للبطريرك الماروني (كما لغيره من المرجعيات الروحية والسياسية) علينا ثلاثة إلتزامات وطنية:
1-التشاور والتحاور في كل شأن أو قضية مما يمس العيش المشترك أو يهدد كيان الدولة. وليس المهم في المشاورات والحوارات أن نصل إلى موقف موحد، وليس العيب في أن نختلف، إنما المهم هو في تحديد وضبط هذا الإختلاف، والعيب هو في أن لا نعرف على ماذا نختلف وفي أن نترك الأمور تتداعى إلى إنقسام يهدد ثوابت الوفاق والعيش المشترك، ويؤثر على الأجواء ويسمم العقول ناهيك عن تدمير مشروع الدولة الوطنية الجامعة.
2-عدم جواز استخدام لغة التخوين والتكفير، أو لغة التشكيك بالآخر ، كائناً من كان، أو التهويل بالويل والثبور وعظائم الأمور، أو التخويف بأمور لا أساس لها ، وكائناً ما كانت الأسباب أو الدوافع. فالحوار الدائم كان وما يزال السبيل الوحيد إلى تكوين قناعات مشتركة وإلى فهم أعمق لنقاط الخلاف، وذلك لكي نعمل معاً بما نتفق عليه ويعذر بعضنا بعضاً في ما نختلف فيه. إن غاية الحوار الرئيسة هي بناء الثقة ، إذ بدون ثقة وصراحة لا تقدُّم على أي طريق أو مسار..والثقة والإطمئنان شرطان للتضامن والوحدة.
3- النضال الدائم معاً وكل من موقعه، لتأكيد الحرية والكرامة والديمقراطية وتعزيزها، إذ بها يقوم لبنان.وهذه الأقانيم الثلاثة هي أصلاً مبرر وجود لبنان في المنطقة العربية.وبالتالي فإن الحرص على الحرية والكرامة والديموقراطية في لبنان مدعاة للحرص عليها في محيطنا المباشر..هذا ناهيك عن قيمتها الإنسانية الكونية والمسيحية تحديداً..
مبرر هذا الكلام ما صدر ويصدر عن البعض من تهويل وتخويف حول مصير المسيحيين في هذا الشرق العربي في حال نجحت ثورات الشعوب وانتصر الربيع على خريف بطاركة الاستبداد.
وكأن وضع المسيحيين اليوم هو (أو أنه كان) في أحسن حال وراحة بال ؟؟ وكأن أنظمة الاستبداد العربي العسكري كانت رؤوفة بالمسيحيين أو مراعية لمشاعرهم ولحقوقهم في لبنان وسوريا ؟؟
أو كأن خلاص المسيحيين هو في استعادة مشروع تحالف الأقليات الذي ثار المسيحيون اللبنانيون ضده يوم أسقطوا الاتفاق الثلاثي المشؤوم في 15 كانون الثاني 1986.
لقد قفزت كلمات البطريرك عن منجزات ومكتسبات تحققت خلال الخمسين سنة الماضية من الحوار والعيش معاً في هذا الشرق العربي..أقصد بالتحديد منذ المجمع الفاتيكاني الثاني (1962-1965) وبيانه التاريخي (نوسترا آيتاتي)، وبشكل أكثر تحديداً مع السينودوس الخاص بلبنان (حزيران1991- كانون الأول1995)، والإرشاد الرسولي الصادر عن البابا يوحنا بولس الثاني في زيارته التاريخية الى لبنان لتسليم الإرشاد (10 أيار 1997) ، ومؤتمرات بطاركة الشرق الكاثوليك وبياناتها ومقرراتها..وصولاً إلى السينودوس الخاص بمسيحيي الشرق الأوسط (10- 24 تشرين الأول 2010 ).. ولنأخذ بعض الأمثلة من هذه الوثائق:
"إن حواراً حقيقياً بين مؤمني الأديان التوحيدية الكبرى، يرتكز على الاحترام المتبادل والعمل معاً على حفظ العدالة الاجتماعية والقيم الأخلاقية والسلام والحرية وتنميتها لجميع الناس" (المجمع الفاتيكاني الثاني، بيان في العلاقات مع الأديان غير المسيحية، الفقرة 3).
"إن الكنيسة الكاثوليكية منفتحة على الحوار والتعاون مع المسلمين في لبنان..وتريد أن تكون منفتحة على الحوار والتعاون مع مسلمي سائر البلدان العربية، ولبنان جزء لا يتجزأ منها..وفي الواقع إن مصيراً واحداً يربط المسيحيين والمسلمين في لبنان وسائر بلدان المنطقة.. ". (سينودوس الأساقفة الخاص بلبنان، وثيقة العمل، الفقرة 99).
"ومسيحيو لبنان وكامل العالم العربي هم فخورون بتراثهم، يُسهمون إسهاماً نشطاً في التطور الثقافي... بودي أن أشدد بالنسبة الى مسيحيي لبنان، على ضرورة المحافظة على علاقاتهم التضامنية مع العالم العربي وتوطيدها. وأدعوهم الى اعتبار انضوائهم الى الثقافة العربية التي أسهموا فيها إسهاماً كبيراً ، موقعاً مميزاً لكي يُقيموا هم وسائر مسيحيي البلدان حوارأً صادقاً وعميقاً مع المسلمين. إن مسيحيي الشرق الأوسط ومسلميه، وهم يعيشون في المنطقة ذاتها، وقد عرفوا في تاريخهم أيام عز وأيام بؤس، مدعوون الى أن يبنوا معاً مستقبل عيش مشترك وتعاون، يهدف الى تطوير شعوبهم تطويراً انسانياً وأخلاقياً، وعلاوة على ذلك قد يساعد الحوار والتعاون بين مسيحيي لبنان ومسلميه على تحقيق الخطوة ذاتها في بلدان أخرى" (الإرشاد الرسولي،الفقرة 93 وعنوانها "التضامن مع العالم العربي").
"إنّ المسيحيّ، مثله مثل أيّ إنسانٍ، إذ يستنكر الاضطهاد والعنف، يتذكّر أنّ الكيان المسيحيّ يقتضي المشاركة في صليب المسيح. انّ التلميذ ليس أعظم من معلّمه (راجع متّى10، 24). طوبى للمضطهدين من أجل البرّ لأنّهم يرثون الملكوت (راجع متى 5، 10). ولكنّ الاضطهاد لا بدّ من أن يوقظ ضمائر المسيحيّين في العالم في سبيل المزيد من التضامن، وأن يدفع إلى التزام المطالبة بتطبيق القانون الدوليّ ودعمه، واحترام جميع الأشخاص والشعوب".... "يُدعى مسيحيّو الشرق الأوسط إلى متابعة الحوار مع مواطنيهم من الديانات الأخرى، كونه يقرّب بين الأذهان والقلوب. لذلك يجدر بهم مع شركائهم تدعيم الحوار الدينيّ، وتنقية الذاكرة، والغفران المتبادل عن الماضي، والبحث عن مستقبل مشتركٍ أفضل.وهم يبحثون، في حياتهم اليوميّة، عن القبول المتبادل بعضهم لبعض على الرغم من الاختلاف، ويجهدون في بناء مجتمعٍ جديد، حيث يُحترَم التعدد الديني ويُنبَذُ التطرّف والتعصّب"..."يتشارك المسيحيّون والمسلمون معًا في الشرق الأوسط في الحياة والمصير. ومعًا يبنون المجتمع. لذلك من المهم تعزيز مفهوم المواطنة، وكرامة الشخص البشريّ، والمساواة في الحقوق والواجبات، والحريّة الدينيّة التي تتضمّن حريّة العبادة وحريّة الضمير"... (من توصيات سينودوس مسيحيي الشرق الأوسط).
وما نطلبه من البطريرك العزيز هو استعادة لغة المصير الواحد الذي يجمع المسلمين والمسيحيين في بلادهم: إما أن ننهض معاً وإما أن نغرق فرادى..ولا خيار آخر أمامنا..
كما نطلب منه الانتباه إلى كيفية مقاربة موضوع هجرة المسيحيين من المنطقة أو قضية التعديات الواقعة على المسيحيين في بعض البلدان العربية..فالمسألة ليست مسألة "إضطهاد ديني" أو "سلفية دينية تريد تصفية المسيحيين"...وإنما هي مسألة جرائم سياسية إرهابية وقعت وتقع على المسلمين أيضاً وربما بقساوة أكبر، كما هو الحال في العراق على سبيل المثال..إن تصاعد الإرهاب "الإسلامي" التكفيري ضد الآخر ليس إضطهاداً دينياً تعيشه المجتمعات المسلمة أو تقوم به الدولة أو المجتمع بحق أقلية دينية..إنما هو من نوع الأزمات التي تطال مجمل المجتمع وتصيب كل أبنائه وتهدد نسيجه ووحدته في غياب الحلول العادلة والشاملة وفي غياب الدولة الحاضنة والضامنة للحرية والديمقراطية والعدالة والكرامة والمواطنة المتساوية. وهذا الوضع هو من افرازات أنظمة الاستبداد التي تحكم باسم التقدمية العلمانية فيما هي تمارس حكماً مافياوياً طائفياً مذهبياً عشائرياً عائلياً فئوياً لم يعرف التاريخ له مثيلاً...كما أن وضع الأقلية المستفيدة من نظام مصالح معينة في بعض البلاد العربية هو وضع هش مؤقت وخادع وليس هو الضمانة الحقيقية لديموقراطية سياسية حقيقية ولحرية وكرامة ومواطنة متساوية سليمة للمسيحيين والمسلمين معاً..
إن التحدي الرئيسي الذي يواجه أهل هذه البلاد يتعلق بدور المسيحيين العرب ومساهمتهم الفريدة في مجتمعاتهم وبالمسؤولية المشتركة بين المسلمين والمسيحيين في مواجهة هجرة المسيحيين من الشرق، ناهيك عن المسؤولية المشتركة في تجديد الحياة السياسية والثقافة السياسية وفي بناء أفق عربي إسلامي مسيحي مدني للعيش معاً وللتطور الديمقراطي لمجتمعاتنا العربية المأزومة. وفي هذا السياق من المفيد التذكير بالوصية الخالدة للشيخ محمد مهدي شمس الدين:
"أنا أرى أن من مسؤولية العرب والمسلمين أن يشجعوا كل الوسائل التي تجعل المسيحية في الشرق تستعيد كامل حضورها وفعاليتها ودورها في صنع القرارات وفي تسيير حركة التاريخ"...
باعتقادي أن هذه الكلمة الطيّبة الصادقة هي التي كان ينبغي أن تجسّد معنى عنوان السينودوس الخاص بالشرق الأوسط "شركة وشهادة"..وشعار البطريرك الراعي: شركة ومحبة..نعم شراكة كاملة مع المسلمين ، ومحبة كاملة لكل الناس البسطاء المظلومين، وشهادة كاملة للحق والعدل.
وبعد.. فاننا أمام تحولات عاصفة وعميقة تنذر بأشد الأخطار، خصوصاً على وضع المسيحيين في هذا الشرق . ذلك أن الارتباط ما بين مواجهة وضع المسيحيين المتردي في بلادنا، ووضع الظلم والحيف الواقع عليهم، وقضية بلاد العرب في التحرر الوطني والاستقلال والتقدم وفي الحرية والعدالة والديموقراطية ، تطرح علينا ضرورة الارتقاء بالعلاقات الإسلامية- المسيحية وبالحوار الإسلامي-المسيحي الى مستوى متقدم . فلم تعد مقبولة تلك المجاملات ولا تلك الحوارات المتفذلكة العقيمة...ولم تعد مقبولة شعارات التسامح والانفتاح..صارت المصيبة كبيرة وصار الخطب جللاً وهو بلغ وضعاً ينذر بتمزيق النسيج الإجتماعي والأخلاقي والحضاري لمجتمعاتنا حتى في مجال العلاقات الاسلامية-الاسلامية، فكيف بالاسلامية-المسيحية... إن ذلك يحتاج الى إعادة نظر في آليات وبرامج عمل حركتنا الحوارية العربية لكي تتحول فعلاً الى معبِّر حقيقي عن مطالب وأماني شعوبنا في زمن الثورات والفجر الطالع مهما طال ليل الاستبداد..
إن الوضع الراهن للمسيحيين العرب والمشرقيين ، ووضع بلادنا العربية – الإسلامية والمشرقية عموماً، يطرح علينا ضرورة إجراء مراجعة نقدية جذرية لما آلت إليه حركات النضال والتحرر الوطني في البلاد العربية، ولما آلت إليه تجربة الحركة القومية العربية والحركة الاسلامية في العقود الأخيرة.. إن هذه الدعوة موجهة أولاً إلى أبناء الحركة الاسلامية العربية ، المرتبطين بخط الحق والعدل ، وبدعوة الحوار والديموقراطية ، وبمطالب التحرر والإستقلال والتنمية الشاملة والعدالة الاجتماعية ، وبصوت العقل والوعي والمبادرة والتعاون والتضامن... والى كل الشرفاء والأحرار، من مسلمين ومسيحيين، الذين ما زال كره الاستعمار والامبريالية والعنصرية والاحتلال والظلم والطغيان هو الذي يحرك مشاعر الحب والأمل في ضميرهم ووجدانهم...
1- أن نعمل معاً على تحقيق مصالحة تاريخية بين تيارات الأمة من يسارية وقومية وإسلامية ومسيحية ، وبين هذه التيارات وجماهير شعبها ، وذلك من خلال الانخراط القوي وغير المشروط في الدفاع عن الحقوق والحريات لكل الناس ومن غير تمييز أو تمايز..
2- أن نعمل معاً على صياغة مبادرات حقيقية لتطوير مشاركة الناس في الحياة السياسية والثقافية، ولتطوير سبل وآليات الحوار وحل الخلافات ومعالجة التناقضات، ضمن رؤية نهضوية مرتكزة الى ثوابت الديموقراطية والتعددية وقبول الاختلاف والعمل المشترك في أصغر الوحدات الممكنة وصولاً الى أكبرها وأعقدها.
3- أن نعيد الاعتبار للكرامة الانسانية وللحقوق الأساسية وللحريات الأساسية ، وأن ننبذ الظلم والعنف والتعدي والغبن والإجحاف وكل شعور بالنقص والامتهان وأن نعيد الإعتبار لقيم العدل والمساواة والكرامة بين الناس جميعاً، في بلادنا أولاً، وعلى مستوى العالم ثانياً.
4- أن نعمل معاً في إطار جبهة مشتركة إسلامية-مسيحية ضد الرأسمالية المتوحشة وضد الظلم والعدوان والقهر والإستتباع وضد الإستغلال والعبودية الجديدة ، وأن نؤسس معاً لمبادرات تضامن حقيقية مع كل الفقراء والمظلومين والمقهورين في هذه البلاد وبغض النظر عن انتماءاتهم، وأن نشهد للحق وللعدل، ولو على النفس أو على ذي قربى..
5- أن نناضل لكي يُطلق سراح كل السجناء السياسيين والمعتقلين ظلماً وعدواناً، ولكي تتحرر النقابات والجمعيات وهيئات المجتمع المدني من وصاية ورعب الأجهزة والمخابرات، ولكي تسود حرية الرأي والتعبير، والاعتراف بالتنوع والتعدد السياسي والثقافي، وبحقوق الآخر المختلف كشريك، وبالتكامل لا الانصهار، وبالمصالحة والتضامن لا التكفير والتخوين..
إن في هذا المشروع تضامناً حقيقياً وفاعلاً مع مسيحيي الشرق والعروبة.. إنه قاعدة لنهوض جديد لحركة التحرر الوطني العربية، على ثوابت أصيلة مرتكزها الحرية والديموقراطية والعدالة والكرامة الإنسانية...