الخميس، 24 نوفمبر 2011

دلالات الانتخابات التونسية وفوز النهضة

الدكتور عادل عبد المهدي- بغداد

جرت الانتخابات بجو ديمقراطي باشراف الامم المتحدة ومختلف الدول والاعلام العالمي.. وكما عندنا، نظمت الانتخابات "المفوضية العليا المستقلة للانتخابات" واعتمدت خليطاً من النسبية والمفتوحة.. واظهرت النتائج بعد مشاركة واسعة فوز حزب النهضة برئاسة الشيخ راشد الغنوشي، فما هي دلالات هذه الانتخابات.
• بدأ الربيع العربي يعطي ثماره. فكانت تونس اول شرارة، فانها –ايضاً- اول من فتح درب الاصلاحات والديمقراطية والحرية لتؤكد تاريخية الانتفاضات. سيقول قائل ان العراق قد سبق الى ذلك، وهذا صحيح.. لكن دور العراق كان اقرب لدور الديناميت الذي ازاح جبل الافكار المتخلفة المتداولة بحجز الموروثات لطريق الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة.. بعد ان اصبحت الانقلابات وموت الحاكم هي الوسيلة الوحيدة لذلك. امام هذه الحقيقة التاريخية نتذكر بفخر فتوى المرجع الاعلى السيد السيستاني بلزوم اعداد دستور دائم تكتبه جمعية منتخبة.. وهو ما فرضه الشعب العراقي في نهاية المطاف، رافضاً الحل العسكري او النخبوي. وهو ما قام به –ايضاً- الشعب التونسي بانتخاب مجلس لكتابة الدستور.
• برهن فوز "النهضة" ان ما يسمى بـ"الاسلام السياسي" ليس تياراً هابطاً كما يقولون، بل هو تيار قوي طالما يتبنى الشعارات والبرامج الصحيحة.. وسيكون له موقعاً مؤثراً في اية انتخابات حرة تجري في اي بلد اسلامي، شريطة تبني الاطروحات المناسبة والمناهج واللغة التي يقبل بها الناخبون بحرية ومساواة متاحة للجميع.
• ان التزاوج بين الافكار الاسلامية والديمقراطية الذي دعا اليه الشيخ راشد الغنوشي هو امر ممكن. فالاسلام هو دين التعاقد والبيعة وهو اقرب لاحتواء الممارسات والمفاهيم الديمقراطية من اي فكر انقلابي او نخبوي او طبقي. فلا حاجز في الاسلام لتحقيق ذلك.. الحاجز قد يضعه المسلمون او غيرهم بسلسلة من الافكار التي يخترعونها.. وهي ليست من الاسلام في شيء.
• تبرهن الانتخابات التونسية ان الحرية هي لمصلحة المسلمين ولغيرهم.. وهي ضمانة للدفاع عن دينهم افضل من العنف والارهاب. وجادلهم بالتي هي احسن.. وبالحكمة والموعظة الحسنة.. هي اسلحة من يمتلك الحجة والبرهان. اما الجبر والقسر وفرض الحلول فانه لم يكن طريق الثقلين القائم على الاستماع للرأي.. وقبول رأي المخالفين.. واقرار تعددية الاديان والافكار والجماعات والقوميات ابتداءاً.. والاستناد للشورى.. وهذا امير المؤمنين عليه السلام يخاطب قومه قائلاً "وليس لي ان احملكم على ما تكرهون".
تونس وثقافة الانتخابات.. التعلم من الخسارة.. ومحاذير الفوز
فرحنا ونحن نستمع الى ردود الفعل بعد ظهور النتائج الاولية للانتخابات التونسية موقف الخاسرين وهم يهنئون «النهضة» بفوزها.. والرابحين وهم يتكلمون لغة متواضعة تشدد على الوحدة الوطنية وعدم عزل اي طرف.. فلا تتكلم عن سحق الاخرين او ازاحتهم. وهذه ليست مجرد كلمات.. بل هي ثقافة تفهم التنافس واهمية طرح وجهات النظر المتعددة.. لكنها تفهم الوحدة واهمية الاختلاف في اطارها. وهذه ثقافة يصنعها طرفان وليس طرف واحد.. ولعل اهم ما يهدد الفوز هو ليس مشاعر الغبطة والفرح فهذا امر طبيعي.. لكن ما يعقب ذلك من استنتاجات تعطي الفوز ابعاداً وهمية واستنتاجات منحرفة تنسي الفائزين وعودهم، وتعمي عيونهم عن معادلات الساحة التي احترموها وفازوا بها.. فكم من انتصار قاد الى غرور المنتصر فحوله انتكاسة.. وكم من هزيمة علمت المهزوم هفواته ومهدت له الفوز.
انتصر "النهضة" لانه مثل الانقطاع الكامل عن النظام السابق، بينما شوشت ارتباطات الكثير من معارضيه بالانظمة السابقة من الرؤية الجماهيرية ازاءهم. فالشعب التونسي ذهب الى التجديد الكامل الجذري وليس الى عمليات ترقيع وتجميل لتجربة عانوا منها ودفعوا ثمنها.. انتصر "النهضة" لانه احسن ربط المشاعر الدينية بالقومية بالمدنية. فلم يرفع شعار الحكومة الدينية فكسب القوى المدنية.. لكنه رفض تسميته بالعلمانية، شارحاً ان "العلمانية" التونسية تطرح نفسها كمناهضة للدين.. وهذا ما لا يرتضيه الشعب التونسي، فكسب القوى الدينية. وارتبط بالقضايا القومية فكسب المشاعر الوطنية المعادية للتدخل الاجنبي بكل حساسياته.. انتصر "النهضة" لان زعيمه الشيخ راشد الغنوشي مفكر اسلامي ومتنور من الطراز الاول.. شعبي وترابي ومتواضع.. عميق مبدع في افكاره لا يتعبه الشرح والتوضيح.. قاوم الاستعمار الفرنسي والمرحلة البورقيبية ومرحلة بن علي بجهادية وصبر عاليين. فاستحق ثقة التونسيين وتأييدهم. ولمعرفتنا بالرجل وعمقه الفكري وتاريخه الناصع وسلوكه المعتدل المتوازن، فاننا متفائلون ومطمئنون انه سيساهم مع اخوانه ليس في "النهضة" فقط، بل مع باقي القوى ايضاً بقيادة تونس الى شاطىء البر والامان والنجاح.. فاثار التجربة الايجابية ستؤثر على بقية البلدان العربية.. مما سيعطي للانتفاضات العربية طابعها التجديدي العميق.. لتدخل المنطقة في مرحلة جديدة تماماً، بعيداً عن كل ما عرفناه سابقاً من ظلم وتناحر وتخلف وتبعية وفقر واستبداد.