كلمة في ندوة رابطة أصدقاء كمال جنبلاط مساء الأربعاء 19 تشرين الأول 2011
ما الذي يجمع بين الامام موسى الصدر والمعلم كمال جنبلاط ؟؟ سؤال قد يبدو للوهلة الأولى في غير محله إلا أنه مدخلنا الوحيد لقراءة واقعنا المعاصر وخصوصاً حين يدور الحديث عن العولمة والموقف الانساني والديني منها.. فهذه المسألة (الإسلام والعولمة) هي الجامع الأول والأساس بين هذين العملاقين وهي موضوع الكتاب الذي بين أيدينا..
وكمال جنبلاط وموسى الصدر ليسا من الأشخاص العاديين ، بل هما مثال للشخص الاستثنائي بكل ما لكلمة استثنائي من معنى.. واستثنائيتهما لا تتأتى فقط من السياسات التي قاداها في السيتنات أو السبعينات، أو من المحطات السياسية التي خاضاها كل من موقعه وضمن جماعته..
استثنائية كمال جنبلاط وموسى الصدر تنبع من اشكاليات والتباسات السياقات التي حكمت تجربتهما وخياراتهما في تقاطعها مع استعداداتهما وتطلعاتهما.. فمسائل مثل العنف والقوة والثورة في مقابل السلم واللاعنف والاصلاح، ومثل العشائرية والمناطقية والطائفية في مقابل المساواة في المواطنية، ومثل العلمانية والالحاد والمادية في مقابل العرفان الروحاني والانسانوية، ومثل الاشتراكية الماركسية والليبرالية في مقابل الاشتراكية ذات الوجه الانساني والديموقراطية الاجتماعية، ومثل الكيانية اللبنانية في مقابل العروبة الجامعة الحضارية، وقضايا التسوية اللبنانية وآفاقها، والإصلاح ومتطلباته، والدفاع والهجوم، والرابطة الوطنية والرابطة القومية ،والبعد الانساني العالمي الخ.. هذه المسائل هي التي تشكل برأيي المدخل الأصح والأنسب لقراءة منصفة لكمال جنبلاط وموسى الصدر وخصوصاً لجهة موقفهما الانساني من العولمة ومن تعدد الثقافات وحوارها وتلاقحها في مشروع إنساني أخلاقي عالمي...
صحيح أن الامام والمعلم اختلفا مراراً في السياسة كما كانا مختلفين في تكوينهما الفكري والشخصي وفي ذائقتهما الثقافية والدينية.. ولكن ما جمع بينهما هو تلك النزعة الإنسانية العالمية العذبة المسالمة الطيبة الجميلة المطمئنة بسكينة الحق والتي لا يمكن أن يخطئها القلب..وهما كانا في حياتهما متساميان عن الحياة المادية ، متساميان عن كل الأشياء، لأنهما كانا أنبل منها..
وبالفعل فقد تخطى كمال جنبلاط وموسى الصدر كل الحدود وحطما كل السدود، حتى تألقا في سماء عليائهما مع الشهداء والصديقين والأولياء...فجمعت بينهما الشهادة: شهادة الواقع وشهادة الغيب..
وقد اشترك كمال جنبلاط وموسى الصدر في العرفان ، وسلكا ما يشبه المسلك الصوفي أو رحلة الطريق الموحشة بلا زاد ولا ماء، في معارج الحقيقة.."وما أوحش الطريق لقلة سالكيه" ، بحسب ما يقول الإمام علي، أبو العرفان والتصّوف على طريق الحق .. التي وصف جنبلاط فيها حاله والمقام قائلاً:
(أبيت فوق السحاب فموطني في الغيوم وشُعلتي لا تُرى ونور عقلي يدوم )
كما اشترك جنبلاط والصدر بالإيمان العميق بالقيم الانسانية السامية وبعملهما في سلوكها الفردي وفي سياستهما المجتمعية على استنطاق هذه القيم الانسانية لإقامة نظام حكم صالح ولبناء الدولة المدنية العادلة بعيداً عن النظام الديني الإلهي أوالنظام الزمني لسلطة تحكم باسم عقيدة دينية أو قومية أو سياسية..
وكان جنبلاط والصدر القدوة الصالحة في زمنهما إذ هما الملتزمان بكل ما ناديا به من قيم، وهما الجامعان المزاوجان بين القول والعمل، فكان كل منهما هو القائد والامام والمعلم والشهيد الشاهد المعطاء بسخاء وبدون حساب.. وكان كل منهما هو الحكيم الحصيف والمناضل العنيد الصامد والفيلسوف المتحدي المقتحم.. كما في قول الفيدانتا الهندية التي أحبها جنبلاط: "استيقظ، قم، ولا تتوقف ، حتى تصل إلى الهدف"..
وجنبلاط هو القائل أيضاً: "أموت ولا أموت.. لا أبالي.. فهذا العمر من نسج الخيال"..
كأني به يستعيد قول الإمام علي زين العابدين، وما كان يردده الامام الصدر في خطب عاشوراء:
"ما دمنا على الحق لا نبالي، وقعنا على الموت أم وقع الموت علينا"..
موسى الصدر وكمال جنبلاط هما إمامان للحق وللعدل، قاما وقعدا ونهضا واستنهضا، ومشيا مجاهدين ولم يتوقفا عن العطاء حتى لحظة الموت الذي هو فناء وبقاء بالحق أو الحقيقة.
إن طريق كمال جنبلاط وموسى الصدر إلى انسانية الانسان المتخطي لذاته هي طريق معرفة النفس كما في الآية الكريمة "وفي أنفسكم أفلا ُتبصرون"، وفي الحديث النبوي: "من عرف نفسه فقد عرف ربه"، وكما في القول المشهور عن الامام علي بن أبي طالب وهو القول الذي كانا يرددانه في معظم كتبهما ومقالاتهما:
"دواؤك فيك وما تشعر وداؤك فيك وما تبصر
وتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
ومعرفة النفس لا تعني الانطواء والانزواء وانما الانخراط في المجتمع وفي عملية إصلاح الانسان والمجتمع.. فالمسلك الحكمي العرفاني التوحيدي بحسب كمال جنبلاط، والتشيع العلوي الأصيل بحسب موسى الصدر، ليس صوفية انعزالية انتظارية ، كما أنه لا يمكن أن يتمظهر في مظهر الفجور السياسي الشائع في لبنان ، وانما هو تقوى حياتية لخدمة الانسان والمجتمع..
وبالتالي فانه لا يجوز قياس الإصلاح ووزنه بمقاييس وموازين المدنية الحديثة المادية المستهلكة التي تهدد الانسان والعائلة والمجتمع والعقل..وهذا الكلام كتبه جنبلاط مطلع الخمسينيات وكتبه موسى الصدر مطلع الستينات، أي قبل انبثاق فلسفة ما بعد الحداثة ودعوات حماية البيئة والانسان وحفظ حياة الكون والكائنات..
والإصلاح الحقيقي عند كمال جنبلاط وموسى الصدر لا يقوم بالتشذيب الأعمى ولا بالزيادة أو النقصان، ولا بتقليد الجديد، أي جديد، ولا بالتشويه أو التحريف أو الهدم، بل بالتنمية المتوافقة الملائمة للأصول والجذور التي هي غذاء حياتنا وشمس صباحاتنا ونسيم أمسياتنا.. من هنا دعوة كمال جنبلاط وموسى الصدر إلى التفقه في الدين (وارسال جنبلاط طلبة من الشباب المؤمنين ومن المشايخ المتقدمين إلى كبرى الجامعات الاسلامية كالأزهر والنجف، في العام 57 او 58 ليعودوا على خطى السيد عبد الله التنوخي والشيخ محمد ابي هلال الفاضل، وافتتاح موسى الصدر لمعهد الدراسات الدينية في صور وترغيبه للطلاب بالدراسة والتفقه)..
واهتمام جنبلاط بالدين جعله يتحدث عن الغيبيات التي تنضمنها المعتقدات الدينية منتقداً الذين يهزأون بالمتعلقين بها ،أو الذين يعتقدون بطلانها من وجهة سطحية العلم الحديث المتقدم قائلاً إن العلم الحديث وصل إلى موطن من الأسرار والألغاز والأحاجي يصعب حلها، هي أيضاً نوع من الغيبيات.. فالعلم لم يستطع أن يكشف عن سبب أو ماهية العديد من الأشياء.. ويعطي جنبلاط أمثلة تفصيلية من واقع الطب وعلوم الحياة وحتى الفلك والفيزياء النووية ومسائل الزمان والمكان ليخلص إلى القول إن الحكمة الصوفية العرفانية كانت توصلت إلى نفس استنتاجات العلم الحديث قبل الآف السنين وقبل أن يولد العلم الفيزيائي الحديث... وهدف جنبلاط هو التوفيق بين نهج العلم ونهج الذوق الصوفي والعرفان في سعيهما إلى حقيقة الوجود الكوني والانساني... ولعل كمال جنبلاط هو من أول العرب العلمانيين الذين كتبوا عن أن غاية العلم نفسه هي التوحيد، كاشفاً عن ثقافة عميقة واطلاع واسع على كتابات العلماء الأوائل ما بين نيوتن وانشتاتين، وصولاً إلى أحدث كتابات الفيزيانيين والبيولوجيين والنفسيين والأطباء والموجهين..وكان الامام موسى الصدر هو الآخر من القلة من علماء الدين العرب ممن اطلع على الثقافة الغربية الحديثة وعلى العلوم الدقيقة وكتب بمثل ما قال جنبلاط لجهة أنسنة العلوم وعلمنة الثقافة الدينية من خلال التقوى والروحانية في طلب العلم ولو في الصين والبحث عن الحقيقة والحكمة ولو في قلب كافر أو منافق..
وفي حين ينطلق كمال جنبلاط في كل ما قال وفعل من إيمان عميق بقيمة وأهمية وعالمية مسلك الحكمة والتوحيد، ينطلق موسى الصدر في كل ما قال وفعل من إيمان عميق بقيمة وأهمية وعالمية التشيع العلوي الأصيل... وهما بهذا لا ينطلقان من موقع الأقلية الدينية المذهبية القبلية ، بل من كون هذه المذاهب والمسالك قديمة متصلة متجددة.. فطريق التوحيد واحد وهو مسلك عرفاني حكمي ذوقي نمشي اليه وننجذب في آن واحد.. فليتقي الطالب والمطلوب في جذب من فناء إلى بقاء، ومن عقل متبدّل إلى يقظة لا تبدأ ولا تتبدل ولا تزول.. فهو بين الشغاف والقلب، وبين الدمع والجفون.. هذا التوحيد المحض ليس نظاماً دينياً فقط ، بل هو الحقيقة تشير وتقود إلى الحقيقة، فلا تدخل في أي اختلاف أو مشاحنة مع أي دين أو معتقد...ولا تختص بأي دين معين.. ولكن تتعداها جميعها، وهي في الواقع تتميم وتكملة لجميع الأديان، لا بل هي التي تعطي الحياة لجميع الأديان على ما يقول معلم جنبلاط الفيدنتي أتمانندا...