالوا الى كلمة سواء:
أ= المسلمون الشيعة ولبنان
أقل التصارح بين اللبنانيين عامة، وفي مقامنا هذا بين المسلمين الشيعة، الاعترافُ بأن العودة إلى شعار "الدفاع عن حقوق الطائفة" الذي قلما نجا فريق سياسي من التوسل به علانية أو من التوعد به ضمناً، حد الاستقواء بالخارج على شركاء الوطن والإفراط في التترس بمظاهر القوة والغلبة، إنما يورث اللبنانيين المتمسكين بمكتسبات التجربة اللبنانية، وبقيم الحداثة السياسية، إحباطاً لا شفاء منه. من هنا فاننا نرى أن التوادد المنافق بين اللبنانيين تحت عنوان التعايش بات يتدنى عن التحديات التي يواجهها الوطن وأن الأوان قد آن لأن تخرج من صفوف المجموعات الطائفية اللبنانية طلائع تسفه شعار "حقوق الطائفة" وتعلي شعار حقوق الوطن؛ ولعل الشيعة اللبنانيين الذين تعود شبهة التزاحم بين ولائهم الوطني، وبين دفاعهم عن حقوق "الطائفة"، إلى التورم، سواء في وجدانهم وفي سلوكات بعض أحزابهم، أو في نظرة الجماعات اللبنانية الأخرى إليهم، أولى اللبنانيين بأن يبادروا، أو أقله أن تبادر فئة منهم، إلى الصدوع، تحت طائلة الخروج على التضامن المذهبي، بأنه لا شيء يعلو على ولائهم الوطني، مذكرين بأن هذا الموقف يجد سنده الديني والمعنوي في المراجعة الشجاعة التي قام بها الإمام الراحل محمد مهدي شمس الدين حيث أوصى الشيعة، في عداد ما أوصاهم، بـ "ان يدمجوا انفسهم في أقوامهم وفي مجتمعاتهم وفي أوطانهم [...] وأن لا يخترعوا لأنفسهم مشروعاً خاصاً يميّزهم عن غيرهم تحت أي ستار من العناوين"، (الوصايا، ص27).
ب= في ترميم مفهوم الدولة المدنية واتفاق الطائف
إن ترميمَ مفهوم الدولة المدنية الجامعة المانعة التي لا شريك لها في السيادة وفي رعاية أمن لبنان واللبنانيين، والمشاركةَ في بناء الدولة المنشودة هذه، هما الأفق الوحيد الذي يتطلعون إليه. وفي سياق هذا السعي الذي يشتركون فيه مع لبنانيين من شتى الانتماءات الطائفية والمشارب السياسية فإن اتفاق الطائف، الذي ارتضاه اللبنانيون سبيلاً دستورياً إلى تحديث نظامهم السياسي وإلى توفير العدالة والكرامة والمساواة في حقوق المواطنة، للجميع وبين الجميع، ــ إن اتفاق الطائف يبقى، في منأى من بداهة النظر إليه كنصٍّ يحتمل المراجعة باتفاق اللبنانيين وبما يلبي طموحات التحديث تلك، ــ يبقى الميثاق الملزم لجميعهم، والإطار الناظم لشأنهم العام وحياتهم المواطنية.
إن سيادة الدولة ما زالت تصطدم بعائق بنيوي كبير يتمثل في القيد الطائفي الذي يلقي بثقله على مستقبلنا الوطني، ويحول دون إرساء نظام ديموقراطي يضمن في آن معاً المساواة بين حقوق الأفراد واحترام التعدد الطائفي. ومثل هذا النظام المطلوب يستجيب لمعنى المواطنة الذي تجلّى في الرابع عشر من آذار، من خلال مساهمته في جلاء طبيعة العقد الاجتماعي الذي تقوم عليه حياتنا الوطنية، وفي تعيين طبيعة الدولة القادرة على تجسيد هذا العقد. فالدولة المدنية القادرة العادلة هي دولة تتمتع بسيادة فعلية، فتصون الاستقلال بوضع حدٍ للتدخلات الخارجية التي تستدعيها الصراعات الطائفية بصورة دورية. وهذا يعني أيضاً أن تتصرف الدولة بإرادة حرة، تحت سقف القانون، فتحرر اللبنانيين أفراداً وجماعات من مفهوم "فدرالية الطوائف" وتعيد الاعتبار الى الأبعاد الثقافية للتعدد الطائفي، بوصفه نوافذ حضارية على عوالم مختلفة، لا كهوفاً تقبع فيها الطوائف ، ما يجعل لبنان دولة مستقرة غير مرتهنة للتغيرات الاقليمية.
ج= في مسألة "المقاومة"
المقاومة ليست غاية في ذاتها كما يحلو للبعض تصويرها جهلا أو تطرفا... والإسلام هو الذي علمنا أن كل ما في هذا الكون حتى الدين نفسه وجد لأجل الإنسان وليس العكس...فالإنسان وكرامته وحريته هي أسمى غايات الدين ومقاصده. ذلك أن مقاصد الشريعة الواضحة والمتفق عليها بإجماع الفقهاء والمتشرعين من كل المذاهب هي ثلاثة أقسام: ضروريات وحاجيات وتحسينات، وقد حصروا الضروريات في حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال - وبعضهم جعل النفس قبل الدين- وقالوا إن هذه الأمور الخمسة قد ثبتت لديهم بالاستقراء وليس من الإسلام وحده بل "بالنظر إلى الواقع وعادات الملل والشرائع"....وأما الحاجيات فهي كل ما قامت الحاجة إليه من اجل رفع الضيق والحرج والمشقة (الدين يسر لا عسر).. وأما التحسينات فهي في الأخذ بما يستحسنه العقل من العادات والمستجدات وتجنب ما يستقبحه منها، سواء في مجال الحاجيات أو الضروريات...وأضافوا إلى كل قسم من هذه الأقسام ما هو له كالتتمة والتكملة (تكميلات) وجعلوا الضروريات أصلا للحاجيات والتحسينات والتكميلات باعتبار أن "مصالح الدين والدنيا مبنية على هذه الأمور الخمسة المذكورة" أي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال...كما اتفقوا على أن أحكام الشرع معللة بجلب المصالح ودرء المفاسد..ويعترف العلماء والفقهاء أن مصالح العباد في الدين والدنيا صارت اليوم تشمل الحق في حرية الرأي والتعبير والعمل السياسي والديموقراطية في الحكم والسلطة (أو الشورى إن شئت) والحق في العمل والمسكن وفي التعليم والصحة وفي الحياة الحرة الكريمة...
المقاومة هي إذن في شرع الإسلام والمسلمين أداة أو وسيلة في خدمة هدف أو أهداف الإنسان والمجتمع والأمة في الوحدة والحرية والكرامة والعدالة..فلا يوجد عالم أو فقيه يقول لك إن المقاومة هي الأصل والمبدأ المطلق وان المجتمع أو الوطن أو الدولة أو مقاصد الشرع، هي فرع تابع أو لزوم مكمل لغرض المقاومة الذي يصير كالمطلق أزلي سرمدي وعلى مستوى العزة الإلهية (والعياذ بالله).ولم نقرأ أو نعرف لأحد من المسلمين رفعاً لشأن الجهاد إلى حد اعتباره بديل الدين أو أصل الأمة أو أساس المجتمع.. وكل ما عرفناه وقرأناه وتعلمناه ووعيناه وعرفه ومارسه قبلنا كل المسلمين هو أن الجهاد باب من الأبواب وانه مشروط بشروطه وأنه تحت إمرة الإمام العادل (عند الشيعة) أو الخليفة (عند أهل السنة) وأن الشرعي المقبول منه هو الجهاد الدفاعي أي المقاومة ضد احتلال أو ظلم وطغيان وأن هذا الجهاد له أبواب تفصيلية في فقه المسلمين وله شروط واعتبارات تقع كلها تحت مستوى مقاصد الشرع ومصالح العباد أو تحت مسمى الحرب العادلة... وفقهاء المسلمين، السني والشيعي والزيدي والخارجي والظاهري، الذين كان الورع والتقوى والعلم يمنعهم من الإفتاء مخافة الوقوع في الخطأ وتحمل مسؤولية الفتوى، كانوا أكثر ما دققوا وربطوا وعقدوا الفتاوى المتعلقة بالجهاد....وكما في كل الشرائع السماوية، فان الإسلام أرسى الضوابط والحدود وحدد السلوكيات والأخلاقيات الواجب إتباعها إذا كان لا بد من الحرب...والحرب العادلة فقط وليس مطلق حرب (أي الجهاد الدفاعي والمقاومة)..... فليست الحرب بالمتعة أو العبادة (كما يقول البعض اليوم جاعلا من الإسلام دين حرب وسيف لا دين حق وعدل ومكارم الأخلاق)، بل هي آخر الدواء حين يكون ذلك مناسبا للمجتمع والأمة...
وفي الشرع السياسي الوضعي الدولي المقاومة هي كما قال كلاوزفيتز عن الحرب "امتداد للسياسة بوسائل أخرى"..هي وظيفة نضالية محددة محكومة بأسلوب وطريقة وبضوابط واطر، وبمرجعية سياسية واضحة من حيث حفظ المصالح وجلبها ودرء المفاسد وردعها..وهي شرعية ومشروعة ضمن ضوابط وحدود المجتمع الدولي وقوانينه وأعرافه التي يعترف الإسلام بها كلها على قاعدة الوفاء بالعهود التي نوقعها وندخل ضمنها (إن العهد كان مسؤولا)... وفي المعنى الوطني، السياسي الوضعي، فان المقاومة، أية مقاومة، هي حركة سياسية مسلحة ترتبط بإطار ناظم شامل وعميق هو ميثاق البلاد ودستورها وما اتفق عليه أهلها من نظام حكم ومؤسسات، وما تعاهدوا عليه من أهداف عليا وغايات.. وإلا تحولت المقاومة إلى ميليشيا والى حب السلاح... وإذا كانت الميليشيا وصفاً للقوى الشعبية المسلحة غير النظامية في تجارب العديد من الشعوب وعلى رأسها الشعب الأميركي نفسه خلال حرب الاستقلال..أو التجربة الفرنسية أو السويسرية أو الأوروبية عموما في حرب الأنصار والمقاومة ضد النازية والفاشية، إلا أنها بعد قيام الدولة المستقلة تفقد ضرورة وجودها، إذ يصير من الواجب الديني والوطني انضواء المقاومة تحت راية الدولة والنظام وإلا صارت قوة فئوية خارج الدولة وفوق الدستور وفي مواجهة مع مصالح الناس وأمنها واستقرارها، وتلك من الضرورات الشرعية الواجب حفظها والتفكير فيها أولا..أي قبل أي شيء آخر... وبها تقاس الأمور وليس عكس ذلك...
أما من حيث احتكار "حزب الله" لمشروع المقاومة فقد كان موقف الشيخ محمد مهدي شمس الدين قاطعاً حازماً أعلنه في كل المناسبات ومن على أعلى المنابر.. فالمقاومة "نهضت تحت سقف مشروع الإمام الصدر والمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، المشروع الوطني الإسلامي الإنساني لبناء الدولة والمجتمع في لبنان وعلى ثوابت الكيان اللبناني ومسلّماته.. والمقاومة نمت في ظل هذا المشروع، فهي مقاومة الشعب اللبناني، كل الشعب اللبناني، لا فئة واحدة منه، وكل المناطق اللبنانية، لا منطقة واحدة منها، وهي مقاومة الدولة والمجتمع والجيش والأهالي والأحزاب.. وكل ذلك تحت سقف، وفي ظل، المشروع الوطني الذي هو الحصن والحضن والمرجع والمآل... إن المقاومة ليست غاية بحد ذاتها، وليست مشروعاً خاصاً بحد ذاته، ناهيك عن أن تكون حزباً أو فئة خاصة خارج مشروع الدولة والمجتمع في لبنان.. المقاومة أداة ضغط سياسية لها غاية تحرير لا غير، ووظيفتها أن تخدم هدف التحرير الذي يقوم به المجتمع بجميع مؤسّساته السياسيّة والأهليّة.. إنّ هذه الرؤية هي الرؤية الوطنيّة الحقيقيّة للمقاومة".
د= في عروبة لبنان
إن عروبة لبنان لا تخرج، ولا يمكن أن تخرج، عمّا جرى على العروبة، من حيث هي عنوان حضاري يجمع لا شعار سياسي يفرق ــ ما جرى عليها، خلال العقود الماضية، من استئناف نظر في مفرداتها، ومن إعادة تعريف لآفاقها؛ ولعل أنضج تعبير، ليومنا هذا، عن تلك المراجعات لمفهوم العروبة ما ورد في "إعلان الرياض" في ختام القمة العربية التاسعة عشرة في آذار 2007، من أن "العروبة ليست مفهوماً عرقياً عنصرياً، بل هي هوية ثقافية موحِدّة تلعب اللغةُ العربية دورَ المعبّر عنها والحافظِ لتراثها. وهي إطارٌ حضاري مشترك قائم على القيم الروحية والأخلاقية والإنسانية". ومن نافل القول أيضاً أن عروبة لبنان، استئناساً بنص إعلان الرياض، لا يمكن أن تقوم إلا على "ثقافة الاعتدال والتسامح والحوار والانفتاح، وعلى رفض كل أشكال الإرهاب والغلوّ والتطرف وجميع التوجهات العنصرية الإقصائية [...]". هو كذلك ولو أنه لا ضائر من التذكير بأن لبنان، في سيرته المعلومة لدى الجميع، لا يحتاج إلى دروسٍ لا في الوطنية ولا في العروبة.
ه= في الصراع العربي ــ الإسرائيلي
إن لبنان، بحكم التاريخ والجغرافيا، وبإرادة التزامه بموجبات التضامن العربي وبمبادىء الحق الإنساني، كان وما يزال في صميم الصراع العربي ــ الإسرائيلي. بيد أن مكانه هذا لا ينبغي له أن يرتب عليه ما يزيد على المقدار المنصف من التزامه في إطار التكليف العربي: له ما للعرب وعليه ما عليهم ضمن رؤية عربية واحدة. وقد وقف لبنان، وهو يقف اليوم، مع شعب فلسطين وسلطته الوطنية، في ما تختاره من سياسات، مؤداها التوصل إلى إقامة دولة حرة سيدة قابلة للحياة وعاصمتها القدس، مع التمسك بازالة المستوطنات وجدار الفصل العنصري،وبحق العودة وفق القرار الدولي 194. من ثم فإن نصيب لبنان من مكابدة ذلك النزاع، ومعالجته، محكومٌ، خصوصاً بعد الانسحاب الإسرائيلي من لبنان عام 2000،وبعد حرب تموز 2006، بأن يكال بمكيال الاستراتيجية العربية الموحدة التي تبلورت في مبادرة السلام العربية التي أعلن عنها خلال قمّةِ بيروت 2002، والتي توثقت في قمّةِ الرياض 2007.
"إما أن توضع استراتيجيّة عربيّة كاملة لتحمّل أعباء قضية فلسطين، ويكون لبنان والجنوب جزءاً منها، وإلا فلا يمكن أن نوافق أبداً على أن يكون الجنوب أرضاً محتلة.. ونحن سنكون أول المجاهدين وأول الشهداء إذا كانت هناك خطّة عربيّة شاملة.. أما إذا لم تكن هناك خطة، وتكون هناك مزايدات وعنتريات وتناقض وتمزّق عربي، فلمصلحة مَنّ يضيع الجنوب؟"(شمس الدين).
"نحن في لبنان محكومون بثلاث معادلات، المعادلة الوطنيّة: الإسرائيليون يحتلون أراضي لبنانية، والمعادلة القوميّة أو العربيّة: الإسرائيليون يحتلون فلسطين العربيّة والجولان.. والمعادلة الإسلامية: هم يحتلون بلاداً إسلامية وشرّدوا شعبها وينتهكون مقدسات إسلاميّة.. المقاومة تخدم المعادلات الثلاث.. فكوننا لبنانيين نقاوم، وكوننا عرباً نقاوم، وكوننا مسلمين نقاوم، وإن كنا نفضّل أن لا يكون للمقاومة في لبنان هوية دينيّة.. وإذا تمّ انسحاب إسرائيل إلى ما وراء الحدود الدوليّة مع فلسطين من دون شرط.. ووفقاً للقرار الدولي 425. إذا تم ذلك لا يعود عندنا في لبنان معادلة وطنية.. تتوقف المقاومة.. ولكن هذا لا يعني اعترافاً بشرعية الكيان الإسرائيلي من الناحية القوميّة ومن الناحية الدينيّة.. هذا الكيان غير شرعي ومقاومته مشروعة بل واجبة.. ولكن نحن بعض العرب في لبنان، وبعض المسلمين في لبنان.. ولا يمكن أن نأخذ على عاتقنا تنفيذ قرار عربي على المستوى القومي، أو إسلامي على مستوى الأمّة الإسلاميّة، وحدَنا.. ومن هنا لا يمكن أن نستمر في المقاومة باعتبارها قومية عربية أو مقاومة الأمة الإسلامية.. وما لم يكن هناك قرار عربي أو إسلامي قابل للتنفيذ، لا يقتصر على مجرّد الشعار السياسي، فنحن جزء منه، وإلا فإن قدرتنا على المقاومة تتوقف عند حدود الانسحاب الإسرائيلي من أرضنا.." (شمس الدين).