المستقبل - الاثنين 24 تشرين الأول 2011 - العدد 4154 -
محمد م. الارناؤوط- أكاديمي سوري
في صيف 2001، حين كان لا يزال الحديث عن "ربيع دمشق"، تلقيت دعوة من مركز الدراسات الحضارية في دمشق لإلقاء محاضرة هناك فانتهزت هذه الفرصة لأتحدث عن الذكرى الثمانين لمشروع الدولة العربية الذي سقط في ميسلون 1920، وذلك بمناسبة صدور كتاب كان قد نُشر لي حديثاً في عمان ولم يصل دمشق، ألا وهو "دراسات حول الحكومة/ الدولة العربية في دمشق 1918-1920".
كانت تلك فترة مخاض جديد في المنتديات الجديدة بعد ثلاثة عقود من الحكم الشمولي المغلف بدستور 1973 الذي أعطى صلاحيات رئاسية لم يسبق لها مثيل لحافظ الأسد الذي تولى الحكم بعد انقلاب عسكري على قيادة الحزب في ما سمي "الحركة التصحيحية". وقد اخترت هذه المناسبة لأذكّر السوريين بأي دستور كان لهم في 1920 وأين أصبحنا بعد ثمانين سنة من ذلك الدستور.
وكان الأمير فيصل قد أعلن في بلاغه الأول بعد دخوله دمشق على رأس قوات الثورة العربية في 5/10/1918 عن تشكيل "حكومة دستورية" في البلاد، وحين افتتح "المؤتمر السوري" الذي كان بمثابة برلمان في 7/5/1919 وسّع من مهامه لتشمل "سنّ القانون الأساسي ليكون دستور سوريا المستقبل". وبعد إعلان الاستقلال في 8/3/1920 ألّف "المؤتمر السوري" لجنة لوضع الدستور برئاسة هاشم الأتاسي التي استغرق عملها عدة أسابيع درست فيه دساتير الدول الأوروبية، وقدمت مشروع الدستور السوري الأول للمؤتمر الذي أخذ بمناقشته والمصادقة عليه مادة مادة منذ مطلع تموز 1920.
وقد استثارت المادة الأولى من الدستور التي تتعلق بنظام الحكم مناقشات النواب في البرلمان عدة أيام الى أن أقرت في 12 تموز 1920، حيث تضمنت ما يلي "حكومة المملكة السورية العربية حكومة مدنية نيابية عاصمتها دمشق الشام ودين ملكها الإسلام". ويلاحظ هنا أن هذا النص الدستوري كان الأول من نوعه في البلاد العربية سواء في ما يتعلق بنطام الحكم (حكومة مدنية) أو العلاقة بين الدين والدولة التي اقتصرت على ذكر دين رأس الدولة. ومن البنود التي أثارت نقاشاً حامياً البند(10) الذي انتصر لحق المرأة في الانتخاب والترشيح للمجلس النيابي وأُقرّ في 15 تموز 1920.
وللأسف فإن النواب كانوا يناقشون ويقرّون مواد الدستور واحدة بعد الأخرى مع تهديد الجنرال غورو ومن ثم تقدم القوات الفرنسية الى ضواحي دمشق لتنهي في ميسلون صباح 24 تموز هذا الحلم السوري المبكر بالاستقلال والحكم الدستوري. ومع ذلك فإن المواد التي أقرت حتى ذلك الحين من مشروع الدستور الأول الذي وصل الينا، توضح أن فكرة "الدولة المدنية" لم تكن غريبة عن السوريين في 1920، بل إن المناقشات التي دارت حولها وكانت تنقلها الصحافة يوماً بيوم تدل على أن أجداد السوريين الحاليين الذين يطالبون بالحرية والديموقراطية كانوا قد وضعوا الأسس لأحفادهم، ولكن الحكم الشمولي الذي دام عدة عقود أنسى الناس دستور 1920 وغيره. فقد ولد جيل كامل في سوريا بعد 1970 يمثل ثلث السكان في سوريا لا يعرف شيئا سوى دستور 1973 الذي أعطى صفة دستورية للحكم الشمولي.
ومن عجائب الصدف أن أحد المستمعين لمحاضرتي عن دستور 1920 عرّفني عن نفسه في نهاية المحاضرة واعترف لي أنه كان أحد أفراد المجموعة الضيقة التي جُمعت في مطلع 1972 لتضع للرئيس الجديد حافظ الأسد أقصى ما يمكن من صلاحيات رئاسية لم تجتمع لغيره، وذلك باسم الانتقال من "حكم الدستور المؤقت" الى "حكم الدستور الدائم". فقد أصبح وضع "الدستور الدائم" إنجازاً في حد ذاته، ولم يعدّل إلا في 10 حزيران/ يونيو 2000 ليسمح للابن بوراثة الوالد في أول تحول من نوعه نحو الجمهورية الوراثية في العالم العربي.
المطلوب من السوريين أن يعتزوا بالسبق لتبني نوابهم "الحكومة المدنية" في دستور 1920 وألا يتعاملوا مع "الدولة المدنية" في 2011 باعتبارها تنازلاً من بعضهم لحساب بعضهم الآخر في المعارضة!