كتبها الياس خوري يوم استشهاد صديقنا مروان كيالي ورفيقيه الصديقين باسم سلطان التميمي (حمدي) و محمد حسن ابحيص (أبو حسن)..في 18 شباط 1988...
(..) لم يخطئ الأعداء ، كانوا يعرفون من أنت ، وكانوا يريدون قتلك أنت. قتلوك مع رفيقيك في غربة ليماسول لأنكم كنتم تمثلون جزءا من روح هذه الانتفاضة الكبرى التي تعصف بالاحتلال ، والتي تبرهن أن موازين القوى التي رست بعد غزو 82 تتخلخل بالحجارة والتظاهرات والفدائيين الذين يواصلون لعبة العلاقة بين الحياة والموت . وكنت أنت تتقن هذه اللعبة ، لأنك ابن التجربة الجديدة التي صنعتها الثورة وصنعها الحلم الذي انفجر وسط الحركة الطلابية في بيروت السبعينات . كنت واحدا من القلائل الذين أكملوا الشوط حتى نهاية الموجة . والموجة حين تنتهي في الرمل تبدأ من جديد . وأنت الآن في رحلتك الأخيرة نحو التراب ، تعيد للموجة ايقاع بدايتها ، وتعيد لبيروت شرفها ، وتعيد للقبر أسماء أصدقائك الذين سقطوا في مواجهة كل المواجهات ، وكانوا أبطال الموت لأنهم كانوا أطفال الحياة .
شيء من موتك يذكرني بخليل الجمل..
هل تذكر يا صديقي يوم جاء هذا الفتى اللبناني محمولا على نعش من غور الأردن . يومها تحولت بيروت الى بحر ، وبدأنا من اسمه رحلة جيلنا نحن .
ربما تكون أنت آخر أسماء جيلنا المأساوي الجميل . جيل الحروب الأهلية والمواجهة الأولى... لكنك أيضا الاسم الأول في منعطف الانتفاضة الذي بدأ . موتك رمز لجيل جديد يولد في فلسطين ويعلن أن الاسم الفلسطيني لا يمكن أن يمحى ، لأنه أفق كل الأسماء العربية .
(..)
نستحضرك بيننا ونحن نذهب لاستقبالك وللاستماع الى كلماتك الآخيرة . نستحضرك منذ مواجهات أيار 73 ، مرورا بكل منعطفات الحرب الأهلية ، وصولا الى الاجتياحين 78 و 82 ، كأنه كتب لحياتك القصيرة أن تكون انتقالا من حرب الى حرب .
تعبت منك الحروب وانت لم تتعب ، كأنك كنت في وداعتك وصمتك ، في قتالك وحوارك، تستحضر الحياة التي كانت تلجأ اليك ، فتهرب منها الى القتال . قاتلت كل الحروب ، ووصلت الى قمة حياتك في هذه الحرب المشتعلة منذ شهرين في فلسطين . وصلت الى الانتفاضة وكتبت اسمك في الأرض التي لم تزرها الا وبندقيتك على كتفك . هاهي الأرض التي عرفتك فدائيا صغيرا ، تفتح لك صدرها . وتأخذك كما يليق بالشهداء .
أكتب عن مروان ، فأكتشف أنني أكتب عنكم كلكم ، عن جيل كامل صنع مجد بيروت وها هو يذهب ليصنع مجد فلسطين . أكتب عن مرحلة الأسئلة الكبرى والشباب الذين أغرتهم لعبة الموت والثورة . كل واحد منهم كان كالكتاب المفتوح على أبجدية جديدة . كل واحد منهم كان القضية . كانوا في ليل بيروت ، بمعاطفهم الزرقاء ، وبنادقهم ، في رأس النبع والبسطة وخندق الغميق ووادي أبو جميل ، ثم كانوا في عاليه وبحمدون وصنين والزعرور ، ثم كانوا في الجنوب كله ، ثم كانوا وها هم الآن يتساقطون في المعركة الفاصلة ، في منعطفات الانتفاضة الكبرى ، مجبولين بالخيبة والحلم ، ويعودون واحدا واحدا الى بداية الموت ، من أجل أن تبدأ بهم الحياة .
الموت حق يا صديقي .
كل يوم نبدأ ، لأننا حتى في لحظة موتنا ، نعلن الحياة .
ومروان الحبيب الحبيب ، يعلن اليوم في موته حياتنا ، ويأخذنا في عينيه المغمضتين الى سحر
شبابنا وجمال شهدائنا .
نشرت في السفير اللبنانية وأعادت نشرها مجلة فلسطين الثورة 25-2-1988